المصدر: Getty

عدوّنا المشترك: العلاقة المُلتبسة بين القاعدة والقبائل اليمنية

تعتبر بعض القبائل اليمنية أن الحوثيين أكثر تهديداً لها من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. لكن مع استمرار الحرب، تتضاءل قدرة القبائل على طرد هاتين المجموعتين من محافظة البيضاء.

 ندوى الدوسري
نشرت في ٨ فبراير ٢٠١٨

يُلقى أحياناً باللائمة على القبائل التي تُحمَّل، على نحو مخطئ، مسؤولية انتشار تنظيم القاعدة في جزيرة العرب داخل اليمن. تزعم النظرة السائدة أن التنظيم المتطرّف ضارب الجذور في النسيج القبلي والاجتماعي في البلاد، وأن القبائل تؤمّن له حمايةً وملاذاً آمنا. ومنذ اندلاع الحرب اليمنية في أيلول/سبتمبر 2014، فُسِّرت العلاقة بين التنظيم وبين القبائل من منظار مذهبي، من منطلق أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يحارب إلى جانب القبائل السنّية ضد الحوثيين الشيعة.

محافظة البيضاء هي من المناطق حيث ازداد نشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب منذ أواخر العام 2014. ينخرط التنظيم في النزاع ضد جماعة أنصار الله الزيدية-الشيعية المتمرّدة المعروفة باسم الحوثيين، ماعزّز الاعتقاد بأنه أقام تحالفاً مع القبائل المحلية. واقع الحال أنه قبل النزاع في اليمن، ساهمت القبائل إلى حد كبير في تعطيل قدرة التنظيم على التوسّع وكسب النفوذ. لم يكن تعاطف القبائل المزعوم نحو التنظيم هو السبب في انتشار الفوضى وتأجيج المظالم وهَتك الأعراف القبلية ومفاقمة الظروف التي أعطت لتنظيم القاعدة مجالاً لكسب القوة، بل يُعزى ذلك إلى الهجوم الذي قام به الحوثيون والقوات الموالية للرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح على محافظة البيضاء.

القبائل وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب: حالة طارق الذهب

إن الاعتقاد الخاطئ حول تعاون القبائل مع تنظيم القاعدة قد يعود إلى كانون الثاني/يناير 2012، عندما استولى طارق الذهب، نجل أحد المشايخ البارزين في قبيلة قيفة في البيضاء، على القلعة التاريخية ومسجد العامرية وسط مدينة رداع (على بعد نحو 140 كلم أو 90 ميلاً جنوب العاصمة صنعاء) بمساعدة عشرات المقاتلين من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. طلب طارق، الذي عاش في صنعاء طيلة حياته، المساعدة من التنظيم لاستعادة مكانته داخل عشيرة "آل الذهب". وكان السبب أن علي، شقيق طارق الأكبر، حرمه وأشقّاءه الستة من الأرض والثروة التي ورثوها عن والدهم، الذي كان شيخاً للقبيلة قبل وفاته.

غالباً ماتُساق هذه الواقعة كدليل على الدعم القبلي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. وقد تعزّز هذا الاعتقاد بفعل زواج شقيقة طارق من أنور العولقي، رجل الدين المولود في الولايات المتحدة الذي كان متحدّثاً باسم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قبل مقتله في هجوم بطائرة أميركية من دون طيّار في العام 2011. يقول البعض أيضاً إن التنظيم تمكّن من استغلال الخصومات داخل عشيرة آل الذهب في البيضاء لاختراق القبائل. الأكيد أنّ التعاون بين طارق الذهب وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب لم يكن نتيجة تقارب إيديولوجي. ففي الحقيقة، معظم أتباع طارق لم يكونوا يؤدّون حتى واجباتهم الدينية. لقد تمكّن طارق الذهب من استقطاب الدعم في أوساط القبائل بفضل قدرته على تسوية النزاعات والقضايا الصعبة المتعلقة بوجه خاص بالثأر القبلي، والتي تعتبر مشكلة مستشرية في رداع. لقد رأى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب أن تقديمه المساعدة إلى طارق لمعالجة هذه النزاعات القبلية المعقّدة سيعود عليه بالفائدة، أملاً منه بأن ذلك سيكسبه دعماً محلياً. وهذا منح أيضاً دافعاً للتنظيم كي يقدّم خدمات لم تكن الحكومة والقبائل تؤمّنها للسكّان المحليين. حتى إن التنظيم أقدم أحياناً على دفع ديّة القتلى لتسوية الخلافات القبلية.

