في تشرين الأول/أكتوبر 2020، غيّرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي اسم مركز الشرق الأوسط في بيروت تكريماً لمالكوم كير، الباحث الأميركي الراحل حول شؤون الشرق الأوسط والرئيس السابق للجامعة الأميركية في بيروت.
في تشرين الأول/أكتوبر 2020، غيّرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي اسم مركز الشرق الأوسط في بيروت تكريماً لمالكوم كير، الباحث الأميركي الراحل حول شؤون الشرق الأوسط والرئيس السابق للجامعة الأميركية في بيروت.
يتناول كتاب "عبد الناصر والحرب العربية الباردة" بقلم مالكوم كير، علاقات مصر مع الدول العربية الأخرى خلال فترة رئاسة جمال عبد الناصر بين العامين 1956 و1970، إذ شهدت المنطقة حينها اضطرابات كبيرة. عُرف الزعيم المصري الكاريزمي، وهو شخصية بارزة ومعقدة في العالم العربي، بتركيزه على العدالة الاجتماعية والوحدة العربية.
أعادت مؤخراً منشورات جامعة أوكسفورد نشر هذا الكتاب مع تصدير جديد بقلم رئيس مؤسسة كارنيغي بيل بيرنز ونائب الرئيس للدراسات مروان المعشّر. وتتمتّع القضايا التي تطرق إليها الكتاب اليوم بالأهمية نفسها كما قبل أكثر من خمسين عاماً، عندما نُشر لأول مرة. ويقدّم الكتاب بوصلة لفهم القوى الأساسية التي رسمت معالم الشرق الأوسط بصورته الراهنة.
إقراء المزيدكان ألبرت حوارني، الفاحص الرئيس لشهادتي في الدكتوراه في أوكسفورد، أيضاً مُرشد كير، كما كان الطرف الذي أرشدني إلى معرفة كير الواسعة، ما رَسَّخ في خاطري انطباعاً عميقاً. كنت دبلوماسياً أميركياً يافعاً أخدم في الأردن وشديد الإعجاب بأنموذج كير في مجال الانخراط الإيجابي، حتى اغتياله بوحشية موصوفة في أوائل العام 1984. لقد مثّل كير أميركا بأفضل ما فيها، في منطقة كانت غالباً لاترى فينا سوى الأسوأ.
لايزال عمل كير غير مُنجز في العديد من المناحي، بيد أن إرثه أهم الآن من أي وقت مضى. لابل أكثر: ليس ثمة لحظة أهم من اللحظة الراهنة لاستحضار روح مُثُل كير: نزاهته الفكرية، كَرَم روحه، وإيمانه الحقيقي بالوعد، في منطقة لطالما تخبّطت في لُجج الاختلالات. كانت حياته غنيّة بشكل غير عادي، لكنها قُصمت باكراً بشكل مأساوي في المدينة التي أحب، والتي مزّقتها الحرب إرباً.
لم يسمح مالكوم كير لمشاكل المنطقة أن تثنيه عن إيمانه، فهو لم يتوقّف قط عن الاعتقاد بما هو مُمكن للعالم العربي والشعب العربي. ومركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط سيمضي قدماً في رفع هذا الإرث عالياً فوق الأكف، وسيواصل توفير الفضاءات العامة لأعضاء الجيل التالي من العرب للبحث والحوار والنقاش حول مستقبلهم.
على صعيد عائلي، كلّي حماسةٌ لفكرة أن أحفادنا، الذين لم يتسنَّ لمالكوم رؤيتهم، سيتعرّفون على مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط، أو يزورونه للاطّلاع بأمّ العين على العمل الذي يقوم به المركز الذي يجسّد إلى حد كبير آمال مالكوم وتطلعاته للمنطقة العربية.
لقد اختار والدي العمل في لبنان الذي أحبّه حباً جمّاً، وتحديداً في قطاع التعليم العالي في الجامعة الأميركية في بيروت. وكان من نواحٍ كثيرة خياراً سهلاً وبسيطاً بالنسبة إليه، لكن الوقائع اليومية فعلت فعلها وألقت بوزرها عليه. وأتذكّر على وجه الخصوص الأثر العميق الذي خلّفه في نفسه مقتل نجل أحد أساتذة الجامعة عن عمر اثنَي عشر عاماً في انفجار وقع في ربيع 1983.
كان والدي ليشعر باعتزاز شديد لرؤية اسمه يقترن بالعمل الذي يقوم به أشخاص يُظهرون تفانياً كبيراً في جهودهم الآيلة إلى وضع حدٍّ لدورات العنف.
