المصدر: Getty

قصة السدّ الذي أشعل نار الخلاف بين إثيوبيا ومصر

بينما تتفاوض مصر وإثيوبيا حول تفاصيل سدّ النهضة الكبير، يبرز دور السودان ممثلًا طرفًا ثالثًا أساسيًا يمكنه تأدية دور بارز في تهدئة الخلافات بين الطرفين.

 شريف محي الدين
نشرت في ٢٠ أبريل ٢٠٢١

مقدّمة

في تشرين الأول/أكتوبر 2020، حذّر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك من أن مصر قد "تفجّر" سدّ النهضة الإثيوبي الكبير، الذي تسير أعمال بنائه على قدم وساق على الرغم من عدم التوصل إلى اتفاق بين إثيوبيا ومصر حول مدى وحجم تشغيله والقواعد التي يجب أن تتقيّد بها إثيوبيا. وقد بلغ العمل على السدّ، الذي انطلق في العام 2011، مرحلة مهمة في تموز/يوليو 2020، حين شرعت إثيوبيا في ملء خزّانه. وما لم تقع بعض العراقيل التقنية، فقد يتمّ تشغيل السدّ قبل نهاية العام 2022.

وعلى ضوء هذا الواقع شدّدت مصر موقفها خوفًا على أمنها المائي، واتهمت إثيوبيا بالتعنّت لرفضها إجراء دراسات لتقييم الأثر البيئي والاجتماعي والخضوع إلى رقابة دولية. وفي حزيران/يونيو 2020، أي قبل بضعة أشهر من مكالمة حمدوك الهاتفية مع ترامب، أعلن وزير الخارجية المصري سامح شكري أن مصر تبحث"خيارات أخرى" لحلّ الخلاف، وذلك بسبب عناد إثيوبيا الذي حال دون التوصّل إلى تسوية عن طريق التفاوض.

لا شكّ في أن أي غارة جوية قد تشنّها مصر على المنشأة، كما تكهّن ترامب، ستؤدي إلى اندلاع مواجهة عسكرية بين مصر وإثيوبيا. لكن قبل الحديث عن النزاع الذي قد ينشب، غالب الظن أن الغارة الجوية ستلحق أضرارًا كبيرة بالمنطقة القريبةللسدّ، الذي يقع في إقليم بني شنقول جومز غرب أثيوبياعلى بعد 15 كيلومترًا من الحدود السودانية. وسواء دمّرت مصر المنشأة بشكل كليّ أو جزئي، سيؤدّي ذلك على الأرجح إلى حدوث فيضانات، ما قد يُلحق أضرارًا كارثية بالمجتمعات المحلية المقيمة على الحدود الإثيوبية-السودانية. ليس صدفةً أن يحاول ترامب آنذاك كسب تعاون حمدوك لتجنّب شنّ هجوم مصري على السدّ. فالحكومة السودانية تُدرك أنه إذا تحوّل الخلاف المصري-الإثيوبي حول السدّ إلى نزاع عسكري، فسيدفع المواطنون السودانيون المقيمون في المناطق الحدودية ثمناً أكبر من نظرائهم الإثيوبيين بسبب اتجاه تدفّق المياه. لهذا السبب، من مصلحة السودان التوصل إلى حلّ سلمي للخلاف، وبالتالي الاضطلاع بدور نشِط أكثر في جهود الوساطة.