بيد أن طارق الذهب لم يكن يعبّر، من خلال تحالفه مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، عن رغبة أو موقف قبيلته. ففي حقيقة الأمر، القبائل هي التي نجحت في إبقاء تنظيم القاعدة تحت السيطرة في البيضاء وأجزاء عديدة من اليمن قبل ذلك، إدراكاً منها للتهديد الذي يشكّله التنظيم المتطرّف. إلا أنها فهمت أيضاً أن التخلص من التنظيم يحمل في طيّاته مخاطر جمة للنظام القبلي الهش الذي تسعى القبائل إلى الحفاظ عليه. والسبب هو أن أعضاء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يتحدّرون في شكل أساسي من قبائل محلية، ومن شأن اللجوء إلى القوة أن يتسبّب بنزاعات قبلية، وهي مشكلة تسعى القبائل في البيضاء ومناطق أخرى جاهدةً لمعالجتها. لذلك فضّلت القبائل التعويل على المفاوضات والضغوط في تعاطيها مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، إلى جانب معاقبة أفرادها الذين يؤمّنون ملاذاً للتنظيم. لاتلجأ القبائل الى استخدام القوة ضد القاعدة إلا بعد استنفاد جميع الوسائل الأخرى.

هذا بالضبط ماحدث عندما تقدّم طارق الذهب ومقاتلو تنظيم القاعدة في جزيرة العرب باتجاه رداع. بادرت القبائل في المناطق السبعة المحيطة بالمدينة إلى التحرّك على الفور لاحتواء الوضع طوّق رجال القبائل المباني التي سيطر عليها تنظيم القاعدة في رداع. ونشرت القبائل عناصرها عند مداخل المدينة لمنع وصول تعزيزات إلى التنظيم من محافظة أبين. كما أنها أرسلت رجالاً لحراسة المنشآت الحكومية وشكّلت لجاناً لفرض الأمن في الأحياء. ثم أنشئت لجنة وساطة مؤلّفة من وجهاء القبائل للتفاوض مع طارق، وقد أقنعته في نهاية المطاف بالانسحاب من المدينة والعودة مع مقاتلي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى المناسح، مسقط رأسه. وقد تبرّأت قبيلة طارق منه بسبب إحضاره المقاتلين إلى رداع، فخسر حقّه في الحماية وامتيازات أخرى كان يتمتّع بها كعضو في قبيلته.

لكن حتى الوساطة لاتنتهي دائماً على خير. فبعدما ضاق حزام، الأخ غير الشقيق لطارق، ذرعاً برؤية مقاتلي تنظيم القاعدة في المناسح، واجه طارق بهذا الخصوص وأرداه قتيلاً. وفي اليوم نفسه، أقدم المقاتلون على الثأر لطارق وصرعوا حزام قتيلاً. وعندما أرسلت الحكومة قوة عسكرية في شباط/فبراير 2013 لإرغام مقاتلي تنظيم القاعدة على الخروج من المناسح، تدخّلت القبائل لوقف الحملة بعدما تسبّب القصف بتدمير منازل في المنطقة. فقد تخوّفوا من أن تلقى مناطقهم المصير نفسه الذي واجهته محافظة أبين في منتصف العام 2012، عندما أفضت الجهود الآيلة إلى طرد التنظيم منها، إلى وقوع دمار هائل ونزوح مئات آلاف المدنيين من المحافظة. وفي نهاية المطاف، أدّت وساطة أخرى الى دفع قياديي تنظيم القاعدة من عشيرة آل الذهب، إلى مغادرة المناسح، وأعلن المسؤولون في الحكومة تحرير القرية من تنظيم القاعدة. وحينها، انتقل معظم مقاتلي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى منطقة يكلا النائية والجبلية على الحدود مع محافظة مأرب.

دخول الحوثيين إلى البيضاء

في أيلول/سبتمبر 2014، استولى الحوثيون على صنعاء بدعم من الوحدات العسكرية الموالية لعلي عبدالله صالح. وبعد بضعة أسابيع، في تشرين الأول/أكتوبر، تقدّم الحوثيون جنوباً للسيطرة على محافظة البيضاء، التي نجحوا في وضع يدهم على الجزء الأكبر منها بحلول آذار/مارس 2015. وقد صوّر الحوثيون حملتهم العسكرية بأنها حرب ضد تنظيم القاعدة. أكّد اتفاق السلم والشراكة الوطنية الذي وقّعته الحكومة اليمنية مع الحوثيين في 21 أيلول/سبتمبر 2014، أن الحكومة ملتزمة بمساعدة مواطني البيضاء على القتال ضد تنظيم القاعدة، مامنح الحوثيين الغطاء السياسي الذي كانوا بحاجة إليه لدخول المحافظة.

