أولياء الجمهورية: تشريح الإقتصاد العسكري المصري

غيّر إستيلاء القوات المسلحة على السلطة في عام 2013 الدور الذي تلعبه في الاقتصاد الوطني، وحوّلت المؤسسة العسكرية إلى جهة فاعلة مستقلة يمكنها إعادة تشكيل الأسواق والتأثير في صياغة السياسات الحكومية واستراتيجيات الاستثمار.

نشرت في ١٤ ديسمبر ٢٠١٩

تحتّل المؤسسة العسكرية في مصر شطراً من الاقتصاد الوطني أقل بكثير مما يُعتقد عموماً. بيد أن استيلاءها على مقاليد السلطة في العام 2013 وما تلاه من صعود نجم الرئيس عبد الفتاح السيسي، غيّرا دوره على صعيدَي النطاق والحجم، وحوّله إلى طرف اقتصادي فاعل يحظى باستقلالية تمكّنه من إعادة تشكيل الأسواق والتأثير على سياسات الحكومة واستراتيجيات الاستثمار.

تُنفّذ المؤسسة العسكرية مشاريع بنى تحتية كبرى، وتُنتج سلعاً استهلاكية تتراوح من المواد الغذائية إلى الأدوات المنزلية، وتصنع كيماويات صناعية وأجهزة نقل، وتستورد سلعاً أساسية للأسواق المدنية. وهي تمتد إلى قطاعات جديدة بالغة التنوّع كالتنقيب عن الذهب، وإنتاج الصلب، وإدارة الأوقاف الدينية والحج. وفي موازاة ذلك، يستفيد آلاف كبار الضباط المتقاعدين من النفوذ السياسي الكاسح للمؤسسة العسكرية لاحتلال مناصب عليا في كل أرجاء الجهاز المدني للدولة وشركات القطاع العام، مُكملين بذلك دائرة الاقتصاد العسكري الرسمي، فيما ينتفعون في الوقت عينه.

تفاخر المؤسسة العسكرية بأنها حائزة على مهارات إدارية راقية وإنجازات تكنولوجية، وتدّعي أنها تعمل كرأس حربة للتنمية. بيد أن دورها هذا له ثمن فادح. إذ أنها تستنسخ ريعية الاقتصاد السياسي المصري، وتفيد مثلها مثل نظرائها المدنيين (في كلٍ من القطاعين العام والخاص) من بيئة تسمح لها فيها الجوازية القانونية، والتعقيد البيروقراطي، والسلطات الاستنسابية بحيّز واسع للافتراس والفساد. إن العسكر في أفضل الأحوال مهندسون جيّدون لكنهم اقتصاديون سيئون. وهكذا، فإن الطفرة الهائلة للمشاريع العملاقة في الإسكان والبنى التحتية العامة التي أدارتها الهيئات العسكرية منذ العام 2013، أسفرت عن حجم كبير من الرساميل العقيمة والأصول المجمّدة، الأمر الذي حوّل الاستثمار والموارد بعيداً عن قطاعات اقتصادية أخرى.

والحال أن استحكام الاقتصاد العسكري ضار للسياسات الديمقراطية في مصر، مهما كانت شوائب هذه الأخيرة. وبالتالي، يتعيّن عكسه في معظم القطاعات، وتقنينه في قطاعات أخرى مُنتقاة، ووضعه تحت سلطة مدنية واضحة، هذا إذا ما أرادت مصر أن تحل مشاكلها البنيوية الحادة والكأداء التي تعيق مسيرة تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، وتقف سداً منيعاً في وجه الانتاجية والاستثمار، وتقوّض ديناميكيات السوق، وتشوّه نمو القطاع الخاص. والواقع أن أي حكومة مصرية لن تستطيع ممارسة الإدارة الاقتصادية الفعّالة، إلى أن يتم وضع حد لشبكات الضباط غير الرسمية في كلٍ من الجهاز البيروقراطي المدني، وشركات القطاع العام، ودوائر الحكم المحلي.

وفي هذا السياق، فإن التقديرات الوردية حول المؤشرات الاقتصادية الكبرى في مصر، التي يُصدرها مسؤولون مصريون ونظراؤهم في الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية، تغضّ الطرف عن المشاكل الأساسية الكامنة في الانتاجية والابتكار الخفيضين، وفي القيمة المضافة المحدودة، وفي الاستثمارات غير الكافية في معظم القطاعات الاقتصادية. ربما يأمل هؤلاء المسؤولون بأنه سيكون بمستطاع السيسي، بطريقة ما، بناء دكتاتورية تنموية ناجحة، ما قد يفسّر أسباب قفزهم فوق المضاعفات الاجتماعية لمقاربة حكومته الاقتصادية، ولقمعها العنيف للحريات السياسية والاجتماعية، ولخروقاتها الفادحة لحقوق الإنسان. اللازمة هنا هي الاعتقاد المكين بأن المؤسسة العسكرية هي طرف فاعل اقتصادي وإداري جيّد، كما تزعم هي نفسها، وبأنها ستنسحب من حلبة الاقتصاد حين يكتمل نموّه. بيد أن الاتجاهات الراهنة تشي بأن السيسي سيبقى أسير شركائه الأساسيين في الائتلاف الحاكم، ورهينة الاندفاع العسكري إلى زيادة وتيرة الانخراط في الاقتصاد.

هذا التقرير صادر عن برنامج العلاقات المدنية-العسكرية في الدول العربية - مركز كارنيغي للشرق الأوسط.

المقدمة

تشكل الهيئات العسكرية فاعلًا اقتصاديًّا مهمًّا في مصر، فهي تسلّم مشاريع ضخمة متعلقة بالبنية التحتية، وتنتج سلعًا استهلاكية تراوح بين الغذاء والأجهزة المنزلية، وتصنّع المواد الكيميائية الصناعية وأدوات النقل، وتستورد آلات وسلعًا أساسية للأسواق المدنية. كما توسعت هذه الهيئات إلى قطاعات جديدة متنوعة للغاية مثل إنتاج الصلب، وصناعة الأدوية، والتنقيب عن الذهب، وإدارة الحج والأوقاف الدينية. وبموازاة ذلك، استفاد الآلاف من كبار الضباط المتقاعدين من التأثير السياسي النافذ للقوات المسلحة لشغل مناصب عليا في الجهاز المدني للدولة وشركات القطاع العام، الأمر الذي عاد عليهم بالمنافع في مقابل تكملة الاقتصاد العسكري في الوقت ذاته. وقد ازداد الجزءان من الاقتصاد العسكري توغُّلًا منذ تولي القوات المسلحة المصرية السلطة في تموز/يوليو 2013، ما أدى إلى زعزعة ديناميكية السوق، ومضاهاة القطاع الخاص في القطاعات الإنتاجية المهمة، وتغيير مسار مصر نحو النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية والانتقال السياسي.

تدّعي المؤسسة العسكرية القيام بدور رأس حربة تنموية وتوليد الدخل للدولة والوظائف، لكن دورها يأتي بتكلفة عالية. فعلى الرغم من التفاخر بالمهارات الإدارية الفائقة والتقدم التكنولوجي، فقد كرّرت نموذج الأعمال عند جميع الفاعلين الاقتصاديين تقريبًا في مصر منذ الاستيلاء على السلطة في عام 1952 وتأسيس الجمهورية، جنبًا إلى جنب مع تكيّفات النموذج إزاء سياسات وبيئة تنظيمية متغيرة وكرّرت ومعظم أوجه قصوره. كذلك فإن القوات المسلحة ليست كفؤة في تقديم المشاريع الهندسية أو جمع الإيرادات من الأراضي التي تسيطر عليها، لكنها تعمل في نظام سياسي واقتصادي مثير للمشاكل، قامت هي بتشكيله إلى حد كبير. ومهما كانت النيات على مستوى القيادة، فإن الاستراتيجيات والأنشطة العسكرية للمؤسسة العسكرية تقام في بيئة تسمح فيها المشروعية القانونية والسلطات التقديرية (الإستنسابية) والتعقيد البيروقراطي بمساحة كبيرة للافتراس والفساد على المستويات الأدنى.

تدّعي المؤسسة العسكرية القيام بدور رأس حربة تنموية وتوليد الدخل للدولة والوظائف، لكن دورها يأتي بتكلفة عالية.

لكن المؤسسة العسكرية لا تضطلع بهذا الدور بشكل مستقل. إذ إنها جزء لا يتجزأ من النظام الحالي الذي يحكم مصر، ولو إنها أحد عناصر التشكيلة البيروقراطية الأوسع نطاقًا التي تضم أيضًا كبار الموظفين الحكوميين، ومسؤولي الأمن، والقضاة، ومديري الدولة الاقتصاديين والتكنوقراط. يحكم الجميع المنطق السياسي نفسه في مقاربتهم الإدارة العامة للاقتصاد الوطني والمالية العامة، والتي تعطي الأولوية لاسترضاء دوائر وأوساط رئيسة والحفاظ على نظام الحكم، بدلًا من الاضطلاع بنوع الإصلاحات التي يمكن أن تحفز الإنتاجية الاقتصادية وتعبئة الموارد المحلية على نحو أكثر فعالية. ويسعى الجميع إلى شغل مواقع داخل الاقتصاد الوطني والمطالبة بالتمويل من القطاع العام بما يتناسب مع نفوذهم السياسي، ما يفسر الميول الواضحة نحو كلٍّ من البناء المجتزأ (الازدواجية التي تهدر الاستثمار والجهد) والتفتت.

الاقتصاد العسكري ذو وجهين. فهو يخدم نفسه لكنه يتوافق أيضًا مع استراتيجية صيانة النظام الأوسع نطاقًا ويعيد إنتاجها. لهذا السبب، قام باستنساخ النمط الريعي السائد في الاقتصاد السياسي المصري (أي اعتماد الاستيلاء على المداخيل الموجودة بدلاً من زيادة الإنتاجية)، حيث سلكت مكوناته عن كثب سلوك الجهات الفاعلة الأخرى في القطاعين العام والخاص، واستجابت بطرق مشابهة لفرص البحث عن الريوع الجديدة التي أمنتها التحولات الكبرى في التوجه الاقتصادي للبلاد. فقد يقدم الاقتصاد العسكري كفاءات في بعض الأنشطة المدنية، ولاسيما في الأعمال الهندسية الكبرى، إلا أن ما ينجم في النهاية هو خسائر اقتصادية سلبية، إذ يجري حجب الخسائر وتتجاوز تكلفة استثمار رأس المال عائداته.

إنها الحكومة، وفي أحيان أكثر الرئاسة، التي تخلق الإطار السياساتي وتقرر الأهداف الوطنية. فمع أنّ القوات المسلحة هي منصة لتسلّق السلطة، فهي ليست شريكًا سياسيًّا كاملاً.1 ومع ذلك، خلال العمل من أجل تحقيق هذه السياسيات، والذي يوفّر فرصاً لأشكال لا حصر لها من البحث عن الريع على طول الطريق، تسهم المؤسسة العسكرية بشكل كبير في استنساخ المشكلات الهيكلية المزمنة للاقتصاد المصري، وتشويه تنمية القطاع الخاص، وتآكل الظروف الاجتماعية لأعداد كبيرة من المصريين. الحكومات الغربية والوكالات المانحة والمؤسسات المالية والدولية والمستثمرون الأجانب يذعنون عن علم، ويقدمون واجهة من التفاؤل المتحمس بشأن مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر وإمكاناتها، فيما يخفون القلق المتزايد وراء شعار "مصر أكبر من أن تفشل".

إن الاستيلاء العسكري التدريجي على سلطة الدولة منذ الانتفاضة الشعبية التي خلعت الرئيس حسني مبارك من منصبه في شباط/فبراير 2011، قد أحدث تحولات في نطاق النشاط الاقتصادي العسكري وحجمه. فتولّي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مهام الرئيس التشريعية والتنفيذية، أعقبته بسرعة الإطاحةُ العسكرية في تموز/يوليو 2013 بخلفه محمد مرسي الذي كان أول مدني يُنتخب للرئاسة منذ تأسيس الجمهورية قبل 61 عامًا، ثم جاء انتخاب وزير الدفاع السابق اللواء عبد الفتاح السيسي رئيسًا في أيار/مايو 2014. منذ ذلك الحين، أصبحت المؤسسة العسكرية تلعب دورا رئيسيًّا في إدارة مشاريع الأشغال العامة الضخمة، وتزويد الأسواق، والتوسع في قطاعات جديدة في محاولة لزيادة إيرادات الدولة.

وتمثّل التطورات في الاقتصاد العسكري منذ عام 2013 تحولًا كبيرًا في النطاق والحجم في ما كان لعقود يشكّل جيبًا مستقلاً ولكنه محدود أساساً. حتى ذلك الحين، كانت القوات المسلحة مجرّد "جزء من الصفقة"، حيث كان للجهات المدنية الفاعلة الأخرى حصة في الكعكة الشاملة، المقاسَة بملكية الأصول المادية مثل الآلات والأراضي أو السلطة التنظيمية على ترخيص الوصول إلى قطاعات محددة، أو التحكم بها، مع ذهاب حصة الأسد منذ أوائل القرن الحالي، إلى رجال الأعمال المتنفذين سياسيًّا المقربين من الرئيس مبارك، ومن ابنه جمال وإلى المتكتّلين في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. وتحوَّل الثقل النسبي للاقتصاد العسكري في مراحل حاسمة مهمة: التحرير الاقتصادي وإعادة التوجه نحو الغرب ابتداءً من منتصف سبعينيات القرن الماضي، والتقشف المالي من منتصف الثمانينيات، والمرحلة الأولى للخصخصة في عام 1991، والمرحلة الثانية من الخصخصة في أوائل القرن الحالي. لكن هذا الاقتصاد العسكري لم يشهد تحولاً مثيراً، سواء تم قياسه من حيث نطاق وحجم أنشطته، أو من حيث صافي الدخل الظاهر والربحية، أو من حيث التأثيرات على الجهات الاقتصادية الفاعلة الأخرى (بما في ذلك قطاعا الأعمال العام والخاص) وعلى صنع السياسات.

