المصدر: Getty

اقتصاد الحرب في الصراع السوري: تكتيك "دَبِّر راسك"

انخرط كلٌّ من نظام الأسد، والمعارضة السورية وسائر المجموعات المسلّحة، فضلاً عن التجّار والسكان المحليين في اقتصاد حربٍ مربح.

 حمود المحمود
نشرت في ٢٣ يوليو ٢٠١٥

أُعِدَّت ورقة المعطيات الخلفية هذه في إطار مشروع إعادة الإعمار الاقتصادي في سورية 2013-2014 الذي يديره مركز كارنيغي للشرق الأوسط، والذي سعى إلى المساعدة في رسم خريطة الديناميكيات الاجتماعية والسياسية والمؤسّسية التي سيتم إعدادها عندما تبدأ عملية إعادة الإعمار في مرحلة مابعد الصراع في سورية.

مقدّمة

"استمرار الاقتصاد بوسائل أخرى"، بهذه الكلمات عرف أحد الباحثين اقتصاد الحرب.1  ويعتبر معهد Berghof Research Center أن مايميّز اقتصاد الحرب، وخاصة في الحروب الأهلية حيث تكون الحكومة والمتمردون طرفَي النزاع، "أنها تنطوي على التحايل على الاقتصاد النظامي وتدميره، ونمو الأسواق غير النظامية والسوداء، وسيادة السلب، والابتزاز، والعنف المتعمّد ضد المدنيين من قبل المقاتلين لاكتساب السيطرة على الأصول المربحة، واستغلال اليد العاملة. كما أنه اقتصاد يتّسم باللامركزية، ويزدهر فيه الاعتماد على التهريب، واستغلال الأقليات من السكان".2 

في هذا البحث، نرصد اقتصاد الحرب في سورية، بعدما دخل الصراع عامه الرابع، لنجد تطبيقاً عملياً لما وصفه البحث المُشار إليه آنفاً، حيث سنكشف عبر التوثيق تراجع الاقتصاد النظامي بعد تعرّضه إلى التدمير وازدهار الاسواق السوداء، وانتشار أعمال ووسائل جديدة لاستمرار حياة الأطراف المتنازعة وتمويلها. كما سنجد الوسائل الجديدة التي دخلت إلى حياة المدنيين من السكان لتلبية حاجاتهم الحياتية.

وبحسب دراسة للموسوعة العربية التي تصدر عن رئاسة الجمهورية في سورية، فإنّ اقتصاد الحرب وعسكرة الاقتصاد، لطالما كانا سائدَين في سورية، حتى قبل الأزمة: "منذ العام 1990 أصبحت نفقات الدفاع تزيد كثيراً على المبالغ التي يمكن لسورية تخصيصها للإنفاق الإنمائي"،3  وهذه العسكرة المستمرة للاقتصاد مكّنت الاقتصاد السوري بمكوّناته المتنوّعة من التعايش مع الأزمة إلى حدٍّ ما وتجنّب الانهيار المفاجئ، وهذا ماتفاخر به نائب رئيس الحكومة السورية في ندوة خاصة مع الصحافيين: "كان على الدوام لدينا أفران أساسية وأخرى احتياطية، ومخزون احتياطي من القمح يكفي لعامين... إنه اقتصاد الحرب الذي كنا نستعد له على الدوام".4 

لكن الأسئلة التي سنجيب عنه وفقاً للوقائع والتحليل هي: كيف تعايشت الحكومة السورية مع اقتصاد الحرب؟ هل كانت استعداداتها وخططها موفّقة فعلاً؟ وماذا عن المعارضة المسلحة؟ وكيف خلقت نظامها الاقتصادي اللامركزي؟ وكيف تعايش عموم المواطنين السوريين مع اقتصاد الحرب وسط انتمائهم أو عدم انتمائهم للموالاة أو المعارضة أو الحياد الصامت؟

وهكذا انطلقنا في تقسيم دراستنا لاقتصاد الحرب في سورية إلى فئات أربع، ندرس كلاً منها على حدة، ثم ندرس تشابكاتها، وهي: الحكومة، والمعارضة والمجموعات الأخرى المسلحة، وعموم المواطنين، والتجار.

تطور اقتصاد الحرب في سورية وتنوّعه

مع استمرار الصراع في سورية لأربعة أعوام، كشف تقرير المركز السوري لبحوث السياسات الذي أعدّه لصالح منظمة "الأونروا" التابعة للأمم المتحدة حقائق، منها:5 تراجع مستوى التنمية البشرية في سورية أربعة عقود إلى الوراء خلال الازمة، إذ بلغ دليل التنمية البشرية 0.472 مع نهاية 2013 مقارنة بـ0.646 في العام 2010، لتنتقل سورية من مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة قبل الأزمة إلى مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المنخفضة. وبيّن التقرير الذي حمل العنوان "سورية: هدر الانسانية"، بأنّ التراجع تركّز بشكل رئيس على نواح ثلاث هي: الدخل والتعليم والصحة.

واعتبر التقرير أنّ معدل الفقر وصل إلى 82.5% مع نهاية العام 2014.  ويختلف معدل الفقر الإجمالي بين المحافظات بشكل ملحوظ، حيث أن المحافظات الأكثر معاناة من الفقر تاريخياً هي تلك التي كانت ذات معدلات مرتفعة وعانت بشكل كبير من الأزمة. وقد سجّلت إدلب أعلى معدل للفقر وصل إلى 82%، كما تعاني محافظات دير الزور وريف دمشق والرقة من معدلات فقر مرتفعة. وبشكل عام، ارتفع معدل الفقر بشكل كبير في جميع المحافظات، لكنه سجّل أقل معدل له في اللاذقية حيث وصل إلى 24%، تليها السويداء والحسكة وطرطوس على التوالي.

وأظهر التقرير أنّ خسائر الاقتصاد السوري بسبب الأزمة، حتى نهاية العام 2014 حوالي 202 مليار دولار أميركي، وتعادل الخسارة بالأسعار الثابتة 276% من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2010.

ولكي يتّضح حجم ما أسماه التقرير بـ"الكارثة السورية"، فإنّ منظمة الأمم المتحدة للاجئين UNHCR تنشر بشكل محدّث أحدث أرقام اللاجئين السوريين، والتي تعطي مؤشرات عن معطيات مهمة للباحث في التأثيرات الاقتصادية وإدارة الاقتصاد في ظل الحرب. فحتى تاريخ السادس من أيلول/سبتمبر 2013، كانت أرقام المنظمة الدولية تشير إلى 3750190 لاجئ سوري، منهم نسبة 27% تقريباً في عمر الإنتاج، أي بين سنّ الـ18 و59 عاماً، وإلى أنهم في حاجة إلى مساعدات تبلغ قيمتها حوالى 3.740 مليار دولار، يتوفّر منها حوالى 61%.6 

ولتوضيح الجانب الاقتصادي في تدفّق اللاجئين إلى الدول المجاورة وملامح عدد العمالة بينهم، كشف معهد بيروت (Beirut Institute) في تقرير نشره في تموز/يوليو 2013، أنّ عدد اللاجئين السوريين في الأردن بلغ نحو 580 ألف لاجئ، وهم يشكّلون 5% من سكان الأردن، يعيش ثلثهم في المخيمات، فيما يتوزّع الباقي على المدن الأردنية.

وبيّن التقرير أنّه إضافة إلى وجود حوالى 400 ألف سوري عامل في لبنان من قبل، فإنّ 585 ألف لاجئ سجّلوا من قبل منظمة الأمم المتحدة للاجئين UNHCR حتى الخامس من تموز/يوليو 2013، وأنّه بحسب بيانات مجلس الوزراء والرئاسة اللبنانيَّين، فإنّ السوريين المسجلين وغير المسجلين في لبنان بلغوا نحو 1.2 مليون سوري، وهم يشكّلون بحسب التقرير 25% من عدد السكان في لبنان حالياً.7 

لم تكن هذه الأرقام عن تدفّق السوريين إلى الخارج سوى مؤشر عن مدى سوء الحياة التي يمكن أن يعيشها السوريون داخل بلدهم، ضمن هذه الظروف من الناحية الأمنية والاقتصادية. وهذا ماجعل دمشق تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم كأسوأ مدينة للعيش في الفترة التي صدر فيها التقرير عن مجلة إيكونومست (آب/أغسطس 2013).8  كما تم تصنيف دمشق كأكثر مدن العالم خطراً على الموارد البشرية للعام 2013، من بين 138 مدينة عالمية شملتها دراسة9 شركة Aon Hewitt.      

