باتريك تايلر | صحافي سابق في واشنطن بوست، وبعدها في نيويورك تايمز. مؤلف كتاب "عالم من المتاعب: البيت الأبيض والشرق الأوسط، من الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب" (A World of Trouble: The White House and the Middle East—from the Cold War to the War on Terror) و"حصن إسرائيل: القصة الكاملة حول النخبة العسكرية التي تدير البلاد، ولماذا لاتستطيع تحقيق السلام" (Fortress Israel: The Inside Story of the Military Elite Who Run the Country—and Why They Can't Make Peace)
كانت القوة الأميركية المحور الأساسي في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولم يتمكّن من تغيير ذلك أي تحدّ بدءاً من الاتحاد السوفياتي وبعده روسيا، وصدام حسين، وآية الله روح الله الخميني، وأسامة بن لادن، وصولاً إلى تنظيم الدولة الإسلامية. مع ذلك، فالسياسات الداخلية المتبدلة في الولايات المتحدة تضعف الالتزام الأخلاقي غير المحدود بالسلام والعدالة في الأراضي المقدسة.
لقد أطلقت المثالية السابقة للرئيس باراك أوباما توقعات جديدة بإمكانية إرساء السلام، لكنه لم يتمكّن من حشد غالبية سياسية لتنفيذ أي خطط تتجاوز الإجماع على عمليات عسكرية لا علاقة لها بأجندة السلام، ما يضعف قوة الولايات المتحدة ونفوذها. من جهته، تبنّى الرئيس دونالد ترامب سياسة محورها إسرائيل وتغازل القيادة العربية السنّية في إطار مقاربة عسكرية التوجّه ضدّ إيران وطيف المسلحين الإسلاميين.
باختصار، أُسس القوة الأميركية تتحوّل بسرعة. فالقوة العسكرية الخشنة تسير في منحى تصاعدي، بينما المبادئ التي تقوم عليها الدبلوماسية الأميركية منذ العام 1949 فقدت قاعدتها السياسية.
حسين إبيش | باحث أول مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن العاصمة
إذا طبّقنا معظم المقاييس الأكثر موضوعية، نجد أن القوة الخشنة الأميركية (العسكرية)، والقوة الناعمة (العلمية والثقافية والإنسانية)، والقوة "اللزجة" (الاقتصادية) في الشرق الأوسط لم تتبدّل إلى حد كبير منذ أربع أو ثماني سنوات. فلاتزال واشنطن تُعتبر القوة الخارجية الغالبة في المنطقة، ويمكن القول إنها اللاعب الوحيد الأكثر تأثيراً فيها.
مع ذلك، أخذ النفوذ الأميركي في التقهقر خلال السنوات الأخيرة على إثر مروحة من العوامل وهي: تحفّظ الولايات المتحدة عن استخدام القوة العسكرية؛ والصعود المصاحب لذلك لقوى إقليمية مثل إيران، فضلاً عن عودة روسيا كلاعب في الساحة الشرق أوسطية؛ والإدراك أن القيادة الأميركية كانت غير فعّالة - سواء في العراق أو سورية- في احتواء إيران، وحتى في التوسّط للتوصّل إلى اتفاق سلام إسرائيلي- فلسطيني.
قامت إدارة ترامب بترميم العلاقات المُنهكة مع شركاء تقليديين مثل إسرائيل والسعودية، واتخذت موقفاً كلامياً أكثر صرامةً ضد أنشطة إيران المُزعزعة للاستقرار. غير أنها لم تتخذ بعد أي خطوات جوهرية من شأنها تبديد الانطباع واسع الانتشار بأن القوة الأميركية تتقهقر تدريجياً وبشكل لا رجعة فيه، سواء على مستوى العالم أو في الشرق الأوسط. لذلك، فقوة الولايات المتحدة اليوم، في أفضل الأحوال، شبيهة بتلك التي كانت في عهد إدارة أوباما، ويمكن القول إنها تواصل معاينة تدهور بطيء لكن مطرد كان بدأ عقب غزو العراق.