حتى عام 2011، مارست المؤسسة العسكرية بشكل أساسي ما وصفه الباحث في الشؤون المصرية و. ج. دورْمان بأنه "جيب يعظّم ذاته".2 لم تقم القوات المسلحة بأي أمر في المجال الاقتصادي يعطّل أعمال النظام الحاكم الذي تطورت خصائصه الرئيسة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر مرورًا بالرئيسين اللذين خلفاه، أنور السادات وحسني مبارك، أي من عام 1952 إلى عام 2011. هذه الخصائص لا تزال تشكّل الاقتصاد العسكري، سواء في ما يتعلق بطرائقه والعلاقات العضوية بين مكوناته الرسمية وغير الرسمية، أو بالشعور بالتفوق التقني والاستحقاق المعنوي الذي يشبع كبار ضباط القوات المسلحة.

لكن الأزمة المتفاقمة في الاقتصاد السياسي المصري التي أنتجت ثورة عام 2011، إلى جانب إعادة تحديد موقع الاقتصاد العسكري منذ عام 2013، مهّدت الطريق لتغيرات أعمق في كليهما. فالسيسي الذي جرى انتخابه رئيسًا في أيار/مايو 2014، قاد المؤسسة العسكرية إلى موقع اقتصادي أكثر مركزية. ومنذ ذلك الحين، وبناءً على أوامره، تمكنت القوات المسلحة من إدارة ما يقارب ربع إجمالي الإنفاق الحكومي على البرنامج المستعجل للبنية التحتية العامة ومشاريع الإسكان، كما تدخل في معالجة نقص السلع الغذائية والإمدادات الطبية في الأسواق المدنية، وفي القطاعات الإنتاجية التي اعتبرت استراتيجية بهدف ظاهر يتمثل في تثبيت الأسعار، وهرعت عموماً إلى توليد إيرادات لخزانة الدولة.

هذه الدرجة من الاعتماد على المؤسسة العسكرية لتقديم السلع والخدمات العامة والمساعدة في تحقيق أهداف التنمية الوطنية، لم يسبق لها مثيل حتى بالمقارنة مع عصر عبد الناصر الذي أسس هذا النمط. يكمن وراء ذلك شعوران يميّزان رئاسة السيسي عن سابقاتها: الاحتقار غير المقَنّع لكفاءة ونزاهة هيئات الدولة المدنية، والاعتقاد الصريح بأن القوات المسلحة وحدها هي التي تستطيع التهرب من قيود البيروقراطية الحكومية "لإنجاز الأمور"3. يضاف إلى ذلك الاعتقاد الموازي للرئيس بأن أداء المؤسسة العسكرية اقتصاديًّا هو أيضًا أفضل بكثير من أداء القطاع الخاص. فقد قال السيسي في افتتاح صوب زراعية بناها مهندسو القوات المسلحة، "أنا هاقول لكم بمنتهى البساطة، زي ما انتو شفتوا الإجراءات التنفيذية للوصول لحجم بالمستوى ده بالإجراءات الكثيرة اللي بتّم سواء كان الطرق المطلوبة أو مأخذ المياه الكلام ده لما ييجي القطاع الخاص يعملوا ياخد له 3-4 سنين عقبال ما يقدر يعمل الإجراءات التنفيذية علشان يعمل مشروع بالطريقة دي".4 تشاطره المؤسسة العسكرية تلك المشاعر، ما يجعلها الشريك الواضح لرئيس قوي يفتخر بإقرار السياسات بسرعة.5 إلى ذلك، من غير المرجح أن يعود العسكر طوعاً في المستقبل إلى جيبهم الاقتصادي الذي كان قائماً قبل عام 2013، بغض النظر عن الوُجهة التي سيتخذها الاقتصاد والسياسة في البلاد.

الاقتصاد العسكري: نظرة عامة

لقد نبع تطوُّر الاقتصاد العسكري الراهن من التفاعل بين ثلاث دوائر أساسية:

  • الصناعة العسكرية التي تأسست في خمسينيات القرن العشرين وفروعها اللاحقة التي تتضمن الشركات العسكرية المسجلة رسميًّا وذات التوجه التجاري التي أنشئت في أوقات مختلفة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
  • هيئات وزارة الدفاع المكلفة بتحسين الاكتفاء الذاتي لدى القوات المسلحة في ما يتعلق بالطعام والعدّة الشخصية (المهام) وغيرها من مستهلكات غير قتالية، وهيئات أخرى تؤمن خدمات مدفوعة الرسوم للمدنيين، والأهم وهي إدارات القوات المسلحة المنخرطة في الأشغال العامة. تشكّل هذه الهيئات مع الصناعة الدفاعية مجتمعةً القطاع الاقتصادي العسكري الرسمي الذي ستجري مناقشته في الفصلين الثاني والثالث.
  • "جمهورية الضباط"، كما أسميتها في دراسة سابقة، وهي تضم شبكات الضباط غير الرسمية الواسعة التي تتغلغل داخل جهاز الدولة المدني، فضلاً عن الشركات التي تملكها الدولة والهيئات الحكومية المنخرطة في توفير الأشغال العامة والبنية التحتية والخدمات العامة المختلفة وإدارة الموارد الطبيعية والتصنيع التجاري.6 إن عباءة الشرعية الاسمية التي يتمتع بها هؤلاء البيروقراطيون العسكريون، تمكّن من الممارسات النفعية من منح عقود والوصول إلى أراضي الدولة واستثمار الصناديق المالية الخاصة بالقوات المسلحة، وتحميها. وهنالك دائرة فرعية تتكون من ضباط تحولوا إلى رجال أعمال ومقاولين من الباطن لمشاريع تديرها المؤسسة العسكرية.

الأمر المشترك بين جميع الدوائر الثلاث هو امتياز الوصول إلى موارد الدولة والعقود العامة. ويمكن القول إن الهيئات العسكرية تقدم مساهمة ملموسة في الاقتصاد من خلال توفير البنية التحتية، إلا أن السؤال يبقى مطروحًا عن التكلفة الفعلية التي تتكبدها خزانة الدولة وعن الأثر الفعلي على إمكانيات الهيئات المدنية التي يترتب عليها إدارة المشاريع القومية أو القيام بها. كما أن المساهمة الاقتصادية الصافية للإنتاج المدني في الصناعة الحربية تدعو إلى المزيد من الشك. إن غموض المعلومات المالية أو حجبها بشكل رسمي يمنع الاستنتاجات النهائية حول الجدوى الاقتصادية، لكن الأدلة تشير إلى عدم كفاءة وإلى خسائر خفية، وهي أمور معتادة لدى العديد من المؤسسات التي تملكها الدولة في كل من حقبتيْ ما قبل الخصخصة وما بعدها في مصر.

ويمكن وصف الأسلوب الأساسي للاقتصاد العسكري بالمُصادرة المؤسساتية أو التنظيمية، فهو يقبض على حصة غير متناسبة من الإيرادات والموارد العامة التي كان يمكنها أن تذهب إلى مؤسسات الدولة والشركات الخاصة المنافسة، ويحوّل كميات هائلة من رأس مال الاستثمار عن قطاعات إنتاجية أخرى في الاقتصاد. بهذا المعنى على الأقل، فإن اختلاف الهيئات العسكرية عن هيئات الدولة المدنية أو الشركات الخاصة - التي غالبًا ما يعتبرها الجمهور العريض وأعضاء البرلمان فاسدة وغير وطنية وغير مؤهلة في سلوكها الباحث عن الريع - لهو أقل مما ترغب في الادّعاء به. والأسلوب الريعي (الاعتماد على الاستيلاء على مصادر الإيرادات بدلًا من زيادة الإنتاجية) هو نمط يمثل بشكل خاص جمهورية الضباط ورجال الأعمال العسكريين في القطاعين العام والخاص، لكنه يصف أيضًا انخراط القطاع الاقتصادي العسكري الرسمي في المشاريع الجوفاء الضخمة، مثل خطط استصلاح الأراضي وبناء سلسلة من المدن "الصحراوية" و"المليونية" الفاشلة.

الاقتصاد العسكري يقبض على حصة غير متناسبة من الإيرادات والموارد العامة التي كان يمكنها أن تذهب إلى مؤسسات الدولة والشركات الخاصة المنافسة، ويحوّل كميات هائلة من رأس مال الاستثمار عن قطاعات إنتاجية أخرى في الاقتصاد.

وبالتالي، فإن ادّعاءات المسؤولين العسكريين المستمرة بأن مشاريعهم تحفّز النمو الاقتصادي وفرص العمل، مبالغ فيها في أحسن الأحوال، وكثيراً ما تكون زائفة بوضوح. إن الإصرار الذي سعى السيسي من خلاله إلى زيادة العائدات منذ توليه منصبه، لم يؤدِّ إلا إلى تفاقم البناء المجتزأ والريعية. لكن المكانة السياسية المرموقة للمؤسسة العسكرية وقدرتها على التحكم في الخطاب العام، معزَّزة باستيلاء الهيئات العسكرية المخابراتية على مجموعة من وسائل الإعلام المصرية منذ عام 2013، تمكّنها من التغطية على القصور وعدم الكفاءة. كما أن الهيئات العسكرية الاقتصادية تحمي نفسها من التدقيق الخارجي من خلال تجميل الصورة العامة التي تسلط الضوء على مساهمتها في التنمية القومية من خلال بناء البنية التحتية الأساسية، وتوفير السلع المدنية والمواد الاستهلاكية بأسعار مخفضة، والتدخل السريع لحل مشكلة نقص الخبز والأزمات التموينية الأخرى، وتوزيع "شنط" غذائية من القوات المسلحة على الفقراء خلال شهر رمضان المبارك.

وما يتسم بالأهمية، أن كبار ضباط القوات المسلحة قد بدأوا منذ ثمانينيات القرن العشرين بعتبرون القطاع الاقتصادي العسكري الرسمي حقًّا لهم وكذلك تغلغلهم بشكل غير رسمي إلى الإدارات الحكومية والاقتصاد المدني. ففي عام 2012، كان اللواء محمود نصر، الذي كان حينها مساعداً لوزير الدفاع للشؤون المالية وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، شديد الصراحة في حديثه: "العَرَق الذي ظلّينا ٣٠ سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح للغير أيًّا كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة".7 وأضاف مؤكّدا أنّ أي شخص يسعى إلى إخضاع الاقتصاد العسكري للسيطرة المدنية أو يطالب بتقليصه أو سحب الاستثمار منه، فإنه "يهدد أمن مصر القومي".

ومع ذلك، فإنه من التبسيط وغير كافٍ تصوير تطور الاقتصاد العسكري على أنه خطي، مفترس لا يتغير، تنسّقه مؤسسة عسكرية تسعى إلى تحقيق مصالح مؤسساتية واضحة، أو تصويره على أنه ممسوك من قبل شبكات ضباط من المحاسيب تلاحق مصالح أنانية ضيقة. وبالفعل، كان هناك مسار واضح للنمو والتوسع منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، لكن ذلك كان مرتبطًا بالأحداث السياسية والاقتصادية التي غيرت بنية الحوافز، والفرص، وتوافر الموارد. لقد حددت حفنة من الدراسات الرائدة بعض معالم الاقتصاد العسكري، لكن هذا التقرير يحلل مكوناته المختلفة بعمق من أجل تقديم تقييم دقيق لما يحرّك كلًّا منها، ولإسهاماتها الإيجابية، وتأثيراتها السلبية.8 إنّ التمكن من فهمٍ أكثر دقة لكيفية وصول الاقتصاد العسكري إلى شكله الحالي وأسباب ذلك، يتيح للتشريح الشامل والمفصّل المقدّم هنا أن يفيد مقترحات سياساتية تستهدف احتواء تلك العناصر التي تتجاوز الاحتياجات المُحدَّدة جداً للحفاظ على القدرة التشغيلية للقوات المسلحة والارتقاء بها، ولعكس تلك العناصر، وفي النهاية تفكيكها.

بحثاً عن التناسب: بين الملكية والسيطرة والتأثير

بالرغم من بروز صورته والكثير من الترويج الذاتي، فإن الاقتصاد العسكري يقوم بأقل بكثير مما يدّعيه ممثلوه أو منتقدوه على حد سواء. حتى الآن، في منتصف عقده السابع وبعد عدة سنوات من التوسع المتسارع، ما زال هذا الاقتصاد يمثل حصة صغيرة من الاقتصاد الوطني. وغالبًا ما يجري تناقل تقديرات بأن المؤسسة العسكرية تمتلك 25 في المئة أو 40 في المئة أو حتى 60 في المئة من الاقتصاد، أو تسيطر عليها، لكن هذه التقديرات تعتمد على بيانات قليلة، وعلى أقل من ذلك من ناحية التحليل المنهجي، وهي مضخَّمة إلى حد كبير. فهي، أولاً، تخلط بين ثلاثة مجالات متمايزة:

  • المصانع والشركات والمزارع العسكرية المسجلة رسميًّا، والتي يكون إنتاجها المشترك من الخدمات والسلع العسكرية والمدنية أكثر تواضعًا بشكل ملموس من التصورات أو الأفكار السائدة عمومًا، وهيئات عسكرية أخرى مثل الهيئة الهندسية وإدراة المشروعات الكبرى في القوات المسلحة التي تدرُّ دخلًا أكبر بكثير بفضل تنفيذ العقود والأشغال العامة.
  • العدد الأكبر بكثير من الهيئات الاقتصادية في القطاع العام، والشركات التي تملكها الدولة، وشركات القطاع الخاص التي يرأسها أو يحتل فيها ضباط متقاعدون من القوات المسلحة مناصب إدارية، إلّا أن أصول هذه الشركات وأرباحها لا تعود في الواقع إلى المؤسسة العسكرية، مع أنه يمكن لهذه الأخيرة أن تؤثر على قراراتها التجارية لمنفعتها الذاتية.
  • الولاية التنظيمية التي تتيح الحصول على إيرادات من ترخيص استخدام الأراضي، وتأجير المنشآت العسكرية والعامة، ورسوم الطرق السريعة، والرسوم المفروضة على المحاجر والمناجم، وإزالة الألغام، وحفظ السلام في الخارج، وتخليص الواردات، وخدمات مماثلة تتطلب دفع رسوم، فضلًا عن الاستثمار في مشاريع مشتركة مع شركات خاصة محلية ودولية.