الحكومة السورية واقتصاد الحرب

بالانتقال إلى داخل سورية لقراءة كيفية تعامل الحكومة السورية مع اقتصاد الحرب، يبدو من الضروري العودة إلى استعدادات الحكومة السورية لمثل هذه الظروف. إذ كانت نفقات الدفاع في سورية تشكّل رقماً كبيراً على الدوام، حيث "تصل هذه النسبة في أوقات توقّف المعارك إلى أكثر من 12% من مجمل الموازنة العامة للدولة، وتصل في حالة اندلاع المعارك أو في حالة التعبئة العامة إلى أكثر من 25%، أو من حيث تخصيص قسم كبير من موارد الموازنة لأغراض الدفاع. تؤلف نفقات الدفاع نحو 50% من النفقات الجارية سنوياً. وكانت نفقات الدفاع في العام 1971 تعادل 42% فقط من الإنفاق الإنمائي، غير أنها لم تكن تتزايد وتمتصّ مبالغ أكبر من مخصصات التنمية، حتى تجاوزت 70% منها بحلول العام 1986. وبدءاً منذ العام 1990، أصبحت نفقات الدفاع تزيد كثيراً على المبالغ التي يمكن لسورية تخصيصها للإنفاق الإنمائي."10

في دراسة المركز السوري لبحوث السياسات لصالح منظمة الأونروا، المنشور في آذار/مارس 2015، تبيّن أنّ الحرب السورية أدّت إلى تراجع الاستثمار الحكومي والخاص بنسبة 90% تقريباً من النانج المحلي، كما تزامن هذا التراجع مع ارتفاع في النفقات العسكرية الحكومية من خارج الموازنة إلى 13% من الناتج المحلي للعام 2014. 11 

لم تكن سياسة اقتصاد الحرب التي أعلنتها الحكومة السورية في الاجتماع الأول للرئيس بشار الأسد مع حكومة وائل الحلقي في حزيران/يونيو 2012، إلاّ إيذاناً بالانتقال إلى مستوى جديد اعترفت من خلاله الحكومة السورية بثقل الأزمة، بعد أكثر من عام حاولت فيه التخفيف منها أو تجاهل آثارها. ففي 25 حزيران/يونيو 2012، قال الرئيس الأسد للحكومة الجديدة: "نحن نعيش كما قلت في خطابي أمام مجلس الشعب، حالة حرب حقيقية بكل جوانبها، وبكل ماتعني هذه الكلمة من معنى. وعندما نكون في حالة حرب، فكل سياستنا وكل توجّهاتنا وكل القطاعات تكون موجّهة من أجل الانتصار في هذه الحرب وفي معاركها".12 

بدأت آثار العقوبات الاقتصادية تظهر بقوة في العام الثاني من بدء الأزمة السورية، كما بدأ تأثير هجرة رؤوس الأموال وتدمير المنشآت وتوقفها وارتفاع البطالة، يفرض ثمناً باهظاً على موازنة الدولة السورية، حيث كان النمو في سورية نمواً سالباً بنسبة 22% تقريباً في العام 2013. 13

وبعد أن كانت الحكومة السورية تتحدّث في بداية الأزمة عن قوة الاقتصاد السوري وقدرته على الصمود، قدّرت الاحتياطي من العملات الصعبة لدى المركزي السوري بـ18 مليار دولار. لكن استمرار الأزمة ولجوء المواطنين إلى البحث عن ملاذ آمن لأموالهم مع انخفاض قيمة الليرة السورية بحوالى 75% مقارنة بالدولار الأميركي، اضطر المركزي السوري إلى التدخل بضخّ العملات الأجنبية في الأسواق، وبيعها للمواطنين لمحاولة التخفيف من الضغط عن الليرة، لكن الانخفاض استمر بشكل متدرج ومنتظم.

وفقاً لدراسة الأونروا التي أجراها المصرف المركز السوري لبحوث السياسات، تسببت الأزمة السورية بانكشاف الاقتصاد السوري واعتماده على الواردات والتمويل الخارجي والمساعدات، وتدهورت نسبة الصادرات إلى الواردات بشدة، وانخفضت من حوالى 82% في العام 2010، إلى نحو 29% في العام 2014. 14

تزامنت هذه الخسائر بحسب تقرير الإسكوا (بعنوان "مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية: السياق العالمي وتداعياته في المنطقة العربية"، (2014، مع انخفاض صادرات النفط من 382 ألف برميل يومياً إلى 20 ألف برميل فقط.15 

وفي محاولة لتلافي الخسائر وتوفير تمويل لاستمرار الاقتصاد في دعم التوجّه الرسمي لمعالجة الأزمة، وتوفير المال اللازم للاستمرار، عملت الحكومة السورية على إصدار قرارات عديدة، بدأت بخفض الموازنة العامة، واتّجهت إلى تفاصيل دقيقة في توفير واقتصاد النفقات، منها خفض استخدام السيارات الحكومية وتقليص حصتها الشهرية من الوقود، وصولاً إلى حملات إعلامية لترشيد الطاقة، وحتى ترشيد استخدام الورق في المؤسسات الحكومة عبر قرار يفرض استخدام الورق من الجانبين. 

وكشف المركز السوري لبحوث السياسات، في تقريره الأول الصادر في نهاية العام 2012، أنّ الحكومة السورية قامت بـخفض الإنفاق الاستثماري، ما أثّر على مستوى النمو وخلق فرص العمل، كما انخفضت العائدات الحكومية جراء ذلك. وذا إضافة إلى إصدار بعض القرارات الحكومية التي ساهمت في ارتياب قطاع الاعمال وشجعته على نقل أمواله واستثماراته إلى الخارج.16 

عمل مصرف سورية المركزي على تقليص تمويل المستوردات والتي كانت تحوز حصة لاتقلّ عن 5 ملايين دولار يومياً، وطلب من التجار تمويل مستورداتهم بأنفسهم، والبحث عن طرق وصفها رئيس اتحاد غرف التجارة السورية بأنها طريقة "دَبِّر راسك".17 

وهكذا لجأت الحكومة السورية إلى البحث عن طرق لتأمين تجارتها وتعاملها مع الخارج لتأمين استمرار العائد الذي يموّل إدارة الدولة وإدارة الحرب. وفي منتصف العام 2012، اتّهمت الولايات المتحدة أكبر مصرف إسلامي في سورية (سورية الدولي الإسلامي) بالعمل كوكيل للحكومة السورية في الالتفاف على العقوبات في الاستيراد والتصدير، وفرضت عليه عقوبات من قبل وزارة الخزانة الأميركية.18 

كما حاولت الحكومة السورية فتح خطوط عبر اتفاقيات مع إيران، ومحاولة فتح خطوط تعاون مع دول البريكس. أثمر ذلك عن اتفاقات مع إيران وتسهيل ائتماني بقيمة مليار دولار على شكل بضائع منها "الغاز والنفط ومشتقاته وتوريده إلى سورية، وتنفيذ خط الائتمان الخاص بذلك، والعمل المشترك للتغلب على العقوبات الاقتصادية"،19  واستمر هذا النوع من الدعم الايراني سنوياً تقريباً.20 

وأعلن النائب السابق لرئيس الحكومة السورية، قدري جميل، من موسكو في 21 تموز/يوليو 2013، 21 أن الحكومة السورية طلبت قرضاً من روسيا لم يحدّد قيمته، ليُضاف إلى تصريحات سابقة له عن طلب قرض آخر من روسيا في العام 2012، لكن لم تنشر تصريحات رسمية تؤكد الحصول على أي من القرضين الروسيين.

غير أن ماكشفه تقرير المركز السوري لبحوث السياسات عن ارتفاع حجم الدين الداخلي والخارجي للحكومة السورية، ربما يعتبر مؤشراً لحصول سورية على قروض غير مُعلَن عنها من روسيا أو من دول أخرى. فقد أظهر التقرير أن حجم الدين العام للحكومة السورية بلغ نسبة 147% من الناتج المحلي الاجمالي في العام 2014، منها 76% ديوناً داخلية و71% خارجية، مقارنة بحجم الدين العام في العام 2010، والذي قدّر بـ23%.22 

الانتقال لمرحلة جديدة

انتقلت الحكومة السورية إلى البحث عن موراد جديدة مع الضيق الاقتصادي وتراجع الاحتياطي الذي عانت منه. فقد أصدرت وزارة الاقتصاد السورية تعليمات تدعو فيها إلى تمويل مستوردات التجار من الأموال السورية المجمّدة في الخارج، تاركةً للتجار والمصارف طرقاً للبحث عن آلية لاستعادة هذه الأموال.23 