عندما قدمت إلى بيروت هذا العام، في أول زيارةٍ لي بعد خمسة وثلاثين عاماً، سُررتُ برؤية بعض الوجوه والأماكن المألوفة، لكن خلفيتي العائلية كانت ماثلة أمامي ولم يكن تجاهلها سهلاً على الإطلاق. ثم، في الأيام الأخيرة لإقامتنا هناك، عندما زرتُ مركز كارنيغي في بيروت واطلعت على أجندته البحثية، شعرتُ فجأةً بنفحة إيجابية من جديد. فقد كنت سعيداً جداً بلقاء مجموعة من الباحثين من ذوي المهارات العالية والرصانة الشديدة ممّن ينظرون إلى الأمور في المدى البعيد ويتوقّعون مساراتها ومايمكن أن تصبح عليه المنطقة مستقبلاً، من خلال برنامج بحثي يساعدهم على تحقيق رؤيتهم. وشعرتُ باعتزاز شديد عندما شرحوا لي أن هذا هو السبب الذي دفعهم إلى إطلاق اسم والدي على المركز.
كان يمضي أوقاتاً طويلة جالساً أمام ذلك المكتب، ولكن في الأوقات الأخرى، كان يلعب معنا كرة السلة في المدخل المؤدّي إلى المنزل، أو كنا نذهب برفقته إلى المسبح في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، أو نقصد الشاطئ. تلك الذكريات مطبوعة في ذهني، وقد تشوّشت التفاصيل الصغيرة المتعلّقة بكل ذكرى منها، لكنها كلها ذكريات سعيدة، ماعدا استثناءات قليلة يتحمّل شقيقاي مسؤوليتها!
غالباً ما اعتقدت، شأني في ذلك شأن جميع المراهقين، أن والدَيّ لايفقهان شيئاً، ولكنّ والدي بدا في بعض الأحيان وكأنه يلحق بالركب وبما يجري في العالم من حوله، أو على الأقل هكذا كنت أنا أنظر إلى الأمر. أتذكّر نظرة الانبهار التي بدت على وجهه عندما جرّب حذاء "نايكي" رياضياً لأول مرة. فقد أدهشه كم أن الحذاء مريح بالمقارنة مع الحذاء الجلدي الرسمي القاسي الذي واظب على انتعاله طوال حياته.
في مناسبة أخرى مماثلة، وجدته ممدداً على الأرض في غرفة الجلوس، وعيناه مغمضتان، وعلى رأسه سمّاعةٌ اشتراها جون. كان مذهولاً بمدى وضوح الصوت لدى استماعه إلى موسيقى موزار أو باخ، وذلك خلافاً لما كان الحال عليه مع مكبّرات الصوت الرخيصة والقديمة في مكتبه.
يسرّني أن أعلم أن والدي يعني الكثير لعددٍ كبير من الأشخاص، وأنه يُكرَّم لما أنجزه من عمل. أريد أن يعلم الجميع كم كان يعني لعائلته وأن مافعله من أجلنا كان حقاً أعظم إنجازاته.
بيد أن الأسوأ كان على الطريق. فبعد أيام قليلة من وصول كير، اغتيِل الرئيس اللبناني المُنتخب، وتقدّم الإسرائيليون وحلفاؤهم اللبنانيون نحو بيروت الغربية.
أجريْت أنا في البداية اتصالات معهم. كانوا على بعد مئات الأمتار شرقي السفارة والجامعة الأميركية في بيروت. أوضحت لهم الصورة وطلبت منهم ألا يحاولوا الدخول إلى أيٍّ من هذين المُجمّعَين. أطلعت مالكوم على الأمر، وكان قد التقى بهم بمفرده على بوابة بليس. قال لهم: ليس هناك عناصر مسلّحة في الداخل. لم يدخلوا، وأمضى مالكوم بقية ذلك اليوم وهو يتنقّل في أرجاء الحرم الجامعي، باثّاً الطمأنينة في صدور الطلاب، وأسرة الجامعة، في الوقت نفسه الذي كان يتواصل فيه عبر الهاتف مع العناصر في الخارج.
التقيته لاحقاً في ذلك اليوم. كان مالكوم مرتاحاً على أفضل ما تكون عليه راحة الأكاديميين في آخر أيام الصيف. تحدّث بتجرّد حول المضاعفات والتبعات طويلة الأمد لأحداث هذه المرحلة على الجامعة، والبلاد، والمنطقة. بدا وكأنه كان هناك منذ الأزل. وبمعنى ما، كان هناك بالفعل دوماً.
