المصدر: Getty

تحديات العملية الانتقالية في ليبيا

بعد مضيّ أكثر من عام على اندلاع الثورة ضد حكم معمّر القذافي، تخوض ليبيا مرحلة انتقالية محفوفة بالتحديات، وتكافح في غياب مؤسسات الدولة لإدارة العملية الانتقالية والأجهزة الأمنية للحفاظ على السلم، ومن دون وحدة وطنية كافية.

 بول سالم و أماندا كادليك
نشرت في ١٤ يونيو ٢٠١٢

بعد مرور أكثر من سنة على اندلاع الانتفاضة ضد حكم الزعيم الليبي معمر القذافي، تخوض ليبيا مرحلة انتقالية صعبة. فقد مات القذافي، وأُسقِط نظامه الذي استمرّ 42 سنة، وتحرّرت البلاد. والآن يمهّد الليبيون لإجراء انتخابات يفترض منها أن تضع بلدهم على الطريق لصوغ دستور جديد ونظام سياسي ديمقراطي.
بيد أن ثمّة غياباً لمؤسسات الدولة لإدارة المرحلة الانتقالية، وضعفاً في الأجهزة الأمنية التي تحافظ على السلام، وليس ثمة مايكفي من الوحدة الوطنية لضمان انتقال آمن. لقد وضع المجلس الوطني الانتقالي جدولاً زمنياً للمرحلة الانتقالية، غير أن شرعيّته لدى الجمهور ضعيفة، لابل هو يفتقر إلى البنية المؤسّسية لضمان تنفيذ خريطة الطريق ضمن المهل التي وضعها وبشكل ناجح.

ولعلّ مايزيد من تحديات المرحلة وجود عشرات الآلاف من الثوار المسلّحين الذين رفضوا التخلّي عن أسلحتهم حتى تُلَبّى مطالبهم المختلفة، وتواصُل الأعمال القتالية بين سلسلة من الجماعات القبلية وبين الميليشيات التي تصفّي حسابات من الماضي القريب أو تتصارع على السلطة والنفوذ. لايزال البلد مفتّتاً على أسس مناطقية تفتّتاً شديداً. ويقابل القوة العددية لسكان المنطقة الغربية، القوة الثورية لإقليم برقة الشرقي - الذي يشمل معقل الثوار في بنغازي - والقبائل الجنوبية المنقسمة في فزان.

ومع ذلك، فرص نجاح العملية الانتقالية ليست قاتمة. وماقد يعزّز هذه العملية مشاعر الفخر السائدة بإطاحة القذافي، والإحساس بالهوية الليبية، والتوافق العام حول الخطوات الرئيسة التالية التي يتعيّن اتّخاذها: إجراء الانتخابات، وصياغة دستور جديد، وإنشاء مؤسسات الدولة الديمقراطية. ربما تكمن الخلافات القبلية والمناطقية في صلب الصراع القاتل، لكنها أقل ضراوة من الانقسامات الطائفية والعرقية التي غذّت الحروب الأهلية الممتدّة في بعض البلدان الأخرى في الشرق الأوسط. والبيئة الجيو-سياسية في محيط ليبيا إيجابية إلى حدّ ما، خصوصاً عندما تُقارَن مع دول في بلاد الشام أصبحت ساحات للصراع الدولي الحادّ. ثم هناك عائدات ليبيا الوفيرة من النفط، والتي إذا تمّت إدارتها بشكل جيد يمكن أن تساعد في إعادة بناء الدولة والمؤسسات الوطنية بسرعة وعلى نحو غير متاح لبعض الدول الأخرى في المنطقة في حقبة مابعد الثورة.

ثمة العديد من السّبل التي يمكن ألا تسير فيها المرحلة الانتقالية في ليبيا كما يجب. لكن إذا واصل قادة ليبيا وأصدقاؤهم في المنطقة وخارجها مسيرتهم على الرغم من الصعاب، فستكون لدى ليبيا فرصة جيدة للانتقال من الديكتاتورية إلى دولة ذات مقوّمات ديمقراطية، والقيام بالخطوات الأولى نحو إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد في ذلك البلد المنكوب. 

 

من التحرير إلى الدستور

أعلن المجلس الوطني الانتقالي، في الإعلان الدستوري الذي أصدره في 3 آب/أغسطس 2011، عن جدول زمني طموح مدّته ثمانية عشر شهراً لمرحلة انتقالية تبدأ مباشرة بعد الإطاحة بالنظام. بدأ العدّ التنازلي عندما تحرّرت طرابلس يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011، وكان من المقرّر أن تكتمل المرحلة الانتقالية بحلول أيار/مايو 2013. شملت المرحلة الأولى تعيين حكومة مؤقّتة، وإصدار قانون انتخابي، وإنشاء المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، والتحضير لانتخابات الجمعية الوطنية التأسيسية التي كانت مقرّرة في 19 حزيران/يونيو 2012. من المفترض أن يجري حلّ المجلس الوطني الانتقالي في الاجتماع الأول للجمعية التأسيسية، على أن تُعيِّن الهيئة المنتخبة آنذاك حكومة جديدة ولجنة لصياغة الدستور الجديد بحلول آب/أغسطس. ومن ثم يُعرَض الدستور على الشعب الليبي للموافقة عليه، حيث سيمهّد الطريق أمام جولة جديدة من الانتخابات ونظام سياسي جديد في أيار/مايو 2013.

ولئن كانت هناك بعض الخلافات في ليبيا حول الخطوط العريضة لخريطة الطريق هذه، فإن ثمّة شكوكاً كبيرة في داخل ليبيا وخارجها على حدّ سواء حول ما إذا كان يمكن تطبيقها بنجاح، وخاصة في إطار زمني معقول. فقد أُجِّلَت بالفعل انتخابات حزيران/يونيو إلى 7 تموز/يوليو بسبب عمليات تأخير مردّها أسباب فنية وطعون من قبل بعض المرشّحين. ومن بين التحدّيات الأخرى القدرة المحدودة للمجلس الوطني الانتقالي، والحالة الهشّة للأمن الداخلي، وإحجام الكتائب المسلّحة عن تسليم السلاح، والتساؤلات الجدّية حول ما إذا كان يمكن إجراء الانتخابات بنجاح في ظل غياب الأمن الانتخابي والإدارة الفعّالة.

المجلس الوطني الانتقالي: ما له و ماعليه

تأسّس المجلس الوطني الانتقالي في الأسابيع الأولى للثورة، بعد أن سعت المجالس المحلّية التي ظهرت في المدن والبلدات المتمرّدة - بنغازي والبيضاء ودرنة وطبرق وغيرها - إلى تنظيم تمثيلها في مجموعة أوسع من شأنها تمثيل الثورة المناهضة للقذافي والوصول إلى المدن والمناطق التي لاتزال تحت سيطرة النظام. كما عمل المجلس الوطني الانتقالي، الذي كان مقرّه أصلاً في بنغازي، على بدء التواصل والسعي إلى الحصول على دعم المجتمع الدولي. وعيّنت المنظمة مكتباً تنفيذياً للقيام بمهام الحكومة في المناطق الخاضعة إلى سيطرة المتمرّدين.

في البداية، تولّى قيادة المجلس الانتقالي في الغالب قادةٌ من المنطقة الشرقية، لكنه ضمّ أعضاء من جميع المناطق. وقد تشكّلت مجموعة قوية من المسؤولين السابقين في نظام القذافي كانوا انشقّوا في وقت مبكر، ضمّت رئيس المجلس الانتقالي، مصطفى عبد الجليل، وهو وزير سابق للعدل في عهد القذافي؛ ووزير الاقتصاد السابق علي العيساوي؛ ووزير الداخلية السابق عبدالفتاح يونس، الذي أصبح قائداً عسكرياً للمتمرّدين إلى أن اغتيل في تموز/يوليو 2011، وثلاثتهم من شرق ليبيا. ثمة مجموعة ثانية كانت أيضاً جزءاً من دولة القذافي، غير أنها كانت مرتبطة بجهود ابنه سيف الإسلام المفترضة للإصلاح والتحديث من الداخل. ضمّت هذه المجموعة محمود جبريل، الذي ترك منصبه في إحدى الجامعات في الولايات المتحدة ليترأّس المجلس الوطني للتنمية الاقتصادية في ليبيا في العام 2007، وأصبح رئيس المكتب التنفيذي للمجلس الانتقالي؛ وأحمد الجهاني، ونائبه محمد العلاقي، وهو وزير سابق للعدل، إضافةً إلى آخرين. وتألّفت المجموعة الثالثة من المغتربين الليبيين الذين عادوا إلى البلاد عندما اندلعت الثورة، وضمّت علي الترهوني، الذي غادر الولايات المتحدة لرئاسة قسم الاقتصاد والمالية في المجلس الانتقالي، ومحمود شمّام، الذي عاد من منصبه في مجلس ادارة قناة الجزيرة في قطر ليعمل في منصب مسؤول الإعلام والمعلومات في المجلس الانتقالي. وضمّت الفئة الرابعة أساتذة ومحامين وناشطين ليبيين، مثل المتحدث باسم المجلس عبدالحفيظ غوقة، وفتحي باجا، وفتحي تربيل، وآخرين1.

في الأقاليم التي كانت لاتزال تحت سيطرة النظام، عمل المجلس الانتقالي مع الجماعات السرّية التي رشّحت ممثلين عنها إلى الهيئة؛ وبقيت أسماء هؤلاء الأعضاء سرّية بالضرورة حتى تحرّرت مناطقهم. خلقت هذه الطبيعة السرّية في المراحل المبكرة، فضلاً عن ضعف الاتصالات العامة واتّخاذ القرارات وراء الأبواب المغلقة، نقصاً في الشفافية في المجلس، عاد ليقوّض مصداقية المجلس الانتقالي. خلال الثورة وفي أعقابها، تمتّع المجلس الانتقالي بـ"شرعيّة ثورية" مؤقّتة لدى الرأي العام بسبب قيادته عملية إسقاط النظام بنجاح. لكن حالما انتقلت البلاد من الثورة إلى العلمية الانتقالية، برزت إلى الواجهة قضايا شفافية المجلس الانتقالي وشرعيته وأدائه.

بما أن المجلس الانتقالي في جوهره هيئة نصّبت نفسها بنفسها، فقد كان مفتوحاً على التساؤلات حول كيفية اختيار أعضائه، والسلطة التي يمتلكها هؤلاء للحكم. وقد تسبّب هذا في حصول مشاكل بين المجلس وبين الجماعات المحلية المختلفة والكتائب المسلّحة ممَّن لايشعرون بالرضا عن حجم تمثيلهم أو عدمه فيه، أو ينازعونه سلطته عليهم. رداً على ذلك، نظّم المواطنون أنفسهم في عدد من الأحياء والبلدات في أنحاء البلاد، التي لم يكن لكثير منهم دور في انتخاب أو ترشيح مَن يمثّلهم في المجلس الانتقالي، وأجروا انتخابات محلية خاصة بهم بهدف استبدال ممثّليهم. كما ضغطت جماعات المجتمع المدني على الدوام على القادة الانتقاليين بشأن مروحة من القضايا الإصلاحية، من زيادة الشفافية إلى حقوق الإنسان وتمثيل المرأة في البرلمان. وفي أحيان أخرى، تعرّض المجلس الانتقالي إلى التهديد من الميليشيات المطالبة بتنازلات وامتيازات مختلفة. حاول المجلس التعامل مع هذه التوتّرات من خلال التفاوض وزيادة الشفافية في عملياته، وتوسيعه ليمثّل مجموعة أشمل من الجماعات والمناطق. وقد نما حجمه بشكل مطّرد منذ الأيام الأولى للثورة. وحتى كتابة هذه السطور، كان فيه 81 عضواً.