عندما قدّر السيسي ومسؤولو قطاع الدفاع الاقتصادَ العسكري الرسمي على نحو متفاوت أنه يمثل 1.0- 1.5 أو 1.5 - 2.0 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر في عام 2016، فلربما كانوا يشيرون إلى القيمة الإجمالية للسلع والخدمات التي تنتجها جميع الهيئات العسكرية: وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع، ووزارة الدفاع والهيئات التابعة لها.9 ليس واضحًا ما إذا كانت هذه التقديرات تتضمن على وجه التحديد إيرادات وزارة الدفاع من عقود الأشغال العامة التي تنفذها أو تديرها أقسام إدارات القوات المسلحة. لكن هذا أمر جائز، حيث إن جميع الأموال الواردة (بما في ذلك الإيرادات من خارج الميزانية) سوف يتم تسجيلها في الدفاتر الداخلية للوزارة وإدراجها تحت البيانات الإجمالية المقدمة إلى الرئيس. على أي حال، تتمتع المؤسسة العسكرية بإمكانية الوصول إلى تدفقات دخل كبيرة من خارج الميزانية، وإلى رساميل متراكمة. وقد تمكّنت منذ عام 2013 من إدارة حصة كبيرة من النفقات الرأسمالية العامة، لكن اقتصادها أقل شمولًا وأقل إنتاجية بكثير مما يُعتقد عادةً، كما أنّها بالتأكيد، من حيث التكلفة، أقل جدوى بكثير ممّا يصفه العسكر أنفسهم.

إن النسب المئوية التي استشهد بها السيسي وغيره تبدو قريبة من الحقيقة. ولكن حتى لو اعتبرت مؤشراً فحسب، فإنها لا تزال تشير إلى قيمة إجمالية كبيرة. إن تقدير إجمالي الناتج المحلي لمصر أمرٌ معقد بسبب التخفيضات الحادة في قيمة الجنيه المصري في آذار/مارس وتشرين الثاني/نوفمبر 2016، ولكن بمعيار القيمة الثابتة للدولار، فإن نصيب الاقتصاد العسكري من إجمالي الناتج المحلي في حينه كان يراوح بين 3,32 و6,64 مليارات دولار، إستناداً إلى نسب السيسي وتقدير صندوق النقد الدولي للناتج المحلي الإجمالي الاسمي البالغ 332 مليار دولار في السنة المالية 2015-2016.10 بالفعل، هذه مبالغ كبيرة عندما يؤخذ في الاعتبار الأداء الضعيف لأركان الاقتصاد العسكري مثل وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع. وقد أدى الدفع الكبير للمشروعات الضخمة المخصصة للقوات المسلحة منذ عام 2013 إلى زيادة إيرادات وزارة الدفاع من الرسوم الإدارية وهوامش الربح، وبالتالي رفع الحصة الإجمالية للمؤسسة العسكرية من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن ربما بنقطة مئوية إضافية على الأكثر.

ثانياً، هناك تقديرات مضخمة تخلط بين الملكية والسيطرة والتأثير. فالهيئات العسكرية تمتلك بعض المؤسسات الإنتاجية والخدمية بشكل مباشر، وتتحكم قانونًا بالوصول إلى عوامل الإنتاج التي تحتاجها الجهات الفاعلة الاقتصادية المدنية كالأراضي، وهي تنفذ مختلف الأشغال العامة والمشتريات بموجب عقود حكومية رسمية، أو تديرها، وتنفق الدخل والفائض في الأموال المتأتية ممّا سبق، وفقًا لتقديرها الخاص. ومع أن القيمة الصافية للدخل العسكري من المبيعات والرسوم لا يجري نشرها بالكامل، إلا أنها على الأقل قابلة للقياس الكمي في حال جرى الوصول إلى البيانات. ومع ذلك، يمكن تجميع تفاصيل كافية لدعم الادّعاء الوارد في هذا التقرير والذي يفيد بأن صافي دخل الاقتصاد العسكري الرسمي لا يتجاوز بضع نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.

أما الدخل الذي تستمده الهيئات العسكرية من العلاقات الأكثر ضبابية مع شركات القطاعين العام والخاص ومع الهيئات الاقتصادية الحكومية، فتقديره أصعب. حتى بعد حوالي ثلاثة عقود من الخصخصة، فإن إرث تدخل الدولة في الاقتصاد وملكيتها المستمرة لمئات الشركات، وشراكتها مع ما يقارب نفس العدد من المشاريع المشتركة، قد جعل من السهل أيضًا على الهيئات العسكرية والضباط المتقاعدين الحفاظ على علاقات التصاقية وصفقات نفعية تفضيلية في مختلف القطاعات. فالشركات العسكرية تقيم مشاريع مشتركة أو ترتيبات رافدة مع الشركات الخاصة التي تكسب إمكانية الوصول إلى المدخلات المدعومة والحماية من المنافسين المحتملين من خلال هذه العلاقات، أو تلك التي تكون المؤسسة العسكرية عميلها الوحيد أو الأكبر.11 يمكن للهيئات العسكرية أو لحلفائها في الجهاز البيروقراطي للدولة والبرلمان أن تتلاعب بمنح العقود أو تراخيص الاستيراد وأن تنشئ حواجز غير جمركية مصممة خصيصاً لصالح شركات معينة أو لمنع دخول شركات أخرى (ولاسيما الشركات الأجنبية المنافسة). تتمتع "جمهورية الضباط" المكونة من آلاف ضباط القوات المسلحة المتقاعدين العاملين في جميع أنحاء جهاز الدولة بسلطة إضافية لمنح العقود إلى الهيئات العسكرية (وإلى بعضهم البعض).12 ولأنهم يظلون خاضعين للنظام القضائي العسكري، فإن لديهم حافزاً قويًّا لضمان امتثال الهيئات الحكومية أو شركات القطاع العام التي يرأسونها أو ينتمون إليها لتوقعات ورغبات المؤسسة العسكرية.

لقد تغيرت الصورة إلى حدٍ ما منذ عام 2013،كما يؤكّد تسارع وتيرة عمليات الاستيلاء القسرية على الشركات الخاصة (الأكثر وضوحًا في وسائل الإعلام) أو الاستيلاء الضاري على حقوق الملكية في الشركات الناشئة أو على عضوية مجالس الإدارة فيها. أما في معظم الحالات، فالسيطرة العسكرية تكون سيطرةً غير مباشرة، وغالبًا ما ينبغي اعتبارها نفوذًا. وقد أظهرت دراسات عديدة أن الترابط السياسي هو المحدِّد الرئيس في حصول الشركات (الخاصة والعامة على حد سواء) على العقود وعلى القروض والإنتاجية الإجمالية: فقد ذهبت حصة الأسد إلى زبانية جمال مبارك نجل الرئيس مبارك الموصولين سياسيًّا في العقد الأول من هذا القرن، وليس المؤسسة العسكرية. وفي نفس الإطار، فإن العلاقات الوثيقة بين الهيئات العسكرية والشركات الخاصة المفضّلة هي ذات منفعة متبادلة، ولا يمكن اعتبارها تعكس سيطرة عسكرية بحتة. علاوة على ذلك، فإن جزءً كبيرًا من المنافع التي كسبتها الهيئات والشركات العسكرية من العلاقات مع شركات القطاعين العام والخاص، بما في ذلك السيطرة على قرارات الشراء والاستثمار الخاصة بها، أو التأثير عليها، تندرج ضمن الناتج المعلن للاقتصاد العسكري الرسمي. وفي نواحٍ كثيرة، فإن المستفيدين الرئيسيين من جمهورية الضباط هم المتقاعدون من القوات المسلحة الذين يضمنون من خلال إظهار الفوائد التي يقدمونها، ولكنهم بذلك يزيدون من دخلهم بعد التقاعد، في المقام الأول.

المصدر الثالث لتقديرات الاقتصاد العسكري المضخَّمة يأتي من التبسيط المفرط، أو التحريف، لعلاقة المؤسسة العسكرية بالأصول الرئيسة مثل أراضي الدولة. بالفعل، هذا النوع من التقدير غالبًا ما يخلط بين الأصول والدخل الذي يمكن توليده من استغلالها منها، أي من الناتج، أو من إجمالي حركة الوارد والصادر. وتؤكد تعليقات كثيرة أن وزارة الدفاع تمتلك جميع أراضي الدولة التي تقدر بحوالي 90-95 في المئة من مساحة مصر، ولكن هذا ببساطة غير صحيح.13 فوزارة الدفاع تتمتع بصلاحية ترخيص استخدام أراضي الدولة، ولكنها في الواقع واحدة من بين عدة وزارات حكومية تتمتع بسلطة تنظيمية مماثلة (وإنْ كانت هي الأقوى). لذا، مع أن التحكم في استخدام الأراضي يُعد، بلا منازع، أحد أهم المزايا الاقتصادية للمؤسسة العسكرية، ومن أكثر الكوابح الضارة بالاقتصاد العام والقطاع الخاص، فإن الدخل الفعلي المستمَد لا يتناسب بشكل مباشر مع مدى السيطرة العسكرية. وكذلك لا يمكن احتسابه من خلال تقييم مفترض لقيمة أراضي الدولة، لأن هذه الأراضي لا يمكن تحديد سعر لها قبل أن يتم ترخيصها للأغراض التنموية الاقتصادية أو السكنية، فتتحول بالتالي إلى عقارات: عندها فقط تكتسب الأراضي قيمة سوقية واضحة قد تستفيد منها المؤسسة العسكرية، ولكنها لا تستطيع الاستحواذ عليها بالكامل. ومع ذلك، فإن القدرة على إعادة تحديد وجهة استخدام الأراضي التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية كانت مصدراً رئيساً من الدخل منذ ثلاثة عقود على الأقل، حيث توفِّر رأس المال الأساسي لتوسيع المزارع العسكرية منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ولإطلاق شركات جديدة منذ التسعينيات، أو الاستحواذ عليها، وتحقيق عائدات عالية من المضاربة بشكل عام.

بين الصون والسياسة والافتراس

من المستحيل تقدير القيمة الصافية للاقتصاد العسكري تقديرًا كميًّا. بالفعل، فإن الأرقام المتناقضة التي جرى تقديمها في أوقات مختلفة من قبل كلٍّ من وزير الدولة للإنتاج الحربي والمتحدث الرسمي باسم الوزارة عن المبيعات السنوية خلال الفترة 2014-2017، تظهر أن حتى العسكريين يواجهون مشكلات في مسك دفاترهم.14 ولكن، على أي حال، فإن محاولة تحديد نسبة الاقتصاد المصري التي تسيطر عليها المؤسسة العسكرية هي مثل ذرّ الرماد في العيون. بدلًا من ذلك، تدور الأسئلة الأهم حول سبب قيام المؤسسة العسكرية بأنشطة اقتصادية مختلفة، وما هي الآثار الجيدة أو السيئة على النمو الاقتصادي في مصر، وعلى الخدمات العامة وتطور القطاع الخاص. تكمن الأجوبة في مزيج من ثلاثة دوافع: الجهد الغريزي الذي تبذله المؤسسة العسكرية لتصون القدرة الإنتاجية للصناعة الحربية المحليّة؛ وسعي كبار مسؤولي الدفاع لخدمة الأولويات والأهداف السياسية للرئيس؛ والإستجابات الإنتهازية من قبل الفاعلين العسكريين والمدنيين للقبض على فرص الافتراس الاقتصادي التي فتحتها أمامهم المشاريع والسياسات التي تُقرّ على مستوى رفيع، بهدف النفع الذاتي وذلك في بيئة قانونية وبيروقراطية في غاية التساهل.