وفي شهر آب/أغسطس 2013، كشفت وكالة رويترز أنّ سورية مقبلة بسبب الحرب على أسوأ حصاد للقمح منذ مايقرب من ثلاثة عقود، على الرغم من خطة الحكومة السورية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية بهدف تفادي أثر التحركات الغربية لعزل حكومتها وإضعافها من خلال العقوبات. وبيّنت رويترز أنّ مؤسسات سورية أعلنت عن سلسلة من المناقصات لشراء قمح وسكر وأرز بكميات يتجاوز إجماليها 500 ألف طن. وأظهرت وثائق اطّلعت عليها رويترز، وأكدتها مصادر تجارية لها دور نشط في صفقات من المحتمل اتمامها، أن من شروط المناقصات أن يتم السداد من حسابات مجمّدة من خلال استثناءات من الدول التي فرضت العقوبات المالية.24 

على الصعيد الداخلي، دخلت الحكومة السورية في حرب وتسويات اقتصادية مع المعارضة بما يحقق خططها للاستمرار. ويصف الكاتب عبد الناصر العايد، في مقالة نشرتها صحيفة الحياة في ٤ أيار/مايو 2013، بعض ملامح هذه المواجهة الاقتصادية: "الثوار يستولون ويتملّكون كل مايمتّ بصلة إلى الدولة، باعتباره ملكيتهم التي سُلِبَت منهم سابقاً، فيما يجهد النظام إلى إعادة الحياة لدوره الاقتصادي وتأكيده، سواء من خلال المبالغة في دفع الرواتب ومنح الميزات الحكومية لأتباعه، أو محاولة إقناع بعض الفئات المعارضة، الواقعة تحت سلطته، بإمكانية تعديل سلوكه وتحسينه من هذه الناحية من خلال استمراره بتقديم بعض الخدمات لها، على الرغم من قدرته على حرمانها منها. ومن اللافت هنا أنه لايزال يدفع الرواتب لأبناء المناطق المحررة في حلب ودير الزور وسواها، ولموظفين سابقين يقود بعضهم كتائب كاملة من الجيش الحر حالياً". 25

هذه المواجهة تشبه المواجهة العسكرية من حيث مد النفوذ والقيام بتسويات تندرج تحت عنوان "الحرب خدعة"، ومنها ماكشفتة صحيفة الغارديان البريطانية عن أنّ النظام يشتري النفط أو يمرّره عبر اتفاق مالي مع جبهة النصرة التي تسيطر على مناطق واسعة شمال وشرق سورية.26 

كما عمدت الحكومة السورية، ضمن معركة البقاء على الصعيد الاقتصادي، إلى رفع أسعار شراء القمح من المزارعين بنسبة 70%، في محاولة لمنافسة شرائها من قبل المعارضة التي تصدّرها عبر تركيا،27  وهو ما أثمر بحسب التصريحات الرسمية عن اندفاع المزارعين إلى بيع الحكومة. وتم حتى منتصف العام 2013 توريد حوالى مليون طن من القمح والشعير للمؤسسات الرسمية،28  وساعد في ذلك أن إغراء السعر خلق طبقة من التجار الوسطاء الذين يدفعون الأتاوات لمسلحين يساعدون في نقل الحبوب، وتسهيل بيعها بين مناطق المعارضة والسلطة.

في هذا السياق من محاولات الحكومة السورية كسر الحصار الذي يفرضه المعارضون على مناطق تُعتبَر الشريان المغذّي لمناطق أخرى تسيطر عليها الحكومة، وتساعد في استقرار المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، كشف نائب رئيس الوزراء السوري قدري جميل في لقاء خاص بالإعلاميين بتاريخ 4/8/2013، أنّ الحكومة اكتشفت بعد اندلاع الأزمة أن 40% من مطاحن سورية يقع في ريف حلب الذي يخضع في الغالب إلى سيطرة المعارضة، وأن نقل القمح من المناطق الشمالية والشرقية من سورية واجه صعوبات دفعت الحكومة إلى التفكير في نقل القمح من الحسكة عبر العراق ثم من العراق إلى دمشق، لكن إغلاق معبر اليعربية أوقف المشروع، مؤكداً أن الحكومة اشترت في العام 2012 كمية من القمح تُقدَّر بنحو مليونَي طن وخزّنتها في الحسكة، لكنها لم تستطع أن تستفيد منها، فاضطرت سورية لأول مرة منذ ثلاثين عاماً إلى استيراد الطحين من لبنان وأوكرانيا وإيران.29 

حاولت الحكومة السورية بطرق أخرى تخفيف الضغط على التضخّم النقدي والسعري، الذي بات يثير سخطاً من المواطنين الذين يوالونها أو يعيشون في كنفها، فقرّرت التدخّل في الأسعار والمعاملات التجارية، وطرحت دعم بعض المواد الأساسية وأضافت سلعاً أساسية جديدة للبيع بالبطاقة التموينية، منها الشاي، والسمنة، والزيت، اولبرغل،30  لكن السلطات السورية عادت وأسقطت الخط الأحمر في دعمها للمواد الغذائية الأساسية بسبب ضغط الحرب وتكاليفها عندما رفعت أسعار الخبز والوقود بداية العام 2015. 31 

وحاولت الحكومة السورية التصدّي إلى ظاهرة بدأت تنتشر في العام 2013 وتؤذن بفقدان الثقة بالليرة السورية عبر انتشار "الدولرة" في البيع والشراء، فصدر المرسوم التشريعى الرقم 54 للعام 2013 بمنع التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، أو لأي نوع من أنواع التداول التجاري أو التسديدات النقدية، سواء أكان ذلك بالقطع الأجنبي أم بالمعادن الثمينة، ونص على عقوبة لكلّ مَن يخالف ذلك بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، وبدفع غرامة مالية.32 

اقتصاد الحرب: كيف عايشه عموم الشعب؟

ماذكرناه آنفاً عن الحكومة السورية وكيف تعايشت مع اقتصاد الحرب وكيف أدارته، يعطي صورة شاملة عن معاناة الناس في سورية جراء هذه الحرب. لكننا سندخل في تفاصيل تكشف عن إدارة السوريين حياتهم اليومية في ظل اقتصاد الحرب.

مع نهاية العام 2014، صنّف تقرير الأونروا 82% من الشعب السوري في فئة الفقراء، وقال إن 2.96 مليون شخص فقدوا أعمالهم بسبب الحرب، كما ارتفعت البطالة إلى نسبة 57%.33 

وبحسب تقرير المركز السوري لبحوث السياسات، فإن 877 ألف سوري أصبحوا فقراء بسبب العقوبات فقط، وساهم في ذلك ارتفاع أسعار المشتقات النفطية بنسبة 200%.34 

لكي نوضح التأثير الأكبر من الضرر الاقتصادي لعموم السوريين، فإنّ الحديث عن الزراعة يفرض نفسه. إذ يتبيّن حينئذ كيف تعايش السوريون مع اقتصاد الحرب. فقبل اندلاع الأزمة، السورية كانت نسبة 46% من السوريين يعيشون في الأرياف، وهي أعلى نسبة على مستوى الشرق الأوسط، وكان يعمل في الزراعة نحو 15% من العاملين. وشكّلت الزراعة في العام 2010 نسبة 27% من الناتج المحلي.35  وقد انخفض إنتاج الخضروات في حماة بسبب الأزمة بنسبة 60%، فيما انخفض إنتاج زيت الزيتون في درعا 40%؛ كما انخفض إنتاج القمح من 4 مليون طن سنوياً في سورية، إلى نحو مليونَي طن في العام 2013. 36 

وقد أوفدت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمة المتحدة (الفاو) بعثة إلى سورية في العام 2012، جالت في مختلف المناطق وخلصت إلى تقرير كشف أنّ خسائر الزراعة بلغت نحو 1.8 مليار دولار، وأن 30% من الأُسَر الريفية هجرت من منازلها، وأن 60% من الأُسَر السورية الريفية في ريف حمص وحماة ودرعا تقترض من الأقارب لتتمكّن من سدّ الرمق بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية والدجاج والحليب إلى نسبةٍ وصلت إلى 300%. 37 

كان من حصيلة هذه الآثار القاسية على السوريين، وكما هي الحال في اقتصاديات الحروب، أن توجّهت الغالبية من السوريين، سواء تحت سيطرة الحكومة أم المعارضة، إلى الاقتصاد غير النظامي، وبات 80% من الذين بقوا في سورية في حاجة إلى المساعدة.38

وقد ساهم في ذلك ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك إلى أكثر من 300% بحسب تقرير للمكتب المركزي للإحصاء التابع لرئاسة الحكومة السورية.39

ومع استفحال الغلاء والتضخّم والبطالة والنزوح، أصبح عبء تكاليف المعيشة ثقيلاً على السوريين. وقد تزامن ذلك مع ارتفاع كبير في الأسعار حتى من قبل المؤسسات الحكومية أو التي تُديرها، فقد ارتفعت أسعار الأسمدة والأدوية والاتصالات والوقود بنسبة فاقت 100%. في الوقت نفسه، انتشرت عمليات الغش في نوعية السلع بشكل لم يسبق له مثل مع ضعف الرقابة.40

مع محاولات الحكومة فرض الرقابة الصارمة، صدر المرسوم التشريعي الرقم 27 للعام 2013 القاضي بتعديل مواد من قانون حماية المستهلك، ونصَّ لأول مرة في سورية على نشر قوائم سوداء بأسماء الماركات والتجار المخالفين للمواصفات والأسعار.41 

وقد وصلت حالات غش المنتجات إلى الأدوية، حيث حذّرت مصادر رسمية من انتشار أدوية منتهية الصلاحية ومزوّرة في الأسواق السورية،42  وعبثاً حاولت السلطات الرسمية فرض السيطرة الكافية على الأسواق، إلى درجة أنها دعت عموم الشعب إلى تشكيل لجان شعبية لفرض الرقابة على الأسواق والأفران، ومنع تهريب الطحين والسلع.43 

في ظل هذا العجز الحكومي عن الرقابة أو إيجاد الحلول المطلوبة، لجأ الناس إلى المبدأ المعروف سورياً "دَبِّر راسك"، وفي مايلي نستعرض بعض الإجراءات التي اتّبعها عموم الناس للتعامل مع اقتصاد الحرب، عبر إجراءات فرضتها الضرورة.