نقل المجلس الانتقالي عملياته من بنغازي إلى طرابلس، وعيّن حكومة مؤقّتة بعد سقوط القذافي. مع مرور الوقت، تحوّل توازن القوى في المجلس أيضاً من أعضاء المناطق الشرقية إلى الغربية. وقد خلق هذا التحوّل شعوراً بالإحباط والتهميش بين الجماعات الشرقية، ماغذّى جزئياً الدعوات إلى إقامة دولة فدرالية وحكم ذاتي في المنطقة الشرقية. كما يمنح المجلس تمثيلاً ضعيفاً جداً للمرأة على الرغم من دورها الكبير في الثورة، حيث لايوجد فيه سوى امرأتين، ولم تكن الحكومة المؤقّتة المكوّنة من أربعة وعشرين وزيراً تضمّ سوى وزيرتين.

قام المكتب التنفيذي والحكومة المؤقّتة التي عيّنها المجلس الانتقالي، من ناحية، بعمل جيّد تَمثَّل بحشد الدعم الدولي للثورة وإدارة العملية الانتقالية حتى الآن. وقد تجنّب المجلس والحكومة عملية انهيار كبيرة على الرغم من ظروف الانتقال الصعبة للغاية من الثورة والحرب الأهلية إلى بداية حقبة مابعد القذافي. ومن ناحية أخرى، واجهت الهيئتان انتقادات شديدة، حيث جادل البعض بأنهما ليستا تمثيليتين كما يجب، وليستا خاضعتين إلى المساءلة على نحو كافٍ، فيما جادل آخرون بأنهما تتحرّكان ببطء شديد في إعادة بناء الأمن، وتسيئان إدارة الأموال العامة، وتنفّذان أجنداتهما السياسية الخاصة.

مع ذلك، وعلى عكس السلطات الانتقالية في تونس أو مصر، لم تكن لدى المجلس الانتقالي، فضلاً عن المكتب التنفيذي والحكومة المؤقّتة، مؤسسات دولة قوية كي يقودها. خلال فترة حكمه، ومع أن الجزء الأكبر من القوى العاملة كان على جدول الرواتب العام، أضعف القذافي معظم مؤسسات الدولة، وحكم من خلال شبكة من العلاقات الشخصية والوحدات الأمنية. وقد زادت الثورة وسقوط النظام من ضعف هذه المؤسسات الضعيفة أصلاً. واجهت السلطات الانتقالية أيضاً صعوبات مالية وأمنية وسياسية. فبعد سقوط مدينة طرابلس، واجهت الحكومة المؤقّتة على الفور تحدّيات عدّة: العمل على استعادة 170 مليار دولار من الأصول الليبية المجمّدة في الخارج، واستئناف إنتاج النفط2،  وإعادة الأمن من خلال نزع السلاح وإدماج الثوار المسلحين، وإعادة بناء الجيش الوطني والشرطة، ومعالجة قضايا العدالة الانتقالية، والاستعداد لإجراء انتخابات في منتصف العام 2012.

الشؤون المالية والسياسة

كانت الإيرادات هي الشاغل الأكثر إلحاحاً. ففي منتصف كانون الأول/ديسمبر، أمر قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2009 بالإفراج عن الأصول الحكومية التي تعود الى المؤسسة الليبية الوطنية للنفط، والمصارف الليبية، والمؤسسة الليبية للاستثمار، والمؤسّسات الوطنية أخرى. كانت هذه الأصول قد جُمِّدت في بداية الحرب بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 1970. وفي حين أُفرِج الآن عما يقرب من 100 مليار دولار بعد أن رُفِع ماتبقّى من عقوبات الأمم المتحدة، تواصل الدول الأعضاء منفردة الإفراج عن الأموال بشكل تدريجي وفقاً للقوانين المحلية. وكان الإفراج عن أكبر دفعة تبلغ في مجموعها نحو 40 مليار دولار في كانون الأول/ديسمبر 2011، هو الذي أتاح أخيراً للحكومة المؤقّتة استئناف دفع الرواتب لمئات الآلاف من موظفي القطاع العام، الذين لم يحصل البعض منهم على رواتبهم منذ اندلاع الانتفاضة. وفّرت التدفّقات المالية للحكومة المؤقّتة الأموال اللازمة لإطلاق خطة إعادة إدماج المتمرّدين.

كانت البلاد فقدت أيضاً مصدر تدفّق إيراداتها الرئيس في أعقاب الحرب. فليبيا تملك أكبر احتياطيات نفطية مؤكّدة في أفريقيا تصل إلى 46.4 مليار برميل. قبل الانتفاضة، كان مايقرب من 95 في المئة من إجمالي عوائد الصادرات يأتي من النفط، فيما شكّلت الطاقة أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي. وقد عانى القطاع النفطي من أضرار كبيرة بسبب الغارات الجوية وعمليات النهب والإهمال أثناء الثورة، لكن عمّال النفط تمكّنوا من العودة إلى العمل بعد الثورة، وبدأوا في إعادة إنتاج النفط والغاز إلى ماكان عليه تدريجياً. وفي أيار/مايو 2012، وصل الإنتاج إلى حوالى 1.5 مليون برميل يومياً3،  وهو يقترب من مستويات ماقبل الحرب البالغة 1.8 مليون برميل يومياً.

ومع ذلك، أحيت عودة التدفّقات النقدية أيضاً المخاوف من الفساد، وهو سمة مميّزة للنظام السابق هدّدت بأن تطفو على السطح من جديد في نظام مابعد القذافي. وفي ظل عدم وجود نظام ملائم للرقابة المالية والشفافية، لم يكن في وسع المجلس الانتقالي والحكومة المؤقّتة دحض الاتّهامات بسوء الإدارة المالية بصورة عملية.

لايعدّ نقص الموارد مصدر القلق الرئيس في ليبيا، بل يأتي القلق من مسألة القدرة على إدارتها بفعالية. ومن الأمثلة على ذلك توفير الرعاية الطبية للثوار الذين قاتلوا في الحرب. فقد كان في وسع المرضى الذين يسعون إلى الحصول على العلاج من إصابات طفيفة أو حالات لاتَمتُّ للانتفاضة بصلة، التظاهر بأنهم من ضحايا الحرب، والبقاء في مستشفيات مكلفة في أوروبا والبلدان العربية المختلفة لفترات طويلة، في حين جرى إيواء أقاربهم في فنادق قريبة. وفي الوقت الذي أدركت فيه الحكومة المدى الذي وصلت إليه عمليات الغش والخداع، وبدأت تحاول الحدّ منها، كانت مئات الملايين من الدولارات قد تدفّقت بالفعل إلى خارج البلاد.

سوف تنتج الانتخابات الوطنية الجمعية التأسيسية التي ستنتخب بعد ذلك حكومة تحلّ محلّ المجلس الانتقالي والحكومة المؤقّتة. وإلى أن تُجرى الانتخابات بنجاح ويجتمع أول برلمان في ليبيا، سيستمر المجلس الانتقالي والحكومة المؤقّتة في مواجهة النقص الكبير في الشرعية والثقة العامة الذي ميّز قيادته في المرحلة الانتقالية.

التحدّي الأمني

الكتائب والسلطات المركزية

يمثّل الوضع الأمني الهش في البلاد أكبر تحدٍّ مباشر للعملية الانتقالية في ليبيا. إذ يشكّل عشرات الآلاف من الثوار المسلحين، المنظّمين في عشرات الميليشيات ذاتيّة القيادة - أو الكتائب كما يسمّون أنفسهم - شبكة من السيطرة على مختلف أنحاء البلاد. وقد كانت ممارسة السلطة على هذه الكتائب المسلّحة أمراً في غاية الصعوبة. في المراحل الأولى من القتال، أنشأ المجلس الانتقالي جيش التحرير الوطني، لكنه لم يعمل بوصفه جيشاً بقدر ماكان محاولة اندماج وتنسيق بين كتائب مستقلّة شكّلها ضباط سابقون ومواطنون عاديّون. وفي بيئة مابعد الثورة، أظهرت هذه الكتائب انعدام الثقة، لافي الحكومة المؤقّتة وحسب، بل بين بعضها البعض أيضاً.

في طرابلس، تسبّب تداخل عشرات الكتائب في بروز ظروف عالية التوتر. فقد تعايش المجلس الثوري في طرابلس بقيادة عبدالله ناكر، الذي ادّعى أنه يقود مجموعة من أكثر من 20 ألف عنصر، بصعوبة مع المجلس العسكري في طرابلس الذي يقوده عبدالحكيم بلحاج (حتى استقالته في 14 أيار/مايو 2012)، وهو الذي تحالف في السابق مع الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، التنظيم المتشدّد الذي يعود تاريخه إلى التسعينيات، وكان يُشتَبَه في السابق بأن له صِلات بتنظيم القاعدة. وبدورها تفوّقت الكتائب الزنتانية والمصراتية على مجموعة بلحاج من حيث العديد والعتاد. إن كتيبة سعدون سويحل من مصراتة وائتلاف من خمس ميليشيات من الزنتان هما أقوى المجموعات التي لاتزال في طرابلس.

قدّمت كتيبة سعدون سويحل آلاف الضحايا في معركة ربما هي الأكثر دموية في الحرب التي استمرّت تسعة أشهر، وهي تتميّز بأنها أسرت القذافي وقتلته. حارب الزنتانيون شمالاً، واستولوا على المطار، وفي الطريق وجدوا سيف الإسلام. توفّر الميليشيا الزنتانية الحماية لبعض المؤسّسات الحيوية في طرابلس، مثل حقول النفط والمصافي.

في مناورة ذكيّة، عيّن المجلس الانتقالي قادة هذه الكتائب في وزارات حكومية رئيسة، وهو الإجراء الذي لم يؤدّ إلى موازنة الحساسيات السياسية وحسب، بل أيضاً نقل بنجاعة قيادة هذه الكتائب إلى فلك المجلس الانتقالي. ويتولّى اثنان من قادة الكتائب، هما فوزي عبدالعال من مصراتة وأسامة الجويلي من الزنتان، وزارتي الداخلية والدفاع. ومع ذلك، تجاهلت الجماعتان نداءات المجلس الانتقالي المتكرّرة لنزع السلاح وإخلاء مواقعهما.4  وإدراكاً منهما للحاجة إلى تجنّب المواجهة المباشرة، انضمّت الجماعتان وحوالى 100 من الجماعات المسلّحة الأخرى، إلى تحالف أطلق عليه اسم المجلس العسكري لغرب ليبيا، والذي أنشئ بموجب اتفاق بين الميليشيات في شباط/فبراير 2012، وكان يهدف إلى الحفاظ على الأمن في منطقة طرابلس.