لا يزال صون الصناعة الحربية التي بناها الرئيس جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن العشرين يشكّل الاستراتيجيات التجارية والاستثمارية. وغالباً ما يقدم المسؤولون شعاراً مفاده أن الإنتاج للأسواق المدنية هو مجرد وسيلة لاستخدام الطاقة الفائضة في المصانع العسكرية. ومع ذلك، سعت وزارة الإنتاج الحربي وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع مرارًا وتكرارًا في العقد الماضي إلى بناء منشآت جديدة، وتوسيع خطوط الإنتاج، وتوسيع تنوع سلعها وخدماتها للأسواق المدنية، ما يردّ الحجة القائلة بأنها تسعى فقط إلى الاستفادة من الطاقة غير المستغَلّة. نادراً ما يكون الإنتاج الدفاعي مجديًا اقتصاديًّا في أي بلد ما لم يقدر على الاستحواذ على حصة كبيرة من أسواق التصدير، وهو ما فشلت مصر في تحقيقه. والعقبة الرئيسة في هذا السياق تتمثل في الانخفاض المذهل في مستوى الاستثمار في البحث والتطوير الحقيقي، ما أدى إلى الحدّ الشديد من استيعاب التكنولوجيا الأجنبية، وتوليد التكيف والابتكار المحليين، وزيادة المحتوى المحلي (ما تسبب بانخفاض القيمة المضافة إلى الحد الأدنى). وقد عبّر وزير الإنتاج الحربي عن ذلك حين اعترف بأن غالبية الشركات العشرين في وزارته كانت لا تزال تتكبد خسائر في عام 2018، بعد عدة سنوات من الزيادات المزمعة في الإنتاج.15 وقد لا تكون أوجه القصور الاقتصادي في الحفاظ على الجانب المدني من الصناعة الحربية أو توسيعه أسوأ مما هي عليه في شركات مماثلة في القطاع العام في مصر، لكنها تؤدي إلى استنزاف مماثل في خزانة الدولة، وإلى رأسمال عقيم (أي أصول لايمكن الاستفادة منها في الأمد المنظور).

إن خدمة الأهداف السياسية للرئيس هي سمة مميزة للنشاط الاقتصادي العسكري في ظل إدارة السيسي، ما يفسر الزيادة الهائلة في نطاقه وحجمه منذ عام 2013. ويُعتقد أن دور الهيئات العسكرية في تقديم السلع والخدمات العامة الذي يجري الترويج له وتمجيده، يعزز الاستقرار السياسي والشرعية الداخلية للإدارة، مع إظهار مصداقيتها للحكومات الأجنبية والمستثمرين. "إننا جادّون" هي الإشارة المقصودة للجمهورين الداخلي والخارجي، وليس تحقيق الربح. إن درجة الاعتماد على المؤسسة العسكرية لقيادة هذا الجهد لم يسبق لها مثيل، حتى مقارنةً بعهد عبد الناصر، ولكن ما تتشاركه إدارة السيسي مع جميع سابقاتها، بل وتعظّمه، هو تحيز تكنوقراطي مفرط يستجيب للتحديات الاجتماعية والاقتصادية بحلول هندسية وإجراءات فنية.16

إن خدمة الأهداف السياسية للرئيس هي سمة مميزة للنشاط الاقتصادي العسكري في ظل إدارة السيسي، ويفسر الزيادة الهائلة في نطاقه وحجمه منذ عام 2013.

التجسيد الأكثر تعبيراً لهذا النهج هو التشبث المستمر بحل شدة الاكتظاظ السكاني في وادي نهر النيل (وما يترتب عن ذلك من أضرار بيئية، وازدحام في النقل، وفقدان أراضٍ زراعية) من خلال استصلاح الأراضي في المناطق الصحراوية ونقل الجزء الأكبر من السكان إلى تجمعات سكنية جديدة هناك. سيطر هذا الرأي على التفكير الرئاسي والحكومي لأكثر من 60 عامًا، ووفر إطارًا لتبرير الاستثمار الضخم على الرغم من فشل جميع المخططات السابقة تقريبًا. وقد أدى ذلك أيضًا إلى ظهور "عقدة الصرح" التي ارتقى بها السيسي إلى آفاق جديدة بمشاريع ضخمة مثل توسيع قناة السويس ومخطط استعراضي لعاصمة إدارية جديدة تمامًا، وجرى وضع المشروعين تحت الإدارة والإشراف العسكريين.17 لا يبدو أن أيًّا من ذلك يتم بطلب المؤسسة العسكرية، ناهيك عن قيامها بفرضه، مع استثناء محتمل للبنية التحتية والتنمية الصناعية في منطقة قناة السويس التي تعتبرها تلك المؤسسة بمثابة ملاذ اقتصادي لها. ولكن من الواضح بنفس القدر أن العسكريين يشتركون في عقلية السيسي، بما في ذلك إيمانه بمهاراتهم الهندسية والإدارية.

وبالتالي، فإن المؤسسة العسكرية لا تعترض بشكل واضح على نهج السيسي لتوليد النمو الاقتصادي، الذي يدور إلى حد كبير حول إطلاق سلسلة من المشاريع الإنشائية والعمرانية التي لا نهاية لها كما يبدو. وفي حال فكَّر السيسي أو المؤسسة العسكرية في الاقتصاد من الناحية المفاهيمية، إنْ حصل ذلك أصلاً، فيعتبره مجرد المجموع الكلي للمشاريع المنفصلة لبناء الطرق السريعة والجسور ومحطات الطاقة ومحطات معالجة المياه والمدن الصحراوية والمنتجعات الفاخرة. في هذه الرؤية الفوقيّة، ثمة قليل من إدراك كيف تعمل الأسواق فعلياً، وكيف تزداد الإنتاجية والكفاءة، وكيف يتولد نمو مستدام في الاستثمار والوظائف، وفي تمكين القطاع الخاص من النمو الحقيقي. يضاف إلى ذلك عدم دراية بكيفية تأثُّر غالبية المصريين الذين عانى 60 في المئة منهم من الفقر أو التعرض إلى الفقر عام 2019، ناهيك عن غياب الميل إلى تطبيق استراتيجيات النمو الاقتصادي الشامل اجتماعيًّا أو السياسات التنموية التشاركية18. ومن المفارقة أن التحيز التكنوقراطي عند قادة الدولة والمؤسسة العسكرية قد أخذ مصر في اتجاه متباين عن ذلك الاتجاه الذي وصفته عالمة السياسة عائشة صديقي في باكستان، حيث "تعتمد الحكومات العسكرية أكثر على التكنوقراط، ولاسيما الخبراء في التجارة والاقتصاد، وعلى طبقة أصحاب الأعمال، من أجل كسب الجزء الأكبر من الموارد المالية الموجهة نحو التحديث العسكري، والتي يمكن استيفاؤها من الميزانيات الوطنية".19 ليس لدى مصر نقصٌ في التكنوقراط القادرين، ولكن عدم وجود دافع واضح للربح وراء هذا الجانب من النشاط الاقتصادي العسكري، والعلاقات المتناقضة بين المؤسسة العسكرية والشركات الكبرى قد أدّت إلى نموذج مختلف اختلافًا جذريًّا يتضمن بعض الجوانب غير الرأسمالية ويعتمد بشدة على التمويل العام (والاقتراض). ويبدو التناقض أكثر وضوحاً مع مثال تركيا، حيث الشركات المدنية المملوكة للقوات المسلحة تعمل بالكامل على قواعد تجارية داخل الأسواق التنافسية، وحيث الصناعة الحربية مملوكة للقطاع الخاص وتخضع لمنطق تجاري عادي.20

ليس كل ما تفعله المؤسسة العسكرية المصرية في المجال الاقتصادي غرورًا أو ضررًا أو افتراساً. إن إزاحتها الجهات الفاعلة المدنية التي كان يفترض أن توفر الإسكان العام والبنية التحتية، تضاعف أوجه القصور في جهاز الدولة، ولكن لا يزال في مقدورها تقديم مساهمة إيجابية. علاوةً على ذلك، يبدو أن الهيئات الهندسية العسكرية تقدم نوعية جيدة متوافقة مع الميزانية وفي الوقت المحدد، على الرغم من أن هذا غير صحيح في جميع المجالات، وغالبًا ما يخفي العديد من التكاليف أو النفقات والأجور المستحقة للمقاولين المدنيين. بالأحرى، تكمن المشكلة الأساسية للاقتصاد المصري في كيفية عمل الدولة التي تشكّل في حد ذاتها انعكاساً لكيفية توليد السلطة السياسية واستخدامها. من الواضح أن القوات المسلحة جزء لا يتجزأ ومستفيد رئيس من هذا النظام، وتتحمل مسؤولية كبيرة عن ضمان بقائه. ولكن الرئاسات المتتالية، لا القوات المسلحة، هي التي أصدرت مرارًا وتكرارًا مراسيم تغرق مبالغ هائلة من رأس المال في مشروعات ضخمة تعتمد في الغالب على افتراضات خاطئة عن الفوائد والعوائد المتوقعة.

تكمن المشكلة الأساسية للاقتصاد المصري في كيفية عمل الدولة التي تشكّل في حد ذاتها انعكاسا لكيفية توليد السلطة السياسية واستخدامها. من الواضح أن القوات المسلحة جزء لا يتجزأ ومستفيد رئيس من هذا النظام.

يمكن أن ترتفع التكاليف الى مستويات طائلة. فقد بلغ إجمالي الدين الحكومي (المحلي والخارجي) ما يُقدّر بنسبة 108.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي بحلول حزيران/يونيو 2016، وهو أعلى مستوى في اثني عشر عامًا.21 بعد ذلك بثلاثة أعوام، ارتفع الدين الخارجي الوطني إلى 106.2 مليارات دولار (ما يمثل 35.1 في المئة​ من الناتج المحلي الإجمالي) والديون المحلية الحكومية إلى 4.2 تريليونات جنيه مصري، ما يمثل 92.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.22 وقد أفيد أنّ طفرة المشاريع الضخمة والمشاريع الوطنية تحت إدارة السيسي تمثل 54 في المئة من الزيادة في الاقتراض الحكومي من البنوك المصرية والمقرضين الأجانب بين كانون الأول/ديسمبر 2016 وأيار/مايو 2019.23 ولقد استهلكت خدمة الدين العام ما يصل إلى 40 في المئة من ميزانية الحكومة، وكان الاستثمار الأجنبي المباشر يتناقص اعتبارًا من عام 2019.24

والنتيجة هي أن القيمة المضافة الاقتصادية سلبية في العديد من المشاريع ذات الدوافع السياسية التي فرضها السيسي ونفّذتها الهيئات العسكرية، حيث إن تكلفة رأس المال الاقتصادي تتجاوز العائدات. ويمثل جزء كبير من هذا الاستثمار رؤوس الأموال العقيمة أو المعطلة التي لا يمكن إنقاذها في ظل الظروف الاقتصادية الحالية أو المتوقعة، ما يفرض استنزافًا ماليًّا طويل الأجل ويجعل من الصعب التراجع واتباع نهج مختلف في المستقبل. على سبيل المثال، بعد أربع سنوات من إطلاقها، تكافح العاصمة الإدارية الجديدة من أجل جمع المبلغ الذي تحتاجه وهو 58 مليار دولار، وشهد المشروع انسحاب مستثمرين أجانب رئيسين.25

إن الدور السياسي المركزي للقوات المسلحة منذ عام 2011، ولاسيما منذ السيطرة على السلطة في عام 2013، جعلها عاملًا مساعداً لهذا النهج الاقتصادي. علاوةً على ذلك، فإن تمكينها في ظل السيسي قد يأخذها إلى النقطة حيث لا يعود ممكناً إخراجها من الاقتصاد. وبالإضافة إلى التأثيرات على الاقتصاد الوطني، فإن ذلك يخلّف آثاراً كبيرة على نمو القطاع الخاص. فالدور الإداري للمؤسسة العسكرية في مشاريع الأشغال العامة والإسكان منذ عام 2013 قد أثار الإعجاب محلياً، بما في ذلك إعجاب شركات القطاع الخاص التي تم التعاقد معها من الباطن للقيام بالتنفيذ الفعلي، إلا أن توسعها في القطاعات الجديدة أدى إلى اتهامات بسلوك اقتصادي مفترس. إن دخول المؤسسة العسكرية إلى قطاعات مثل الصلب والإسمنت، وهما قطاعان مشبعان بشكل مفرط ويجري تزويدهما بالكامل تقريبًا من قبل شركات القطاع الخاص، يحوّل الهيئات العسكرية إلى هيئات منافِسة مباشرة، مثلاً، مع إزاحة الشركات المتعثرة المملوكة للدولة التي تعمل أصلًا في هذه القطاعات، بدلًا من إنقاذها وجعلها أكثر ربحية. إلى ذلك، فإن حقيقة أنّ هذا الدخول يرتبط بتوفير احتياجات الإنشاءات التي تديرها الهيئات العسكرية، والتي بدأ يتراجع حجمها الإجمالي مع اكتمال المشاريع أو نفاد التمويل الحكومي والاستثمار الأجنبي، ما يهدد بترك أصول إضافية عالقة بيد الهيئات العسكرية على شاكلة قدرة إنتاج فائضة عن الاحتياج. العسكر مهندسون جيدون، لكنهم صناعيون سيئون واقتصاديون أسوأ.

العسكر مهندسون جيدون، لكنهم صناعيون سيئون واقتصاديون أسوأ.

مهما كان الدافع الفعلي لعملية صنع السياسة من قبل القيادة السياسية للبلاد والقيادة العسكرية العليا، فإنه يوفر سياقًا للافتراس عند المستويات الأدنى من الاقتصاد العسكري. فالنظام القانوني والتنظيمي والإداري المعقَّد في الدولة المصرية يسمح باستنسابية كبيرة وفرصة واسعة لتبادل المعلومات الخاصة وتحقيق الأرباح الطائلة بفضلها، والريعية، والتقاط مصادر الدخل غير الرسمية. ربما كان الغرض من التوسع الهائل في نطاق الاقتصاد العسكري وحجمه منذ عام 2013 هو خدمة الأجندة السياسية للرئيس، لكن هذا التوسع يعتمد أنماطًا في إدارة الأعمال جرى إرساؤها على مدى الأعوام الثلاثين الماضية على الأقل، إن لم يكن العقود الستة والنصف منذ عهد عبد الناصر. كما ولقد سارت شبكات الضباط على خطى الهيئات العسكرية الرسمية في التدخل في مجموعة واسعة من القطاعات، عاملةً في بعض الأحيان من خلال أقرباء الضباط على إنشاء شركات خاصة كواجهات بهدف الحصول على العقود (أو الفوز بها من أجل بيعها لقاء ربح). وقد يساعد هذا أيضًا في توضيح ميل الهيئات العسكرية الواضح إلى تفضيلها منح عقود أشغال عامة إلى شركات صغيرة أو متوسطة غالبًا ما تكون غير معروفة وتفتقر إلى المهارات والقدرة.