خلاف يتأجّج منذ قرن

تعود جذور الخلاف المصري-الإثيوبي حول نهر النيل إلى المعاهدة الإنكليزية–المصرية التي أُبرمت في العام 1929، والتي لم يكن الإثيوبيون طرفًا فيها، بل زعمت المملكة المتحدة أنها تفاوضت بشأنها مع مصر بالنيابة عن إثيوبيا وعدد من دول حوض النيل الأخرى التي كانت خاضعة إلى سيطرة البريطانيين. وفي العام 1959، أي بعد ثلاث سنوات من استقلال السودان عن الحكم الإنكليزي-المصري، وقّعت الخرطوم والقاهرة اتفاقية خاصة بهما حول نهر النيل. وقد كرّست اتفاقية العام 1959 المعاهدة الإنكليزية–المصرية، وأدخلت تعديلات أفادت الدولتين، كزيادة حصة مصر السنوية المضمونة من المياه إلى 55.5 مليار متر مكعب، وحصة السودان إلى 18.5 مليار متر مكعب. وهذه المرة أيضًا، لم يتمّ استشارة إثيوبيا ودول أخرى في الاتفاق.

ولهذا السبب، اعتبرت أديس أبابا لسنوات طويلة أن معاهدة العام 1929 واتفاقية العام 1959 لا تأخذان في الحسبان احتياجاتها من المياه، علمًا بأن النيل الأزرق الذي ينبع من مرتفعاتها، فضلًا عن نهر عطبرة بدرجة أقل (وكلاهما من روافد نهر النيل) يزوّدان النهر الأساسي بنسبة 80 في المئة من مياهه التي تتدفق لتصبّ في السودان ومصر.

عندما أطلقت إثيوبيا مشروع سدّ النهضة في نيسان/أبريل 2011، لم تستشِر لا مصر ولا السودان، إذ اعتبرت أن المسألة بسيطة وتتعلّق بالسيادة الإثيوبية. من جهتها، تعرف السلطات المصرية حق المعرفة أن النيل الأزرق، الذي بني السدّ على ضفتيه، هو المصدر الرئيسي الذي يغذّي نهر النيل، ويزوّد البلاد بالكمية الأكبر من المياه التي تعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا. لذا، اعتبرت خطوات أديس أبابا هذه بمثابة جرس إنذار للقاهرة. وما زاد الأمور سوءًا قيام إثيوبيا بالمماطلة في السماح بإجراء تقييم للأثر البيئي والاجتماعي للسدّ، وهو شرط يفرضه القانون الدولي عند تنفيذ مثل هذه المشاريع. وفي هذا الإطار، كرّر الإثيوبيون مرارًا تأكيدهم على أن المسألة تتعلق بسيادة بلادهم.

وعلى الرغم من أن مصر عارضت في بادئ الأمر فكرة السدّ، موضحةً أن المعاهدة الإنكليزية–المصرية منحتها حق الاعتراض على مثل هذه المشاريع، خفّفت حدة موقفها في العام 2012 وأبدت بعض المرونة. وفي العام نفسه، اتّفقت كل من مصر وإثيوبيا والسودان على تكليف فريق من الخبراء الدوليين بدراسة التأثيرات المحتملة للسدّ. وفي آذار/مارس 2015، وقّعت الأطراف الثلاثة وثيقة إعلان المبادئ في الخرطوم. وتعيّن على إثيوبيا، بموجب أحكامه، تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، التي شملت إجراء تقييم الأثر البيئي والاجتماعي، الأمر الذي اعتبره الكثير من المراقبين خطوة تمهد الطريق أمام إبرام اتفاق آخر يتناول المزيد من التفاصيل بين الدول الثلاث، ويضع قواعد وشروطًا بشأن آلية ملء خزان السدّ وطريقة تشغيله. لكن إثيوبيا عادت لاحقًا إلى موقفها الأصلي ورفضت السماح بإجراء تقييم الأثر.

