المصدر: Getty

الصراع الإقليمي المحلي جداً في سورية

تعني الطبيعة المحلية للغاية للصراع السوري أن تطوّره وحلّه في نهاية المطاف لن يتحكّم بهما غير السوريّين.

نشرت في ٩ يونيو ٢٠١٤

هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تتناول الديناميكيات العالمية للصراع السوري، ويحلّل من خلالها خبراء كارنيغي من أنحاء العالم كافة المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية التي تدخل ضمن الحرب الأهلية المتواصلة في سورية. يمكنكم الاطلاع على السلسلة كاملةً هنا.

ما أن مرت بضعة أشهر على انطلاق الانتفاضة السورية في آذار/مارس 2011، حتى أصبح تصوير البلاد بوصفها ساحة لصراع بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية أمراً عادياً ومبتذلاً. ومنذ ذلك الحين، أدّى انزلاق سورية إلى حرب أهلية شاملة إلى وجهة نظر سائدة أيضاً تقول إن أي حلّ للصراع السوري يعتمد كلياً على التوصّل إلى تفاهم بين تلك القوى الخارجية. بيد أن الطبيعة المحلية للغاية للصراع السوري تعني أن تطوّره وحلّه في نهاية المطاف، سواء تم ذلك بالوسائل الدبلوماسية أو العسكرية، لن يتحكّم به غير السوريين.

ويبدو أن سورية قد عادت إلى فترة الاضطرابات التي شهدتها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عندما أدّى غياب التوافق السياسي الداخلي وضعف التماسك المجتمعي إلى جعلها رهينة المنافسات الإقليمية العربية وسياسات الحرب الباردة، ما أدّى إلى كثرة تغيير الحكومات والانقلابات العسكرية. ولعل الإنجاز الأبرز الذي حقّقه حافظ الأسد، والد الرئيس الحالي بشار الأسد، الذي تولّى السلطة في الفترة من 1970 حتى وفاته في  العام 2000، هو عزل سورية عن التدخل الأجنبي وتحقيق الاستقرار في سياستها الداخلية. بيد أن هذا الإرث ضاع الآن. فغير السوريين يتوغّلون الآن في السياسة والمجتمع والاقتصاد السوري إلى درجة لم يسبق لها مثيل منذ أن حصلت البلاد على استقلالها عن فرنسا في أربعينيات القرن الماضي.

صوّر بشار الأسد الأزمة الراهنة باستمرار باعتبارها مؤامرة مستوحاة من الخارج وقدّم نفسه كمدافع عن السيادة السورية ضد هجوم شامل يقوده الجهاديون غير السوريين. في المقابل، تحوّلت ما اعتبرها الكثيرون من خصوم الأسد في البداية نضالاً شعبياً ضد نظام قمعي محلي إلى معركة ضد الاحتلال الأجنبي من جانب إيران ووكلائها، أي حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية بالدرجة الأولى.

مع ذلك، استمرت أقلمة (أي إضفاء الطابع الإقليمي على) الصراع ببطء في البداية. فلم تجاهر تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر برأيها، وهي البلدان التي أصبحت أكثر خصوم الأسد الإقليميين عناداً، إلى أن تجاهل النظام جهود الوساطة التي قامت بها، وعَمَدَ إلى قمع المحتجّين العُزَّل بوحشية خلال شهر رمضان في آب/أغسطس 2011. لابل إنها أحجمت آنذاك عن أن تحذو حذو الرئيس الأميركي باراك أوباما وعدد من القادة الأوروبيين عندما دعوا الأسد إلى التنحّي، وأعلنوا عن أول قائمة عقوبات تصاعدية.

أما جامعة الدول العربية، والتي لعبت فيها دول الخليج دوراً ازداد حزماً، فقد كانت بطيئة على نحو مماثل في التصرّف. أطلقت الجامعة مبادرة لإنهاء إراقة الدماء في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، وأعقبتها بإرسال بعثة مراقبة إلى سورية في أواخر كانون الأول/ديسمبر. كانت الجامعة تناقش تمديد مهمة البعثة لشهر واحد عندما فرضت الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي تحوّلاً مفاجئا في اتّجاه ووتيرة النقاش بالإعلان عن سحب مراقبيها في 24 كانون الثاني/يناير 2012. وبناءّ على إلحاح الدول الست طالبت جامعة الدول العربية باستقالة الأسد، وطلبت رسمياً من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأن يتّخذ قراراً بهذا الشأن قابل بالتنفيذ.

عكس التصعيد الدبلوماسي قناعة مفادها أن الجيش السوري بدأ يشهد انشقاقات وأن انهيار نظام الأسد بات وشيكاً، وهو الاعتقاد الذي اشترك فيه، بلا استثناء تقريباً، صنّاع القرار ومحلّلو الاستخبارات في الغرب وروسيا وإسرائيل، ناهيك عن المعارضة السورية. في هذه اللحظة تحوّلت القيادة السعودية، التي بدا منذ وقت قريب جداً أنها تتراجع عن سياستها الحازمة بشأن سورية، إلى وضعية الهجوم ضدّ الأسد. ربما كان توقيت الهجوم مرتبطاً برؤيتها التي تشي بأن احتمال القيام بعمل عسكري أميركي ضد برنامج إيران النووي بدأ ينحسر. فحرمان إيران من حليفها السوري وعزلها عن حزب الله في لبنان يوفّر للرياض وسيلة بديلة لإضعاف طهران استراتيجياً.