فقد دعا رئيس اتحاد غرف التجارة السورية غسان القلاع إلى ضرورة تغيير العادات الاستهلاكية وترشيد الاستهلاك والابتعاد عن مفهوم التخزين والاستهلاك، ضمن حدود الحاجة فقط.44 

وهكذا لجأ السوريون في العموم إلى تدبير شؤون حياتهم بطرق إبداعية، بدأت بتغيير العادات الاستهلاكية وصولاً إلى بدائل بعضها قانوني وآخر مخالف للقانون.

فقد اختفت الفواكه وكثير من الحاجات الضرورية من موائد السوريين، أو بات تناولها شهرياً أو موسمياً بدلاً من تناولها يومياً. ودفع الغلاء الفاحش كثيراً من السوريين، كما ذكرت وسائل الإعلام المحلية، إلى استبدال اللحم أو الدجاج بمكعبات ماجي (بودرة الدجاج) والسمنة بالزيت.45  وتفيد معلومات الباحث من الصيدليات بأن الإقبال ازداد لشراء الفيتامينات من قبل السوريين لتعويض نقص التغذية، وقدّرت إحدى المجلات الاقتصادية في سورية، أن تكلفة طبق السلطة أصبحت أغلى من كيلو دجاج، وأنّ السوريين مهدّدون بالعزوف عن الخضار بعد اللحوم.46 

ومما ابتكره السوريون لمواجهة هذه الحالة، هو توجّه الكثيرين حتى في المدن إلى زراعة الخضار على أسطح المنازل وتربية الدواجن في حدائق البيوت.47  

كما لجأ السوريون بعد ارتفاع أسعار التبغ الذي تحدّده الحكومة، إلى العودة إلى تدخين "دخان اللف"، وهو التبغ غير المُعبّأ، كملاذ جديد للمدخنين أقل تكلفة.

قام مزارعون بإيجاد حلول محلية لنقص الغاز المنزلي الذي يستعمله السوريون في الطبخ، بالعودة إلى الطبخ على النار والحطب، كما استطاع بعضهم في السويداء وريف طرطوس توليد الغاز من روث البقر عبر تقنيات هندسية بدائية. ونقلت وسائل الاعلام المحلية قصة المزارع محسن يوسف في طرطوس، الذي أنشأ مشروعاً ينتج الغاز المنزلي له ولجيرانه، في وقت يعاني المواطن السوري للحصول على هذه المادة من قبل الجهات الرسمية.48 

واتجه السوريون إلى السير على الأقدام واستخدام الدراجات الهوائية، تفادياً لزحمة الطرقات التي تتسبّب بها الحواجز الأمنية المنتشرة، وتفادياً لارتفاع أسعار المواصلات. كما استعاضوا عن انقطاع الاتصالات بين المحافظات، والتي حالت دون التواصل بين الأقارب، بالعودة إلى أيام الرسائل الورقية التي ترسل مع سائقي الشاحنات.49 

المحافظات الأخرى

في المحافظات التي خرجت عن سيطرة الحكومة كلياً أو جزئياً، مثل الرقة وحلب ودير الزور وريف حمص، ظهرت اقتصادات الحرب بشكل أكثر وضوحاً بالاعتماد على اقتصادات غير شرعية في بعض الحالات. فقد رصد المركز السوري لبحوث السياسات ظهور اقتصادات العنف في سورية، تجلّت في العديد من الظواهر، كممارسة القتل أو الإهانة أو الإيذاء للسوري الآخر، وتوسّع ظواهر الاتجار بالإنسان والسلاح والمخدرات والخطف لقاء فدية.50 

ظهرت في دير الزور والرقة اقتصادات تعتمد على الاستيلاء على آبار النفط وتكريرها محلياً وبيعها، بعدما توقفت بشكل شبه كامل السلطة المركزية عن دفع الرواتب للموظفين في هاتين المحافظتين.51 

نشرت صحيفة تشرين الرسمية تقريراً حمل العنوان "ارتفاع الأسعار يلتهم ثلث الراتب ويدفع إلى التسول والتشليح"،52 كما ظهرت مهن تعتمد الاحتيال لكسب النقود، منها مانشرته صحيفة تشرين الرسمية عن انتشار مهنة "الدورحي" في حلب حيث يقوم بها مواطنون يحجزون أدواراً في الطوابير أمام الأفران ومحطات الوقود بهدف بيعها للمضطرين.53 

وبحسب المكتب المركزي للإحصاء التابع للحكومة السورية، بلغ معدل الرقم القياسي لأسعار المستهلك في سورية عن العام 2014 نسبة 320%، وتصدّرت محافظة حلب جميع المحافظات السورية بنسبة 346% في ارتفاع أسعار المستهلك، تلتها الرقة بنسبة 331%، ثم القنيطرة بنسبة 327%، وبعدها درعا بنسبة 326%. 54

حلب

كما شطرت الحرب مدينة حلب، ثاني أكبر مدينة سورية بعد دمشق إلى قسمين (تحت سيطرة الحكومة وأخرى تحت سيطرة المعارضة)، انشطرت المدينة أيضاً إلى قسمين اقتصادياً بعدما أطبقت قوات المعارضة حصارها على معظم مداخل المدينة، ومنعت الأرياف من توريد منتجاتها إلى القسم الذي تسيطر عليه الحكومة منذ بداية العام 2013، فظهر اقتصاد الحرب بشكل جلي عندما تبلور مايسمّى "معبر الموت"، وهو شارع فاصل بين شطرَي حلب في منطقة بستان القصر، وهو المعبر الوحيد الذي يمكن أن تمرّ عبره السلع والبضائع من القسم الذي تسيطر عليه المعارضة إل القسم الآخر الذي تسيطر عليه الحكومة. وقد أُطلِق على هذا المعبر هذا الاسم بعدما غامر مواطنون بالذهاب إلى القسم الآخر وشراء بعض السلع والاغذية، فتعرّضوا في كل مرة إلى خطر القنص والموت، حيث تتوفر السلع في القسم الذي تسيطر عليه المعارضة وتباع بأسعار مخفضة، بينما تعجز الحكومة على الرغم من مساعيها لتأمين السلع والوقود للقسم الذي تسيطر عليه، وارتفعت أسعارها في حال توفرها إلى مائة ضعف. وأدّت قصة المعبر التي لاتزال مستمرة حتى ساعة إعداد هذا البحث، بأحد أعضاء مجلس الشعب إلى تعليق عضويته احتجاجاً على تقصير الحكومة كما قال.55 

حمص

بعد أن بقيت الحياة الاقتصادية واقتصاد الحرب بعيدَين عن الإعلام في حمص، فإنّ هذا البحث ومن خلال التواصل مع أحد الباحثين الاقتصاديين، توصّل إلى توصيفٍ لما تعيشه هذه المدينة:

جميع الأنشطة في الأحياء الهادئة تماماً (عكرمة، والزهراء، ووادي الذهب) لم تتأثر بالأحداث بشكل مباشر، بينما تعرّضت أسواق المدينة (الوسط التجاري والخدمي)، على فترات متقاربة، إلى عدد من الأحداث الأمنية منذ شهر نيسان/أبريل 2011. وقد تسارعت وتيرة هذه الأحداث حيث أصبحت الأسواق شبه مغلقة. ومنذ مطلع شباط/فبراير 2012، تفاقمت الأوضاع الأمنية في وسط المدينة، وأصبحت عرضة إلى الدمار والحرائق والسرقة والتخريب (احتراق أجزاء من سوق الناعورة في شهر شباط/فبراير). وتحوّل وسط المدينة إلى منطقة عسكرية مغلقة اعتباراً من بداية شهر آذار/مارس 2012.

