في مطلع شباط/فبراير 2018، قامت سارة يركيس وهدى مزيودات بزيارة ولايتين في الداخل التونسي – وهما سيدي بوزيد وسليانة – في محاولة لاستطلاع التوقّعات المحلية حيال الانتخابات البلدية في 6 أيار/مايو وعملية اللامركزية الأوسع في البلاد.
سيدي بوزيد، التي تقع على بُعد 265 كيلومتراً جنوب غرب تونس العاصمة، هي المدينة التي انطلقت منها شرارة الانتفاضة التونسية في كانون الأول/ديسمبر 2010. وسليانة التي تقع في الطرف الجنوبي من الإقليم الشمالي الغربي في تونس، تبعد عن العاصمة حوالى 128 كيلومتراً غرباً، وهي في الأساس منطقة زراعية تغتني بآثارها الرومانية والبيزنطية. كانت المنطقتان مهمّشتين خلال نظاميْ الرئيسان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، ما أدّى إلى تراجع مستويات التنمية الاجتماعية والاقتصادية بشكل كبير فيهما بالمقارنة مع المناطق الساحلية. فعلى سبيل المثال، تمّ تخصيص 82 في المئة من أموال الدولة للمناطق الساحلية، مقارنة بنسبة 18 في المئة فقط للداخل، في آخر موازنة أُعدّت في عهد نظام بن علي.
مع انطلاق الرحلة من العاصمة التونسية، يمكن أن يلحظ المرء المعالم الأولى للتفاوت الكبير بين الساحل والداخل. فالطريق السريع بين تونس العاصمة والقيروان، التي يبلغ طولها 160 كيلومتراً تقريباً جنوباً، في حالة جيدة، كما أنها واسعة وحسنة الصيانة. لكن، إذا ما نظرت إلى مسافة أبعد جنوباً، تصبح معالم الطريق غير واضحة، فتكون في بعض الأحيان طريقاً ترابياً بالكاد يمكن المرور عليه، وأحياناً أخرى يكون عبارةً عن طريق سريع بدائي، مايضاعف بشكل كبير الزمن الذي تحتاجه للوصول إلى أي وجهة تقصدها.
ومع ابتعادنا أكثر فأكثر عن تونس العاصمة، استوقفنا مشهدان يشيان بالتحديات الاقتصادية التي يواجهها الداخل: الأول يُظهر العديد من الشباب جالسين في المقاهي أو في زوايا الشوارع في ظهيرة يوم عمل عادي؛ والثاني مشهد القوارير المليئة بالغاز المهرّبة من الجزائر، وهي أحد الأمثلة على الاقتصاد غير الرسمي الذي يسيطر على الداخل التونسي. الجدير ذكره هنا أن الحكومة المركزية اتّخذت، منذ الانتفاضة، خطوات لتحسين اقتصاد الداخل من خلال برنامج "التمييز الإيجابي"، الذي يهدف إلى توفير التوزيع العادل (بدل المتساوي) للموارد، بدءاً بالدعم من موازنة الدولة وصولاً إلى الموارد الإدارية والبشرية. وقد صُمم هذا البرنامج لتوفير تكافؤ الفرص بين التونسيين في جميع أنحاء البلاد، بغض النظر عن المكان الذي يقطنون فيه.
كان الأشخاص الذي تحدثنا معهم، في كلّ من سيدي بوزيد وسليانة، من ناشطين في المجتمع المدني ومسؤولين حكوميين ومرشحّين للانتخابات البلدية، أكثر تفاؤلاً وواقعيةً من أولئك الذي تحدثنا معهم في تونس العاصمة حول ما قد تُحدثه عملية اللامركزية من تغيير. في الداخل، ينظر الناس إلى اللامركزية باعتبارها وسيلة لضمان السيطرة المحلية على الشؤون المحلية. وفي المناطق البعيدة جغرافياً وسايكولوجياً عن العاصمة، يأمل السكان أن يؤدي وضع سلطات صنع القرار في أيدي السكان المحليين إلى زيادة فعالية توزيع الموارد لتلبية الاحتياجات المحلية بشكل أفضل.
في الوقت نفسه، كان السكان الذي حاورناهم في سيدي بوزيد وسليانة واقعيين في توقّعاتهم أيضاً. وكما قال مندوب محلي في سيدي بوزيد: "يجب أن نكون حذرين في ما يتعلق بالديمقراطية المحلية، لأن الديمقراطية هي آلية لاتحقق دائماً النتائج الأفضل". وشدّد على الحاجة إلى انخراط المواطن بشكل أكبر في عملية صنع القرار، وهو هدف آخر للامركزية تكرّر مرات عديدة خلال محادثاتنا. وفي حين أن الدعم الشعبي للنظام السياسي متدنٍ للغاية في جميع أنحاء البلاد، إلا أنه ثمّة شعور ملموس بالأمل في المناطق الداخلية في تونس بأن تُحدث اللامركزية تغييراً إيجابياً.