إن العلاقة بين الدائرتين الرسمية وغير الرسمية من الاقتصاد العسكري هي، في معظمها، مفيدة للطرفين. لكن تكاملهما في الغالب يشكل خدمة ذاتية بدلاً من أن يضيف قيمة إلى الموارد المالية العامة أو الاقتصاد الأوسع. ومع ذلك، فإن التمييز بين هاتين الدائرتين ضروري، لإتاحة فصلهما لو توفرت الإرادة السياسية للقيام بذلك. من الناحية النظرية على الأقل، طالما لا يمكن اختزال القوى الكلية الدافعة له بالافتراس وحده: يمكن تفكيك وتجريد أجزاء الاقتصاد العسكري التي لا تتعلق بتوفير الاحتياجات الدفاعية على وجه التحديد. لكن تطور هذا الاقتصاد منذ عام 2013 قد يؤدي إلى تحول نوعي، وليس فقط زيادة كمية خطية، ما يجعل من الصعب للغاية إزاحة التراكمات الانتهازية التي تتكدَّس وتتعمق مع كل عام يمر. كذلك، فإن التعديل الدستوري لعام 2019 الذي يمكّن القوات المسلحة من التدخل عند الضرورة من أجل "صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد"، يضمن فعليًّا عدم التمكن من الطعن في الدور الاقتصادي الرسمي للمؤسسة العسكرية وامتداداتها غير الرسمية، إلاً إذا قررت أن تفعل ذلك بنفسها26.

تحديات البحث

البحث في الاقتصاد العسكري المصري يطرح تحديات. فإن أمورًا مثل التعتيم المالي وسوء نوعية البيانات تعقّد تقدير المؤشرات الاقتصادية المهمة مثل الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن التراجع المستمر في قيمة الجنيه المصري، الذي انخفض إلى نصف قيمته في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، يجعل من الصعب تحويل القيمة بالدولار الأميركي. (التحويلات المقدمة في هذا التقرير لا تعكس القيمة الحقيقية المعدلة، وبالتالي ينبغي أن تؤخذ على أنها مجرد مؤشر، بشكل خاص عندما تتعلق بتقلبات رئيسة في أسعار الصرف.) إلى جانب هذه المشكلات، فإن تجميع وتدقيق الحقائق أمر معقد بسبب الاتساع الكبير لأجهزة الدولة التي لديها بنية معقدة تضم 295 "وحدة" و2449 "كياناً إداريًّا".27 وفي بعض الأحيان، تبدو الهيئات الحكومية ووكالات الأنباء نفسها مشوشة ليس فقط حيال الأسماء الصحيحة لوحدات معينة، بل أيضًا حيال الوزارة أو الهيئة العامة التي تنتمي إليها. وعندما تستشهد وسائل الإعلام بمسؤولين عسكريين يتحدثون عن نشاط اقتصادي، غالبًا ما تستخدم هذه الوسائل المصطلحات بشكل تبادلي في حين تكون في الواقع لهذه المصطلحات معانٍ متمايزة، مثل الإنتاج، أو إجمالي الحركة المالية، كما يخلط الإعلام بين هذين المصطلحين وبين الربح.

ولكن فيما لا تنشر المؤسسة العسكرية سجلاتها المالية، فإنها ليست خجولة من نشاطها الاقتصادي. على العكس تمامًا، يحرص المسؤولون على وصف إنجازاتها المفترضة. وبالتالي، يعتمد هذا التقرير بشكل أساسي على مواد مفتوحة المصدر، معظمها أولي: مواقع الشركات العسكرية، والجريدة الرسمية، وسجلات الأعمال، ووسائل الإعلام الموالية للحكومة. على سبيل المثال، لقد سمح ذلك بإعداد قوائم لجميع الهيئات العامة والقومية الاقتصادية والشركات المملوكة للدولة وشركات القطاع العام السابقة التي تمت خصخصتها ولديها ضباط متقاعدون من القوات المسلحة في مجالس إدارتها، ما يلقي الضوء على مجالات التركيز والتأثير المفضلة لديها. إن التقييم النوعي ورسم خارطة الممارسات غير الرسمية تدعمهما المقابلات التي أجريت بين العامين 2008 و2018 مع عشرات من المصريين، من ضباط متقاعدين من القوات المسلحة، ووزراء حكوميين، ونواب، ورجال أعمال واقتصاديين، وصحفيين وباحثين وناشطين، ومع عدد إضافي من غير المصريين من دبلوماسيين أجانب ومسؤولين ماليين دوليين وعاملين في قطاع الدفاع ومحللين. وقد جرى حجب أسمائهم من أجل حمايتهم. وهذه المصادر مجتمعة توفّر رسم صورة شاملة للعلاقات واتجاه تدفقات الموارد.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

تمكين الاقتصاد العسكري

يستند الاقتصاد العسكري بمجمله إلى قدرة القوات المسلحة المصرية على الاستفادة من دورها الرسمي الأساسي في الدفاع عن الوطن، والسلطات الرسمية وغير الرسمية التي تتمتع بها داخل الدولة المصرية. وهذه القدرة والسلطات مُرسّخة في القوانين ولوائحها التنفيذية والمراسيم الرئاسية وغيرها من الصكوك التي تفوِّض وزارة الدفاع والهيئات التابعة لها (بما في ذلك القوات المسلحة وفروعها المختلفة)، ووزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع من الانخراط في أشكال متنوعة من النشاط الاقتصادي خارج المجال المحدد والأضيق من الإنتاج العسكري. وهذا الإطار القانوني والتنظيمي يسبغ على الفاعلين في الاقتصاد العسكري ثلاثة امتيازات بالغة الأهمية: الجواز القانوني، والسلطات الإستنسابية أو التقديرية، ونقص الشفافية.

إن المساحة بين ما يأذن به الإطار القانوني بشكل صريح وما لا يحظره صراحة قد سمحت بأشكال وطرق جديدة من الانتفاع الواضح دون أن تخرج عن الصفة القانونية تمامًا. لكن القشرة القانونية لما يجوز مع أنه غير مستحب قانونيًّا، قد تآكلت بشدة بمرور الوقت، ما أدى إلى تعدٍّ كبير على المقدّرات والأصول العامة والخاصة وإلى ممارسات غير قانونية بشكل فاضح. وفي الوقت نفسه، تواطأت المؤسسة العسكرية مع آخرين في التحالف البيروقراطي الحاكم الذي تعد جزءًا منه، من أجل إصدار صكوك قانونية أو النظم الإدارية (مثل الحواجز غير التعريفية أمام التجارة) لغرض محدد هو الالتفاف على القوانين المحلية أو الاتفاقات التجارية الدولية التي تُهَدد بتقييدها، مع البقاء رسميًّا ضمن القانون.

إن المساحة بين ما يأذن به الإطار القانوني بشكل صريح وما لا يحظره صراحة قد سمحت بأشكال وطرق جديدة من الانتفاع الواضح دون أن تخرج عن الصفة القانونية تمامًا.

إلى ذلك، فإن المؤسسة العسكرية التي تتضمن بشكل عام كافة الهيئات المذكورة أعلاه، تمارس صلاحيات تقديرية واسعة جدًّا . فخلال العقود الأربعة الماضية، اكتسبت، أو استملكت في بعض الحالات، الحق في منح العقود التجارية والقيام باستثمارات كبيرة، وتقديم "هدايا" مالية أو مادية أخرى، كالأراضي والجسور والطرق السريعة والأغذية، إلى هيئات حكومية أخرى ومنظمات شبه حكومية وإلى الجمهور العام، من دون الحاجة إلى موافقة مسبقة أو تصديق لاحق من أي سلطة خارجية. كما أن الهيئات العسكرية لا تضطر إلى التنسيق مع أي هيئة حكومية مسؤولة عن الإدارة أو التخطيط الاقتصادي عند تصميم أو تنفيذ استراتيجياتها التجارية والإنتاجية والاستثمارية الخاصة، أو تشكيل الشراكات التجارية، أو التصرف في الإيرادات.

إن قدرة المؤسسة العسكرية على حجب أنشطتها باسم الأمن القومي قد فاقمت غموض المعلومات المتعلقة بالمعاملات المالية، في ظاهرة مشتركة مع العديد من مؤسسات الدولة في مصر، ما يفسّر تصنيف مصر السيئ في مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، حيث انخفض ترتيب مصر إلى 117 من بين 180 دولة في عام 2017 (بعد أن كان 94 في عام 2014).1 إلا أن غياب الشفافية لعب دوراً مؤثراً في تطور الاقتصاد العسكري الجانح بشكل خاص. فالقطاع الاقتصادي العسكري الرسمي قد يطلق ادّعاءات تتعلق بكفاءته مقارنةً بالمنافسين المدنيين في القطاع العام أو الخاص، لكن هذه الادّعاءات لا يمكن تأكيدها أو الطعن فيها بشكل مستقل. كما أن غياب الشفافية قد أسهم في إحداث بيئة يمكن أن يجري فيها المتاجرة الداخلية وتحويل موارد الدولة وعمليات إجرامية.

وقد تسارعت هذه الاتجاهات بفضل ضمان الإفلات من العقوبة. فالجزء الأكبر من القطاع الاقتصادي العسكري الرسمي لا يقع ضمن اختصاص هيئات التدقيق ومكافحة الفساد في مصر، أكان ذلك بحكم القانون أم بحكم الواقع. وبالفعل، فإن أقوى هذه الهيئات، أي هيئة الرقابة الإدارية، يرأسها ويعمل فيها عدد كبير من الضباط السابقين من القوات المسلحة، ما يضمن وقاية إضافية من التفتيش. علاوة على ذلك، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم في أيار/مايو 2011 مرسوما نقل سلطة تحديد ما إذا كان يجب محاكمة ضباط القوات المسلحة المتهمين بمكاسب غير مشروعة في المحاكم العسكرية أو المدنية، إلى النيابة العامة في وزارة الدفاع، حتى لو كان المشتبه بهم قد تركوا الخدمة. وعلى خلفية الاقتصاد الليبرالي الجديد والخصخصة القائمة على المحسوبية منذ أوائل القرن الحالي، التي فتحت فرصًا جديدة لمَن هم في مواقع متنفذّة، كانت النتيجة تسارعًا حادًّا وتحولًا نوعيًّا في آن في الاقتصاد العسكري.

إعادة إنتاج النظام الريعي في مصر: المسار التاريخي

أورد قادة المؤسسة العسكرية المصرية تبريرات متنوعة للانخراط العسكري في الاقتصاد المدني. فَهم يشددون على الحاجة إلى استخدام السعة الإنتاجية الفائضة في الصناعة الحربية، وهم قبل كل شيء يصرون، مرارًا وتكرارًا، على قدرة الشركات العسكرية وإدارات القوات المسلحة على توفير المنتجات والخدمات (لاسيما الإنشاءات) بتكلفة أقل، وكسر احتكارات السوق في سلع معينة، والمساهمة بشكل مباشر في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي التجارة. ومع أن المساهمة في توفير البنية التحتية العامة والوظائف هي مساهمة حقيقية، فإن بقية هذه الادّعاءات خاطئة إلى حد كبير وتتوقف على خفة يد في كيفية حساب التكاليف والفوائد.

بدلًا من ذلك، فإن نموذج الاقتصاد العسكري هو في المقام الأول ريعي. وهو يكرر منطق النظام المتمثل في استخدام الموارد العامة لاسترضاء فئات وشرائح رئيسة متركزة بشكل كبير في القطاع العام ومؤسسات الدولة، في الوقت الذي يسعى فيه أيضاً لتحقيق دخل الريع لنفسه. وخلافاً للإيحاء بأن الفكر الاقتصادي التجاري السليم هو الذي دفع الاقتصاد العسكري في أي مرحلة من المراحل، فإنه، في الواقع، قد تطور أساساً عبر الاستيلاء على مصادر الدخل المتولّدة عن امتيازه في الوصول إلى المقدّرات والعقود العامة التي تسيطر عليها الدولة. وجنبًا إلى جنب نظيراتها المدنية في القطاعين العام والخاص ، فقد سعت جهات مؤسساتية وجماعات مصالح عسكرية إلى استغلال الفرص التي أتاحتها التطورات السياسية في المحيطين الدولي والمحلي لمصر من أجل تعزيز وتوسيع امتيازاتها البنيوية ضمن الاقتصاد.

إن نموذج الاقتصاد العسكري هو في المقام الأول ريعي. وهو يكرر منطق النظام المتمثل في استخدام الموارد العامة لاسترضاء فئات وشرائح رئيسة متركزة بشكل كبير في القطاع العام ومؤسسات الدولة، في الوقت الذي يسعى فيه أيضاً لتحقيق دخل الريع لنفسه.

إن مسار الاقتصاد العسكري يشهد على صحة ذلك. فقد جرى بناء الصناعة الحربية المصرية الحديثة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، في السياق المزدوج للصراع مع إسرائيل وفي حقبةٍ كانت فيها النزعة القومية الاقتصادية واستراتيجيات التصنيع للإحلال محل عن الاستيراد تحظى بشعبية في البلدان النامية. كانت هذه أيضاً فترة طُلب فيها من ضباط القوات المسلحة المصرية القيام بأدوار إدارية في الجهاز البيروقراطي للدولة، وذلك، جزئيًّا، لتوفير مهارات تقنية ولتقليص اعتماد النظام الجمهوري الناشئ على الخدمة المدنية التي ورثها من النظام الملكي. إلا أن انخراط الصناعة العسكرية في الإنتاج المدني الذي بدأ في أواخر الخمسينيات أثبت فشله، ولم تنخرط المؤسسة العسكرية في الأشغال العامة والاقتصاد المدني طيلة ما تبقى من عهد عبد الناصر وحتى وفاته في عام 1970.