تشكّل الجماعات المسلحة في منطقة برقة الشرقية أيضاً جزءاً من تحالفات أكبر، حيث أن المجلس العسكري في برقة واتحاد الكتائب الثورية هما الجماعتان الأقوى. وكان اندلاع أعمال العنف في الشرق أقلّ منه في الغرب لأن الكتائب هناك توحّدت في وقت مبكر من الثورة وتحمل قدراً أقلّ من التوترات القبليّة. وعلى الرغم من الخلافات السياسية حول اللامركزية والأدوار التي قد تلعبها تلك القوى في طرابلس وبنغازي إذا استمرّت الاتّجاهات الحالية، فإن حدوث مواجهة مسلّحة خطيرة بين الشرق والغرب لايبدو مرجّحاً في الوقت الراهن.5

إن الكتائب المتواجدة في المنطقة الجنوبية صغيرة ومحلّية في تركيبها وأكثر ارتباطاً بالقبيلة ممّا هو عليه الحال في الشمال. لكن الانفجارات لاتزال تقع في الجنوب مع زيادة تواترها وشدّة فتكها، فقد أدّت الخلافات بين القبائل في سبها والكفرة إلى مقتل المئات وإصابة مئات آخرين.

عموماً، في المناطق التي تكون فيها للكتائب جذور اجتماعية وعائلية، يتم قبولها ويُنظر إليها على أنها قوة حماية محلية، لكن عندما تدخل مناطق خارج قاعدتها الاجتماعية الأساسية - على سبيل المثال، أبناء مصراتة والزنتان في طرابلس - تزداد فرصة الاحتكاك مع المجتمعات المحلية. وفي حالة انعدام القانون التي سادت البلاد، بدأ بعض من الجماعات المسلحة يشبه العصابات حيث تورّطت في أعمال التهريب والابتزاز والمخدرات والدعارة وسوى ذلك من أنواع السلوك الإجرامي. ويقدّر العدد الإجمالي للأشخاص الذين يدّعون بأنهم ثوّار بحوالى 200 ألف، على الرغم من أنه من المرجّح أن العديد من الليبيين يدّعون بأنهم ثوار للاستفادة من تقديمات مابعد الثورة.

فضّل المجلس الانتقالي والحكومة المؤقّتة الصبر على المواجهة، حيث بدأ برنامجاً لوضع عدد متزايد من الثوار على جدول الرواتب الحكومية، وإدماج من يرغبون في قوات الجيش أو الشرطة، وتوفير تدريب بديل على الوظائف أو فرص التعليم المستمرّ لمن يرفضون. وفي آذار/مارس 2012، أعلنت الحكومة أنها ستقدّم رواتب تتراوح بين 1900 دولار أميركي (للذكور العزّاب) و3100 دولار (للمتزوجين ولديهم أطفال) إلى المتمرّدين الذين لديهم استعداد للانضمام الى برنامج الدمج.6  وقد سجل 80 ألفاً تقريباً أسماءهم للتطوّع والحصول على الأموال، ومع ذلك لاتزال سيطرة الدولة عليهم ضعيفة. من بين أولئك الذين سجلوا أسماءهم، لم تُدمَج بالفعل سوى أقلّية في الجيش والشرطة، فيما لايزال آخرون كثر يعملون في كتائب الميليشيا، بحجّة أن التعويضات التي يحصلون عليها هي مقابل الخدمة الأمنية التي يقدّمونها في منطقتهم.

في محاولة أخرى لكبح جماح هذه الميليشيات، تتولّى وزارتا الداخلية والدفاع إدارة المجلس الأعلى للأمن الذي يحاول التعامل مع هذه الكتائب ضمن إطار وطني منسّق من دون دمج جميع أعضائها فوراً في مؤسّسات الدولة أو برامج أخرى ترعاها الدولة. بهذه الطريقة، تريد الحكومة المؤقّتة نزع فتيل المشكلة تدريجياً، في حين تأمل أن يوفّر إجراء انتخابات وطنية وسيلة سياسية لتمثيل الجماعات الساخطة، ويشجّعها على السعي لتحقيق مصالحها ضمن العملية السياسية.

إعادة بناء القوات النظامية

إن عملية إعادة بناء الجيش الوطني مهمّة شاقة. إذ كانت هناك وزارة دفاع رسمية خلال حكم القذافي، بيد أن ملف الأمن كان يُدار من خلال وحدات مختلفة - مثل لواء خميس (رسمياً اللواء الثاني والثلاثين)، واللواء السابع والسبعين، ووحدات مختلفة يقودها أبناء القذافي، المعتصم والساعدي. وقد أُبقي على الجيش الوطني ضعيفاً لصالح هذه الوحدات لتجنّب خطر وقوع انقلاب. وتضرّر الجيش أيضاً خلال الثورة بسبب عمليات الفرار منه وهجمات حلف شمال الأطلسي (ناتو). ذابت الوحدات الخاصة مع زوال النظام، وبعد الثورة، لم يكن الجيش في وضع يسمح له بفرض سلطته على الجماعات المتمرّدة المسلحة، أو توفير الأمن بشكل كافٍ في المرحلة الانتقالية.

لم يجد المجلس الوطني الانتقالي سوى حفنة من الضباط والجنود لبدء عملية اعادة بناء الجيش. وتسبّبت إعادة إدماج بعض الضباط والجنود من عهد القذافي في جيش مابعد الثورة بالكثير من الجدل. لكن في سياق الدفاع عن أنفسهم، ذكّر العسكريون أن بعضهم فرّ خلال الثورة وقاد وحدات للمتمرّدين، وأن كثراً منهم كانوا عملياً رهائن في نظام القذافي مثل بقيّة السكان، وبالتالي ينبغي أن يعاملوا كضحايا، وليس كمستبدّين سابقين. أما التحدي الأساسي، فكان في دمج الثوار في القوات النظامية، ومضى المجلس الانتقالي قُدُماً في برنامج الدمج هذه، وبحلول أيار/مايو 2012 أكّد الجيش أن عديد أفراده نما إلى حوالى 35 ألفاً. الجزء الأكبر من تلك القوة من المتمرّدين الذين سجّلوا للانضمام إلى الجيش لكن حتى الآن لم يُدرَّبوا ويُدمَجوا بشكل كامل.

مع أن سجلّ الجيش حتى الآن كان متبايناً ولايزال حجمه صغيراً مقارنة بعدد المتمرّدين المسلّحين والحجم الهائل لمساحة ليبيا، ثمّة دلائل على أن تطوّره يسير في الاتجاه الصحيح. في كانون الثاني/يناير 2012، اجتاحت جماعات محلية مسلّحة موقع للجيش في بلدة بني وليد واستولت على المدينة. لكن في أواخر شباط/فبراير تمكّنت قوات الجيش من التدخّل لوقف اشتباك في بلدة الكفرة في الجنوب الشرق بين قبيلتي التبّو والزوي. وفي حادث آخر في أواخر آذار/مارس، أُرسِل 3000 جندي إلى مدينة صباح الجنوبية لمنع تدهور العنف القبلي الذي أدّى بالفعل إلى مقتل أكثر من 100 شخص. وأسفر وقف إطلاق النار الذي توسّطت فيه جهات محلية بقيادة الحكومة عن وقف الاشتباكات، وإعادة النظام إلى المنطقة بشكل نسبي.

عملت قوات الشرطة النظاميّة بشكل أفضل بقليل من الجيش في عهد القذافي لأن مهامها كانت تتركّز إلى حدّ كبير على حركة المرور وماشابه، وكان تجهيزها خفيفاً، ولذلك لم يكن لدى النظام سبب للخوف منها أو إضعافها. إضافة إلى ذلك، كانت تأثيرات الفرار في زمن الحرب وتدخّل حلف شمال الأطلسي (ناتو) على وظائفها أقلّ منها في الجيش. ثم أن صورتها العامة إيجابية إلى حدّ ما، لأنها لم تشارك في الشبكة السياسية والاستخباراتية، حيث تركت هذه المهمة لأجهزة أخرى.

مع ذلك، عانت هذه القوة أيضاً من مشاكلها الخاصة. فقد أُعيد ضباط الشرطة إلى الشوارع بعد الثورة مباشرة، لكن مع قليل من السلطة على الكتائب المسلحة. وهي تفتقر أيضاً إلى الخلفية المؤسّسية والقدرات الفنية لتصبح قوة أمن داخلي فعّالة. ولتعزيز الشرطة، يدمج المجلس الانتقالي بعض الثوار في قوة الشرطة، ويتعاون مع الحكومات الصديقة لتحديث عمليات الهيكلة والتوظيف والتدريب وضبط الممارسات والتجهيز الخاصة بالشرطة.

يمثّل بناء الجيش الوطني والشرطة أولوية ملحّة، وقد وضعت الحكومة خطّة لإصلاح قطاع الأمن تشمل التوظيف والتأهيل والتدريب والمعدّات وذلك بمساعدة وتعاون من الحكومات الصديقة، مثل الأردن وقطر وتركيا. لن يعاد بناء القوات المسلحة بسرعة كافية لضمان انتقال آمن عبر مرحلة الانتخابات وكتابة الدستور الجديد، ولكنها يجب أن تكون جاهزة بعد ذلك للمساعدة في ترسيخ الأمن القومي والحفاظ عليه بعد هذه الفترة من انعدام الأمن والاستقرار.

المخاوف العابرة للحدود

في الأشهر المقبلة، تواجه ليبيا أيضاً مهمات ملحّة لتأمين حدودها، وخصوصاً في الجنوب، واستعادة السيطرة على الأسلحة السائبة من ترسانة القذافي التي تعبر هذه الحدود وتزيد من عدم الاستقرار في الدول المجاورة. الحدود البرية والبحرية الليبية واسعة، والقوات المسلحة الليبية في حاجة إلى مساعدة عاجلة لتطوير قدراتها للسيطرة عليها على نحوٍ كاف. ومع أن التزام الحكومة في الآونة الأخيرة توفير 8000 جندي لمراقبة الحدود على وجه التحديد أمر مثير للإعجاب نظراً إلى الظروف الصعبة لتشكيل جيش وطني،7  إلا أنه يبقى غير كافٍ.

