المصدر: Getty
مقال

انبعاث الشيعة

تشهد الطائفة الشيعية في سورية تغييراً سياسياً ومؤسسياً كبيراً.

 مهنّد الحاج علي
نشرت في ٤ مايو ٢٠١٧

بعد أربعة أعوام على ظهور حزب الله اللبناني لأول مرة في سورية، وبعد النصر العسكري الذي تحقّق في حلب في كانون الأول/ديسمبر الماضي، يشهد المذهب الاثني عشري الشيعي في سورية تغييراً كبيراً. صحيح أن هذه الطائفة لاتشكّل سوى واحد إلى اثنَين في المئة من مجموع السكّان في البلاد، أي بضع مئات آلاف الأشخاص على أبعد تقدير، إلا أنها خضعت إلى عسكرة واسعة منذ العام 2012. وهي تطالب الآن بحصة أكبر في السلطة، إلى جانب الطائفة العلوية التي ينتمي إليها آل الأسد.

ظهرت الميليشيات الشيعية العراقية، تحت راية لواء أبو الفضل العباس، لأول مرة في ناحية السيدة زينب ذات الأكثرية الشيعية في دمشق، حيث استقرّ آلاف الحجّاج واللاجئين الشيعة، ومعظمهم جاؤوا من العراق خلال حكم صدام حسين، بدءاً من مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وحصل بعضهم على الجنسية السورية.

مع احتدام المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق بعد العام 2014، عاد عدد كبير من المقاتلين العراقيين إلى ديارهم، فيما انضمّ آخرون إلى الميليشيات العراقية التي تقاتل في سورية، مثل حركة النجباء. فتسنّت بذلك الفرصة أمام الشيعة في سورية لتوسيع استقلاليتهم تحت مظلة المجموعات المسلحة التي تقودها إيران. وفي مؤشّر عما تتمتّع به من تمكين ذاتي متنامٍ، أنشأت الميليشيات الشيعية السورية العام الفائت وحدة أطلقت عليها اسم "اللواء 313 مهام خاصة". بيد أن قيادة القوات الشيعية في سورية تبقى عموماً غير سورية في أكثريتها الساحقة – وهي تتألف في شكل أساسي من إيرانيين ولبنانيين وعراقيين. لذلك ليس مفاجئاً أن تحدث تنشّجات داخل هذه الشبكة العابرة للدول.

ظهرت التوتّرات مجدداً في الآونة الأخيرة، وتجلّت في وثيقة داخلية مسرّبة صادرة عن قوات الرضا، وهي عبارة عن فصيل موالٍ للخميني يتخذ من حمص مقراً له، وتدعو إلى المساواة بين السوريين، الذين يحصلون على رواتبهم بالليرة السورية، وبين المقاتلين اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم الشهرية بالدولار الأميركي. وتزعم الوثيقة، التي وُضِعت نتيجة تقصٍّ أجرته "اللجنة الإسعافية المُشكَّلة لمعالجة وضع أهلنا في حمص"، وهي هيئة تابعة لقوات الرضا، أن المقاتلين تلقّوا وعوداً بالحصول على راتب شهري يُعادل 400 إلى 600 دولار أميركي؛ لكن بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية، تراجعت قيمة هذا الراتب إلى 80 دولاراً فقط. وطالبت الوثيقة بـ"الاهتمام بالموضوع المادي والدعم للمجاهدين وتأمين الجرحى وعائلات الشهداء بشكل يقرّب الفرق بينهم وبين الإخوة اللبنانيين... لوقف التسرب الكبير إلى التشكيلات الأخرى".

إلى جانب التجاذبات المادية، شدّدت الوثيقة على الحاجة إلى تمكين العلماء والكوادر العسكريين الشيعة السوريين في مقابل اللبنانيين، ليكون هؤلاء "نواة لعمل مؤسسي مستقبلي". واعتبرت أنه من الضروري "الاهتمام بموضوع الثقافة الجهادية، حيث أن الملف بحاجة إلى رؤية خاصة تتناسب مع وضع بلدنا ووضع علماء حمص. فليس كل ما يُطبَّق بلبنان يمكن أن يُطبَّق بسورية لاختلاف الظروف والثقافة، ونرى العمل على زيادة عدد الدورات ونوعيتها، مايؤدي إلى نشر الوعي الإيماني والعقائدي والتمسّك بأخلاق ونهج الولاية (الفقيه) للدفاع عن وطنهم الغالي".