تسبّب إغلاق مركز المدينة بشلل المحافظة بشكل شبه كامل واضطراب في العمل الوظيفي، ولاسيما مع حصول حالات نزوح كبيرة خارج المدينة. الدوائر الرسمية اضطرت إلى نقل مقراتها إلى مقرات جهات عامة أخرى، أما الأسواق الخدمية والتجارية في وسط المدينة فتعرّضت إلى التدمير والنهب، وبات أصحابها إما نازحين خارج المدينة أو خارج البلد، وإما عاطلين عن العمل يعتاشون على مدخراتهم، أو قاموا باستئجار محلات أو وضع بسطات في أحياء هادئة نسبياً وبشكلٍ خاص في حي الوعر. وقد قام مجلس المدينة بتوفير مدينة المعارض المنجزة حديثاً، والتي لم يتم افتتاحها بعد في حمص الجديدة، كسوق تجاري كبير يضم أقسام بيع (ستاندات) بإيجارات معقولة. وعمد معظم أصحاب العلامات التجارية المحلية إلى افتتاح أقسام لهم في هذه المدينة.

تعرّضت الورشات في حيَّي دير بعلبة والبياضة إلى أحداث أمنية عنيفة منذ منتصف العام 2011، وأغلقت معظم المحال المطلّة على طريق دير بعلبة الرئيس بشكل متدرج حتى نهاية العام 2011. ومع مطلع العام 2012، بدأ النزوح خارج هذين الحيَّين، ليصبحا منطقة اشتباكات عسكرية.

منذ أشهر بدأ حي الوعر (حمص الجديدة)، ولاسيما بقسمه القديم وشارعه الرئيس، يشهد اضطرابات أمنية ملحوظة، ماتسبّب بإغلاق جميع محلات الصفيح التي افتتحها مهجرو المنطقة الصناعية، إضافة إلى توقّف سوق الهال البديل في شارع خالد بن الوليد. كما انعكس ذلك على المحال في مدينة المعارض، ومحلات الصفيح المتواجدة أيضاً قرب مدينة المعارض في شارع الفردوس. وقد أدّت الاضطرابات إلى انهيار النشاط الاقتصادي في حي الوعر الذي يضمّ نحو 500 ألف نسمة بينهم حوالى 60% من النازحين، والأوضاع إلى تفاقم. وقد بدأ الأهالي بالنزوح، كما انتقل سوق الهال للمرة الثانية، ولكن بشكل حذر ومصغّر، إلى ساحة الحج عاطف التي كانت محلاتها مغلقة منذ أكثر من عام نتيجة انكشافها على مصادر النيران في الأحياء الساخنة القريبة منها.

لم يَعُد في المدينة مشفى عام، فالمشفى الوطني مدمّر منذ شهر نيسان/أبريل 2012، ومشفى العيون على طريق حماة يتعذّر الوصول إليه، كما أصبح مشفى التوليد في الوعر ضمن منطقة اشتباكات متكررة. إضافة إلى ذلك، تسبّب إغلاق وسط المدينة بتوقّف معظم العيادات الطبية التي كانت تتركز في أحياء جورة الشياح وطريق حماة. كما خرجت معظم المشافي الخاصة عن الخدمة (نحو 9 مشافي). وهذا الوضع مربك للمرضى إذ غالباً ما أجبرهم على السفر خارج المدينة للحصول على الخدمات الطبية التي يتعذّر تأمينها حتى من قبل القطاع الخاص في المدينة لعدم توفر التجهيزات الطبية والكادر الطبي.

لاتزال المدينة تشهد إرباكاً كبيراً في المعاملات المالية، نتيجة توقف مديرية المالية ومعظم البنوك عن العمل، حيث لم يبقَ من الخدمات المالية سوى فرع البنك التجاري في حي الملعب، وفرع البنك العقاري في جامعة البعث، مع غياب تام للبنوك الخاصة. وقد تم تكليف مديرية مالية طرطوس بتسيير قسم من الأمور المالية الخاصة بمالية حمص، ولاسيما الرواتب والأجور، حيث يضطر معتمدو الرواتب إلى السفر شهرياً إلى طرطوس من أجل صرف الرواتب. إضافة إلى ذلك، يضطر قسم كبير من أصحاب المعاشات التقاعدية إلى السفر إلى دمشق من أجل الحصول على رواتبهم. وقد ظهرت مكاتب تتقاضى مبلغ ١٠٠٠ ل.س. من أجل تأمين الراتب لأصحاب المعاشات، الذي يجدون ذلك أمراً مقبولاً في ضوء الأوضاع الأمنية على الطرقات.

يفيدنا ماعرضناه من تعايش يعتمد على الأدوات والوسائل المتاحة، بأنّ إدارة الاقتصاد في حياة السوريين كانت تعتمد عليهم أكثر من اعتمادها على الحكومة. ولم يخفِ نائب رئيس الحكومة السورية قدري جميل اعترافه بعدم قدرة السلطة على حلّ مشكلات الاقتصاد في ظل الأزمة، وأوضح بجلاء للإعلاميين في لقائه الخاص أن أكثر من 60% من المشكلة الاقتصادية للناس لن تُحَلّ سوى بحلَ سياسي للأزمة.56 

لهذه الأسباب ظهرت تلك الطرق للتعايش مع اقتصاد الحرب، كما ظهرت مبادرات شعبية على موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" تحت مسمّى "بدي عيش"، دعَت إلى مقاطعة السلع ذات الأسعار المرتفعة.

وتضمّن القسم: "أقسم بالله العظيم أني سأشارك أبناء وطني السوريين الشرفاء بالتعبير عن استيائهم من غلاء الأسعار واحتكار التجار وغلاء الدولار وفشل الحكومة في ضبط الأسواق في حملة "بدي عيش"، واعتباراً من 7 تموز/يوليو 2013، سأقاطع الألبان والأجبان والبيض والدجاج".57 

اقتصاد الحرب والمجموعات المسلحة

تنقسم المجموعات المسلحة إلى أنواع، منها المجموعات المعارضة متعدّدة الخلفيات، ومنها مجموعات مسلحة ليس لديها هدف سوى الاستفادة من الأزمة عبر الخطف والابتزاز والتجارة غير المشروعة، وهي تعمل في مختلف المناطق، سواء تلك التي تسيطر عليها الحكومة أو المعارضة.

اعتمدت المعارضة بشكل عام على ثلاثة أنواع من التمويل:

  1. تمويل ذاتي: عبر إدارة اقتصاد المناطق التي تقع تحت سيطرتها، والحصول على بعض الأتاوات، أو المتاجرة بالموارد العامة كالنفط والغاز والمحاصيل الزراعية سواء مع الداخل أو الخارج.
     
  2. تمويل خارجي: منه دعم سرّي من أفراد ومؤسسات عربية وعالمية، ومنه دعم دولي بعضه سرّي والآخر علني.
     
  3. المساعدات الدولية النظامية للمدن والسكان في المناطق المنكوبة، والتي توجّه إلى عموم السكان، لكنها في مناطق المعارضة في الغالب؛ وهي وإن لم تتوجّه إلى المعارضة المسلحة في أغلب الحالات، إلاّ أنها تخفف عنها عبء إدارة المناطق التي تسيطر عليها.

وفي أحدث إحصاءاتها الرسمية، أوضحت الولايات المتحدة أنها قدّمت مساعدات إلى الشعب السوري بقيمة 3,046,343,013 دولار،58 كما نظّمت دول مثل ألمانيا حفلات خيرية لجمع التبرعات للشعب السوري إلى جانب الدعم الحكومي المباشر.59 

على الرغم من الدعم المعلن من قبل مجموعة "أصدقاء سورية"، لم تعلن أنها تموّل مباشرة المجموعات المقاتلة، لكن وسائل إعلام عالمية مثل "فايننشال تايمز" ومجلة التايم الأميركية كشفتا عن دعم مباشر من دول عربية (السعودية وقطر)60  وعن دعم من الولايات المتحدة وكندا للمعارضة المسلحة بشكل مباشر.61 

مايهمّنا في هذا البحث هو الإشارة إلى أنّ هذه المساعدات والدعم كان لها تأثير اقتصادي كبير في خفض صعوبات الحياة على السوريين، بمَن فيهم الحكومة السورية بشكل غير مباشر، عبر التخفيف من الضغط الذي تسبّب به انخفاض قيمة الليرة السورية، حيث تأتي هذه المساعدات بالدولار وتتحوّل إلى الليرة السورية لضرورات التداول. وهذا ماخلص إليه تحليل وزير الاقتصاد السوري الأسبق والخبير الدولي نضال الشعار: "هناك حركة كثيفة إلى داخل سورية من تبرعات وإعانات ومعونات بغض النظر عن أسبابها، تأتي بالعملة الأجنبية، وتسهم في طرح جزء لابأس به من الدولار في السوق، وهي عوّضت بشكل جزئي عن الأموال التي نزحت إلى خارج البلاد".