وفي الوقت الحالي، ترى مصر بعد أن رضخت للأمر الواقع وقبلت بحتمية تشغيل السدّ، أن إجراء تقييم للأثر البيئي والاجتماعي يراعي مخاوفها المتعلقة بجوانب تقنية معينة بات ضروريًا، وأبرزها عدم تنفيذ الملء الأول لخزان السدّ بسرعة كبيرة. فالحكومة المصرية تصرّ على ملء الخزان بوتيرة بطيئة وخلال فترة تتراوح بين 12 و21 سنة لعدم تعريض أمن مصر المائي للخطر، فيما السلطات الإثيوبية تصرّ على إنجاز هذه العملية خلال ست سنوات من أجل زيادة قدرتها على توليد الطاقة الكهربائية، ما تَعتبره أولوية نظرًا إلى أن أكثر من نصف سكان البلاد لا يحصلون على الكهرباء. علاوةً على ذلك، في ضوء توقّعات مصر بأنها ستواجه ندرة المياه بحلول العام 2025، تريد السلطات المصرية التأكد من أن تدفّق مياه النهر إلى أراضيها لن يتأثّر لدى قيام إثيوبيا بإعادة ملء خزان السدّ خلال فترات الجفاف المطوّلة، حين يتراجع منسوب مياه النيل الأزرق بسبب انخفاض معدّل هطول الأمطار.

وفي شباط/فبراير 2020، بدا أن مصر وإثيوبيا والسودان على وشك حل خلافاتهم . فقد استضافت العاصمة واشنطن أحدث جولة من جولات المفاوضات العشر التي امتدت على مدى خمس سنوات برعاية إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والبنك الدولي. و ولد من رحم هذه المفاوضات الطويلة اقتراح اتفاق، بيد أن إثيوبيا تراجعت ورفضت التوقيع عليه بسبب مخاوف تساورها من أن أحكامه ستشكّل انتهاكًا لسيادتها. وبعد مرور بضعة أشهر، جدّدت الحكومة الإثيوبية عزمها على البدء بملء خزان السدّ في تموز/يوليو. فما كان من مصر، التي اعتبرت أن مثل هذه الخطوة الأحادية الجانب تُخالف إعلان المبادئ، إلّا أن طالبت مجلس الأمن الدولي بإدانتها فورًا.

وبعد فترة قصيرة، تدخّل الاتحاد الإفريقي وتمكّن من إقناع الطرفين باستئناف المفاوضات تحت رعايته لكن هذه المرة كانت العلاقات المصرية-الإثيوبية قد ضعفت، ما دفع الطرفان إلى اعتماد صيغة مُرتجَلة نوعًا ما وطويلة زمنيًا تقضي بإجراء مفاوضات ثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان بحضور مسؤولين من الاتحاد الإفريقي أحيانًا. لكن هذه المفاوضات لم تحقّق نتائج ملموسة، بل تسبّبت بنشوب خلاف بين السودان من جهة ومصر وإثيوبيا من جهة أخرى حول نطاق تدخّل الاتحاد الإفريقي. في غضون ذلك، يكمن الخطر في أن مصر بدأت تشعر بأن الوقت يداهمها.

كيف يمكن لدور سوداني أقوىأن يحلّ الأزمة؟

قد تبدو المشكلة مستعصية، نظرًا إلى التعنّث الإثيوبي ونفاذ الصبر المصري، لكن الأوان لم يفُت للعمل على حلها. مع ذلك، تتطلّب تسوية الخلاف، أو على الأقل منع تحوّله إلى مواجهة عسكرية خارجة عن السيطرة، تدخّلًا حازمًا ومتواصلًا من طرف ثالث. للوهلة الأولى، قد لا يبدو السودان في موقع يخوّله الاضطلاع بهذه المهمة. فهو يشهد مرحلة انتقالية صعبة إلى الديمقراطية بعد عقودٍ من الحكم السلطوي، في حين أن موجة العنف التي اشتعلت في دارفور، هذا الإقليم الواقع في غرب السودان عند الحدود مع تشاد، قد تؤشّر إلى تجدُّد النزاع الإثني المديد هناك. هذا فضلًا عن أن العلاقات السودانية-الإثيوبية شهدت توترًا في الآونة الأخيرة، بسبب خوض السودان مواجهة عنيفة مع إثيوبيا في إطار نزاعهما على منطقة الفشقة الحدودية. في غضون ذلك، يشتبه البعض في المجتمع المدني السوداني - الذي أُعيد إحياؤه في العام 2019 بعد إطاحة الرئيس عمر البشير الذي كان ضابطًا في الجيش - أن مصر برئاسة عبد الفتاح السيسي الذي كان قائدًا عامًّا للقوات المسلحة، تُفضِّل ربما وصول شخصية عسكرية إلى سدّة الرئاسة في الخرطوم.