حظيت بشرف تمضية وقت أطول مع مالكوم في الشهور التالية. عرفت فيه ذلك المثقّف الألمعي والإداري الفذّ. كان أيضاً قائداً يتمتع بشجاعة وحَدَبٍ فائقين. لقد اغتيل في اليوم نفسه الذي غادرت فيه لبنان في ختام مهمة دامت ثلاث سنوات صاخبة، في 18 كانون الثاني/يناير 1984.
أنا الآن أدرّس في جامعة برنستون وألقي محاضرات حول تاريخ الشرق الأوسط، والسياسات، والسياسة الخارجية الأميركية. وكتاب مالكوم الرائع بعنوان The Arab Cold War (الحرب الباردة العربية) هو من القراءات المُقررة المطلوبة. وحين نناقش هذا المؤلَّف، أشعر أني أنتقل في الزمان والمكان إلى ذلك اليوم من أواخر الصيف، وأحسّ في أعماقي أن مالكوم لم يغادرنا أبداً.
The Arab Cold War: Gamal Abd al-Nasir and His Rivals, 1958-1970 (الحرب الباردة العربية: جمال عبد الناصر وخصومه، 1958-1970) (منشورات جامعة أوكسفورد)
Islamic Reform: The Political and Legal Theories of Muhammad ‘Abduh and Rashid Rida)الإصلاح الإسلامي: النظريات السياسية والقانونية لمحمد عبده ورشيد رضا( (منشورات جامعة كاليفورنيا)
كُرِّمَ كير في أسرة مهنتنا بوسائل شتى، ربما كان أبرزها حين انتُخب رئيساً لرابطة دراسات الشرق الأوسط في العام 1972. فقد كان باحثاً جريئاً، وقائداً جامعياً، يحرص دوماً على عدم الزهو والخيلاء لا في الكلام ولا في الأفعال. كانت تحليلاته مُذهلة حول المنطقة التي أحب بعمق، على الرغم من حدّتها أحياناً، لكنها كانت مستقاة من فهمه العميق والدقيق لتعقيداتها. كانت خطوة تكريم إرثه من خلال إعادة تسمية مركز كارنيغي للشرق الأوسط بإضافة اسمه إليه، موفّقة للغاية.
آخر مرةٍ رأيت فيها مالكوم كانت قبل أيامٍ قليلة من مصرعه، حين كنت أزور أهلي لتمضية عطلة عيد الميلاد آتياً من جامعة ييل حيث كنت أتابع تحصيلي العلمي. وكما عادته، دأب مالكوم على سؤالي عن أحوالي، وعما إذا كنت أتابع دروساً في العلوم الإنسانية إلى جانب المقررات العلمية التي كنت مسجَّلاً فيها بهدف الالتحاق بكلية الطب. فأجبته أنني "أُصبتُ بعدوى العلوم الإنسانية" بعد متابعتي مقرراً دراسياً عن الحضارات Civilization Sequences في الجامعة الأميركية في بيروت، وأنني شعرت بمتعة كبيرة ونلت علامات جيدة أيضاً في مقرر عن "تاريخ اليونان القديمة" وآخر عن "التاريخ والتراجيديا في أعمال شكسبير". فأعرب مالكوم عن سروره الشديد، لافتاً إلى أن الطبيب العظيم هو أولاً مفكّر إنساني عظيم. اهتمامه الصادق والحقيقي بما كنت أفعله تركَ عميق الأثر في نفسي. كنت أُقدّر له هذا الاهتمام من صميم قلبي، وأقبله بكل شكر وامتنان.
هذا هو مالكوم. ليس في الغرفة شخصٌ أكثر أهمية من الطالب أو الأستاذ أو الموظف أو المهجّر الذي يتكلّم معه. كان من الأشخاص الأكثر صدقاً ومراعاةً لمشاعر الآخرين الذين التقيتهم في حياتي. وأنا أعلم جيداً كم كان محبوباً من طلابه وزملائه ومن الموظفين في الجامعة. كان والدي الراحل يكنّ له مودّة عميقة، وكم كان هول الفاجعة كبيراً عليه عندما أخبرنا بوفاة مالكوم. علّمني مالكوم، وهذا ماتعلّمته أيضاً من أبي، أن أكون نصيراً للطرف الأضعف في كل خلاف، وأن أسعى جاهداً من أجل استحداث فرص للأقل حظوة بيننا. أشعر بحضورهما إلى جانبي في كل يومٍ من أيام رئاستي للجامعة الأميركية في بيروت، وسوف أبقى ممتناً لهذا الحضور ما حييت.