خريطة تونس السياسية

تعجّ سيدي بوزيد بآثار الانتفاضة التونسية ومحمد البوعزيزي، الشاب الذي أضرم النار في نفسه في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، مُشعلاً فتيل الانتفاضة. وتشتهر الساحة التي تُعرف الآن باسم ساحة البوعزيزي وسط سيدي بوزيد بتمثال لعربته التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه. واليوم، بات التمثال موقع حجّ بالنسبة إلى الناشطين التونسيين. وتغطي التمثال شعارات الحركات الاحتجاجية الأخيرة مثل "مانيش مسامح" و"فاش نستنو".

هذه لوحة جدارية لمحمد البوعزيزي على مبنى البريد الواقع في ساحة البوعزيزي، مقابل مقر الولاية. حصدت سيدي بوزيد شهرة باعتبارها مهد الانتفاضة واستقطبت العديد من الزوار من جميع أنحاء العالم في الأشهر التي تلت كانون الثاني/يناير 2011، وكانت النتيجة أن أعطت الحكومة المركزية الأولوية لتشييد الطرقات وتطوير البنى التحتية الأخرى في سيدي بوزيد، بينما أهملت الولايات المجاورة. تشعر وأنت تقود على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مدينة سيدي بوزيد وكأنك تسير في أطراف تونس العاصمة، في جادّة مليئة بالمحال التجارية والمقاهي الممتدة على طول الشوارع. إضافةً إلى ذلك، تجد فندقاً عصري التصميم بالقرب من طرف المدينة، وأثناء تواجدنا هناك، كان مطعمه مكتظّاً بتونسيين شباب يستمتعون بارتشاف قهوة منتصف النهار.

تغطي الكتابات والشعارات جدران ساحة البوعزيزي. قبل الانتفاضة، كانت المساحات العامة مغلقة أمام الشباب. وبعد سبع سنوات، لايزال الشباب المحليون يحاولون الحصول على مساحة لأنفسهم في الحياة العامة. وتُعتبر هذه على حد تعبير أحد ممثلي المجتمع المدني، مسألة كرامة. فشباب سيدي بوزيد يحاولون إيجاد توازن بين مواجهة الدولة وبين الانتماء إليها.

لا يزال متحف الثورة مجرّد باب في الوقت الحالي. ففي حين بدت السياحة الثورية وكأنها قطاع مربح خلال السنوات الأولى بعد العام 2011، إلاّ أن الوضع الأمني المتدهور في جميع أنحاء البلاد في 2013-2015 وأعمال العنف المتقطعة في سيدي بوزيد وجبل الشعانبي المجاور أخافت العديد من الزوار الدوليين الذين لم يعودوا بعد.

يُعتبر "المركب الشبابي 17 ديسمبر" في سيدي بوزيد مركزاً لممارسة مجموعة متنوعة من الأنشطة الرياضية والفنية التي تهدف إلى "إبقاء الشباب منشغلين"، وفق أحد الناشطين المحليين. الجدير ذكره هنا أن سكان سيدي بوزيد يحيون ذكرى الانتفاضة في 17 كانون الأول/ديسمبر بدلاً من اليوم الوطني الرسمي للذكرى الواقع في 14 كانون الثاني/يناير.

رسوم فنيّة على جدران المركز الشبابي. زرنا، إضافةً إلى المركز الشبابي، أكاديمية الابتكار المموّلة من شركة مايكروسوفت في المعهد العالي للدراسات التكنولوجية في سيدي بوزيد. وقد سجّلت هذه الولاية تحسّناً ملحوظاً على عددٍ من المؤشّرات الخاصة بالولايات، إذ انتقلت من المرتبة الثالثة والعشرين من أصل أربع وعشرين ولاية على مؤشّر جاذبية الولايات في العام 2015، إلى المرتبة الثالثة عشرة في العام 2016.