سليم يعقوب | أستاذ في مادّة التاريخ في جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا، ومؤلف كتاب "احتواء القومية العربية: عقيدة أيزنهاور والشرق الأوسط" (Containing Arab Nationalism: The Eisenhower Doctrine and the Middle East) في العام 2004 و"ليسوا غرباء تماماً: الأميركيون والعرب والعلاقات الأميركية-الشرق أوسطية في سبعينيات القرن العشرين" (Imperfect Strangers: Americans, Arabs, and U.S.-Middle East Relations in the 1970s) في 2016
بنى باراك أوباما قلعة من الرمال قرب أمواج متقلّبة. وكلما ارتفع الموج، حفر خنادق حول جدران القلعة. هذه الإجراءات أبطأت لكنها لم تتمكن من وقف تآكل ما صنعته يداه. لقد فكّر في نفسه قائلاً "لماذا أزعج نفسي؟ هذه الرمال شديدة التحرّك وغير مناسبة لبناء قلعة على أي حال". بعد ذلك، حان بالطبع وقت مغادرته. جاء بعده دونالد ترامب وراح يتبختر على الشاطئ، ويتأفف مما صنعه سلفه، وبدأ بركل الأبراج العالية. لكن معظم ركلاته لم تصب سوى الفراغ، واقتصر الأمر على بعض الأضرار المتواضعة. وسرعان ما تعب من الجهد الذي بذله وتجوّل للبحث عن هاتفه. وراح المدّ ينسكب رويداً رويداً في الخنادق المهملة والمتلاشية وأخذ يحيط جدران القلعة بقوة أكبر. غير آبه بما يحصل، حمل الرئيس هاتفه وأوعز إلى متتبعيه البالغ عددهم 47.8 مليوناً على تويتر مغرّداً: "ترك أوباما لي فوضى عارمة في الشرق الأوسط. كان ينبغي إصلاح الوضع منذ سنوات، والآن فات الأوان. مؤسف ماحدث!"
بيري كاماك | باحث في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وعضو سابق في طاقم تخطيط السياسات الخاص بوزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري بين عامَي 2013 و2015، حيث عمل على مسائل متعلقة بالشرق الأوسط
في وقتٍ مبكر من هذا الشهر، هوى مؤشّر داو جونز الصناعي على مدى خمسة أيام أكثر من 2300 نقطة، ماشكّل الهبوط الأكثر حدّة في تاريخه. لم يعرف أحدٌ سبب ذلك، لكنّ المستثمرين الناجحين يدركون، على خلاف المعتقدات السائدة في الأوساط الأكاديمية، أنه يمكن لأحاسيس السوق ومقوّمات الاقتصاد أن تتباين بشكلٍ حادّ.
يرى عالم السياسة صموئيل هنتنغتون أن القوة تتألّف من مكوّنات ستة هي: الاقتصاد والجيش والدبلوماسية والإيديولوجيا والتكنولوجيا والثقافة. في معظم هذه النواحي، لاتزال الولايات المتحدة هي الأقوى في الشرق الأوسط. لكن ربما كان حريٌّ بهانتينغتون أن يضيف مكوّناً سابعاً: ففي السياسة، كما في الأسواق المالية، تُعتبر القوة مزيجاً من الحقائق الموضوعية من جهة، والغرائز الفطرية من جهة أخرى.