حين أصبحتُ عضواً في مجلس أمناء الجامعة العام 2007، أطلعتني آن كير، التي كانت هي أيضاً عضوة في هذا المجلس، على العلاقة الخاصة التي نسجتها هي ومالكوم مع رندا. علاقة قُيِّض لها أن تستمر إلى أن خطف الموت باكراً ابنة عمي.
بيد أني كنت أعرف مالكوم بحكم شهرته التي طفقت الآفاق. كنتُ قد انتسبت إلى الجامعة الأميركية في الفترة بين 1972 و1976 وغادرت قبل خمس سنوات من تبوؤ مالكوم منصب الرئيس فيها. لا أزال أتذكّر تلك الحماسة والإثارة اللتين سرتا في أوصال أسرة الجامعة بعد تعيينه. ولا عجب، إذ كانت تسبق ذلك شهرته منقطعة النظير كعروبي وباحث عظيم الاهتمام بالمنطقة.
أساساً، كتب مالكوم عن بروز نظامين عربيين آنذاك، أحدهما سياسي، والآخر اقتصادي برز مع الطفرة النفطية في السبعينيات. كان مالكوم، في كتابه The Arab Cold War (الحرب الباردة العربية) بالغ النقد لنظام سياسي لا يعتمد على الوحدة العربية بقدر استناده إلى التعظيم الشخصي. كما كان لاحقاً ناقداً بالقدر نفسه لنظام اقتصادي انطلق من الطفرة النفطية في السبعينيات وكان غالباً مُغرقاً في الإنفاق المادي على مشاريع لا طائل فيها أو فائدة منها. مع الوقت، تداعى هذان النظامان كلاهما: فالنظام السياسي انهار مع انطلاق الانتفاضات العربية في العام 2011، وسار في ركابه بسرعة النظام الاقتصادي مع تدهور أسعار النفط في العام 2014.
والآن، حين نُلقي نظرة تأملية على الماضي، تتكشّف لنا فداحة الوقت الطويل الذي أُهدر بفعل هذا النقص الفادح والجسيم في مجال الحوكمة الرشيدة، السياسية كما الاجتماعية- الاقتصادية. صحيح أن العالم العربي تغيّر كثيراً منذ أيام مالكوم، لكنه في مناحٍ أخرى لمّا يتغيّر قط. فبعد مرور أكثر من خمسين سنة على نشر كتابه الذي ألمعنا إليه، أدى تعثّر الحوكمة هذا إلى اندلاع الربيع العربي. كما أن وجود أنظمة الرجل الواحد والحزب الواحد، المتشابكة مع غياب الاهتمام ببناء مؤسسات فاعلة وفعّالة، عنى أن الفراغ الذي تركه انهيار النظام العربي القديم لن يجري ملؤه سوى من أنظمة دينية، أو من قوى مُتطرفة ومتعصّبة، أو كليهما.
لايزال إنجاز مالكوم الرؤيوي بعد نصف قرن، يُلهم العديد من الناس الذين يحلمون بعالم عربي يستطيع النهوض من كبوته، وإطلاق طاقاته الكامنة وقدراته الكاملة، وتطوير أنظمة سياسية واقتصادية جديدة تُسدد خطاها الحوكمة الرشيدة واحترام التعددية. وأنا كرئيس لبرنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي، أشعر أني محظوظ وممتّن لكوني طرفاً في هذا الجهد.
أتذكّر موقفاً برز في سفارتنا آنذاك بعد نحو عقد من حرب 1948، قوامه أن الجامعة الأميركية في بيروت تُعتبر معقلاً للانتقادات الحادة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وأن ثمة توترات بين السفارة وبين الجامعة. أنا شخصياً لم أختبر هذا الأمر، إذ أن مسؤوليتي اقتصرت على تطوير بعض المهارات في قراءة وكتابة اللغة العربية، وحضور فصل في الجامعة الأميركية حول التاريخ العربي، وتجنّب حرف انتباهي، مثلاً عبر القيام بتبرير السياسة الخارجية لحكومتي.
على أي حال، العلاقات الاجتماعية بين موظفي السفارة وبين الجامعة كانت ضئيلة. لكن مع مرور الأيام، نمت علاقاتنا مع آل كير، لكنها كانت متقطعة. فعائلته رحّبت بابني في منزلها في "باسيفيك باليسايدس" حين كنّا في طريقنا إلى مانيلا بعد إتمام مهمتي كسفير في دمشق، فيما كان مالكوم يدرّس في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجيليس. وجد مالكوم ابننا ظريفاً، وفي المقابل أُعجب ابننا بامتلاك عائلة كير لأفعى أليفة اسمها ستيلا. شعرنا بالحزن والغضب حين تواترت الأنباء عن اغتيال مالكوم في بيروت.