ولكن هذه العوامل، حتى عند النظر إليها مجتمعةً، لا تفوق تلك التي تؤهّل السودان للتوسط بين مصر وإثيوبيا. فالسودان أكثر مرونة بكثير من القاهرة في قضية سدّ النهضة، ويشعر بالقلق، مثل مصر، بشأن كمية المياه التي سوف تستمر بالتدفق إلى أراضيه عندما يبدأ تشغيل سدّ النهضة، ومدى تأثير ذلك على سدّ الروصيرص السوداني. ومن هذا المنطلق، حذّرالسودان مؤخرًا إثيوبيا من المضي قدمًا بتنفيذ المرحلة الثانية من ملء الخزّان من دون التوصل إلى اتفاق بهذا الخصوص. لكن، في المقابل، سيستفيد السودان من التيار الكهربائي الذي سيولّده السدّ بتكلفة أقل، ومن تسهيل للري، وكذلك من احتمال الحدّ من الفيضانات إذا سارت الأمور على ما يرام. لهذا السبب، امتنع السودان، على الرغم من خلافاته مع مصر وإثيوبيا، عن الانحياز إلى أيٍّ منهما. وهذا الحياد النسبي سمة إيجابية يمكن أن تساعد الخرطوم على كسب ثقة الطرفَين. فضلًا عن ذلك، ثمة ثلاثة عوامل أو محفّزات إضافية تخوّل السودان إطلاق مبادرة وساطة لحلّ هذا الخلاف.

قد يكون السودان طرفًا ثالثًا في خلافٍ يدور بصورة أساسية بين مصر وإثيوبيا، لكنه لن يبقى في منأى عن التداعيات في حال نشوب نزاع بين الدولتَين المجاورتين له. بل غالب الظن أن المواطنين السودانيين سوف يتحمّلون العبء الأكبر لهذا النزاع. فالسودان سيجد نفسه، بحكم موقعه الجغرافي، عالقًا في وسط أي مواجهة عسكرية قد تحدث بين مصر وإثيوبيا اللتين لا تتشاركان حدودًا بينهما، لذا، من المرجّح أن تتحوّل السودان إلى منطقة حدودية وساحة قتال. وسوف يتعرض المجال الجوي السوداني وحتى الأراضي السودانية إلى انتهاكات دورية، وقد تتسبّب غارة جوّية تشنّها مصر على خزّانات سدّ النهضة بإغراق الأراضي السودانية. لا شكّ إذًا أن مصلحة الأمن القومي السوداني تقتضي بالدرجة الأولى الحيلولة دون حدوث ذلك.

أما العامل الثاني فيتعلّق أيضًا بخطر الفيضانات، إنما ليس من النوع الناجم عن هجوم جوّي، إذ يخشى السودان أن يؤدّي الافتقار إلى قواعد تنظيمية تحكم عمليات السدّ، إلى وقوع أخطاء تقنية من شأنها أن تتسبب بحدوث فيضانات في ظروف معيّنة. ولن يبقى ذلك شأنًا إثيوبيًا داخليًا. فنظرًا إلى موقع السدّ، ستشكّل الفيضانات كارثةً لسكّان ولاية النيل الأزرق في جنوب شرق السودان، عند تخوم إقليم بني شنقول جومز، وربما لسكّان ولايات أخرى أبعد منها. واقع الحال أن السودان لا يزال يعاني تداعيات فيضان النيل الأزرق المدمّر في أيلول/سبتمبر 2020، الذي قضى على نحو ثلث الأراضي الزراعية في البلاد وطالت تأثيراته حوالى ثلاثة ملايين شخص، وأسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص. نظريًا، يُفترَض بالسدّ أن يحدّ من وقوع الفيضانات، ولكن إثيوبيا لا تزال ترفض إجراء تقييم للأثر البيئي والاجتماعي، لذا يجهل السودان التداعيات المحتملة لأشكال الخلل التي قد تقع حين يبدأ تشغيل السدّ. ولكي يتمكّن المسؤولون السودانيون من اتخاذ الإجراءات المناسبة، يجب أن يكون لديهم المزيد من المعلومات، لهذا السبب عليهم إقناع الإثيوبيين بتليين موقفهم.