أما رئاسة خَليفة عبد الناصر، أنور السادات، فقد تميزت بدايةً بصراعه لاحتواء وتفكيك الفئات و"مراكز القوى" المناوئة له في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. ولكن ذلك تحول في النصف الثاني من السبعينيات إلى تخفيف عبء الدفاع عن مصر، وحل مشكلة النقص الدائم في رأس المال، وتقليص الحضور العسكري في الميدان السياسي والحكومة. إلى ذلك، حصل هذا التحوّل وسط التوجه الاستراتيجي الجديد في العلاقات العسكرية والاقتصادية بعيدًا عن الاتحاد السوفييتي، وباتجاه الغرب، وعملية السلام مع إسرائيل.

هذه الأولويات هي التي شكّلت الاقتصاد العسكري. ففي عام 1975، أطلق السادات الهيئة العربية للتصنيع، وهي شركة تجارية عسكرية بتمويل من المملكة العربية السعودية ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة كوسيلة لجذب استثمارات كبيرة إلى مصر وجعل البلاد مركزًا صناعيًّا إقليميًّا. بعد أربع سنوات، سمحت معاهدة السلام مع إسرائيل بتخفيضٍ كبيرٍ في القوات المسلحة وميزانية الدفاع. وقد قادت القوات المسلحة عملية إعادة بناء وإعادة تأهيل المدن والبنية التحتية في منطقة قناة السويس، بتمويل جزئي من المساعدات الدولية، ما سمح لها بوضع اليد على الأصول والأنشطة الاقتصادية هناك لاحقًا. وقد جرى تفويض وزارة الدفاع لإنتاج الاحتياجات الأساسية من الغذاء والمعدات غير القتالية والخدمات للقوات المسلحة، وقد أنشأ السادات لهذا الغرض هيئات اقتصادية عدة، وتحوّل تركيز النشاط الاقتصادي من استرضاء ضباط القوات المسلحة في أعقاب اتفاقية كامبْ ديفيد مع إسرائيل إلى ضمان مستويات معيشتهم في زمن تقليص الميزانية.2

وبحسب أحد التقديرات، كان قد جرى أصلًا تخفيض الإنفاق الدفاعي من 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1970 إلى 9 في المئة في عام 1978، لذلك جاءت التخفيضات الإضافية شكلية إلى حد كبير، وتحققت أساسًا من خلال إبعاد نفقات مختارة عن الدفاتر الحكومية.3 إلا أنّ تلك التخفيضات مهّدت الطريق لصعود وتنويع اقتصاد عسكري موازٍ في عهد حسني مبارك الذي تولى الرئاسة في عام 1981. وخلال السنوات الثلاثين التالية، مر الاقتصاد العسكري بثلاث مراحل متمايزة، تشكّلت كل منها عبر تقاطع متشابه بين العوامل السياسية والاقتصادية، معتمدةً بالقدر نفسه على مكانة القطاع الاقتصادي العسكري كجَيبٍ محصور يتمتع بحماية الدولة.

في عقده الأول، أيّد مبارك مقاربة وزارة الدفاع نحو الدعم الذاتي كوسيلة لتأمين النفوذ السياسي بين الضباط المتململين، في حين حوّل نفقات الدفاع في وقتٍ تعمّق فيه التقشف المالي. أمّا المساعدات الاقتصادية الأميركية التي بلغت 250 مليون دولار سنويًّا، وغيرها من خطوط الائتمان الغربية، فلم تعوّض بشكل كامل عن وقف المساعدات المالية الرسمية وقروض التنمية العربية في عام 1978 أو عن انخفاض عائدات صادرات النفط حين انخفضت أسعار النفط العالمية بشكل حاد خلال الثمانينيات.4 وكان الضغط من جانب المؤسسات المالية الدولية لخفض ميزانية الدفاع قد شجع، من دون قصد، على نمو اقتصاد عسكري خارج الميزانية إلى حد كبير. وكذلك فعلت المنافسة خلف الكواليس على السلطة بين مبارك ووزير الدفاع آنذاك، المُشير عبد الحليم أبو غزالة، الذي استخدم الإنتاج العسكري من السلع والخدمات المدنية وعائدات تصدير فائض الأسلحة والذخيرة إلى العراق، في أثناء حربه مع إيران، من أجل تعزيز مكانته الخاصة داخل القوات المسلحة ومع المواطنين عموماً.

استثمرت وزارة الدفاع في الإنتاج الغذائي، وبناء الإسكان والبنية التحتية، وأجّرت مرافق تملكها الدولة موضوعة تحت سلطتها (مثل الموانئ في منطقة قناة السويس)، واستفادت من سيطرتها على المناطق العسكرية حول العاصمة والمدن الأخرى للحصول على عائد مالي عند الموافقة على استخدام الأراضي للمشاريع التي تمولها الدولة. ويُذكر أن الدخول العسكري إلى قطاعات الغذاء مثل المعكرونة أو الألبان أو المياه المعبأة كان يحاكي سلوك أعداد كبيرة ممّا سُمي "شركات الانفتاح" التي ظهرت تجاوبًا مع سياسة التحرر الاقتصادي التي كان قد أدخلها السادات في العقد السابق. ربما كانت الحصة العسكرية في السوق أقل بكثير مما يُفترض عادةً، وبالتالي فإنه من شبه المؤكد أن قيام وزارة الدفاع بتأجير أراضٍ وبترخيص استخدام الأراضي هو ما أمدّها برأس المال الأساسي للتوسع في المرحلة التالية.5

جاءت إقالة مبارك لأبو غزالة في عام 1989 علامة على مرحلة ثانية تتمحور حول مقايضة بسيطة: تستطيع المؤسسة العسكرية أن تزيد مشاركتها الاقتصادية مقابل أن تبقى خارج السياسة. وكان مبارك قد اضطر في عام 1986 إلى الاعتماد على القوات المسلحة لقمع تمرد قوات الأمن المركزي، وهي هيئة شبه عسكرية كبيرة تابعة لوزارة الداخلية، ما أدّى إلى تمكين أبو غزالة. في المقابل، اعتمد الرئيس بشكل أساسي على أجهزة الأمن الداخلي من أجل مواجهة التمرد الجهادي المتنامي في التسعينيات. فزاد عديد القوى العاملة في وزارة الداخلية وميزانيتها بمعدلات تفوق بكثير معدلات وزارة الدفاع، وكلّف جهاز مباحث أمن الدولة التابع لوزارة الداخلية بمراقبة ضباط القوات المسلحة والتأثير على ترقيتهم.6

قام خليفة أبو غزالة في وزارة الدفاع، الفريق أوّل يوسف صبري أبو طالب، بكبح توسع الاقتصاد العسكري.7 لم تدم فترة ولايته سوى عامين، إلا أن الفريق محمد حسين طنطاوي الذي خلفه في عام 1991 أثبت امتثاله التام لهدف مبارك بتهميش القوات المسلحة سياسيًّا. لقد أشرف وزير الدفاع الجديد على تفشٍّ حقيقي لجمهورية الضباط فيما كان يعمل على احتواء كبار الضباط: خلال فترة ولايته التي استمرت عشرين عامًا وهو أمر غير مسبوق، أصبح من المعتاد أن ينتقل متقاعدو القوات المسلحة إلى مناصب في الجهاز البيروقراطي للدولة وشركات القطاع العام، غالبًا في قطاعات متعلقة بتلك التي خدموا فيها (مثل الطيران أو النقل البحري)، ما أصبح يشكّل حِكراً مضموناً لهذه الفروع من القوات المسلحة.

كان التوقيت مناسبًا، إذ جاء شطب جزء من الديون المصرية البالغة 50 مليار دولار للدول الغربية مقابل تأييد مصر التدخل الذي قادته الولايات المتحدة في أزمة الخليج 1990-1991 ليخفّف ضغوط الميزانية على الحكومة، في تزامن مع إطلاق برنامج الخصخصة الشامل للشركات التي تملكها الدولة، ما أدى إلى زيادة الإيرادات. وقد سمح ذلك بتحول المصانع والشركات العسكرية إلى شركات أعمال عامة تحكمها القواعد والنظم التجارية، ما أدى فعليًّا إلى خصخصة الأرباح مقابل نقل الخسائر إلى الدولة. وقد قامت هذه الشركات وهيئات عسكرية أخرى بتنويع أنشطتها وشركائها التجاريين على مدى العقد التالي، لكن ليس من دليل مقنع بأن حجم تداولها أو نسبتها المئوية من الناتج المحلي الإجمالي نما بشكل كبير في هذه الفترة. كانت النتيجة الأهم لإعادة التوجه الاقتصادي هذه أنها ساعدت في توسيع الحصة العسكرية من عقود الأشغال العامة، وتكرار نمط المضاربة العقارية والمتاجرة من الداخل الذي اتسم به الاقتصاد الأوسع نطاقًا، الأمر الذي خدم جمهورية الضباط فعليًّا أكثر مما خدم الاقتصاد العسكري الرسمي.

وقد كان استئناف برنامج الخصخصة في أوائل هذه الألفية بمثابة إشارة إلى مرحلة ثالثة، ما أتاح للمؤسسة العسكرية فرصة للتوسع أكثر في الاقتصاد المدني. لقد فعل ذلك جزئيًّا عن طريق الاستحواذ على بعض الشركات الفاشلة المملوكة للدولة، أو عبر إنشاء شركات عسكرية جديدة، ولكن أيضاً من خلال البحث عن شراكات ومشاريع مشتركة مع الشركات الخاصة المصرية والأجنبية. ومع أن المؤسسة العسكرية تمكنت من توطيد جيبها الاقتصادي، فإن هذه الفترة لم تتسم بالنمو الجامح. فالاقتصاد العسكري الرسمي اعتمد اعتمادًا كبيرًا على إدارة وزارة الدفاع للأشغال العامة مثل استصلاح الأراضي وبناء المدن الجديدة. بدلًا من ذلك، كان رجال الأعمال الطفيليون المقربون من مبارك وابنه جمال والحزب الوطني الديمقراطي الحاكم هم الذين يجنون المنافع الرئيسة من الخصخصة، مستحوذين على حصة السوق في قطاعات مهمة من الاقتصاد، ليحلّوا محل المؤسسة العسكرية كمصدر للروابط السياسية التي تسعى إليها كل من الشركات العامة والخاصة للفوز بالعقود. كان فقدان النفوذ هذا عاملاً في انزعاج المؤسسة العسكرية، ومعارضتها العلنية أحياناً، حيال خصخصة أصول الدولة الرئيسة وتهيئة جمال مبارك لخلافة والده، ما مهد الطريق لانحيازها ضد مبارك خلال ثورة 2011.

لحق فاصل وجيز خلع مبارك في شباط/فبراير 2011. فبدا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تولى سلطات الرئيس لم يكن لديه خطط واضحة لتوسيع الاقتصاد العسكري، لكنه كشف عن عزمه على الحفاظ على ما كان لديه أصلًا، ما اعتبره ضروريًّا لتلبية احتياجات القوات المسلحة، بمجملها، واحتياجات ضباطها ومنتسبيها، على حد سواء. كان هذا هو جوهر كلام مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة في نيسان/أبريل 2012، وهو أن المؤسسة العسكرية لن تسمح لأي شخص "بالتدخل في مشاريع القوات المسلحة".8 وقد تكشَّف مدى إصرار المؤسسة العسكرية على الدفاع عن حصتها عندما أجبرت وزارة الدفاع الرئيس محمد مرسي (المنتخب في عام 2012) على التخلي علناً عن خططه لوضع التنمية في منطقة قناة السويس، التي اعتبرها العسكر محمية اقتصادية حصرية، تحت هيئة مدنية جديدة ملحقة بالرئاسة في ربيع 2013.

جاء هذا التحدي المكشوف قبل بضعة أشهر فحسب قبل الإطاحة بمرسي في تموز/يوليو2013. بعد أن جربت القوات المسلحة تعديلات دستورية متعاقبة تُجسِّد استقلاليتها المالية والعملياتية عن أي سلطة مدنية، تولّت هذه القوات موقع السلطة الكاملة واكتسبت فرصة غير مكبوحة. وإذ بدا لوهلة أنّ ثورة عام 2011 تهدد المكانة المحمية للاقتصاد العسكري، فإن أي قيود متبقية عليه قد أزيلت بالفعل. وفي عهد السيسي الذي انتخب رئيسًا في أيار/مايو 2014، برزت المؤسسة العسكرية كوسيط ومدير اقتصادي رئيس.