لعل مايثير قلقاً خاصاً هو صواريخ أرض - جو الحرارية السائبة أو المفقودة المعروفة باسم "أنظمة الدفاع الجوي المحمولة"MANPAD) ) التي أخذها الثوار من مستودعات أسلحة القذافي خلال الحرب. هذه الأسلحة قادرة على إسقاط الطائرات التجارية، وقد استخدمها لهذا الغرض بالضبط أحد فروع تنظيم القاعدة في كينيا لمحاولة إسقاط طائرة ركاب إسرائيلية في العام 2002. لقد التزمت الولايات المتحدة حتى الآن بتقديم مبلغ 40 مليون دولار لجمع مايقدّر بـ20 ألفاً من هذه الأسلحة وغيرها التي تشكّل تهديداً للاستقرار الإقليمي. وجُمِع حتى الآن5000 منها وأُتلِف، بمساعدة من الخبراء الفنيين على الأرض في ليبيا وقرب الحدود مع الدول المجاورة.8  وخصّصت بريطانيا وكندا وهولندا وألمانيا مجتمعة أيضاً مبلغ 5 ملايين دولار في مجال الدعم الفني لتأمين أنظمة الدفاع الجوي المحمولة.

كما تمثّل عمليات التهريب الواسعة للأسلحة والذخيرة الأخرى عبر كل بلد من البلدان التي تشترك في حدودها مع ليبيا وماوراءها قضيّة أمنيّة حرجة. الجيران القريبون والبعيدون لديهم مخاوف مشروعة حول مخاطر الإرهاب وتهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية التي تنشأ في منطقة الساحل وتنتقل إلى ليبيا وغيرها من دول شمال أفريقيا ومن ثمّ إلى أوروبا. وقد ناشدت بعثة للأمم المتحدة إلى منطقة الساحل في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، التي تسلّط الضوء على الآثار المترتّبة على الوضع الليبي على المنطقة، وكالات الأمم المتحدة المساعدة في إدارة الحدود في المنطقة. وفي الواقع، كان الإلحاح واضحاً عندما تسبّب أبناء قبيلة الطوارق المدجّجين بالسلاح، عبر استخدامهم الطرق العابرة للحدود الليبية جزئياً، في سلسلة من الأحداث التي أدّت، في آذار/مارس 2012، إلى وقوع انقلاب عسكري في مالي المجاورة.

وفي حين أشار تقرير الأمم المتحدة إلى أن تشاد وموريتانيا والنيجر حقّقت "نجاحا نسبياً" في الحدّ من تدفّق الأسلحة منذ بدء الانتفاضة الليبية في شباط/فبراير من العام الماضي، ثمّة احتمال بأنه يجري ضخّ أسلحة من أصل ليبي إلى تنظيمات إرهابية. وقالت بعثة الأمم المتحدة أن الأسلحة الليبية التي تعبر النيجر تصل إلى الجماعة الإسلامية المتشدّدة "بوكو حرام" في نيجيريا وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي يتّخذ من مالي مقرّاً له.

أجرى المجلس الانتقالي مشاورات مع تونس والسودان ومصر المجاورة بشأن جهود أمن الحدود متعدّدة الأطراف، ويساهم المجتمع الدولي في هذا المجال أيضاً. فقد وقّعت إيطاليا اتفاقاً في كانون الثاني/يناير لتقديم مساعدة مالية وفنية لتدريب الشرطة على مراقبة الحدود. وتبرّعت الحكومة الكندية بمبلغ 10 ملايين دولار خصّيصاً لنزع السلاح، ويساعد الاتحاد الأوروبي في مجال الأمن وإدارة الحدود.

تبقى مسألة ما إذا كان يمكن للهدوء الهشّ الذي ساد إلى حدّ كبير منذ سقوط القذافي أن يستمرّ، وما إذا كان يمكن إجراء انتخابات في ظل الظروف الراهنة أسئلة مفتوحة جداً. إذ سيبقى الأمن خلال الفترة الانتقالية في أيدي عشرات الآلاف من المتمرّدين المسلحين الموزّعين على عشرات الكتائب في سائر أنحاء البلاد، وبالتالي لايمكن ضمانه.

العدالة الانتقالية والمصالحة

وصفت الميليشيات الثورية، خلال الثورة ومابعدها، مجموعات عدة في البلاد بأنها مؤيّدة للقذافي واتّهمتها بارتكاب جرائم حرب. وكان العديد من هؤلاء "المتهمين" أشخاص من ذوي البشرة الداكنة، يُزعم أنهم مرتزقة أتى بهم القذافي من جنوب الصحراء الكبرى للدفاع عن النظام. وأشار تقرير أصدرته في شباط/ فبراير 2012 منظمة العفو الدولية إلى عمليات اعتقال وتعذيب متكرّرة للعمال المهاجرين الذين زُعِم أنهم من أنصار القذافي ببساطة بسبب لون بشرتهم.9  قبيلتا المشاشيّة والقوالش من جبال نفّوسة وسكان معاقل القذافي السابقة مثل بني وليد وسرت هي أهداف تلقائية للاعتقال التعسفي والعنف.10  فقد تعرّض أشخاص من قبيلة تاورغاء على وجه الخصوص إلى الاعتقالات المستمرّة والعشوائية وسوء المعاملة والتعذيب من قبل المقاتلين المصراتيين أنفسهم الذين ساعدوا على تحرير طرابلس. ومن المرجّح ألا تُعالَج في الغالب مسألة الاغتصاب، الذي كان أداة للحرب أثناء القتال من جميع الأطراف، بسبب الوصمة الاجتماعية المرتبطة به بالنسبة إلى الضحية وعائلتها، أو عائلته. وتواصل كتائب مسلّحة مختلفة في ليبيا احتجاز مابين 5000 و6000 معتقل بصورة تعسّفية ممن يُزعم أنهم مؤيّدون للقذافي في أنحاء البلاد حيث تعرّض الكثير منهم إلى التعذيب.11

ربّما تتمكّن الحكومة المؤقّتة، بمساعدة وتشجيع من بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، من إخضاع معظم مراكز الاعتقال التابعة للميليشيات والتي تعمل بشكل مستقل، إلى سيطرة وزارة العدل قبل موعد الانتخابات العامة. بالإضافة إلى ذلك، صاغ المجلس الانتقالي قانون العدالة الانتقالية بدعم كبير من، وتشاور مع، بعثة الأمم المتحدة. يهدف هذا القانون إلى التصدّي للفترة مابين بداية عهد القذافي في العام 1969، مروراً بثورة العام 2011 والانتقال إلى حكومة جديدة بعد انتخابات 2012. جرى اقتراح تشكيل مجموعة من اللجان، وتقديم الاعتذارات العامة والتعويضات والمحاكمات، والقيام بعمليات تطهير في أجهزة الخدمة المدنية والأمنية، وكُلِّفَت لجنة لتقصّي الحقائق والمصالحة بالتحقيق في حوادث انتهاكات حقوق الإنسان وحالات اختفاء الأشخاص. وسيتولّى صندوق التعويضات إدارة عمليات تعويض الضحايا، على أن يحدّد المجلس الانتقالي مصادر التمويل والمبادئ التوجيهية الخاصة بها. يجب أن تكون كل جريمة تُعرض على لجنة التحقيق مدعومة بالأدلّة، ويجب أن يُسمَّى الأشخاص المحدّدون المتّهمون بالمسؤولية عن هذه الجريمة، والسماح بإجراء تحقيق شامل قبل أن يُنظر في إجراء المحاكمة أو إصدار حكم.

مع ذلك، وعلى الرغم من التقدّم السريع الذي أُحرِز من الناحية النظرية، سيستغرق تغيير وعي الجمهور باتجاه احترام العدالة الانتقالية والإجراءات القانونية سنوات عديدة. على سبيل المثال، رضخ المجلس الانتقالي مؤخّراً إلى ضغوط من الكتائب المسلحة لحمايتها من المحاكمة بسبب جرائم الحرب أو انتهاكات حقوق الإنسان التي ربّما ارتكبها أفرادها خلال الحرب وذلك بإقرار القانونين 35 و 38 في أواخر نيسان/أبريل. يمنح القانونان العفو عن أي أعمال قد تُعتَبَر "ضرورية" خلال ثورة 17 فبراير، عسكرية كانت أم غير عسكرية. ووفقاً للقانون الرقم 38، نُشِرَت قائمة من 330 شخصاً في منتصف أيار/مايو يمكن طردهم من منازلهم وحرمانهم من الحق في الطعن في الإجراء في محكمة قانونية. وقد سمح هذا القانون بمصادرة أراضي وممتلكات المتّهمين بالارتباط بالزعيم السابق. قوبِل القانونان بإدانة قاسية وسريعة من جماعات حقوق الانسان داخل ليبيا وخارجها على حدّ سواء. كما أُقِرّ القانون الرقم 37، لتجريم الأفعال أو الكلام الذي يعتبر "ضاراً" بجهود ثورة 17 فبراير، بما في ذلك "تمجيد" القذافي أو نظامه. لكن هذا القانون أُلغي الأخير في 14/6/2012.

في حين يُعَدّ وضع قانون العدالة الانتقالية واحدة من خطوات عديدة اتّخذها المجلس الانتقالي باتجاه تعزيز سيادة القانون منذ تحرير ليبيا، فلن تكون له قيمة تذكر إذا لم تُتَّخَذ خطوات ملموسة لتنفيذه أو فرض تطبيقه. وبالإضافة إلى افتقارها إلى أنظمة الشرطة والمحاكم القادرة على إدارة إجراءاتها التفصيلية، فإن أحكام القوانين 35 و37 و38 تناقض عملياً الكثير مما يسعى قانون العدالة الانتقالية لتحقيقه.

يتعيّن على الحكومة أيضاً التعامل مع المشكلة الهائلة المتمثّلة بالدعاوى والدعاوى المضادّة المتّصلة بالممتلكات التي صودِرَت ووُزِّعَت خلال حكم القذافي.12  ففي أواخر سبعينيات القرن الماضي، نفّذت حكومة القذافي برنامجاً ضخماً "لإعادة توزيع" الأراضي والممتلكات أثّر على عشرات الآلاف من المواطنين. هؤلاء الأشخاص أو أحفادهم يلوّحون الآن بسندات تمليك قديمة من العهد العثماني أو الإيطالي، ويثيرون ضجّة لاستعادة ممتلكاتهم أو يستخدمون القوة لطرد العائلات من الممتلكات التي يصرّون أنها لهم. هذا وازدادت الأمور تعقيداً بعد إحراق مكتب السجلات المركزية في أوائل الثمانينيات. لم تضع الحكومة حتى الآن مقاربة فعّالة لهذه المشكلة الآخذة في الاتّساع، والتي تؤثّر على سكن ومعيشة الآلاف من الأسر وأمن العديد من البلدات والأحياء.

التحدّيات الانتخابية

كان من المقرّر تلقائياً إجراء الانتخابات في حزيران/يونيو 2012 بعد تحرير طرابلس في تشرين الأول/أكتوبر 2011، وهي فترة إعداد قصيرة للغاية بالنسبة إلى بلد خرج للتوّ من ثورة وحرب أهلية، ولايتوفّر على أي خبرة حقيقية سابقة في الانتخابات. ومع ذلك، تحرك المجلس الانتقالي والحكومة المؤقتة بسرعة. طُرِح مشروع قانون الانتخابات، وعُيِّنَت المفوّضية الوطنية العليا للانتخابات، وبدأت الاستعدادات لتسجيل الناخبين، ونُشِر في نهاية المطاف قانون للأحزاب السياسية أيضاً.