يتمثل العامل الثالث في أن نجاح السودان في الوساطة سيُعلي مكانته الإقليمية والدولية، ولا سيما أن السودان يبذل جهودًا حثيثة لإحداث قطيعة مع ماضيه كدولة منبوذة. والقيام بخطوات حذرة نحو الديمقراطية هو جزءٌ من هذه الاستراتيجية. ولكن بمقدور الخرطوم أن تبذل جهودًا أكبر بكثير لتبشّر ببروز سودان جديد على الساحتَين الإقليمية والدولية، أبرزها الحد من خطر نشوب نزاع بين قوتَين إقليميتين، وإقناعهما بالتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. فهذا الإنجاز سيمنح اندفاعة هائلة للحكومة السودانية الوليدة التي ستحقق بهذه الطريقة انتصارًا حيث أخفقت الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي، وسيُعزّز النفوذ السوداني في القرن الإفريقي.

قد يحسّن هذا العامل الأخير أيضًا من علاقات السودان مع كلٍّ من مصر وإثيوبيا، إذ إن التوسّط للتوصل إلى مصالحة بين الدولتَين الأهم في محيطه القريب ينمّ منطقيًا عن حسن نيّة السودان. وقد يحمل ذلك بوادر إيجابية للمساعي المتعثِّرة منذ وقت طويل من أجل تسوية الخلافات الحدودية بين السودان وكلٍّ من مصر وإثيوبيا، ويزيد فرص التوصل إلى حل يتلاءم مع المصالح السودانية. يخضع مثلّث حلايب وشلاتين، الذي يقع عند الحدود بين شمال شرق السودان وجنوب شرق مصر، إلى سيطرة القاهرة ولكن الخرطوم تطالب بضمّه إليها. وتتسم هذه المنطقة بأهمية اقتصادية لما تحتويه من معادن وترسّبات الذهب، ولكن قد تُبدي مصر استعدادًا لاعتماد موقف أكثر مرونة، مثلًا من خلال السماح بالسيطرة المشتركة على المنطقة وتقاسُم مواردها، في حال ساهم السودان في تهدئة الهواجس المصرية الشديدة بشأن سدّ النهضة.

أما خلاف الخرطوم مع أديس أبابا بشأن منطقة الفشقة فهو أكثر خطورة، ولا سيما على ضوء موجة العنف التي شهدتها مؤخرًا هذه المنطقة الحدودية الخصبة. تعترف إثيوبيا بأن الفشقة تقع ضمن نطاق الأراضي السودانية، ولكنها تطالب بالاعتراف بحقوق سكانها الذين ينتمي معظمهم إلى مجموعة الأمهرة العرقية التي تتداخل هويتها الوطنية مع الهوية الوطنية الإثيوبية. وعلى الرغم من خطورة هذا الخلاف، قد يكون من السهل التوصل إلى حلٍّ له، وذلك نظرًا إلى اختلافه عن الحالة التقليدية لبلدَين يتنازعان السيادة على الأرض نفسها. لن تتخلى إثيوبيا عن جماعة الأمهرة في الفشقة، ولا سيما بعد قيام القوات العسكرية السودانية بطردهم مؤخرًا من المنطقة. لكن الحكومة الإثيوبية قد توافق على الحد من تدخّلها في شؤونهم في حال قام السودان بالتوسط للتوصل إلى تسوية بين مصر وإثيوبيا تضمن بصورة نهائية القبول بسدّ النهضة وفقًا لشروط متّفَق عليها بين الطرفَين.