مطعم محلّي تذوّقنا فيه ما لذّ وطاب من المنتوجات التي تتميّز بها المناطق الزراعية في سيدي بوزيد واستنشقنا بعضاً من الهواء النقي. ومع أن سيدي بوزيد معروفة بالانتفاضة والمظاهرات السياسية، شدّد مضيفنا، وهو ناشط في المجتمع المدني، على أنها تنطوي على الكثير من الجوانب الأخرى، وأعرب عن أمله بأن تعزّز الانتخابات البلدية حضور هذه الولاية في نفوس التونسيين. كذلك، يرى مضيفنا أنه من الصعب على الحكومة فهم واقع الحياة في الولاية، لأن ما من مسؤول رفيع في الحكومة المركزية يتحدّر من سيدي بوزيد.

يمكن رؤية آثار جزء من قناة زغوان على الطريق التي تربط بين تونس العاصمة وسليانة. وقد كانت هذه القناة إحدى أطول القنوات التي شُقَّت في عهد الإمبراطورية الرومانية، إذ إنها تمتدّ على طول 132 كيلومتراً بين قرطاج وزغوان. وتزخر تونس بمروحة متنوعة من المواقع الأثرية المماثلة التي تعاني من نقص التنمية والغائبة عن الخارطة السياحية.

غالباً ما يُفاجأ زوّار المناطق الداخلية بأراضيها الخضراء الشاسعة. إذ تنتشر في المناطق الغربية أشجار الزيتون والأراضي الزراعية والمناظر الطبيعية الخلّابة (كما في هذه الصورة). يأمل أحد المرشّحين في الانتخابات البلدية في بلدة كسرى الواقعة في ولاية سليانة بأن يؤدّي إرساء اللامركزية إلى توفير الموارد الضرورية للمساعدة في تحديث البنى التحتية الزراعية في البلدة. فمع أن البلدة تتمتع راهناً بوفرة في المحاصيل الزراعية، إلا أن المعدّات المتوفرة للحصاد وجني الغلال قديمة ومتأخّرة.

قال لي مغترب أميركي مقيم في تونس العاصمة إن الداخل التونسي يعجّ بالكثير من المواقع الأثرية "المتناثرة". لكنني مع ذلك دُهشت بجمال وجلال الموقع الأثري في مدينة مكثر، في سليانة، وهو عبارة عن مستوطنة رومانية سابقة محفوظة بعناية، وتتضمّن باحة وقوس تراجان الظاهرين في الصورة. عثرنا على هذا الموقع صدفةً ولم يُشِر إلى وجوده سوى لوحة صغيرة معلّقة على أحد الجدران، وبالكاد يمكن رؤيتها من الطريق.

المزيد من الآثار في مكثر. شدّد ممثّلو المجتمع المدني اللذين تحدّثنا معهم في سليانة على الحاجة إلى تعزيز السياحة في منطقتهم. فمع أن سليانة تعجّ بمواقع يمكن أن تحظى باهتمام السيّاح، لايزورها أيٌّ من الأجانب تقريباً وقلّة قليلة فقط من التونسيين. إذن، يرى سكّان سليانة أن أحد أهداف اللامركزية هو إطلاع المزيد من الناس على هذه المواقع وتطوير البنية التحتية لحمايتها كما ينبغي.

تُعدّ كسرى الواقعة في سليانة أعلى بلدة مأهولة بالسكّان في تونس. كان أحد ممثّلي المجتمع الدني الذين التقينا بهم يقوم ببناء فندق للشباب في أعالي كسرى لجذب السيّاح. تظهر في هذه الصورة الحروف الرومانية المنقوشة على جدران فندق الشباب.

تملك سليانة جذوراً أمازيغية مهمة. وتظهر في هذه الصورة حروف ورموز أمازيغية رُسمت على أدراجٍ في كسرى العليا. شاهدنا ونحن هناك وصول حافلات سياحية تقلّ وفداً من السيّاح التونسيين، من ضمنهم ممثّلة تونسية معروفة، أتوا للتنزّه بين تلال كسرى وتذوّق الخبز الأمازيغي والمنتجات الزراعية المحلية.