في المقابل، جاءت نقطة التحوّل بالنسبة إلى روسيا وإيران مع بدء هجمات الثوار الكبرى في حلب ودمشق في النصف الثاني من تموز/يوليو 2012. باتت كثافة العمليات العسكرية، إلى جانب حجم الانشقاقات عن النظام السوري والتأثير التراكمي للعقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضتها مجموعة أصدقاء سورية، تستنفد موارد دمشق. وبالتالي فقد أصبحت المساعدات الخارجية في غاية الأهمية لبقاء نظام الأسد، علماً أن عدم تورّط حزب الله عسكرياً بصورة كاملة قبل معركة مدينة القصير في ربيع العام 2013 أظهر أن النظام كان لايزال يمتلك احتياطيات كبيرة بداية على مايبدو.

منذ ذلك الحين، تحوّل النزاع السوري إلى منافسة إقليمية بين المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا من جهة وإيران من جهة أخرى. ويلعب العراق والأردن أدواراً داعمة أكثر حذراً لأحد طرفي الصراع. وقد آثرت اسرائيل حتى الآن الابتعاد عن الأنظار أيضاً، ولكن يجري إقحامها تدريجياً للعب دور دفاعي أكثر نشاطاً عن الوضع الراهن لأن القتال بين القوات الحكومية السورية والثوار يهدّد بالامتداد إلى خط وقف إطلاق النار لعام 1973 الذي يفصل إسرائيل عن سورية في مرتفعات الجولان. وعلاوة على ذلك، ساهم النزاع السوري في تدهور علاقات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع روسيا (التي تعدّ، إلى جانب إيران، الحليف الخارجي الرئيس الآخر لنظام الأسد) إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة. وقد حال هذا بدوره دون ظهور أي فرصة للتوصّل إلى حلّ دبلوماسي للصراع.

لعبت إيران، على وجه الخصوص، دوراً مباشراً في تشكيل وتدريب الميليشيات الموالية للنظام مثل قوات الدفاع الوطني، حيث أرسلت وحدات من الحرس الثوري الإيراني إلى سورية، ووجّهت "الجهاديين" الشيعة من بلدان أخرى للقتال في سورية. في المقابل، تدير معظم دول "المجموعة الأساسية" الإحدى عشرة ضمن مجموعة أصدقاء سورية غرف عمليات في تركيا والأردن المجاورتين لدعم الثوار السوريين، وتقوم، بصورة مشتركة أو ثنائية، بتدريب وتسليح أو تجهيز الثوار. كما تلعب المجموعة الأساسية دوراً مباشراً في ترتيب تحالفات داخل الجناح السياسي الرئيس في المعارضة، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وتدعم الحكومة المؤقتة التي شكّلها الائتلاف في تركيا، وتنقل الأموال لتأسيس وتمكين المجالس المحلية على مستوى القرية ومافوقها في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سورية.

إضافة إلى ذلك، يعمل اللاعبون الخارجيون من غير الدول باعتبارهم قوى دافعة، وليس مجرّد وكلاء، في أقلمة الصراع السوري. إذ يقدّم حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية، مثل "لواء أبو الفضل العباس" و"عصائب أهل الحق"، دعماً عسكرياً قوياً للنظام ويُعتقَد أنهم يقودون حملة "تشييع" بين بعض المجتمعات السورية. وتحتشد في مواجهة الأسد جماعات سلفية أردنية ولبنانية وجهاديون من العرب وغير العرب تجنّدهم تنظيمات تابعة للقاعدة، ومانحون أفراد في دول الخليج. ولعلّ مايزيد الوضع تعقيداً هو أن حكومة إقليم كردستان في العراق وحزب العمال الكردستاني في تركيا يدعمان نظراءهما الأكراد في سورية، وأهمهم حزب الاتحاد الديمقراطي الذي أقام حكماً ذاتياً في ثلاثة جيوب في الشمال.

والواقع أن هذا ليس صراعاً عادياً بالوكالة. فقد أدّى تفريغ الدولة السورية، والتحوّلات الديمغرافية الهامة الناجمة عن تشريد نحو 9 ملايين من السوريين، وصعود الهويّات مادون الوطنية باعتبارها فتات مجتمع متنوّع بصورة ملفتة للانتباه، إلى تحويل سورية إلى فسيفساء جامعة من الصراعات المحلية والحروب الأهلية المصغّرة. إذ تستمرّ القوى السياسية  والاتجاهات الاجتماعية والديناميات الاقتصادية الجديدة في الظهور على أرض الواقع وتتطوّر باستمرار. وفي كثير من الحالات تندمج شيئاً فشيئاً في الشبكات والمجتمعات المحلية والاقتصادات العابرة للحدود مع دول الجوار بطرق وأشكال قد يصعب إبطالها مستقبلاً.

تشير الطبيعة المحلية للغاية للصراع السوري إلى أنه ما من جهة خارجية فاعلية يمكنها استيعاب تشابك الديناميكيات المعقدة للصراع السوري وطبيعته المتغيّرة على المستوى الشعبي بصورة كاملة، ناهيك عن التحكّم بها والسيطرة عليها. ولكن نظراً لاعتماد نظام الأسد في بقائه على حلفائه الخارجيين ووكلائهم، فضلاً عن مجموعة متنوّعة من الجهات الفاعلة المحلية التي أوجدها منذ بداية الصراع، فلم يكن لديه أمل يذكر في استعادة السيادة على نحو معبّر. والواقع، وبغضّ النظر عمّن "يفوز" في الحرب في نهاية المطاف، فإن حجم الدمار وضياع الفرص الاقتصادية ومستوى هروب رؤوس الأموال الذي شهدته سورية يعني أن البلاد ستظلّ تعتمد اعتماداً كلياً على المساعدات الخارجية وتخضع للنفوذ الأجنبي لعقود مقبلة.