خاتمة

تتطلب المبادرة السودانية، مهما كانت سليمة من الناحية النظرية، قبولًا من مصر وإثيوبيا على السواء كي تتبلور فعليًا وتحقّق النجاح. لحسن الحظ، ثمة حظوظٌ وافرة بأن تبادر مصر وإثيوبيا اللتان تربطهما علاقات تجارية قوية مع السودان، إلى التعامل بإيجابية مع مبادرة من هذا القبيل. فالقاهرة حريصة على إبداء حسن نيّتها تجاه الحكومة الجديدة في الخرطوم تجنّبًا للتقليل من الروابط التاريخية التي تجمعها بالسودان. وقد أشارت مصر سابقًا إلى أنها ستُرحّب بانخراط سوداني أكبر في قضية سدّ النهضة، لذا لن يواجه السودان صعوبة كبيرة في إحراز تقدّم مع مصر.

لكن الوضع أكثر تعقيدًا مع إثيوبيا، خصوصًا بسبب الاشتباكات التي حدثت بين القوات العسكرية السودانية والإثيوبية أعلى منطقة الفشقة. لكن الحكومة الإثيوبية لا يمكنها أن ترفض مبادرة سودانية من هذا النوع ولا سيما أنها في الوقت الراهن على خلاف مع العديد من جيرانها، وكذلك مع إقليم تيغراي الإثيوبي الذي شنّت مؤخرًا حملة عسكرية عليه مستهدفةً مجموعة تطالب بالحكم الذاتي. ووفقًا للتطورات على الأرض، يبدو أن إثيوبيا بدأت تدفع ثمن توسّعها المفرط. فعلى سبيل المثال، نظرًا إلى تورُّط قواتها في مواجهات تيغراي والفشقة، لم تتمكّن من منع أريتريا المجاورة - التي قدّمت، للمفارقة، دعمًا عسكريًا لحملة الجيش الإثيوبي في تيغراي - من السيطرة على منطقة بادمي الحدودية المتنازع عليها وإنهاء القبضة الإثيوبية عليها. يُشار إلى أن إثيوبيا بغنى تمامًا عن هجوم جوّي مصري يدمّر مشروعًا تعتبره مصدر فخر وطني. لذلك، قد تلقى المبادرة السودانية على الأرجح قبولًا كبيرًا في إثيوبيا لأنها ستُبعد هذا السيناريو عن البلاد وما قد ينجم عنه من مواجهة عسكرية مكلفة.

قد يريد السودان التمسّك بوثيقة إعلان المبادئ التي وُقِّعت في الخرطوم من أجل التوصل إلى تسوية نهائية للخلاف، لكن الأولوية اليوم هي لتجنّب وقوع مواجهة عسكرية مفتوحة بين مصر وإثيوبيا، وإقناع الدولتَين باستئناف المفاوضات على نحوٍ جدّي. إذا اكتفى السودان، أقلّه في البداية، بمحاولة تحقيق تقارب بين مصر وإثيوبيا، فستكون هذه مهمة قابلة للتنفيذ ويُرجّح أن تتكلّل بالنجاح. وهذا التقارب، إذا تحقّقَ، قد يُسهّل التوصل إلى تسوية للخلافات الحدودية بين السودان وكلٍّ من مصر وإثيوبيا، ويسهم في تعزيز مكانة السودان كدولة ديمقراطية جديدة في القرن الإفريقي وخارجه. وقد تُمهّد المبادرة السودانية في نهاية المطاف الطريق أمام التوصل إلى حلٍّ دائم للخلاف القائم منذ أمد طويل بين مصر وإثيوبيا حول نهر النيل.

تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK Aid التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.