لكن واقع الحال هو أن السيطرة على البيضاء كانت ذات أهمية عسكرية بالنسبة إلى الحوثيين، لأن المحافظة تقع في وسط اليمن ولديها حدود مشتركة مع ثماني محافظات أخرى. كان من شأن السيطرة على البيضاء أن تُسهّل على الحوثيين تعزيز المكاسب العسكرية التي كانوا قد حقّقوها في شمال البلاد، والتقدّم جنوباً وشرقاً بخطى أكثر وثوقاً.

في البداية، دخل الحوثيون البيضاء عن طريق محافظة ذمار المجاورة التي كانوا قد فرضوا سيطرتهم عليها بفضل الوحدات التابعة لصالح. وقد ساعد زعماء القبائل الموالون لصالح في البيضاء، الحوثيين على التفاوض مع القبائل المحلية ليتمكّنوا من دخول المحافظة بسلاسة. كانت القبائل في مختلف أنحاء البيضاء قد استعدّت لمواجهة الحوثيين، لكنها أدركت أن القوات المشتركة التابعة لصالح والحوثيين أقوى بكثير من القبائل، فاختارت البقاء على الحياد. كانت الأوضاع السياسية في صنعاء غير واضحة المعالم في ذلك الوقت، فقد كانت العاصمة قد سقطت للتو في أيدي الحوثيين. وكان الانطباع السائد أن تمدُّد الحوثيين هو مجرد واجهة لعودة صالح إلى السلطة.

بغية الوصول إلى رداع، ثاني أكبر مدينة في البيضاء، حيث تقع المنشآت الحكومية والعسكرية والأمنية، كان على الحوثيين المرور عبر أراضي قبيلة العرش، التي سمحت لهم على مضض بالعبور إلى رداع وصولاً إلى قيفة شمالاً، عبر سلوك الطريق السريع الرئيس الذي يجتاز أراضي قبيلة العرش. مقابل السماح لهم بالعبور، اشترِطت القبيلة على الحوثيين عدم إقامة نقاط تفتيش، أو استخدام أراضي القبيلة لخوض أي معارك قتالية. قال زعيم قبيلة العرش للحوثيين خلال المفاوضات: "نحن لسنا أعداءكم، لكن بلادنا نريدها تبقى مصانة، نريدها تبقى مكرمة، نريدها تبقى معززة".

بعدما عزّز الحوثيون سيطرتهم على البيضاء وأصبحوا أكثر نفوذاً من صالح، تراجعوا عن معظم الاتفاقات التي أبرموها مع القبائل. وبدأوا يرتكبون انتهاكات غير مسبوقة لإرغام القبائل على الاستسلام لسلطتهم. فقد عمدوا إلى اختطاف خصومهم، بما في ذلك زعماء قبليون، وإخفائهم قسرياً، وقتلهم، أو تدمير منازلهم، في ممارسات تعتبر جرائم جسيمة بموجب العُرف القبلي. على سبيل المثال، في آب/أغسطس 2016، أقدم الحوثيون على قتل أربعة شيوخ قبائل في البيضاء بدم بارد. ودمّروا أيضاً مزارع، وفرضوا ضرائب باهظة، وأرغموا المساجد المحلية على استخدام شعاراتهم الإيديولوجية، ما أثار استياء القبائل المحلية.1

رأى عدد كبير من القبائل في تصرفات الحوثيين محاولةً لتقويض السلطة القبلية.2 في قرية خبزة مثلاً، أدّت الوساطة القبلية بين الحوثيين والقبائل المحلية إلى طرد عناصر تنظيم القاعدة من القرية. على الرغم من ذلك، حاول الحوثيون الاستيلاء على خبزة بالقوة، فدمّروا عدداً كبيراً من المنازل وتسبّبوا بنزوح آلاف العائلات. وكذلك في قرية الزوب، التي تضم العدد الأكبر من السكّان الذين هم أيضاً من ذوي المستوى التعليمي الأعلى في قبيلة قيفة، وثّقت منظمة محلية غير حكومية أكثر من ثمانمئة انتهاك ارتكبها الحوثيون ضد السكان، ودفع سلوك الحوثيين بالقبائل إلى القتال رداً على مايتعرّضون له. وقد اندلعت أعمال عنف شديدة بين الحوثيين والقبائل في العديد من مناطق قيفة قبل أن تنتشر إلى مناطق خرى في البيضاء، ولاتزال تلك الاشتباكات مستمرة في ستة مناطق على الأقل في المحافظة.