أصدر المجلس الانتقالي المسوّدة الأولية لقانون الانتخابات بمشورة ودعم فني من بعثة الأمم المتحدة وخبراء في مجال الانتخابات، وعُرض المشروع الأصلي على الجمهور لإجراء مناقشة مفتوحة في مطلع كانون الثاني/يناير. اقترح القانون نظام انتخابي أكثري بسيط في دوائر انتخابية فردية أو صغيرة ، لملء 200 مقعد في الجمعية التأسيسية، وخصَّص حصّة للمرأة بنسبة 10 في المئة. طالب جزء من المجتمع المدني والجماعات السياسية المختلفة بإدخال التمثيل النسبي، واحتجت الجماعات النسائية أن حصة 10 في المئة ليست كافية.

بعد ذلك أصدرت اللجنة مشروعاً منقّحاً في آذار/مارس اقترح نظاماً مركباً، حيث يُملأ 120 من المقاعد الـ200 في البرلمان عبر النظام الأكثري ومن مرشحين مستقلين، فيما تُملأ المقاعد الـ80 المتبقية عن طريق التمثيل النسبي من بين قوائم حزبية متنافسة؛ و يُشترَط في القوائم الحزبية تناوب المرشحين من الذكور والإناث. إن إدراج التمثيل النسبي سيسمح بتمثيل المجموعات السياسية والمدنية الصغيرة، والتي قد تُهمَّش في النموذج الأكثري. وتمثيل الجنسين بالتناوب على القوائم الحزبية سيزيد تمثيل المرأة من 10 في المئة إلى حوالي 20 في المئة.

من حيث تقسيم الدوائر، قسمت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات مجموع المقاعد الـ200 إلى ثلاث مناطق تندرج تقريباً في المحافظات التقليدية: 106 مقاعد للمنطقة الغربية (طرابلس)، و60 مقعداً للمنطقة الشرقية التي تضم بنغازي (برقة)، و34 مقعداً للجنوب (فزان). ومن ثم تُقَسَّم تلك المناطق إلى دوائر انتخابية مختلفة، يعتبر عددها مرتفعاً، لأن من المقرّر انتخاب شاغلي معظم مقاعد الأكثرية الـ120 من دوائر انتخابية فردية أو صغيرة. في بعض المدن والمناطق، يبدو تقسيم الدوائر واضحاً وصريحاً، لكن في مناطق أخرى، ثمّة خلاف بشأن المكان الذي يتم فيه رسم الخطوط. يزداد هذا التحدّي صعوبة لأن ليبيا لم يكن لديها دوائر انتخابية حقيقية خلال نصف قرن، وغُيِّر هيكلها اللامركزي عشرات المرات، لذلك ليست هناك خريطة إدارية واضحة ومفصّلة موروثة أو مُتوافق عليها.

وستكون إدارة العملية الانتخابية تحدّياً بحد ذاتها. إذ يقدّر مسؤولون ليبيون أنهم يحتاجون إلى حوالى 45 ألف شخص في يوم الانتخابات لإدارة عملية الاقتراع والفرز، بما في ذلك قضاة في أماكن رئيسة، فضلاً عن موظفي الخدمة المدنية وأفراد الأمن. ومع أن عمليات التدريب تجري على قدم وساق بمساعدة من المجتمع الدولي، ومع أن الانتخابات أُجِّلَت إلى 7 تموز/يوليو، من المؤكّد أنه ستكون هناك الكثير من المشاكل الإدارية والمخالفات في يوم الانتخابات.

تحديد الأهليّة

على صعيد آخر، كانت عملية تحديد من سيسُمح لهم بالترشّح والتصويت في الانتخابات عملية معقّدة. ففي الوقت الحالي، تحظر قوانين المجلس الانتقالي الترشّح للمناصب العامة على الليبيين الذين ثبت بحكم قضائي أنهم تورّطوا في ممارسات فاسدة أو كانوا ينتمون مباشرة إلى المؤتمرات أو اللجان الشعبية أو الحرس الثوري في النظام السابق (ما لم يكونوا أظهروا تأييدهم لثورة 17 فبراير في بدايتها). كما يمنع من الترشّح الأعضاء الحاليين أو السابقين في المجلس الانتقالي أو الحكومة المؤقّتة أو المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، أو رؤساء المجالس المحلية.

لاتنتهي الشروط عند ذلك الحدّ. فالأشخاص الذين ارتكبوا "أعمالاً غير قانونية ضد الليبيين سواء في الداخل أو في الخارج"، والذين لهم "علاقات مهنيّة أو تجارية مؤكّدة مع الزعيم السابق، وكبار المسؤولين في إدارته أو عائلته"، والذين "تعاونوا مع النظام في مقابل الحصول على عمل" لايمكنهم الترشّح. ونظراً إلى إدماج آلاف الليبيين في دولة القذافي، وبعضهم ذات كفاءات جيدة، تهدّد هذه الشروط باستبعاد شريحة واسعة من المرشّحين المحتملين قد تحتاجها البلاد في المرحلة الانتقالية ومابعدها. والآن، يمكن لعدد من الطعون المرفوعة من المرشّحين الذين ينازعون حرمانهم من الترشّح أن تحرف العملية الانتقالية عن مسارها، وخاصّة إذا ما أُجبر المجلس الانتقالي على تأجيل الانتخابات مرة أخرى.

ثمّة حظر آخر أثار انتقادات في ظل الظروف الراهنة يتعلّق بالجيش الوطني، الذي لم يُمنع أفراده من الترشّح وحسب – وهو مايعتبر أمراً طبيعياً – بل مُنِعوا من التصويت كذلك. في هذه الأثناء، يظل الثوار المسلّحون، الذين تحاول الحكومة المؤقّتة إدماجهم في الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، أحراراً في ممارسة هذه الحقوق. وغني عن القول أن هذا المنطق يعمل على تقويض جهود الدولة لتسريح الميليشيات ودمج أعضائها في الجيش الوطني.

فضلاً عن ذلك، هناك جدل حول مسألة مَن هو ليبي ومن هو ليس كذلك، بالنظر إلى أن القذافي منح الجنسية لآلاف الأشخاص ممن لم يولدوا في ليبيا، ومعظمهم من أصل أفريقي من جنوب الصحراء، بزعم أن يتمكّنوا من دخول البلاد لدعم النظام والقتال من أجله. ثمّة جرح آخر مفتوح هو جرح قبيلة تاورغاء. فقد أُخلِيَت بلدتهم، التي يبلغ عدد سكانها 30 ألف نسمة، بعنف على يد الكتائب المصراتية، التي اتّهمت أفراد القبيلة آنذاك بارتكاب أعمال وحشيّة. ويعترض المتمرّدون المصراتيون ومتمرّدون آخرون على إدراج تاورغاء أو أي مجموعة يزعم أنها موالية للقذافي في عملية التصويت. إضافةً إلى ذلك، لايزال الكثير من هؤلاء الأفراد وغيرهم ممن يعتبرهم الثوار متحالفين مع النظام السابق رهن الاعتقال التعسّفي على أيدي الميليشيات، وبالتالي يجري استبعادهم من عمليات تسجيل الناخبين.

على الرغم من هذه النقاط الخلافية، مضت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات قُدُماً في برنامج نشيط لتسجيل الناخبين، وتلقّت المساعدة من منظمات المجتمع المدني، وكذلك من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والمعهد الوطني الديمقراطي الأميركي. وفي أوائل حزيران/يونيو، أعلنت مفوضيّة الانتخابات أنها سجّلت 2.7 مليون ناخب، أو مايزيد عن 70 في المئة من الناخبين "المؤهّلين". كما أعلنت عن تسجيل واعتماد 2639 من المرشحين الأفراد، للدوائر الانتخابية التي تعتمد النظام الأكثري، و374 قائمة حزبية لدوائر التمثيل النسبي. ولم يُعلن عدد المرشحين الأفراد والقوائم الحزبية التي منعتها المفوضية من خوض الانتخابات، لكن من الواضح أنه كبير، وهؤلاء المرشّحون الذين مُنِعوا هم الأشخاص الذين يقدّمون شكاوى يمكن أن تؤخّر الانتخابات.

الانتخابات المحلّية

في حين تمضي الاستعدادات لإجراء انتخابات وطنية قُدُماً، عقدت بلدات ومدن عدة انتخاباتها المحلية مؤخّراً، وذلك من دون تنسيق مع المفوّضية الوطنية العليا أو السلطات المركزية. وهذا قد يُنظر إليه على أنه يمثّل تحدّياً للسلطة المركزية، أو أنه أمر مفيد للفوضية العليا لأن هذه البلدات أعدّت قوائم الناخبين، واكتسبت خبرة في إدارة العملية الانتخابية. وحتى كتابة هذه السطور، نظّمت كل من زوارة وتاجوراء ومصراتة وبنغازي والأبيار انتخابات ناجحة لاختيار أعضاء المجالس المحلية، ويجري التحضير لعقد انتخابات محلية في ثلاث بلدات أخرى على الأقلّ هي درنة والبيضاء وترهونة.

في جميع الحالات، ارتُجِلَت العمليات الانتخابية من خلال مبادرات قام بها المواطنون. ولم يكن الهدف تأسيس مجالس منتخبة وحسب، بل أيضاً أن تسمّي هذه المجالس ممثّل البلدة إلى المجلس الانتقالي ليحلّ محلّ الممثّلين غير المنتخبين. عقدت أولى هذه الانتخابات المحلية في زوارة في صيف العام 2011، وذلك قبل نهاية الحرب. كانت تلك الانتخابات ذات طابع تقليدي جرى فيه تسمية رئيس المجلس من جانب مجموعة من المواطنين الذين يرفضون المجالس التي نصّبت نفسها والتي نشأت في بداية الحرب. ومن ثم عيّن رئيس المجلس هذا أعضاء إضافيين في المجلس وفقاً للأعراف المحلية. ونظراً إلى صغر حجم المدينة (حولى 40 ألف نسمة)، والمستوى العالي من الثقة المجتمعية المحلية، تمّت العملية في غضون أسبوعين؛ ومع أن 3000 فقط من أبناء زوارة شاركوا في التصويت، فقد لقيت النتائج قبولاً حسناً بشكل عام.

مع إجراء المزيد من الانتخابات المحلية، كان ثمّة اتجاه ملحوظ نحو عمليات أكثر تنظيماً لتسجيل الناخبين وتأهيل المرشّحين. فقد طالب السكان في المدن التي تضم أعداداً أكبر من السكان، في تاجوراء مثلاً، إحدى ضواحي طرابلس الجنوبية (120 ألفاً)، ومصراتة (270 ألفاً)، بأن تكون العملية أكثر تنظيماً، مع أن هذه العمليات نشأت بالطريقة نفسها كما حدث في زوارة. وفي كلتا المدينتين، سُمِّيَت لجان الانتخابات التي وَضعت المبادئ التوجيهية لتنظيم الانتخابات والمشاركة فيها من جانب مجموعات من المواطنين الساعين لاستبدال المجالس التي تشكّلت خلال الثورة.