بدأت المعارضة المسلحة تمويلها الذاتي عبر السيطرة على مواقع النفط والغاز، فعملت على بيعها عبر التكرير الداخلي للتجار في الداخل والخارج. وقد كانت معارك إدارة اقتصاد الحرب بين الحكومة والمعارضة مختلفة عن معارك السلاح، فقد حصلت تسويات بين الطرفين في مناطق مثل دير الزور، حيث تسيطر المجموعات الإسلامية على معظم مواقع النفط والغاز، وتسمح المعارضة وفقاً لاتفاق خاص وعبر وسطاء قبليين بالوصول إلى مصادر الغاز ومعالجته في المصافي بشرط توفير الغاز لمناطق المعارضة. وقد واجه هذا الاتفاق تهديداً عندما رفعت الحكومة السورية منتصف العام 2013 أسعار عبوات الغاز المنزلي بنسبة 100%، حيث اعترضت المعارضة على هذا القرار وهدّدت بوقف تزويد الحكومة، لكن تسويات عبر الواسطات مكّنت من استئناف الاتفاق.

وكشفت صحيفة الغارديان أن جبهة النصرة المعارضة "تبيع أي شيء يقع تحت يديها من النفط الخام إلى الآثار ومعدات المصانع"، كما تبيع النفط الخام لجهات عديدة منها النظام.62 

وقد قدّرت قيمة الآثار المهرّبة والمنهوبة في سورية بمليارَي دولار.63  وقد كشف تقرير لمحطة "سي أن أن" الأميركية أنّ تهريب الآثار يُستخدَم من قبل بعض المجموعات المقاتلة لتمويل أفرادها بالسلاح.64 

منذ منتصف العام 2013 بدأ القسم الأكبر من المعارضة التابعة للائتلاف المعارض، يجد تمويلا ًمنظماً بعد قرار السلطات الأميركية رفع الحظر عن تجارة واستثمار النفط والمنتجات الزراعية والاتصالات والتحويلات المالية من خلال الائتلاف المعارض حصراً،65  فيما بقيت الفصائل التي توصف بالمتطرفة ولاتتبع الائتلاف تدير شؤونها الاقتصادية عبر الطرق التي اعتادت عليها، ومنها فرض الجزية على غير المسلمين والزكاة على المسلمين، بحسب تقارير صحافية، كما حصل في مدينة يبرود في ريف دمشق.66 

وعمدت مجموعات مسلحة أخرى لم يتم الاعتراف بها رسمياً من قبل المعارضة، إلى سرقة المنشآت الصناعية وآلاتها وتهريبها كقطع إلى تركيا، مادفع رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية فارس الشهابي، ومجموعة من التجار والصناعيين والمحامين، إلى الإعلان في مؤتمر صحافي في دمشق أنهم رفعوا دعوى قضائية ضد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في المحاكم الأوروبية، لاتهامه بسرقة المنشآت الصناعية وخاصة من حلب إلى تركيا.67 

هذا في حين امتهنت مجموعات أخرى، سواء في مناطق الحكومة أو المعارضة، اقتصاد الخطف مقابل الفدية ضمن اقتصاد الحرب السورية. وقد اتهمت لجنة حكومية سورية مجموعات من الموالاة والمعارضة بارتكابها ووصفتها بأنها "عمل من لاعمل له". وقدّرت اللجنة التي تتبع وزارة المصالحة الوطنية السورية ماتم تسجيله من حالات خطف حتى منتصف العام 2013 بـ18 ألف حالة، منها ألف امرأة.68 

اقتصاد الحرب والتجار والمستثمرون

بلغت أعباء الصراع السوري على رأس المال المستثمر أرقاماً كبيرة، قدّرها المركز السوري لبحوث السياسات بـ28 مليار دولار كتراجع في الاستثمار، و27 مليار دولار كرأسمال متعطل، و78 مليار دولار كرأسمال متضرّر حتى العام 2014.

وضمن بحث يقوم به عن هروب رؤوس الاموال السورية، قدّر الباحث سامر عبود من جامعة أركاديا الأميركية، الأموال التي سُحِبَت من المصارف السورية حتى نهاية العام 2012 بحوالى 100 مليار ليرة سورية، أي مايقارب 10 مليارات دولار (وفقاً لحسابات الليرة والدولار حتى هذا التاريخ).69 

توجّه القسم الأكبر من هذه الأموال إلى الخارج، فنقل بعض المستثمرين منشآتهم إلى تركيا والأردن ومصر والإمارات العربية، بعد سماح الحكومة السورية بنقل الآلات للخارج، فانتقلت منشآت صناعية كبرى أو أجزاء منها، مثل "نستله" التي تعرّضت إلى الحرائق وشركة "بل" الفرنسية التي تنتج "لافاش كيري" وغيرها من الأجبان، ومعمل السويدي للكابلات وغيرها.

لم يخلُ نقل المنشآت من تكاليف ضخمة، يتكبّدها المستثمر عبر تكاليف النقل أو عبر الإتاوات.

طرحت خطة حكومية لمساعدة الراغبين في نقل منشآتهم داخل سورية من مناطق أقل أمناً إلى أخرى وصفت بالآمنة. لكن الحكومة وضعت شروطاً صعبة لم تمكّن الكثيرين من نقل منشآتهم، ففضلوا توقيفها عن العمل على نقلها.70  وكشف وزير الصناعة السوري السابق أنّه من أصل حوالى 121 منشأة تقدّمت بطلب النقل، 8 منشآت فقط نقلت فعلياً.71 

وكما تخلّت الحكومة السورية عن تمويل مستوردات التجار في هذه الأزمة، ودعتهم عبر تصريح لرئيس اتحاد غرف التجارة إلى الاعتماد على مبدأ "دَبِّر راسك"، أي التمويل الذاتي من السوق السوداء، فقد تخلّت أيضاً عن دورها في حماية المنشآت والقوافل التجارية، وأوكلت إلى المستثمرين أنفسهم مهمة تأسيس شركات للحماية والأمن لحماية مصانعهم وقوافلهم التجارية، حين صدر مرسوم في شهر آب/أغسطس 2013، ينصّ على السماح بتأسيس شركات للأمن والحماية الخاصة، والسماح لها بالتسلح تحت إشراف وزارة الداخلية.72 

وبعد أن تركت الحكومة التجار لإدارة شؤونهم بأنفسهم، عبر تمويل المستوردات بأسعار السوق السوداء التي تزيد عن السعر الرسمي بنسبة تقارب 70%، وحمّلتهم تكاليف حماية منشآتهم وقوافل البضائع، انعكس ذلك ارتفاعاً كبيراً في الأسعار بالنسبة إلى المستهلك، وواصلت بعده الحكومة والمواطنين لوم التجار على الأسعار المرتفعة.

وفي دراسة أعدّها الخبير في التخليص الجمركي عبد القادر خطاب، كشف بعضاً من خفايا التكاليف غير المتوقّعة التي يدفعها التجار السوريون قبل إيصال بضائعهم إلى المستهلك. وجاء في الدراسة، التي حملت العنوان "دليل المواطن لخفايا تجارة الأزمة في سورية وأسباب ارتفاع الأسعار أكثر من الدولار":73 

  1. لم يَعُد التجار يقومون بعملية الاستيراد بالتواتر نفسه والكميات نفسها التي كانوا يقومون باستيرادها وتوفيرها قبل الأزمة، بسبب انعدام الأمن والأمان.
     
  2. زادت كلفة الشحن البحري وكلفة التأمين على البضائع بشكل ملحوظ.
     
  3. إلغاء اتفاقية التجارة مع تركيا ورفع الرسوم الجمركية على المستوردات التركية، كان لهما تأثيرات كبيرة بسبب كثافة وتنوّع المنتجات التركية التي كان يتم استيرادها إلى سورية قبل الأزمة.
     
  4. زادت كلفة النقل البري الداخلي في سورية 10 أضعاف على الأقل خلال الأزمة، فأصبحت كلفة نقل بضاعة بواسطة سيارة شاحنة قياس كبير 150 ألف ليرة سورية، بدلاً من 15 ألف ليرة سورية قبل الأزمة بسبب انعدام الأمن في الطرق، وانتشار ظاهرة خطف البضائع والمطالبة بفدية، وغلاء سعر المازوت 3 أضعاف عما قبل الأزمة.
     
  5. زيادة واستشراء ظاهرة الفساد الجمركي خلال الأزمة بشكل أكبر مما قبل الأزمة. فأصبح الموظف المرتشي يريد ضعف المبلغ على المعاملة الجمركية الواحدة، لأنه يقوم بتوقيع عدد من المعاملات أقل مما كانت عليه الحال قبل الأزمة.
     