فيما يلفت واضعو التقرير إلى التحيّز تجاه اللبنانيين والإيرانيين (الذين يسمّيهم التقرير حجّاجاً)، يطلبون في الوقت نفسه المساعدة من إيران وحزب الله من أجل ضمان تمثيل الشيعة في مفاصل الدولة والدوائر الرسمية كافة، "أسوةً بباقي الطوائف"، حتى لو تطلّب ذلك تشكيل حزب علماني للدفاع عن تلك المصالح. لهذه الغاية، تطلب قوات الرضا صراحةً "الدعم من الإخوة في حزب الله توازياً مع التضحيات التي قدّمها أهلنا وحقّنا في التمثيل كبقية الطوائف"، لمساعدة ممثليها على دخول مجلس محافظة حمص ومجلس المدينة. وبعد صدور التقرير، سرت شائعات عبر الإنترنت عن مرسوم رئاسي يخصّص تعويضات مالية لقوات الرضا، مشابهة لتلك التي تُخصَّص لـ"شهداء" و"جرحى" الجيش السوري.

خلافاً للشيعة في العراق ولبنان، الأقلية الشيعية في سورية صغيرة جداً ومبعثرة جغرافياً، لذلك لايستطيع الإيرانيون أن يتركوا هؤلاء الشيعة في حالة انقسام، لأنه في هذه الحالة لايمكنهم أن يؤدّوا دور وكلاء فعّالين لإيران. الميليشيات الشيعية في حمص ودمشق هي الأكثر تنظيماً، بالمقارنة مع الميليشيات الشيعية في حلب وإدلب ودرعا، لذلك، يتعيّن توحيد الصفوف، من أجل استنساخ المقاربة اللبنانية واستحداث نسخة سورية عن حزب الله. لقد أفضى نقل السكان الشيعة مؤخراً من بلدتَي كفريا والفوعة في محافظة إدلب إلى دمشق، إلى تعزيز حضورهم في العاصمة السورية.

منذ العام 2012، تطوّر الشيعة في سورية على الصعيد المؤسسي، عبر سلسلة خطوات بدءاً من إطلاق حركات كشفية خمينية، في حمص ودمشق مثلاً، وصولاً إلى إنشاء سلطة دينية خاصة بالطائفة، تتمثّل بالمجلس الإسلامي الجعفري الأعلى في سورية الذي تأسّس في العام 2012، في خطوة مُستلهَمة من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. ظهرت هذه المؤسسات في الوقت نفسه تقريباً مع بدء التدخلات من جانب إيران وحزب الله وشيعة العراق في النزاع السوري. لكن في حين أدّت هذه التدخلات إلى دعم أكبر للفصائل العسكرية الشيعية السورية، لم يتم فعلياً إنشاء أي هيكلية تنظيمية شيعية جامعة.

لم تظهر داخل الطائفة سوى شخصية توحيدية واحدة، ولو كانت في شكل أساسي شخصية روحية وسياسية. إنه السيد محمد علي المسكي، وهو دمشقي يتولى رئاسة المجلس الإسلامي الجعفري الأعلى في سورية. يصعد نجم المسكي وتتعزز مكانته، إلى جانب أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، الذي يكنّ له الشيعة في سورية تقديراً كبيراً. يقود المسكي المسيرات الكبرى التي تنظمها الطائفة الشيعية في العاصمة السورية إحياءً لذكرى وفاة الإمام الحسين. وغالباً ما يزور بلدات في محافظة حمص، ويلتقي وجهاء محليين ويسجّل احتياجاتهم.

يشي إنشاء المجلس الإسلامي الجعفري الأعلى في سورية بأن إيران، التي أدّت دوراً أساسياً في إنشاء المجلس، تميل أكثر نحو تطبيق النموذج اللبناني لتوحيد صفوف القوى الشيعية في سورية، بدلاً من تبنّي المقاربة الأكثر تشعّباً السائدة في العراق حيث يوجد العديد من المجموعات الخمينية. لقد انبثق المجلس من النزاع السوري. وعلى نقيض نظيره اللبناني الذي تسيطر عليه حركة أمل، وليس حزب الله، يحافظ المجلس السوري على خطابٍ مؤيد للخميني، وهو مقرَّب من الميلشيات الموالية لإيران التي تقاتل في سورية.

يبقى أن نرى ما إذا كان المسكي سيؤدّي دوراً قيادياً في التيار الخميني السوري، أم إذا كان دوره سيظل مقتصراً على المسائل الدينية والسياسية، فيما تُبقي إيران على سيطرتها على المجموعات العسكرية الشيعية.