نظّمت تاجوراء عملية انتخابية على مرحلتين: في الخطوة الأولى، سُمِّي المرشّحون من كل واحدة من الدوائر الانتخابية السبع التي حدّدتها اللجنة، وسُجِّل الناخبون باستخدام بطاقات الهوية الشخصية كمراجع ومايسمى بـ"دفتر العائلة"، وهو وثيقة كانت تُستَخدَم في عهد القذافي لتوزيع الإعانات والحصص التي تقدّمها الحكومة على الأسر؛ وفي الثانية، أجريت عملية التصويت على المرشحين الذين تمت الموافقة عليهم.

في مصراتة، دُعي د. محمد بروين، وهو شخصية أكاديمية بارزة، من مواليد مصراتة، ورئيس قسم العلوم السياسية في جامعة تكساس الأميركية، إلى قيادة العملية الانتخابية. وبفضل خبرة بروين، كانت مصراتة أول بلدة تطوّر عملية انتخابية محدّدة بوضوح. سُجِّل خمسة وستون في المئة من المواطنين في المدينة، ونُظِّمَت عملية فرز لاستبعاد أعوان النظام السابق أو غيرهم ممن قد يكونوا غير مؤهّلين لأسباب قانونية. كانت كل اجتماعات اللجنة علنيّة، وبسبب درجة الشفافيّة والصّرامة التي أصرّ عليها بروين، نظر المصراتيون والليبيون إلى الانتخابات على أنها مشروعة تماماً. فقد صوّت مايقرب من 50 ألفاً، أو 59 في المئة، من المسجَّلين. وأصبحت قصة نجاح مصراتة نموذجاً للانتخابات المحلية الأخرى في جميع أنحاء البلاد، ووفّرت زخماً للانتخابات الوطنية.

عقدت بنغازي انتخاباتها في أيار/مايو، واعتمدت على نموذج مصراتة في استعداداتها، بيد أن عدد سكانها الكبير (مليون نسمة) والمتنوّع طرح تحدّيات خاصّة. فقد استخدم المنظّمون في بنغازي مساعدة دولية لتنظيم عملية الانتخابات الخاصة بهم. وقامت منظمة غير حكومية تتّخذ من السويد مقرّاً لها هي "المؤسسة الدولية للمساعدة الانتخابية" International IDEA بتدريب نحو 500 من السكان المحليين لتنظيم وتنفيذ العملية في الوحدات الانتخابية الـ135 في المدينة، وقدّمت منظمات الاتحاد الأوروبي الحبر وصناديق الاقتراع. ويشارك عدد من منظمات المجتمع المدني الليبي أيضاً في مهام تتراوح مابين تثقيف الناخبين ورسم الخرائط الانتخابية.

عموماً، يمثّل تنظيم هذه الانتخابات المحلية عرضاً مثيراً للإعجاب من الديمقراطية يقوده مواطنون عاديون. وإذا ما أظهر الليبيون الالتزام نفسه إزاء الانتخابات الوطنية كما فعلوا في بعض الانتخابات المحلّية الأخيرة، فإن فرص نجاح انتخابات الجمعية التأسيسية سوف تتحسّن وتؤتي ثمارها، وستقبل الغالبية العظمى من السكان النتائج. ومع ذلك، وفيما تجري الاستعدادات للانتخابات على قدم وساق، فإن نجاح أو فشل الانتخابات الوطنية يعتمد في نهاية المطاف، كما هو حال معظم الأمور في ليبيا اليوم، على الوضع الأمني المحفوف بالمخاطر.

مشهد الأحزاب السياسية

بعد أن ألغى المجلس الوطني الانتقالي القيود التي كانت مفروضة في عهد القذافي على تشكيل الأحزاب السياسية في أعقاب الثورة، ظهرت عشرات الأحزاب ذات التوجهات المختلفة. وشكّلت النزعات الإسلامية المعتدلة والسلفية والقومية والليبرالية واليسارية أحزاباً، في حين عكست أحزاب أخرى مرجعيات محلية أو قبلية أو إقليمية. وستلعب هذه الأحزاب السياسية دوراً مهماً في انتخابات البرلمان كجزء من نظام التمثيل النسبي. ومع ذلك، فقد أخّر المجلس الانتقالي كثيراً صدور قانون تنظيم الأحزاب السياسية، ماحَدَّ من نموّ الاحزاب وقدرتها على تأطير النقاش الوطني في الفترة التي تسبق الانتخابات. وجرت الموافقة في نهاية المطاف على قانون الأحزاب السياسية الرقم 29، يوم 24 نيسان/أبريل 2012، لكن وكما كان الحال مع العديد من أجزاء التشريعات الصادرة عن المجلس الانتقالي، جرى بعدها تعديل القانون إثر ضغوط مارستها مجموعات مختلفة، وهم الإسلاميون في هذه الحالة.

نصّت النسخة الأولى من قانون الأحزاب السياسية على ألا تمارس الأحزاب التمييز على أساس الانتماء القبلي أو المناطقي أو الديني. هذا لم يمنع تشكيل أحزاب لديها هذه الهويات في جوهرها، لكن لم يسمح للأحزاب بأن ترفض قبول عضوية أي مواطن بناء على المعايير القبلية أو المناطقية أو الدينية. وبعد أسبوع، وفي أعقاب ضغوط مارستها الأحزاب الإسلامية التي شعرت أنها مستهدفة، صدر مشروع ثانٍ أسقط شرط عدم التمييز.

عدا ذلك، يحظر قانون الأحزاب الحصول على تمويل أجنبي أو أن يكون الحزب "امتداداً لجماعة خارجية". وينصّ القانون على أن توفّر الحكومة الدعم المالي للأحزاب: يجري توزيع نسبة 50 في المئة بالتساوي بين الأحزاب، وتوزَّع نسبة 50 في المئة أخرى وفق نسبة الأصوات التي ينالها في الانتخابات، شرط أن يحصل على الحد الأدنى المطلوب من الأصوات والبالغ 3 في المئة. وتحتفظ الدولة بالقدرة على طلب القيام بعمليات التفتيش والمصادرة أو تعليق نشاط الحزب بقرار من المحكمة، وهي سلطة تدعو إل الريبة نظراً إلى الحالة الراهنة المتردّية للمحاكم في ليبيا. وينصّ القانون على أنه يحظر على أفراد قوات المسلحة النظامية وعلى السلطة القضائية المشاركة في الحياة السياسية الحزبية، ولكنه لايمنع أفراد الميليشيات المسلّحة من المشاركة. وهذا يعيد إلى الأذهان المادة المثيرة للجدل في قانون الانتخابات التي تمنع الفئة الأولى السابقة، ولكنها لاتمنع الفئة الأخيرة، من التصويت أو الترشّح للمناصب.

تعدّ جماعة الإخوان المسلمين الليبية بحزبها، الذي أسّسته مؤخّراً "حزب العدالة والبناء"، أكثر الأحزاب السياسية تنظيماً.13  فقد أعلنت جماعة الإخوان بالفعل أنها ترحّب بغير الإخوان كأعضاء في الحزب، وهذا يظهر بالفعل مؤشّرات على أنها تعلّمت من حركة النهضة في تونس وجماعة الإخوان المصرية من خلال تبنّي التحوّل الديمقراطي، والتحضير للانتخابات، والانتقال نحو مواقف أكثر وسطيّة وبراغماتية. ومن المرجّح أن يُحسِن حزب الإخوان المسلمين صنعاً بطرح مرشّحين في الدوائر التي تعمل وفق نظام الأكثرية ذات العضو الواحد، وكذلك في نظام قائمة التمثيل النسبي.

شُكِّل حزب الإصلاح والتنمية، على الرغم من تشابهه في الاسم مع حزب الإخوان المسلمين، على يد مجموعة من العلماء المسلمين في بنغازي، الذين يؤيّدون أيضاً دولة قائمة على المبادئ الإسلامية. وبما أنه متميّز عن حزب العدالة والبناء، فإنه قد يحقّق أيضاً نتيجة طيّبة على المستوى المحلي إن لم يكن على المستوى الوطني.

في طرابلس، تعاونت شخصيتان بارزتان، عبدالحكيم بلحاج الذي سبق ذكره، والشيخ علي الصلاّبي صاحب النفوذ والتأثير، لتشكيل حزب إسلامي آخر هو التجمع الوطني للحرية والعدالة والتنمية. ومن المرجّح أن يكون لهذا الحزب وجود كبير في طرابلس، ويمكن أن يكون إما منافساً محتملاً أو شريكاً لجماعة الإخوان المسلمين. إذ يؤكّد الصلاّبي أن أهداف التجمع الوطني تستند إلى تفسير معتدل للعقيدة، وأن الحزب أكثر وطنية في نواياه من الإسلاميين. ويقول المنتقدون أن روابط قادة الحزب مع قطر تخفي أجندة اجتماعية وسياسية أكثر محافظة.

إن السلفية قوة جديدة ومتنامية بسرعة في ليبيا، وربما تحقّق نتيجة انتخابية مفاجئة كما حدث في مصر. وقد شارك السلفيون الليبيون في الثورة، واشتبكوا مع جماعات ومؤسسات أخرى أكثر اعتدالاً أو غير إسلامية، منذ سقوط نظام القذافي. لم يظهر في الساحة أي حزب سياسي سلفي مهيمن حتى الآن، بيد أن التيار السلفي قوي. وحتى من دون وجود حزب قوي، يمكن للسلفيين أن ينافسوا على المقاعد الـ120 التي لاتشترط تسجيل الحزب، ومن المرجح أن يفوزوا بتمثيل كبير في البرلمان.

نسّقت جماعة الإخوان المسلمين الليبية والجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا الأكبر من حيث الحجم، والتي تأسّست في العام 1981، أنشطتهما في الخارج حتى بداية الثورة. ومع اقتراب موعد الانتخابات، أظهرت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا بعض الجاذبيّة على الصعيد الوطني، غير أن جذورها الاجتماعية أضعف من جذور منافسيها الإسلاميين. إن الجبهة مرتبطة على نحو فضفاض بجماعة الإخوان المسلمين لجهة أن كثيراً من أعضاء جماعة الإخوان الأصليين انشقّوا عنها لتشكيل الجبهة الوطنية.14

كما شُكِّلت جماعات أخرى ذات ميول ليبرالية، مثل حزب ليبيا الديمقراطي، وحزب التغيير الليبي، والحملة الليبية للحرية والديمقراطية. ومع أن الجذور الاجتماعية لهذه الجماعات محدودة، فمن المرجّح أن تحقّق حضوراً ضئيلاً على الأقلّ من خلال نظام التمثيل النسبي، ووجودها في البرلمان في المستقبل سيساعد على ضمان وجود ثقل، مايحاول الحد من هيمنة الإسلاميين، والحفاظ على بعض الاهتمام بقضايا المرأة والحقوق المدنية.