  6. توقّف الحكومة عن تمويل أكثر من 95% من المستوردات، ووضعها العراقيل أمام كل المستوردين، ما أدّى إلى زيادة واضحة على أكلاف أغلب المواد.
     
  7. زيادة كلفة التحويل إلى الخارج بشكل كبير جداً. فمثلاً كانت كلفة التحويل لمبلغ 10 آلاف دولار أميركي تساوي 25 دولار أميركي. (كانت قيمة أمر التحويل "سويفت" + مبلغ 3 بالألف من قيمة المبلغ المحوّل كعمولة تحويل. فيصبح المجموع 55 دولاراً أميركياً، يقابلها اليوم 50 دولاراً قيمة السويفت + 1.5% كعمولة تحويل، أي مايعادل 200 دولار أميركي في يومنا هذا).
     
  8. ازدادت كلفة المستودعات التي يتم تخزين البضاعة فيها، وأصبحت جميع الشركات تتّجه إلى استئجار مستودعات في مناطق آمنة نسبياً. كما قام أصحاب المستودعات باستغلال هذا الظرف لكثرة الطلب وقلة المعروض، ما أدّى إلى زيادة إضافية في الأكلاف الكلية للعملية التجارية.
     
  9. زيادة العديد من الأكلاف التي تندرج تحت بند المصاريف (البنزين – المازوت – الغاز)، والتي أدّت بدورها إلى زيادة في الأكلاف العامة للشركات.
     
  10. أحد أهم الأسباب التي لايعرفها الكثيرون هي أن الشركات المصدّرة الى سورية كانت قبل الأزمة توفّر التسهيلات في الدفع للكثير من الشركات السورية المستوردة، فكانت تقبل أن يتم شحن البضاعة والدفع لاحقاً بعد 30 يوماً أو 60 أو حتى 180 يوماً من تاريخ الشحن. أما بعد بداية الأزمة، فلم تَعُد الشركات المصدّرة تقبل بالعمل على هذا المبدأ، وباتت تريد الدفع قبل الشحن أو تسليم البضاعة، ما أدّى إلى خروج عدد لايستهان به من الشركات من السوق، أو على الأقل سبّب عودة هذه الشركات إلى حجمها المالي الطبيعي، والعمل برأس المال الذي تستطيع تحريكه فقط.
     
  11. بسبب الاختلاف اليومي الكبير في أسعار الصرف، توجّب على أغلب الشركات والتجار وضع هامش مجازفة خاص بسعر صرف الدولار Premium Risk، لتفادي الخسارة في حال صعود أو نزول الدولار بشكل كبير خلال مدة قصيرة من الزمن.

وفي الوقت الذي يعاني التاجر القانوني من أعباء تجارته من دون مساعدة من الحكومة، تصدّرت طبقة من "تجار الحرب" عملت بشكل مخالف للقانون، ومنها حالات من التجار الذين استولوا على ماركات تجارية معروفة بعد مغادرة مالكيها البلاد، فبدأوا بتقليدها ضمن أقبية الأبنية وتوزيعها في الأسواق. كما وصل الغش إلى الذهب وتجارة العملة في السوق السوداء. وقد ألقت السلطات الرسمية القبض على أصحاب أكبر شركات الصرافة في سورية (الجاجة، الشعار، الفؤاد وكلاء ويسترن يونيون، حول الخليج، وغيرهم)، لاتهامهم بالتلاعب بسعر الليرة، والعمل في السوق السوداء، واستغلال المهجرين عبر الحصول على بطاقات الهوية للنازحين من المحافظات الأخرى، بحجة تسجيل أسمائهم للحصول على مساعدات، بينما تتم المتاجرة بالدولار بأسمائهم، من دون علمهم.74 

وكشف نائب رئيس الحكومة الأسبق قدري جميل، أنّ الأجهزة الأمنية ألقت القبض على تاجر يُدعى "الوزان"، لديه بناية مؤلفة من ثلاثة طوابق هي عبارة عن خزانة من العملات المختلفة. وعند إلقاء القبض عليه تبيّن أن أجهزة الحواسيب تحتوي على معلومات مهمة حول تحويلات غير مسموح القيام بها، وأسماء متعاملين يستلمون تحويلات في الخارج، وأوراق حوالات تُقدَّر حمولتها بثلاث سيارات.75 

وأصدر وزير التجارة الداخلية الجديد في سورية سمير قاضي أمين، في أيلول/سبتمبر 2013، بياناً دعا فيه إلى76 "أهمية محاسبة كبار التجار والمستوردين وباعة المفرق بالسوية نفسها". في الوقت نفسه، دعت وزارة الاقتصاد إلى التعامل مع الاقتصاد السوري كاقتصاد حرب.77 

وحاولت الحكومة السورية طرح مؤسساتها كبديل عن التجار، فضيّقت عليهم طرق التصدير والاستيراد، كمنع تصدير الخضروات والفواكه والمواشي، كما منعت الاستيراد إلا بعد الحصول على موافقة خاصة، وحصرته بمؤسسات الحكومة التي واجهت عراقيل العقوبات، فاضطرت الحكومة إلى التراجع عن قرارها78 والإقرار بأنها ستستورد بالتوازي مع التجار، لكن بشروط صعبة.79 

خاتمة

كانت سياسة الحكومة السورية في إدارة اقتصاد الحرب منذ البداية مطابقة لرؤيتها للاضطرابات السياسية. فقد ظلّت حتى العام الأول من الأزمة تنكر أبعادها الحقيقية وامتداداتها، وتعوّل على البدائل التي انعكست في التصريح الشهير لوزير الخارجية السوري، وليد المعلم، بإمكانية شطب أوروبا من الخريطة الاقتصادية واستبدالها ببدائل أخرى. وهذا مادفع الحكومة السورية إلى عدم تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد أزمة أو حرب. واستمر ذلك حتى تشكيل الحكومة الثانية في عهد الأزمة، حين أعلن الرئيس الأسد في كلمته لحكومة رئيس الوزراء وائل الحلقي، في حزيران/يونيو 2012، أنّ هذه الحكومة هي حكومة حرب.

حتى تلك المرحلة، لم تكن الحكومة لتغيّر آليات اقتصاد السوق التي سارت على هديها منذ العام 2005، ولم تتدخّل في الاقتصاد والأسواق بما يكفي، بل استنزفت احتياطيها النقدي حين بالغت بإظهار قوتها النقدية، عبر التدخّل وبيع العملات الصعبة والذهب في معظمه إلى السوق السوداء والمحتالين. ولايزال مصرف سورية المركزي ينشر على موقعه الالكتروني أسماء آلاف من التجار والمواطنين الذين اشتروا الدولار بطرق وأساليب احتيالية، ويطالبهم بإعادتها إلى الخزينة.80 

كانت سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أصرّت عليها الحكومة السورية مخالفةً لأدبياتها التي نشرتها على الموسوعة العربية التابعة لرئاسة الجمهورية، والتي تنصّ على أنّه في حالة الحرب فإنّ81 "حاجة القوات المسلحة إلى الإمدادات العسكرية والنقص الحاد في السلع في القطاع المدني الناجم عن زيادة الطلب في أثناء الحرب، إضافة إلى الفوضى التي قد تعمّ الأسواق، تقود الحكومات، بصرف النظر عن نظامها الاقتصادي، إلى التدخّل في الاقتصاد، فتعمد إلى توزيع الموارد والبضائع بقرارات إدارية متجاوزة آلية السوق عندما تدعو الضرورة".

لكن الضغوط التي بدأت تشتدّ منذ بدأت العقوبات الاقتصادية تفرض آثارها. وبدأ الاحتياطي النقدي يواجه صعوبات جمّة، أظهرت عدم قدرة الأسواق البديلة كإيران وروسيا ودول البريكس على ملء الفراغ في الاستيراد والتصدير. كلّ ذلك دفع الحكومة السورية إلى العمل على خطَّين: التدخّل قدر الإمكان، بحسب وصف نائب رئيس الحكومة الأسبق قدري جميل، والإيعاز للتجار باتّباع سياسة "دَبِّر راسك" وهو مانشرته وسائل الاعلام السورية تحت العنوان82  "أول ردّ فعل رسمي سوري تجاه العقوبات العربية... وزير الاقتصاد يدعو التجّار إلى مبدأ "دَبِّر راسك"".

هوامش

The Political Economy of Civil War and Conflict Transformation, Berghof Research Center for Constructive Conflict Management, http://www.berghof-handbook.net , 2005, p. 3.

المرجع نفسه ص 2.

الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة العربية، د. مطانيوس حبيب، المجلد الثالث، http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=414&m=1 ص 11.