أتاح دخول الحوثيين إلى البيضاء لتنظيم القاعدة الفرصة لكسب نفوذ على الأرض والعودة إلى المناسح التي طُرِد منها في مطلع العام 2013. حضر نبيل الذهب – شقيق طارق، والذي كان قيادياً في جماعة أنصار الشريعة التابعة لتنظيم القاعدة في اليمن حتى مقتله في هجوم بطائرة أميركية من دون طيّار في تشرين الثاني/نوفمبر 2014 – اجتماعاً عُقِد في المناسح في تشرين الأول/أكتوبر 2014، وشاركت فيه قبائل من مناطق عدّة من البيضاء ومحافظات أخرى، لمناقشة التهديد الحوثي. وأصبح مقاتلو تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ناشطين جداً في القتال ضد الحوثيين، وازدادت أعدادهم. ولم تعد القبائل التي كبحت نفوذ تنظيم القاعدة في المحافظة في فترات سابقة مستعدّة للقيام بذلك مجدّداً، لأنه أصبح لديها وللقاعدة عدوٌّ مشترك.

علّق عضو في لجنة الوساطة التي أقنعت مقاتلي تنظيم القاعدة بالانسحاب من رداع في العام 2012، على ماجرى بالقول: "قبل اندلاع هذه الحرب، لم تكن القبائل تريد تنظيم القاعدة، وتمكّنت من إبقائه تحت السيطرة. أما الآن، فإن رجال القبائل الغاضبون يرحّبون بالقاعدة إذا كانت ستساعدهم في محاربة الحوثيين.3 وفقاً لأبناء القبائل المحلية في البيضاء، لدى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مقاتلون أكثر تمرّساً ومهارات قتالية أفضل بالمقارنة مع مختلف التنظيمات الأخرى، بما في ذلك القبائل. كما أنه يمتلك قدراً أكبر من الأموال والمعدّات، الأمر الذي شكّل عامل استقطاب لبعض رجال القبائل المحبَطين من غياب الدعم من الحكومة اليمنية الموجودة في المنفى في السعودية، ومن الحكومة السعودية نفسها، في معركتهم ضد الحوثيين.4 على سبيل المثال، شكّلت الحكومة في العام 2015 اللواء 117 المؤلّف من آلاف العناصر من قبائل البيضاء، بهدف طرد الحوثيين من المحافظة. بيد أن اللواء يتّخذ من محافظة مأرب المجاورة مقراً له، مايثير امتعاضاً شديداً لدى القبائل، كما أنه لم يتدخّل حتى الآن لتقديم المؤازرة ضد الحوثيين.

الأهم من ذلك، تمكّن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من توسيع عملياته في البيضاء لأنه استغلّ المظالم التاريخية التي شكّلت موقف القبائل من الحوثيين والذين يُنظَر إليهم على نطاق واسع في البيضاء بأنهم امتداد للإمامة الزيدية، أي النظام الثيوقراطي الذي حكم الجزء الأكبر من اليمن لمئات السنين، ولاسيما عن طريق ترهيب القبائل المحليّة بغية إخضاعها، إلى أن أُطيح به في العام 1962.5 ادّعى الأئمة أنهم أصحاب السلطة لأنهم من سلالة النبي محمد المعروفين بالسادة. تعتقد قبائل البيضاء أن الحوثيين يريدون إعادة الإمامة من جديد، وإلغاء النظام الجمهوري.6 ويترسّخ هذا الاعتقاد من خلال الخطاب العام للحوثيين الذي يؤيّد حق أسرة النبي محمد، أو أهل البيت، بالحكم. عندما تقدّم الحوثيون باتجاه البيضاء، بدت هذه الخطوة في نظر القبائل وكأنها تكرار لما حدث في القرن السابع عشر، عندما حشد الأئمة القبائل الشمالية لضم البيضاء عنوةً إلى حكم الأئمة، كما رأوا فيها تكراراً لما حدث في أواخر عشرينيات القرن الماضي، عندما خاضت القبائل الشمالية صدامات عنيفة مع القبائل المحلية في المحافظة. تتذكّر قبائل البيضاء كيف جُزَّت رؤوس زعمائها، وكيف أقدمت قوات الإمامة على نهب محاصيلهم وفرض ضرائب ثقيلة الوطأة. كذلك يعتقد كثرٌ في البيضاء أن السبب وراء تعامل الحوثيين بهمجية مع القبائل المحلية هو الدور المهم الذي لعبته قبائل البيضاء في سقوط الإمامة في العام 1962.7