في حين يرجّح أن يكون في الجمعية الجديدة فريق إسلامي قوي، من المحتمل أيضاً أن تتميّز بتمثيل محلّي وقبلي، وهو مايؤدّي بالتالي إلى خلق جمعية تأسيسية مفكّكة ومناطقية إلى حدّ بعيد. إضافة إلى ذلك، إن هذه الأحزاب مهمة على المستوى الوطني، لكن لم يكن لها تأثير كبير في الانتخابات المحلية، سواء من حيث التنظيم أو الإدارة أو النتائج.

صياغة الدستور

إذا ما استُكمِلَت الانتخابات بنجاح، ستكون الجمعية الجديدة أمام مهمتين: تعيين حكومة انتقالية جديدة، والأهم من ذلك، تعيين لجنة لصياغة الدستور، لم تُحسَم إلى الآن مسألة حجمها وتركيبتها. غير أن مجرّد تشكيل لجنة لصياغة الدستور ربّما يشكّل تحدّياً. فقد كانت آخر مرة صاغت فيها ليبيا دستوراً في العام 1951، حيث تألّفت اللجنة التي ضمّت 60 عضواً من عدد متساوٍ من ممثّلي المناطق الرئيسة الثلاث في ليبيا، واستغرقت عملية التفاوض على الدستور واستكماله 25 شهراً. واليوم، يرغب العديد من الشرقيين والجنوبيين في الحفاظ على هذا التمثيل المناطقي المتساوي، ويخشون من أن المنطقة الغربية، التي يزيد عدد سكانها أضعافاً على مناطق أخرى، قد تحاول فرض أغلبية. كما أنه لم يُتَّفَق على ما إذا كانت اللجنة ستتألّف من أعضاء الجمعية المنتخبين أو من الخبراء من خارج الجمعية.

ستكون أمام اللجنة، بمجرد تشكيلها، مهمّة شاقة لصياغة الدستور في غضون شهرين. وعلى الرغم من الإجماع الكبير حول الخطوط العريضة للدستور - أن ليبيا ستكون ديمقراطية دستورية تحترم حقوق الإنسان والتعدّدية السياسية - ثمة عدد من القضايا التي ستتطلّب نقاشاً واسعاً، وأخرى ستتطلب ببساطة وقتاً للتفاوض عليها وإدخالها في النصوص النهائية. ومن بين القضايا التي يمكن أن تجتذب نقاشاً خاصاً هي قضايا الفدرالية واللامركزية، وتفاصيل السلطة التنفيذية، ومكانة الدين.

الفدرالية واللامركزية

بينما يضغط الزعماء من الشرق والجنوب عموماً لتحقيق اللامركزية، أو الفدرالية في بعض الحالات، فإن زعماء من طرابلس والغرب يفضّلون عموماً بناء دولة أكثر مركزية. في الواقع، ثمّة العديد من العوامل التي تجذب ليبيا في كلا الاتجاهين المركزي واللامركزي. ومايدفع في اتجاه اللامركزية هي جغرافية البلاد الشاسعة، والتاريخ المختلف للمناطق الغربية والشرقية والجنوبية؛ وأسبقية الشرق في الثورة، وتوزيع موارد النفط والغاز، ولامركزية السلطة العسكرية في جميع أنحاء البلاد للميليشيات المحلية. وتدفع في اتّجاه المركزية الحاجة إلى إعادة بناء دولة فعّالة بسرعة؛ وفرض الأمن والسلطة الوطنية؛ وتأسيس مؤسّسات فعّالة للرقابة المالية والحوكمة؛ وإقامة علاقات دولية قوية، وزيادة صادرات الطاقة.

لاشكّ أن الهويات المناطقية قوية في ليبيا. تاريخياً، كانت البلاد تتألف من ثلاث مناطق منفصلة : طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب. وكان الملك إدريس، الذي حكم ليبيا غداة استقلالها، مهتماً في البداية في أن يكون ملكاً على برقة فقط، وكان في حاجة إلى مَن يقنعه بقبول حكم الإقليمين الآخرين. بدأت الملكية كنظام فدرالي، وبالتالي حافظت على الهويات الإقليمية، وفي وقت لاحق فقط جرى صهرها في دولة موحدة. وفي ظل حكم القذافي، حدثت تغييرات مستمرة في سلطات وحدود الهيئات المحلّية، وفي الطريقة التي يجري بها انتخاب تلك السلطات أو اختيارها، وفي استقلاليتها أو تبعيّتها المالية. انتقلت السلطة بالتأكيد من الشرق إلى طرابلس والغرب، وتعزّزت مركزية الحكم. وطوال فترة حكم القذافي، تسبّبت سيطرة الغرب في حدوث توتّرات مع بنغازي والشرق، ما أدّى إلى اضطرابات وانتفاضات متكرّرة. ولذا ليس من المستغرب أنه مع بدء هبوب رياح الربيع العربي، بدأت الثورة في بنغازي والشرق. ولحسن الحظ، لاتتعزّز الهويات المناطقية بسبب الهويات العرقيّة أو الطائفية، كما هو الحال في بعض الدول العربية الأخرى، ولكن التوتّرات المناطقية تشكّل بالتأكيد جزءاً كبيراً من التحدّيات الانتقالية الحالية في ليبيا.

كما تلعب الموارد دوراً كبيراً في كيفية توزيع السلطة على المستوى الوطني، وتمتلك كل منطقة أدواتها الخاصة للضغط من أجل الحصول على حصة في السلطة. يحوي الجنوب الجزء الأكبر من احتياطيات المياه الجوفية، والتي تمثّل مورداً لاغنى عنه في واحدة من الدول الأكثر جفافاً في العالم. ويقع الجزء الأكبر من صناعة النفط في البلاد في حوض سرت الأوسط ومنطقة بنغازي في الشرق، ويحوي الغرب معظم احتياطيات ليبيا المحدودة من الغاز. وفي حين أن الشرق يحوي نحو 70 في المئة من الثروة النفطية في البلاد، يعادل سكان طرابلس سكان المنطقة الشرقية بأكملها. تستطيع منطقتا برقة وطرابلس الاستفادة من مواردهما لفرض وزنيهما من الناحية السياسية على المستوى الوطني بسبب تشابه أهالي كل منهما على المستوى العرقي واللغوي، وعلى مستوى التضامن القبلي والنَسَبي، والشبكات المجتمعية القوية فيهما. أما قبائل فزان فمنقسمة بشدّة بشكل يمنعها من ممارسة تأثير فعّال على المستوى الوطني.

يفضّل زعماء طرابلس والغرب عموماً بناء دولة مركزية، في حين تضغط قيادات الشرق والجنوب عموماً باتجاه اللامركزية، أو حتى الفدرالية. وفي اجتماع حضره 3000 من الزعماء القبليين والمحلّيين في بنغازي في أوائل آذار/مارس، دعا المجتمعون الى الفدرالية، وأعلنوا، من جانب واحد، إنشاء منطقة برقة الفدرالية التي تضم بنغازي وبرقة التاريخية في شرق البلاد. وفي خطوة لاتخلو من الرمزية عيّنوا أحمد السنوسي ممثّلاً لهم، وهو من سلالة الملك إدريس. قوبل هذا الإعلان بانتقادات حادّة من المجلس الانتقالي ومن جهات أخرى في غرب ليبيا بل وحتى في شرقها. وأصدر مفتي ليبيا فتوى ضدّه، وحذّرت مصر وتونس وجامعة الدول العربية وآخرون منه كذلك. وفي استطلاع للرأي على المستوى الوطني، قال 80 في المئة أنهم ضد الفدرالية في ليبيا.15

لم تكن هذه النتيجة غير متوقعة. فكثيراً مايرتبط مفهوم الفدرالية في العالم العربي بالانقسام الوطني والتفكّك، كما أن التجربة المضطربة في العراق لم تساعد. لكن إعلان برقة كشف أنه على الرغم من عدم ترجيح اعتماد الفدرالية في الدستور، سيكون النقاش الدائر حول اللامركزية جدّياً. ويمكن أيضاً أن يُربَط بالنقاش حول وجود نظام من مجلسين يمكن أن تُمثَّل فيه المناطق في مجلس الشيوخ بينما يُمثِّل مجلس النواب عامة الناس.

سيتعيّن على واضعي الدستور الجديد إيجاد توازن بين دور الحكومة المركزية، ودور الإدارات الإقليمية (المحافظات على سبيل المثال)، ودور السلطات المحلية (البلديات). سيتعّين عليهم أيضاً التعامل مع مسألة عاصمة ليبيا، التي جرى التنازع عليها تاريخياً. فبين العامين 1951 و1963، كانت لليبيا عاصمتان. ودستور العام 1963 لم يُسَمِّ عاصمة رسمية، حيث أقام الملك إدريس حكومة في بلدة البيضاء الصغيرة الواقعة إلى الشرق من بنغازي. كما لم يعلن القذافي عن عاصمة رسمية، لكنه نقل ثقل الحكومة أولاً إلى طرابلس، ثم في العام 1977 إلى المدينة الأكثر مركزية - سرت. وعندما انخرط النظام من جديد مع المجتمع الدولي، أعاد سيف الإسلام معظم الوزارات إلى طرابلس. بدأ المجلس الانتقالي متّخذاً من بنغازي مقرّاً له، لكنه انتقل إلى طرابلس بمجرد أن تحرّرت، وأصدر إعلاناً يقول إن بنغازي ستكون هي "العاصمة الاقتصادية".

ربما يكمن جزء من الحلّ في تطبيق اللامركزية حتى على أجهزة الحكومة المركزية من خلال، على سبيل المثال، ألا يكون مقرّ الحكومة المركزية في أي من المدن الغربية أو الشرقية الرئيسة، أو وضع السلطة التنفيذية في مدينة ووضع البرلمان في مدينة أخرى. هناك نماذج مختلفة من البرازيل إلى الاتحاد الأوروبي يمكن أن تستخدم للاسترشاد بها. لكن حتى مع وجود سوابق يمكن اعتمادها، من المرجّح أن يكون الجدل الدستوري حول مدى وتفاصيل اللامركزية معقداً ومسهباً.

شكل السلطة التنفيذية وتفاصيلها

شهدت البلدان العربية الأخرى التي تمرّ في مرحلة انتقالية مثل تونس ومصر واليمن جدلاً حول نظامي الحكم الرئاسي والبرلماني. ومع أن الأحزاب السياسية الرئيسة لم تعلن مواقف حاسمة حيال هذه المسألة، فقد انقسم الرأي، في ورش عمل ضمّت أحزاب سياسية وناشطين من المجتمع المدني، بين ثلاثة نماذج: النظام البرلماني، النظام الرئاسي ، والنظام شبه الرئاسي.16

يشير أنصار النظام البرلماني إلى ويلات السلطة التنفيذية المركّزة في ظل حكم القذافي، مع العلم أن القذافي لم يعلن نفسه رئيساً للبلاد. وهؤلاء يخشون من أن رئاسة قوية سوف تعيد خلق الأنماط القديمة للاستبداد، ويؤكّدون أن الطبيعة التعدّدية للثورة تتطلّب آلية للمشاركة الواسعة في السلطة تتحقق بالشكل الأفضل من خلال نظام برلماني.