تجهد إدارة ترامب لبلورة مقاربة متّسقة للشرق الأوسط، في خضمّ موجة انعدام الكفاءة والفضائح التي تعصف بها من كلّ حدبٍ وصوب. لكن مكابدات أميركا في المنطقة لم تبدأ في العام 2017، بل واجهت إدارة أوباما أيضاً صعوبة في الاستجابة بشكلٍ فعّال للأزمتين السورية المصرية وغيرهما، في ظلّ تفسُّخ الشراكات الأمنية. وإن عُدنا بالزمن إلى الوراء، نرى أن الدخول المُظفَّر للدبابات الأميركية إلى بغداد في شهر نيسان/أبريل 2003 شكّل ذروة النفوذ الأميركي في المنطقة. أما في الأعوام الخمسة عشرة التي تلت ذلك، فباتت الولايات المتحدة تتأرجح بين التدخّل الساخن من جهة، والانكفاء البارد من جهة أخرى، من دون تحقيق نجاح يُذكر في كلا الخيارين.
إن الزمن كفيلٌ بإظهار ما إذا سيأتي يوم تلتقي فيه مجدّداً الأحاسيس والمقوّمات.
تعليقات القراء(1)
لا نقاش في أن دولة عظمى كالولايات المتحدة لا تعوزها مقومات القوة من صلبة وناعمة أو لزجة، لكن ما تفتقد إليه هو رؤية متوازنة لكيفية إدارة تلك المقومات في ساحة مضطربة كالشرق الأوسط. ما سعى إليه باراك أوباما لم يكن سعياً نحو نموذج ينأى عن الواقعية في عالم تتقاطع فيه المؤثرات على المستوى السياسي بشكل بالغ التعقيد، وإنما رمى لفتح نافذة تطل على قضايا هذا العالم من زاوية مختلفة عما دأبت عليه السياسات المتعاقبة لبلاده، في فترة ما بعد الحرب الباردة، وإن كان قد اكتشف مع نهاية ولايته أنه خيار وعر المسالك، لا سيما فيما يتعلق بطريقة مقاربته للقضية الجوهرية في الشرق الأوسط، وهي قضية الصراع العربي – الإسرائيلي. مع ذلك، فإن القول بأنه بنى قلعة على الرمال، هو حكم يشوبه التعسف، لأن الولايات المتحدة ستكتشف آجلاً، وبالتأكيد لن يحصل ذلك في مرحلة ترامب، بأن القوة المبنية على فهم حاجات الشعوب، في منطقة لطالما افتقرت إلى مقاربة القوى الدولية الفاعلة لتطلعاتها نحو الاندماج في النظام العالمي، من منطلق الشريك الفاعل وليس التابع المنفعل والمتأثر وحسب، هي القوة المعول عليها في إحداث فضاء من شأنه تلبية حاجات الشعوب كافة، من منطلق التلاقي والتلاقح الحضاري، وليس الصدام بالضرورة على طريقة هنتنغتون. إن حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، وفهماً أوفى لدور ومصالح قوى صاعدة، كالصين وروسيا، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فضلاً عن دور أوروبي يوازن الجنوح الأمريكي نحو القوة الخشنة، ودور أفعل للقوى الإقليمية الوازنة، ونظرة متفهمة إلى حاجة كل شعب في تقرير مصيره، من منطلق إعادة إحياء روح مبادئ ويلسون، ووضع تعريف واضح للتمييز ما بين الإرهاب وحق الشعوب في مقاومة كل أشكال الظلم والهيمنة، كلها أمور تحتاج أمريكا إلى وضعها في الميزان، في نسج سياسة مفيدة لها وللعالم. وبالتأكيد لا يمكن إدارة العالم بشكل فاعل، على طريقة ترامب في إدارة الشركات، فالعالم شراكة وليس شركة.
سياسة التعليقات
التعليقات التي تتضمن لغة غير لائقة، وحملات شخصية، أو أي مواد أخرى غير لائقة، ستحذف. فضلاً عن ذلك، المدرجات غير الموقعة أو التي تحتوي على "توقيعات" من شخص آخر غير المؤلف الحقيقي، ستحدف. وأخيرا، ستتخذ خطوات لحجب المُستخدمين الذين يخرقون أي معيار من معايير النشر وشروط الاستخدام، وسياسات الخصوصية أو أي سياسات أخرى تحكم هذا الموقع. أنت مسؤول كلياً عن مضمون تعليقك.