يقع في قمة كسرى العليا متحف متخصّص في الجذور التاريخية الغنيّة لهذه البلدة والتي تتراوح من الرومانية والبيزنطية والأمازيغية وصولاً إلى التاريخ المعاصر. ويضم المتحف إشارات واضحة بالإنكليزية والعربية والفرنسية، لكنني كنت الزائرة الوحيدة غير التونسية هناك في فترة بعد الظهر من يوم أحد جميل. وأعرب أحد الأشخاص الذين استضافوننا عن إحباطه من عدم اتّخاذ الحكومة المركزية أي خطوات للاستثمار في حماية الكنوز الأثرية في كسرى، قائلاً إنه تقدّم بطلبات كثيرة إلى الهيئات المعنية بالآثار لحماية إحدى البنى البيزنطية المتداعية في كسرى العليا، إلا أنه لم يلقَ آذاناً صاغية.

يُشرف جبل سمامة على كسرى. وتستخدم الخلايا الإرهابية المرتبطة بكلٍّ من تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية الجبال المنتشرة على الحدود بين تونس والجزائر كملاذ ولإطلاق الهجمات. وقد خلّفت هذه المنطقة الجبلية الحدودية تبعات نفسية واقتصادية عميقة على المناطق الغربية، على الرغم من بعدها الجغرافي عنها – فقد نفّرت المستثمرين والسيّاح، فيما سعت الخلايا الإرهابية إلى تجنيد الشباب التونسيين العاطلين عن العمل في صفوفها.

هذا هو المنظر الطبيعي الذي يُرى عند النظر من كسرى العليا نحو الأراضي الزراعية. تتمتّع منطقة سليانة بإمكانيات زراعية هائلة، فهي معروفة بأنها "بلدة التين" وهي تنتج كميّات كبيرة من زيت الزيتون الذي تصدّره تونس إلى الخارج. قال أحد ممثّلي المجتمع المدني الذين التقينا بهم في كسرى إن البلدة قادرة لأن تصبح نموذجاً للزراعة العضوية والسياحة البيئية، شرط تعزيز حضورها وتحسين بنيتها التحتية وزيادة الاستثمار فيها.

أحد الرجال المحليين يطلّ من فوق على بلدة كسرى. يحاول السكان المحليون إيجاد وسائل لمشاركة منطقتهم مع التونسيين الآخرين. تنظّم "كلّنا كسرى"، وهي منظمة محلية في المجتمع المدني، "ماراتون كسرى" الثاني في 22 نيسان/أبريل. يمتدّ مسار السباق على طول 18 كيلومتراً (إضافة إلى المسار الأقصر البالغ 6 كيلومترات) ليأخذ العدّائين في جولة فريدة على تلال كسرى الجميلة. خلال العام الأول للحدث، الذي أُجري في نيسان/أبريل 2017، ضمّ المشاركون عدّائين من جميع أنحاء تونس وكذلك من شمال أفريقيا.

قصر البلدية في كسرى. التقينا بمرشّحين للانتخابات البلدية التي ستُجرى في 6 أيار/مايو - وكلاهما شابان مرشّحان ضمن قوائم مستقلة. يريان الانتخابات فرصةً لإيصال المزيد من الشباب إلى مراكز السلطة. وذكر أحدهما أنه في الوقت الراهن حتى لو كان النساء والشباب أعضاء ناشطين في حزب سياسي، غالباً ما يتم "استبعادهم" عندما يحاولون الترشّح لتولي منصب وطني. وواقع أن أكثر من 50 في المئة من المرشّحين للانتخابات البلدية على صعيد البلاد هم دون سن الخامسة والثلاثين، وأكثر من 75 في المئة منهم هم دون سن الخامسة والأربعين، يُعتبر مؤشراً إيجابياً.
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
تعليقات القراء
سياسة التعليقات
التعليقات التي تتضمن لغة غير لائقة، وحملات شخصية، أو أي مواد أخرى غير لائقة، ستحذف. فضلاً عن ذلك، المدرجات غير الموقعة أو التي تحتوي على "توقيعات" من شخص آخر غير المؤلف الحقيقي، ستحدف. وأخيرا، ستتخذ خطوات لحجب المُستخدمين الذين يخرقون أي معيار من معايير النشر وشروط الاستخدام، وسياسات الخصوصية أو أي سياسات أخرى تحكم هذا الموقع. أنت مسؤول كلياً عن مضمون تعليقك.