4 من ندوة لنائب رئيس الحكومة السورية قدري جميل خاصة بالإعلاميين، في 4 آب/أغسطس 2013، في مقر المجلس الوطني للإعلام في دمشق.

سورية: هدر الإنسانية (تقرير يرصد الظروف الاقتصادية والاجتماعية في سورية)، المركز السوري لبحوث السياسات، أيار/مايو 2014، ص 7.

http://data.unhcr.org/syrianrefugees/regional.php

Beirut Institute, Ethics and Politics: Response to the Plight of Syrian Refugees, www.beirutinstitute.org, July 2013, p 3-4.

http://www.independent.co.uk/news/world/the-10-worst-cities-in-the-world-to-live-in-8790121.html

http://aon.mediaroom.com/Doha-is-the-second-lowest-risk-city-for-employers-in-the-MENA-region-according-to-Aon-Hewitt

10 الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة العربية، د. مطانيوس حبيب، المجلد الثالث،http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=414&m=1 ص 11. 

11 http://scpr-syria.org/att/SCPR_Alienation_Violence_Report_2014_AR.pdf

12 http://sana.sy/ara/2/2012/06/26/427790.htm

13 اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، دراسات الحسابات القومية للمنطقة العربية، النشرة الرابعة والثلاثون، 2014، ص 3. 

14 http://scpr-syria.org/att/SCPR_Alienation_Violence_Report_2014_AR.pdf ص 25.

15 الإسكوا، مسح التطورات االقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية السياق العالمي وتداعياته في المنطقة العربية، 2014، ص 19.

16 تقرير: الأزمة السورية، الجذور والآثار الاقتصادية والاجتماعية 2012، المركز السوري لبحوث السياسات، ص 12.

17 https://aliqtisadi.com/سورية-تستفيد-من-تجربة-العراق-وكوبا-في-ا/

18 http://www.treasury.gov/resource-center/sanctions/OFAC-Enforcement/Pages/20120530.aspx

19 http://www.albaath.news.sy/user/?act=print&id=1772&a=148097

20 http://albaathmedia.sy/خط-ائتماني-جديد-وناقلة-نفط-ايرانية-إلى

21 http://www.syriasteps.com/?d=137&id=107584

22 http://scpr-syria.org/att/SCPR_Alienation_Violence_Report_2014_AR.pdf ص 30.

23 http://www.alwatan.sy/view.aspx?id=3075

24 http://ara.reuters.com/article/businessNews/idARACAE9B2EON20130807 

25 http://alhayat.com/OpinionsDetails/509742 

26 http://www.theguardian.com/world/2013/may/19/eu-syria-oil-jihadist-al-qaida 

27 http://www.dp-news.com/pages/detail.aspx?articleid=145426 

28 http://sy.aliqtisadi.com/المصرف-المركزي-يحول-6-ملياراتليرة-إلى-ف/

29 من ندوة لنائب رئيس الحكومة السورية قدري جميل خاصة بالإعلاميين، في 4 آب/أغسطس 2013، في مقر المجلس الوطني للإعلام في دمشق. 

30 http://www.syriasteps.com/index.php?d=128&id=107415&in_main_page=1 

31 http://www.an-nour.com/محليات/item/11266-الحكومة-ترفع-أسعار-الخبز-والغاز-والمازوت-مجدداً-خبير-اقتصادي-«عقلنة-الدعم»-ستؤدي-إلى-جنون-المواطن

32 http://sana.sy/ara/2/2013/08/04/495663.htm 

33 http://scpr-syria.org/att/SCPR_Alienation_Violence_Report_2014_AR.pdf ص7.

34 تقرير: الأزمة السورية، الجذور والآثار الاقتصادية والاجتماعية 2012، المركز السوري لبحوث السياسات، ص 13.

35 Syrian Agriculture Sector Profile, The Syria Report, July 2013, www.syria-report.com, p. 6. 

36 المصدر نفسه، ص 28.

37 FAO, Syrian Arab Republic, Joint Rapid Food Security Needs, Assessment (JRFSNA) www.fao.org/giews/english/otherpub/jrfsna_syrian2012.pdf‎, p3-17. 

38 Regional Anaysis Syria 2014, SNAP: Impact of the conflict on Syrian economy and livelihoods, http://www.acaps.org/img/reports/p-regional-analysis-for-syria---part-a-overview-and-sectoral-analysis-oct-dec-2014.pdf, p. 16.

39 تقرير مؤشر الأسعار للمستهلك عن شهر آذار/مارس 2013، المكتب المركزي للإحصاء.

40 http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/279848 

41 http://www.alwatan.sy/view.aspx?id=1196 

42 http://www.almoghtareb.net/news-action-show-id-3494.htm 

43 http://www.dp-news.com/pages/detail.aspx?articleid=136708 

44 http://www.rtv.gov.sy/index.php?d=100003&id=126627 

45 http://sy.aliqtisadi.com/الغلاء-الفاحش-يجبر-السوريين-على-استبد 

46 http://sy.aliqtisadi.com/طبق-سلطة-أغلى-من-كيلو-دجاج-وسوريون-مهد/ 

47 http://www.syriantelegraph.com/?p=90066 

48 http://sy.aliqtisadi.com/مزارع-سوري-يبتكر-طريقة-لتوليد-الغاز-ال/

49 http://sy.aliqtisadi.com/سوريون-يعودون-لأيام-المكاتيب-الورقية 

50 تقرير: الأزمة السورية: الآثار الاقتصادية والاجتماعية، المركز السوري لبحوث السياسات، حزيران/يونيو 2013، ص 16. 

51 Syria Needs Analysis Project, July 2013, SNAP: Impact of the conflict on Syrian economy and livelihoods, http://www.acaps.org/en/pages/syria-snap-project, p. 9.

52 http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/290840 

53 http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/293804 

54 تقرير الرقم القياسي لأسعار المستهلك، المكتب المركزي للإحصاء عن 2014: http://www.cbssyr.sy/CPI/cpi-month-2014.htm

55 http://sy.aliqtisadi.com/علق-عضويته-بسبب-عجزه-عن-فك-الحصار-عن-محا/

56 من ندوة لنائب رئيس الحكومة السورية قدري جميل خاصة بالإعلاميين، في 4 آب/أغسطس 2013، في مقر المجلس الوطني للإعلام في دمشق. 

57 http://sy.aliqtisadi.com/دعوة-لمقاطعة-الألبان-والأجبان-والبيض/

58 http://www.usaid.gov/crisis/syria

59 http://www.kuwait.diplo.de/Vertretung/kuwait/ar/Startseite__rechte__Spalte/seite__Charity__Syrien.html

60 http://world.time.com/2012/09/18/syrias-secular-and-islamist-rebels-who-are-the-saudis-and-the-qataris-arming/

61 http://articles.washingtonpost.com/2011-04-17/world/35262231_1_syrian-opposition-diplomatic-cables-syrian-authorities

62 http://www.theguardian.com/world/2013/may/19/eu-syria-oil-jihadist-al-qaida

63 http://www.china.org.cn/world/2012-10/15/content_26790636.htm

64 http://www.youtube.com/watch?v=soI5S4wNPXI

65 http://www.treasury.gov/resource-center/sanctions/OFAC-Enforcement/Pages/20130612_44.aspx

66 http://www.syriantelegraph.com/?p=40396

67 http://www.champress.net/index.php?q=ar/Article/view/14120

68 http://www.alwatan.sy/view.aspx?id=2599

69 http://sy.aliqtisadi.com/كتب-الدكتور-سامر-عبود-الأموال-السورية/

70 http://sy.aliqtisadi.com/النقل-على-مسؤولية-الصناعي-وإلى-المدن-و/

71 http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/292833

72 http://thawra.alwehda.gov.sy/_print_veiw.asp?FileName=103669958720130806001937

73 http://sy.aliqtisadi.com/دليل-المواطن-لخفايا-تجارة-الأزمة-في-سو/

74 http://www.thawraonline.sy/index.php/money-and-banks-list/24568-2013-08-30-17-12-36

75 http://sy.aliqtisadi.com/قدري-جميل-أوراق-الحولات-التي-ضبطت-تقدر/

76 http://sy.aliqtisadi.com/وزير-التجارة-الداخلية-يوجه-لتفعيل-الر/

77 http://sy.aliqtisadi.com/بهاء-الدين-حسن-هناك-تجار-أزمات-رفعوا-ال/

78 http://syria-news.com/readnews.php?sy_seq=160558

79 http://www.champress.net/index.php?q=ar/Article/view/21643

80 http://www.banquecentrale.gov.sy/main-ar.htm

81 الموسوعة العربية، هيئة الموسوعة العربية، د. مطانيوس حبيب، المجلد الثالث، ص 11،
http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=414&m=1

82 http://lb.aliqtisadi.com/أول-رد-فعل-رسمي-سوري-تجاه-العقوبات-العر/