إطار العمل القانوني

لقد تطور الإطار القانوني التمكيني للاقتصاد العسكري بشكل مستمر في ظل الإدارات الرئاسية المتعاقبة التي حكمت مصر منذ أن استولى الضباط الأحرار على السلطة في عام 1952. وضعت الأسس في عهد عبد الناصر، حيث جرى إعفاء المؤسسة العسكرية من دفع الضرائب والرسوم والجمرك، وكان محميًّا من النظم الحكومية المتعلقة بالمشتريات وغيرها من جوانب الإدارة والتقارير المالية التي تخضع لها بقية القطاع العام. التعديلات اللاحقة في ظل رئاسة السادات ومبارك والسيسي أكدت هذه الإعفاءات أو وسّعتها، وعززت استقلالية المؤسسة العسكرية وسلطاتها الإستنسابية، كما عززت استثناءها من كشف المعلومات للسلطات المدنية أو الخضوع للتدقيق الخارجي للحسابات في ما يتعلق بأمورها المالية، كما مددت سيطرتها على الأصول العامة مثل الأراضي، ووسّعت بشكل عام نطاق نشاطها الاقتصادي والتجاري. جرى تأكيد المكانة الخاصة للمؤسسة العسكرية بعد أن أصبح ناصر رئيسًا للجمهورية في عام 1956 بفترة وجيزة. فالمرسوم رقم 263 لعام 1956، الذي أصدره وهو لا يزال رئيس الوزراء، استثنى "المخازن السرية" العسكرية من التفتيش من قبل ديوان المحاسبة ووزارة المالية والاقتصاد، وفوَّض وزارة الدفاع القيام بهذا الدور بالنيابة عنهما وتقديم تقاريرها إليهما بدلاً عن ذلك. والأرجح أنَّ هذا المرسوم قد شكَّل الأساس لاستثناء جميع الهيئات والأصول العسكرية من الرقابة والتدقيق المحاسبي المدنيين منذ ذلك الوقت وحتى الآن.9 ثمَّ جاءَ القانون 204 لعام 1957 ليعفي وزارة الدفاع والكيانات المرتبطة بها، وعلى رأسها القوات المسلحة في ذلك الوقت، من "الضرائب والرسوم واللوائح والقوانين المعدلة لها" في ما يتعلق بعقود التسلح والرسوم الجمركية على الواردات.10 ومع أنه جرى تعيين أعداد كبيرة من ضباط القوات المسلحة في مناصب عليا في الجهاز البيروقراطي للدولة (1500 بين العامين 1954 و1962 وفقًا لتقدير عالم الاجتماع المصري أنور عبد الملك)، فإن المؤسسة العسكرية لم تكن بعد قد لعبت دورًا مباشرًا رسميًّا في الاقتصاد الوطني.11 حتى إن وزارة الإنتاج الحربي، التي جرى إنشاؤها في عام 1954، تمَّ إلغاؤها في عام 1969 بسبب ضعف أدائها.

وضعت الأسس في عهد عبد الناصر، حيث جرى إعفاء المؤسسة العسكرية من دفع الضرائب والرسوم والجمرك، وكان محميًّا من النظم الحكومية المتعلقة بالمشتريات وغيرها من جوانب الإدارة والتقارير المالية.

أما الزخم الحقيقي لتطور الاقتصاد العسكري الرسمي وإطاره القانوني، فقد أتى في ظل السادات، وإن كان ذلك على مراحل. فالدستور الجديد لعام 1971 أعطى الرئيس سلطة الإشراف والموافقة على عقود الدفاع، وقد جرى توسيع ذلك في القانون 29 لعام 1972 ليشمل واردات الأسلحة والمخصصات الدفاعية المتصلة و(الخاضعة للمصادقة من قبل البرلمان) وليمنح سلطة إضافية للتصريح بالإنفاق بما يتجاوز الميزانية المعتمدة.12 استخدم السادات فيما بعد القانون 29 لتوسيع صلاحياته الرئاسية بطرق أخرى، فاستند قانون التأمين الاجتماعي والمعاشات التقاعدية للقوات المسلحة المعدّل رقم 90 لعام 1975 إلى سلطات الرئيس بموجب القانون 29 على سبيل المثال، ليمنع أفراد القوات المسلحة الذين استلموا وظائف مدنية من تلقي معاشاتهم التقاعدية العسكرية في الوقت نفسه الذي يحصلون فيه على رواتبهم الجديدة. (وفي عام 1995، أي بعد حوالي 14 عامًا من وفاة السادات، قضت المحكمة الدستورية بأن استخدامه للقانون 29 لتعديل هذه المادة من قانون التأمين والتقاعد والمعاشات للقوات المسلحة كان غير دستوري. ولكن القانون والمادة بقيا سارييْن.)13 وفي عام 1980، أنهى السادات إعفاء الهيئة العربية للتصنيع شبه العسكرية من تطبيق هذه المادة من القانون 90 على موظفي القوات المسلحة المتقاعدين الذين كانت توظفهم.14 وفي القانون 146 لعام 1981، اعتبر السادات مرة أخرى القانون 29 أساسًا لتوسيع سلطاته في الإشراف والموافقة لتشمل الصادرات العسكرية.

الزخم الحقيقي لتطور الاقتصاد العسكري الرسمي وإطاره القانوني، فقد أتى في ظل السادات، وإن كان ذلك على مراحل.

لم تكن القوانين السابقة تتعلق بالاقتصاد العسكري بشكل مباشر، لكنها أرست نمطًا من الصلاحيات والتدخلات الرئاسية التي جعلته في اتجاه تصاعدي في النصف الثاني من رئاسة السادات، ووضعت الأساس لتوسعه المتسارع في عهد خليفته مبارك. كان السادات قد أعاد تنصيب وزارة الإنتاج الحربي في عام 1971، لكنها ظلت خاملة إلى حد كبير. وبالتالي، فإن إعلان الهيئة العربية للتصنيع في عام 1975 كان بمثابة الخطوة الأولى المهمة في بناء الاقتصاد العسكري. في الواقع، كانت الهيئة العربية للتصنيع خروجًا على المألوف: لقد أنشأها القانون رقم 12 ليس كشركة مصرية بل باعتبارها "منظمة دولية"، لأنها أُنشئت بالشراكة مع عدة دول خليجية.15 وبالتالي، كانت تحتكم بلوائحها الداخلية بدلاً من اللوائح الحكومية. لكن السادات دفع الهيئات العسكرية الرسمية في نفس الاتجاه. وكان قد سبق أن أعفاها من رسوم أخرى ثانوية، مثل "ضريبة الجهاد" المفروضة بموجب القانون 117 لعام 1973، لدعم عبء الدفاع الوطني. ثمَّ مدد بعد ذلك إعفاء وزارة الدفاع من دفع الرسوم الجمركية بموجب القانون 204 لعام 1957 ليشمل كلًّا من وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع. وعندما أسس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في عام 1979، فوّضه تنظيم نفسه بشكل مستقل عن وزارتي الدفاع والمالية، وحرره من الامتثال للّوائح الحكومية المتعلقة بالمشتريات والمحاسبة والتدقيق.

لكن الأهم من ذلك هو الأساس القانوني الذي وضعه السادات للسيطرة العسكرية الرسمية على استخدام أراضي الدولة، التي تبين أنها من أهم أصوله منذ ذلك الحين. سبق أن استوجب القانون رقم 38 لسنة 1977 على الوكالات السياحية الحصول على تصريح من وزارة الدفاع للعمل في المناطق الحدودية، التي تشمل سواحل البلاد، وهي مقصد سياحي رئيس.16 والمرسوم الرئاسي 143 لعام 1981 وسّع هذا الشرط ليشمل جميع "الأراضي الصحراوية"، ما يعني أي منطقة غير مسجلة سابقًا في السجلات العقارية على أنها "ذمم أي مملوكة لأشخاص أو كيانات اعتبارية، عامة أو خاصة، وتخضع للضريبة العقارية.17 وقد شمل ذلك ما يقدّر بـ90-95 في المئة من المساحة الكلية لمصر، وبالتالي أدى إلى توسيع المنافع العسكرية الاقتصادية المحتملة بشكل كبير. وأتْبع السادات ذلك بالقانون رقم 531 لعام 1981 بإنشاء جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، الذي سُمح له بتوليد الدخل من العقارات العسكرية، الواقعة في أحيان كثيرة في المناطق الصحراوية والحدودية.18

وسّع عهد مبارك الصلاحيات والتوجهات الموضوعة في عهد السادات، ما وضع الاقتصاد العسكري على مسار نموٍ متسارع. وقد مدد القانون رقم 186 لعام 1986 الإعفاء الجمركي المذكور في القانون 204 لعام 1957 ليشمل جميع واردات المعدات، ومركبات النقل، والأدوية، وغيرها من المواد غير القتالية، فضلًا عن الأسلحة.19 منذ ذلك الحين، في الواقع، أصبحت كافة السلع والمواد التي تستوردها الهيئات العسكرية معفاةً من الرسوم، بما في ذلك المواد الغذائية المعدة للبيع في الأسواق المدنية. كما أعفى القانون رقم 11 لعام 1991 وزارة الدفاع وجميع الفروع والهيئات التابعة لها من ضريبة المبيعات، وهو إعفاء جرى تمديده في عام 2001 حتى يشمل جميع قادة كافة صنوف القوات المسلحة وأقسامها وهيئاتها وصناديقها، وكذلك الشركات التابعة للهيئة العربية للتصنيع ووزارة الإنتاج الحربي.20 إلى ذلك، جرى تجديد جميع الإعفاءات بشكل دوري. على سبيل المثال، أعيد التأكيد على الإعفاء من الرسوم الجمركية في القانون 91 لعام 2005، وتمّ إعفاء جميع مرافق القوات المسلحة التي تقدم خدمات تجارية (الفنادق والنوادي والمستشفيات والعيادات ودور السينما ومخازن السوبر ماركت) من الضريبة العقارية المفروضة بموجب القانون 196 من 2008.21

وسّع عهد مبارك الصلاحيات والتوجهات الموضوعة في عهد السادات، ما وضع الاقتصاد العسكري على مسار نموٍ متسارع.

في موازاة ذلك، أُعيد تصنيف شركات وزارة الإنتاج الحربي في عام 1991 وفقًا لقانون هيئات القطاع العام وشركاته رقم 97 لعام 1983 الذي ينص على تكوين شركات مساهمة.22 بعد ذلك بعامين، أصدر مجلس الوزراء قرارًا بإعفاء شركات وزارة الإنتاج الحربي من نفقات الإنتاج الدفاعي على أن تتحملها خزانة الدولة بدلاً من ذلك. (من الناحية النظرية، على الأقل، لا ينطبق هذا المرسوم على إنتاجها المدني، ولكن من الناحية العملية، لا يبدو أن التمييز قد جرى تطبيقه، إذا ما كانت الحسابات السنوية التي تم الكشف عنها في عام 2011 دليلًا على الممارسات المحاسبية لديها.) في غضون ذلك، جرى إعفاء الشحنات الواردة إلى الشركات العسكرية كذلك من التفتيش في الموانئ عند دخول البلاد. ربما في هذا الوقت أيضاً، جرى السماح لشركات وزارة الإنتاج الحربي بترحيل فوائض الميزانية، أي نقلها إلى السنة المحاسبية التالية، وجرى إيداعها في صناديق "خاصة" احتفظت بها، تبعًا لذلك، كرأسمال يمكن التصرف به.

هذه التطورات القانونية عززت المكانة الخاصة للمؤسسة العسكرية ومهدت الطريق لتوسعها الاقتصادي. لكن تطورين برزا اتّسما بأهمية خاصة: القانون رقم 89 لعام 1998 بشأن العطاءات والمناقصات، وسلسلة من القوانين التي تمنح سيطرة واسعة النطاق لوزارة الدفاع على أراضي الدولة، وبلغت هذه السيطرة ذروتها في المرسوم الرئاسي رقم 152 لعام 2001 الذي يحدد "المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية العسكرية في الأراضي الصحراوية".

في الحالة الأولى، مصر عضو في منظمة التجارة العالمية، لكنها ليست طرفًا في اتفاقية المشتريات الحكومية الصادرة عن المنظمة.23 وهذا ما يفسر أهمية القانون 89 الذي منح الوزارات والهيئات الحكومية صلاحية واسعة لمنح العقود التي تصل إلى قيمة معينة وفي نطاقات محددة من خلال ما يُعرف عادة بالأمر أو "الإسناد" "المباشر، على أساس غير تنافسي ومن دون مناقصات. الأهم من ذلك أن القانون منح الصلاحية نفسها لوزارة الدفاع ووزارة الإنتاج الحربي.24 وبالتالي، فإن جميع أقسام الاقتصاد العسكري الرسمي يمكنها أن تتبع ما يطلق عليه تسميات متنوعة مثل "العروض المحدودة" أو "العروض المحلية" أو "الممارسة المحدودة" أو "الاتفاق المباشر" مع المقاولين، ويجوز لها تفويض هذه الصلاحيات في ما يتعلق بأي عقد أو نشاط يقع ضمن اختصاصها من دون الالتزام بعتبات في القيمة القصوى للعقود.