أما أنصار النظام الرئاسي فيقولون أن ليبيا في حاجة ماسّة إلى سلطة تنفيذية قوية وفعّالة، وأن أفضل وسيلة لتأمين ذلك يكون غبر النظام الرئاسي. وهم يجادلون بأن تفتيت السلطة في الوضع الراهن مابعد الثورة هو بالضبط نقطة ضعف ليبيا، ويتعيّن التغلب عليه من خلال سلطة تنفيذية قوية منتخبة شعبياً. ويقولون أيضاً أن النظام الرئاسي سيكون الأكثر كفاءة في اتّخاذ العديد من القرارات والمبادرات التي ينبغي اتّخاذها بسرعة كي تتعافى الدولة والاقتصاد.

ويحاول أنصار النظام شبه الرئاسي أخذ الموقف الوسطي بين الاثنين السابقين. فهم يشيرون إلى النموذج الفرنسي الذي يتقاسم فيه الرئيس المنتخب شعبياً السلطة التنفيذية مع رئيس وزراء يكون مسؤولاً أمام البرلمان، ويؤكّدون أن هذا المزيج هو الأفضل لليبيا في مرحلة مابعد القذافي.

مكانة الدين

إن أكثر من 95 في المئة من سكان ليبيا هم من المسلمين السنّة الذين يتبعون المذهب المالكي، وبالتالي فإن الدين هو أحد عوامل الوحدة عموماً. وفي حين تمثّل السلفية اتجاهاً مهماً، تجري موازنتها بحضور واسع لجماعة الإخوان المسلمين الأكثر اعتدالاً، وتيار صوفي قديم العهد. وعلى الرغم من وجود تدرّج للتفسيرات المحافظة والأكثر ليبرالية للإسلام السني في ليبيا، ليست هناك انقسامات دينية أو طائفية كبيرة كما هو الحال في المشرق العربي أو حتى في مصر. ومع ذلك، هناك جماعات علمانية وليبرالية وجمهور أنصار لها، وإن كان صغيراً، قلقون من الاتجاه الإسلامي القوي، وسيسعون إلى الحدّ من الإشارة إلى الإسلام في الدستور.

أعلن المجلس الوطني الانتقالي، في الإعلان الدستوري الذي أصدره في آب/أغسطس، أن "ليبيا دولة ديمقراطية، وأن الشعب مصدر السلطة؛ والإسلام دين الدولة، والشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع". ومن المرجح أن تبقى هذه اللغة في الدستور الجديد، لكن الجماعات العلمانية والليبرالية ستكون حريصة على منع الإشارات إلى الإسلام والشريعة من التوسّع أكثر في أجزاء أخرى من الدستور. إذ أن المجتمع المدني والفئات الاجتماعية الأخرى قلقة بشكل خاص، كما هو الحال في الدول العربية الأخرى التي تمرّ بمرحلة انتقالية، بشأن حقوق ومكانة المرأة وحرية المواطنين الليبراليين والعلمانيين في اختيار نمط حياتهم.

عندما تنتهي اللجنة الدستورية من إنجاز مسوّدة الدستور، ستمضي المفوّضية العليا للانتخابات قُدُماً في تنظيم استفتاء وطني على ذلك. في حال قبول الدستور، فإنه يصبح قانوناً، وإذا رُفِض، فسوف تكون أمام لجنة الصياغة مهلة ثلاثين يوماً لتعديل مسوّدة الدستور وإعادة تقديمه للاستفتاء. وبعد أن تتم الموافقة على الدستور، ستجرى انتخابات لمجلس تشريعي جديد في غضون 210 أيام، وستُنتَخَب السلطات التنفيذية الجديدة وتُشكَّل. وإذا نجحت ليبيا في تخطّي هذه الخطوات كلها، فستكون بذلك قد أكملت المرحلة الأولى من الانتقال الصعب من الدكتاتورية إلى أول طريق الديمقراطية.

مابعد المرحلة الانتقالية

إذا ما أكملت ليبيا المرحلة الانتقالية الأولية – إجراء الانتخابات وصياغة الدستور وتشكيل سلطة جديدة - فستواجه بعد ذلك العديد من التحدّيات على المدى الطويل. فأمامها تحدي بناء مؤسّسات دولة فعّالة وشفّافة قادرة على إدراة شؤون البلاد وتقديم الخدمات اللازمة، وإكمال عملية دمج الثوّار واستعادة احتكار الدولة للقوة. ويتعيّن على قادة ليبيا الجدد أن يحدّدوا كيفية إعادة هيكلة الاقتصاد المعتمد على النفط إلى اقتصاد متنوّع، يمكنه خلق فرص عمل ودَخْل للأجيال الصّاعدة. ولا بدّ من رعاية المجتمع المدني، الذي ازدهر خلال الثورة، والذي يعتبر أساسياً لخلق مجتمع ليبي أكثر ديمقراطية على نحو مستدام. هذه القضايا ذات أهمية كبيرة، لكنها لاتزال وراء الأفق بالنسبة إلى معظم الليبيين الذين يشعرون بالقلق تجاه احتياجاتهم الأمنية وسبل عيشهم المباشرة، لأنهم يسعون إلى تجاوز غموض الفترة الانتقالية الى دولة أكثر ديمقراطية وفعّالية.

تواجه ليبيا تحديات عميقة الجذور ومعقّدة. لكن في النهاية، يبقى مايمكن أن يقوم به العالم الخارجي من أجل ليبيا محدوداً. فنجاح أو فشل عملية الانتقال الليبية يعتمد على القرارات التي يتّخذها الليبيون أنفسهم، كما ينبغي أن يكون عليه الحال. إن فرصة تطوير ديمقراطية مستدامة في ليبيا موجودة بالتأكيد. وفي حين أن غياب مؤسسات الدولة الناجزة أدّى إلى تعقيد جوانب العملية الانتقالية، فقد يكون أيضاً فرصة لإعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد من صفحة بيضاء، بدل التصارع مع القوى المؤسّسية الراسخة من النظام القديم، كما هو الحال في مصر.

ومع ذلك، إن المرحلة الانتقالية في ليبيا في وضع حرج وصعب: البلاد لديها فرصة جيدة للخروج من واحدة من أسوأ الدكتاتوريات في العالم، وبدء الطريق لبناء دولة ديمقراطية ومزدهرة. لكن العثرات كثيرة، والأخطاء التي يمكن ارتكابها على طول الطريق عديدة. يعود الأمر إلى القيادة الانتقالية الليبية والشعب الليبي لاجتياز طريقهما من خلال خوض التحدّيات المباشرة المتمثّلة بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، وصياغة دستور جديد. وبعد ذلك يمكنهما أن يلتفتا إلى التحدّيات طويلة الأمد لبناء ليبيا مستقرّة وآمنة ومزدهرة، وديمقراطية مستدامة.


نبذة عن الكاتبين

بول سالم هو مدير "مركز كارنيغي للشرق الأوسط". قبل انضمامه إلى مؤسسة كارنيغي في العام 2006، شغل منصب المدير العام لـ"مؤسّسة فارس". وفي الفترة الممتدة من العام 1989 إلى العام 1999، أسّس وتولّى إدارة "المركز اللبناني للدراسات السياسية" الذي يُعتَبَر الرائد في لبنان من بين مراكز الأبحاث التي تُعنى بالسياسات العامة. له العديد من الكتب والمؤلفات، وغالباً مايشارك في برامج تلفزيونية ومقابلات إذاعية، ويكتب مقالات في الصحف العربية والعالمية يتناول فيها قضايا سياسية ذات صلة بالعالم العربي.

أماندا كادليك تشغل حالياً منصب محلّلة رئيسة لقضايا الشرق الأوسط في مؤسّسة استشارية مقرّها لندن وذات مكتب إقليمي في بيروت، لبنان. وقد أنجزت عملها على هذه الورقة خلال الفترة الذي أمضتها في العمل كمساعدة باحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط.

يودّ الكاتبان إزجاء الشكر لأعضاء من المجلس الوطني الانتقالي والحكومة المؤقّتة، وممثلي الجماعات الثورية، والأحزاب السياسية، والمجتمع المدني في ليبيا الذين شاركوا في الاجتماعات التي نظّمها مركز كارنغي في طرابلس وقدّموا وجهات نظرهم وآرائهم. ويشكر الكاتبان كذلك نجاح دواجي وأسماء رمضان من مجموعة الاتصال حول ليبيا، وشارون لينش، لمساعدتهن في عمليات التنظيم والبحث في ليبيا. كما يودّان أيضاً شكر كل من مروان المعشر ومارينا أوتاوي وفريدريك ويري على مراجعتهم للمادة وملاحظاتهم عليها.

1 Barak Barfi, “Who Are the Libyan Rebels? Inside Their Leadership Structure,” New Republic, April 30, 2011, www.tnr.com/article/world/87710/libya-rebels-gaddafi-ntc-saif.

2 Chris Blanchard, “Libya: Transition and U.S. Policy,” Congressional Research Service (CRS), March 28, 2012, 22, http://www.fas.org/sgp/crs/row/RL33142.pdf; Sophie Quinton, “The Quest for Libya’s Frozen Assets,” Atlantic, August 26, 2011, www.theatlantic.com/international/archive/2011/08/the-quest-for-libyas-frozen-assets/244171.

3 “Libya Rises Fast From the Ashes,” National, May 20, 2012.

4 Amanda Kadlec, “Disarming Libya’s Militias,” Sada, February 16, 2012, http://carnegieendowment.org/sada/2012/02/16/disarming-libya-s-militias/9of5.

5 Wolfram Lacher, “Is Autonomy for Northeastern Libya Realistic?” Sada, March 21, 2012, http://carnegieendowment.org/sada/2012/03/21/is-autonomy-for-northeastern-libya-realistic/a431.

6 Robert Worth, “In Libya the Captors Have Become the Captive,” New York Times, May 9, 2012.

7   “8,000 Libyans Enlist to Protect Borders, Oil,” Agence France-Presse, March 31, 2012, www.google.com/hostednews/afp/article/ALeqM5jPlD9BMuNsChs0UHqh9PYGbpAYSA?docId=CNG.5ba00d350acdc99f903fb64f33d3cb13.891

8 Blanchard, “Libya: Transition and U.S. Policy,” 5.

9 المرجع السابق.

10 المرجع السابق.

11 المرجع السابق، 14.

12 Robert Worth, “Libyans Consider Recovery of Property Confiscated by Qaddafi,” New York Times, May 14, 2012.

13 Omar Ashour, “Libyan Islamists Unpacked: Rise, Transformation and Future,” Brookings Policy Briefing, May 2, 2012, www.brookings.edu/~/media/research/files/papers/2012/5/02%20libya%20ashour/omar%20ashour%20policy%20briefing%20english.pdf

14 المرجع السابق.

15 أنظر http://twitter.com/#!/ilibico/status/177440917068845056/photo/1

16 “Libya’s New Constitution: Towards an Inclusive and Democratic Social Contract,” Forum for Democratic Libya in Partnership With Beyond Reform and Development, Briefing Report, May 2012.