العدو الذي نعرفه ضد عدوٍّ يجب أن يرحل

تعتبر القبائل في البيضاء أن الحوثيين أكثر تهديداً لها من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. فهذا التنظيم، وعلى النقيض من الحوثيين، لايمارس سيطرته على القبائل أو يُرغمها على اتّباع إيديولوجيا معيّنة.8 الحوثيون هم غرباء قادمون بشكل رئيس من القبائل الشمالية، في حين أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يتألّف بصورة خاصة من عناصر من القبائل المحلية لم يُقدِموا على تحدّي سلطة القبائل في البيضاء. لقد ألحق الحوثيون الإهانة بالقبائل عبر نعت مَن يرفضون وجودهم في البيضاء بـ"الدواعش"، نسبةً إلى "داعش"، وهي التسمية التي تُستخدَم للإشارة إلى المجموعات التي تتبع إيديولوجيا التنظيم المسمّى الدولة الإسلامية. أما تنظيم القاعدة في جزيرة العرب فقد حرص دائماً على عدم إثارة عداء القبائل، وتعامل معها باحترام. لقد هتكَ الحوثيون الشرف القبلي في حين أن تنظيم القاعدة ساعد القبائل في الدفاع عنه. بالنسبة إلى القبائل، تنظيم القاعدة في جزيرة العرب هو مشكلة مؤجَّلة إلى الغد، في حين أن الحوثيين هم التهديد الوجودي الذي يجدر بهم مواجهته الآن.

ربما جنّد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مزيداً من أبناء القبائل خلال الأعوام الماضية، مع العلم بأن التنظيم المتطرّف لم يصبح مطلقاً جزءاً من التركيبة القبلية، ويبقى أكثر ضعفاً من القبائل بكثير. يُشار في هذا الصدد إلى أن غالبية أبناء القبائل الذين التحقوا بالتنظيم لم يفعلوا ذلك لدوافع إيديولوجية، بل بدافع الغضب والإحباط من التهميش الذي لطالما عانت منه مناطقهم، ولاتزال تعاني منه، وكذلك بسبب الممارسات التي يقوم بها الحوثيون لإخضاعهم.9 في حين أن هناك مستوى من التنسيق بين القبائل المحلية التي تقاتل الحوثيين وبين تنظيم القاعدة ، إلا أن الفريقَين يتحرّكان في أماكن منفصلة. عندما بدأ الحوثيون يتصادمون مع القبائل في قيفة في تشرين الأول/أكتوبر 2014، عقد زعماء القبائل الكبرى في البيضاء اجتماعاً واتّفقوا على إرسال المئات من رجالهم لتقديم الدعم إلى قبائل قيفة. غير أن معظمهم عادوا أدراجهم عندما أدركوا أن تنظيم القاعدة كان يقاتل أيضاً ضد الحوثيين إلى جانب قبائل قيفة.10 بعيد ذلك، انتقل مقاتلو تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى مواقع أخرى منفصلة بناءً على مطالبات القبائل التي خشيت أن يتسبّب وجود هؤلاء المقاتلين بتقويض مشرعية قضيّتها، ويُلصق بها صبغة الانتماء إلى تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.11

كان ردّ الفعل هذا مفهوماً، نظراً إلى أنه لاتزال هناك خلافات جوهرية بين القبائل وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب في ساحة المعركة. في مطلع العام 2015، أعدم عناصر من التنظيم مقاتلين حوثيين وقعوا في الأسر، ما أثار غضب القبائل وتسبّب باندلاع اشتباكات بين القبائل والقاعدة. ويُعتبر قتل الأسرى انتهاكاً جسيماً بموجب العرف القبلي.12 حتى في يكلا، يتواجد تنظيم القاعدة بشكل أساسي في الجبال بعيداً عن مساكن القبائل.13

في نهاية المطاف، تظل أهداف قبائل البيضاء في هذه الحرب متناقضة مع أهداف تنظيم القاعدة. فغاية القبائل هي حماية أراضيها وطرد الحوثيين منها، وليست لديها أي مصلحة في محاربة الحوثيين خارج البيضاء. أما تنظيم القاعدة في جزيرة العرب فهدفه استدراج الحوثيين إلى المناطق القبلية عبر حرب العصابات كي يتمكّن من توريطهم في حرب استنزاف باهظة الثمن، وهو مايثير قلق القبائل المحلية.14 فما دامت قبائل البيضاء مضطرة إلى الدفاع عن مناطقها في مواجهة الحوثيين، ستزداد ضعفاً، مايعني أن قدرتها على الحد من التهديد الذي يمثّله تنظيم القاعدة في جزيرة العرب تتضاءل مع مرور الوقت.