على مر السنين، أتاحت المنح الدراسية التي تحمل اسم مالكوم كير، والتي تتكرّم بتقديمها عائلة كير وأصدقاؤه، للعديد من الطلاب المحظوظين متابعة تحصيلهم العلمي في الجامعة الأميركية في بيروت التي كان مالكوم متمسّكاً بقيمها التعليمية وحريصاً على صونها. وتتسنّى لجميع الطلاب، من خلال الاطلاع على كتاباته، فرصة الغوص في فكره النقدي وإدراك أهمية التعليم والتفاهم في إرساء السلام في المنطقة. وحتى في يومنا هذا، لاتزال هذه الرسالة فائقة الأهمية.
كزميل، ساعد مالكوم على توجيهي، حين كنت دكتوراً طري العود ولدي اهتمام خاص بالجزائر، ودفعني إلى الالتفات إلى العالم الأوسع للدراسات السياسية الشرق أوسطية، بما في ذلك القضية الفلسطينية. كان دائماً مُستعداً لقراءة مسودة مقال، أو اقتراح مراجع، أو تعريفي على باحثين آخرين. لا بل كان يطلب مني أيضاً أن أتولى دوره في التعليم في الجامعة خلال غيابه المتقطع. وهكذا، لم يطل الوقت قبل أن تتحوّل اتصالاتنا المهنية إلى صداقة حقيقية. هذه الصداقة شملت أيضاً آن كير، وكانت رؤية مالكوم معها ومع الأولاد في منزلهم الجميل في "باسيفيك باليسايدس" مصدر سعادة وإلهام لي دوماً. أتذكّر ستيف كير الفتي وهو يلعب كرة السلّة مع والده في ممر المنزل. لم أكن أعرف آنذاك أنه سيحترفها في المستقبل.
حين طُلب من مالكوم العودة إلى لبنان لتسنّم رئاسة الجامعة الأميركية في بيروت، ناقش هذا الخيار معي، وكان واضحاً أنه أحسّ بنداء داخلي حقيقي يدعوه إلى قبول هذا التحدي. كان يعشق بيروت. كان يحب الجامعة الأميركية في بيروت، ولم ترتعد فرائصه من المخاطر التي كانت واضحة وجلية في ضوء النزاعات المتواصلة في لبنان وحوله. أعتقد أنه كان قادراً على التأثير والتغيير، وأمضى سنواته الأخيرة محاولاً حماية المؤسسة، التي اهتم بها بعمق، من مروحة التهديدات العديدة التي كانت تُواجهها.
لا شيء أجدر وأكثر توفيقاً من فكرة إضافة اسم مالكوم كير إلى اسم مركز أبحاث بارز في بيروت. فهذا سيذكّر الأجيال اللبنانية والأميركية المستقبلية بباحث رائع، وصديق حقيقي للبنان ولشعبه، وبشخص كريم ونبيل نجح في تقديم أفضل ما يمكن للأميركيين المساهمة به لمنطقة الشرق الأوسط.
تدرّب مالكوم على أيدي مستشرقين كان يكنّ لهم احتراماً شديداً، لكنه لم يكن مستشرقاً لأنه رأى العالم العربي بتنوّعه وتناقضاته كافة. لابل ساهم في نزع الطابع الاستشراقي عن الشرق الأوسط، فجعله أقل غرابة وأكثر ألفةً، وجعل منه مصدر تهديد أقل وأتاح للعالم الخارجي فهمه على نحوٍ أفضل بكثير. بهذا المعنى، كان مالكوم باني جسور، وهمزة وصل، ومترجماً بين عالمَين مختلفين. لكنه لم يكن رومانسياً ولا مدافعاً متعصّباً عن العالم العربي أو الولايات المتحدة وحلفائها. بل كان، بوصفه مفكّراً مستقلاً، منصفاً في نقده لمختلف الأفرقاء. ولذلك، إنها لَخطوةٌ سديدة تماماً أن يُطلَق اسم مالكوم على المركز الإقليمي لمؤسسة كارنيغي، فالمركز يسعى أيضاً إلى بناء جسور بين عوالم مختلفة من خلال الأبحاث والدراسات النقدية.