هوامش

1 رسائل متبادَلة بالبريد الإلكتروني بين المؤلّفة وزعيم قبلي من الزوب في قيفة، 19 شباط/فبراير 2015؛ مقابلة عبر الهاتف مع رجل من قبيلة آل حميقان، البيضاء، 16 كانون الثاني/يناير 2017.

2 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع أحد قياديي القوات القبلية التي قاتلت ضد الحوثيين، البيضاء، 20 أيار/مايو 2017. الرأي نفسه عبّر عنه آخرون، بما في ذلك في مقابلات عبر الهاتف أجرتها المؤلّفة مع زعيم قبلي آخر قاتل ضد الحوثيين، 14 أيار/مايو 2017؛ وزعيم قبلي ثانٍ، 8 كانون الأول/ديسمبر 2014؛ وزعيم قبلي ثالث قاتل ضد الحوثيين، 5 أيار/مايو 2017.

3 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع زعيم قبلي توسّط بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وبين القبائل المحلية، 18 حزيران/يونيو 2016. الآراء نفسها عبّر عنها العديد من القادة المحليين وأبناء القبائل في البيضاء في مقابلات معهم عبر الهاتف بين 2014 و2017.

4 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع قيادي في القوات التي تقاتل الحوثيين، 20 أيار/مايو 2017؛ وأخرى أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع ناشط في المجتمع المدني المحلي، 7 أيار/مايو 2017.

5 مقابلات أجرتها المؤلّفة مع زعماء ورجال من القبائل، ورصد منشورات كتبها أشخاص من القبائل في مأرب وشبوة والجوف والبيضاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أيلول/سبتمبر 2014-أيار/مايو 2017.

6 مقابلات مع مجموعة من زعماء وأبناء القبائل، ورصد منشورات كتبها أشخاص من القبائل في مأرب وشبوة والجوف والبيضاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أيلول/سبتمبر 2014-أيلول/سبتمبر 2017. للاطلاع على مزيد من المعلومات انظر: http://pomed.org/pomed-publications/breaking-cycle-of-failed-negotiations-yemen/ .

7 تكررت الإشارة إلى هذا الموضوع في معظم المقابلات التي أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع قادة ومقاتلين في المجموعات المناهضة للحوثيين في البيضاء. وكان الموضوع طاغياً أيضاً في المنشورات التي كتبها ناشطون من البيضاء على مواقع التواصل الاجتماعي بين تشرين الأول/أكتوبر 2014 وتشرين الثاني/نوفمبر 2017.

8مقابلات أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع زعماء وأفراد من القبائل، ومع مقاتلين في المقاومة من محافظة البيضاء بين تشرين الأول/أكتوبر 2014 وأيار/مايو 2017.

9 هذا مايؤكّده عدد من المقابلات التي أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف، منها مقابلة مع زعيم قبلي من البيضاء، 9 أيار/مايو 2017؛ ومقابلة مع زعيم قبلي عسكري من أبين، 19 أيار/مايو 2017؛ ومقابلات مع زعيم قبلي توسّط بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وبين القبائل في قيفة في العام 2012، 11 نيسان/أبريل، 20 أيار/مايو، و10 تشرين الأول/أكتوبر 2017.

10 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع مقاتل معارض للحوثيين من السويدية، البيضاء، 2 تموز/يوليو 2016. مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع أحد القياديين، من البيضاء، في صفوف القوات المناهضة للحوثيين، 31 أيار/مايو 2017.

11 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع صحافي محلي في رداع، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، و2 كانون الثاني/يناير 2018؛ مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع زعيم قبلي توسّط بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وبين القبائل المحلية، 2 كانون الثاني/يناير 2018.

12 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع قيادي في المجتمع المدني من البيضاء، 7 أيار/مايو 2017.

13 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع صحافي محلي من البيضاء، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

14 مقابلة أجرتها المؤلّفة عبر الهاتف مع قيادي في المجتمع المدني المحلي من البيضاء، 11 أيار/مايو 2017.