جرى توسيع السلطة العسكرية على أراضي الدولة رسميًّا في عام 1988، عندما صدر مرسوم عن رئاسة الوزراء طالب وزارات الزراعة واستصلاح الأراضي، والإسكان والمرافق والتنمية العمرانية، والسياحة، الحصول على تصريح من وزارة الدفاع للعمل في المناطق التي تعتبرها ذات أهمية عسكرية.25 وقام القانون رقم 7 لعام 1991 بتوطيد هذه الصلاحية وتحديثها من خلال مطالبة الهيئات العامة الاقتصادية، المنشأة حديثًا، أيضاً بتنسيق استخداماتها المخططة للأراضي وتقسيم المناطق مع وزارة الدفاع، كما منح القانون الرئيسَ سلطة إضافية في تحديد مناطق صحراوية على أنها مناطق استراتيجية وذات أهمية عسكرية.26 ولم يكن القانون رقم 5 لعام 1996 يتعلق بالدفاع تحديداً، لكنه مهّد الطريق للمضاربة المتفشية في العقارات التي أتت لاحقًا والتي انخرط العسكريون فيها أيضاً، وذلك عبر تمكين الرئيس من وضع القواعد والإجراءات التي تحكم إتاحة أراضي الدولة للمستثمرين مجانًا أو مقابل إيجار رمزي.27

غير أن أهم تطور جاء في المرسوم الرئاسي رقم 152 لعام 2001 الذي مكّن الرئيس من تحديد "المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية العسكرية من الأراضي الصحراوية".28 هذا حدد المعاييرَ التي يجب أن تفي بها أي هيئة مدنية أو شخص يسعى إلى القيام بالبناء أو أي نشاط آخر، سواء فوق الأرض أو تحت الأرض، أو بمحاذاة الطرق، أو قبالة شواطئ البحار والبحيرات، في جوار المنشآت العسكرية.29 في الواقع، منح المرسومُ وزارةَ الدفاع حرية الاستنساب في تعيين الأراضي للاستخدام التجاري.30 حيث فوّض وزارة الدفاع تحديد المناطق الاستراتيجية وكذلك تحديد المسافات الفاصلة التي يجب الحفاظ عليها بين المناطق الاستراتيجية وبين البناء المدني الجديد، والارتفاعات المسموح بها للهياكل التي تُبنى في جوارها، والمواصفات الفنية للأعمال المنتِجة للنفايات (الصلبة أو الغازية أو السائلة) القائمة في مكان قريب منها.31 وأعقب ذلك على الفور القرار الرئاسي رقم 153 بإنشاء المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة الذي سعى إلى جرد واستخدام جميع أراضي الدولة بالتنسيق مع إدارة المساحة العسكرية، مع وجود ممثل عن وزارة الدفاع في مجلس إدارة المركز الجديد. إلى ذلك، فإن على رئيس المركز أن يحظى بموافقة الوزارة وغالباً ما يكون ضابطاً متقاعداً.32

يُلحظ أن هذه القوانين المختلفة تزامنت مع عملية الخصخصة الجزئية التي مرت بمصر على مراحل بين عامي 1991 و2009، ومع زيادات موازية حادة في المضاربة العقارية والفساد. إن منح العقود بالأمر المباشر يعزز قدرة الشركات العسكرية على بيع منتجات ذات جودة متدنية أو بأسعار مبالغ فيها للهيئات الحكومية ويمكّن الهيئات العسكرية من منح عقود المشاريع الحكومية، التي يديرها إلى مقاولي القطاع الخاص المفضَّلين (أو من هم على استعداد لدفع رشاوى باهظة، كما تؤكد مقابلات عديدة أُجريت لهذا التقرير). وقد زعم عضو سابق في حكومة رئيس الوزراء القصيرة الأمد هشام قنديل (2012-2013) فيما بعد، على سبيل المثال، أن كبار المسؤولين في وزارته أمروا قسم المشتريات في الوزارة بدفع مبلغ 400 مليون جنيه مصري (حوالي 63 مليون دولار عندها) لشركة عسكرية من أجل هواتف محمولة تساوي حوالي 50 مليون جنيه مصري في السوق المفتوح.33

وبالمثل، استخدمت وزارة الدفاع سلطتها الفعلية على استخدام أراضي الدولة وعلى إمكانية الوصول إلى مناطق تحتوي على موارد طبيعية قابلة للاستغلال، من أجل انتزاع رسوم الترخيص والرشاوى، وذلك من كلِّ من مستثمري القطاع الخاص والهيئات الحكومية - مثل وزارتي الإسكان والنقل اللتين تعتمدان اعتمادًا كبيرًا على استخدام أراضي الدولة. وينطوي ذلك على بمبالغ غير قابلة للتحديد الكمّي لكنها بالطبع كبيرة. وقد ادعى مسؤولون كبار، بمن فيهم مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، مرارًا وتكرارًا، أن وزارة الدفاع تطلب فقط تعويضًا عن المنشآت العسكرية التي يجب تفكيكها أو نقلها، أو مقابل التنازل عن الأراضي المخصصة للاستخدام العسكري. لكن هذا التخصيص يجري في الواقع بأثر رجعي دائمًا، ولا يمكن إثباته بما أن الخرائط التي يستند إليها تبقى سرية. وترأس وزارة الدفاع "تسلسلًا هرميًّا للسيطرة بحكم القانون على الأراضي العامة غير المخصصة"، كما أشار تقرير للبنك الدولي في عام 2006.34 ويمكن أن يستغرق الحصول على تصريح عسكري لطلبات استخدام الأراضي أكثر من عام، ما يخلق حافزًا قويًّا عند مقدمي الطلبات لدفع رشاوى من أجل استعجال العملية أو اختراق قائمة الانتظار.35 إلى ذلك، فإن الدور الخاص لوزارة الدفاع في إدارة الأراضي زوّد شبكات الضباط بالمعلومات الداخلية، الأمر الذي مكّنهم من شراء الأراضي الصحراوية بأسعار زهيدة للغاية قبل أن تؤدي خطط تطويرها إلى رفع قيمتها. وربما استجابةً لتهديد الإجراء القانوني الذي ظهر بعد ثورة عام 2011، أصدر رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية بالوكالة القرار الرئاسي رقم 45 موكلاً إلى المدعي العام العسكري تحديد ما إذا كانت الاتهامات الموجهة إلى ضباط القوات المسلحة تُحال إلى المحاكم العسكرية أو إلى الهيئات المدنية، ما يؤدي فعليًّا إلى انتزاع هذه السلطة من مكتب النائب العام.36

وكما هو متوقع، جرت إعادة تأكيد الصلاحيات والإعفاءات والامتيازات العسكرية وتوسيعها منذ الانقلاب العسكري الذي وقع في تموز/يوليو 2013. ومن الأمثلة على ذلك التعديل الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور على القانون رقم 89 لعام 1998 بشأن العطاءات والمناقصات في أيلول/سبتمبر 2013، الذي رفع الحدود العليا لقيمة العقود التي يمكن أن يصدرها الوزراء والهيئات الحكومية مباشرة للمقاولين الذين يختارونهم من دون تقديم عطاءات مفتوحة، "في حالات الطوارئ". حصلت وزارة الدفاع ووزارة الإنتاج الحربي والهيئات التابعة لهما على صلاحيات مماثلة، ثم لحقت الهيئة العربية للتصنيع بعد بضعة أشهر- ومن الأهمية أن القانون المعدل لم يلزم أيًّا من هذه الهيئات العسكرية بعتبة للمعاملات من دون مناقصات.37 علاوة على ذلك، فمع أن المادة 9 من القانون المعدل تتعلق على وجه الخصوص بعقود التسلح على النحو المحدد في القانون 204 لعام 1957، طبّقت على جميع العقود الصادرة عن الهيئات العسكرية للموردين المدنيين والمقاولين من الباطن، بما في ذلك للأشغال العامة التي تمولها الحكومة.

وكما هو متوقع، جرت إعادة تأكيد الصلاحيات والإعفاءات والامتيازات العسكرية وتوسيعها منذ الانقلاب العسكري الذي وقع في تموز/يوليو 2013.

إن النفوذ السياسي الصاعد للقوات المسلحة المصرية بعد عام 2011 ودورها المتنامي في الإدارة الاقتصادية بعد عام 2013 جرت ترجمتهما زيادةً حادة في منح العقود بالأمر المباشر إلى القطاع الخاص المصري، الذي يستمد جزءًا كبيرًا من دخله من الأشغال العامة وعقود الشراء الحكومية، ما وسّع نطاق الفساد والمحسوبية. والمرسوم الرئاسي رقم 32 لعام 2014 الذي منع طعن أطراف ثالثة في العقود التي تمنحها هيئات حكومية عزّز قدرة الجهات الفاعلة المتمركزة جيدًا، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، على الحصول على مصادر دخل مربحة وعلى حماية نفسها من التفتيش والملاحقة القضائية في الوقت نفسه. كان الغرض الرئيس منع الطعون القانونية في منح العقود العامة، وحماية كلٍّ من المسؤولين الحكوميين الذين يمنحونها والمقاولين.38 في الوقت نفسه، وبموجب القانون رقم 5 لسنة 2015، جرى إعفاء الهيئات العسكرية من الامتثال لشرط تفضيل السلع الصناعية المصرية في عقود المشتريات الحكومية، ما يسمح لها بالاستعاضة عنها بالواردات الأجنبية إذا رغبت في ذلك.39

اتصلت عدة قوانين لاحقة اتصالاً مباشر أكثربالمؤسسة العسكرية. أهمها القرار الرئاسي رقم 446 لعام 2015 الذي خوّل هيئة مشروعات أراضي القوات المسلحة المصرية استخدام أصولها كحصتها من رأس المال في تكوين مشاريع مشتركة مع شركات محلية وأجنبية. بعد شهر واحد تمامًا، سمح القرار الرئاسي رقم 127 لأي كيان عام بإنشاء شركات مساهمة بعد الحصول على موافقة مجلس الوزراء، ما مهّد الطريق لمزيد من الشركات العسكرية والمشاريع المشتركة.40 ظهر أثر منح الاستخدامَ التجاري العسكري لأراضي الدولة والاحتفاظ، بحكم الواقع، بكافة الإيرادات المتأتية عن ذلك، عندما أوعز القرار الرئاسي رقم 57 لعام 2016 بتأسيس شركة مساهمة لهيئة مشروعات الأراضي (إلى جانب جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع لوزارة الدفاع وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التابعة لوزارة الإسكان) من أجل إدارة مشروع العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة الشيخ محمد بن زايد القريبة.41وبموجب ذلك، لا تدفع الهيئات العسكرية ضريبة القيمة المضافة على السلع والمعدات والآلات والخدمات والمواد الخام التي تحتاج إليها لأغراض التسليح والدفاع والأمن القومي، ولا على السلع والخدمات التي تبيعها الهيئات والمنافذ العسكرية مثل الفنادق التي تملكها وزارة الدفاع أو محطات الوقود التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية. عززت هذه المراسيم نطاق المضاربات العقارية. وهذا الأمر انعكس، على سبيل المثال، في تحول اهتمام المقاولين التجاريين من المناطق الرغوبة سابقًا، مثل القاهرة الجديدة، إلى العاصمة الجديدة.

كما جرى التأكيد على الإعفاءات الضريبية العسكرية أو تمديدها. ففي عام 2016، جرى إعفاء الهيئات العسكرية مرّة أخرى عندما تم تحويل ضريبة المبيعات إلى ضريبة قيمة مضافة.42 وعندما فرض السيسي ضريبة قيمتها 25 في المئة على الفوائض المرحَّلة المتعلقة "بالهيئات العامة والقومية الخدماتية والاقتصادية " الحكومية، لصالح خزينة الدولة في السنة نفسها، أعفى الهيئة القومية للإنتاج الحربي التي تدير مصانع وزارة الإنتاج الحربي.43 في أيار/مايو، أتى المرسوم الرئاسي 233 ليحدد 21 "طريقًا قوميًّا" باعتبارها "مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية"، الأمر الذي أدى، إلى جانب القوانين السابقة، إلى منح الامتياز التجاري الحصري لوزارة الدفاع على طول هذه الطرق.44 بعد خمسة أشهر، جعلت تعديلات على قانون القضاء العسكري جميعَ الحوادث التي تقع في المناطق والمرافق المدنية التي تديرها الهيئات العسكرية، مثل محطات الوقود التي تخدم المواطنين، ضمن اختصاص المحاكم العسكرية.45 وكان التشريع المُقَر في عام 2014 قد وضع أصلًا جميع "المرافق العامة والحيوية"، مثل الوزارات والجامعات، ضمن اختصاص المحاكم العسكرية لمدة عامين. وفي عام 2016، مُدد هذا القانون حتى عام 2021.46 وتلت امتيازات أخرى، مثل إعفاء قطاع الدفاع من الزيادة التي فرضتها الحكومة وقيمتها 43 في المئة على أسعار الكهرباء المفروضة على المنتجين الصناعيين في عام 2018.47

أخيرا وليس آخرًا، تمتع الاقتصاد العسكري أيضاً بالحماية من التدقيق الخارجي. فإن الاستثناء الفعلي للمؤسسة العسكريةعامة من التفتيش من جانب هيئة الرقابة الإدارية، وهي وكالة التدقيق الرئيسة في مصر، أصبح بحكم القانون عندما تم إقتصار اختصاص الهيئة على الأفراد والكيانات المدنية على وجه التحديد، في القانون 207 لعام 2017.48 وبنفس الأهمية، فإنَّ القانون ذاته جعل هيئة الرقابة الإدارية خاضعة للمساءلة مباشرة أمام رئيس الجمهورية، الذي منح نفسه أيضاً سلطة تعيين رئيس الهيئة، ما أكد فعليًّا أن الهيئة أداة للسلطة الرئاسية، ووطّد نفوذه على المؤسسة العسكرية. يضاف إلى ذلك، أنَّ رئيس الوزراء آنذاك إبراهيم محلب كان قد اعتبر قبل سنتين أن الهيئة جهة حكومية تصُنّف عقودها بالسرية "لأسباب الأمن القومي"، ما يعفيها عمليًّا من القانون رقم 5 لعام 2015 الذي يشترط على الهيئات الحكومية "شراء المنتجات المصرية" وزيادة تعزيز تميزها واستقلالها عن الهيئات المدنية.49

توسيع القواعد والالتفاف عليها

إنَّ الإطار القانوني الذي جرى إيجازه أعلاه يوفِّر مجموعة من الامتيازات التي تبدو مؤّكدة بحكم الأمر الواقع بقدر ما هي ممنوحة بحكم القانون، وتنبثق عنها ممارسات تراوح بين الشكل الرسمي وغير الرسمي والمخالف للقانون صراحة. يعمل الاقتصاد العسكري ضمن كتلة معقدة من القوانين واللوائح الداخلية التي تتسم بعدم التجانس والتعارض في كثير من الأحيان.إذ أنها تراكمت عبر عقود من الزمن، في الوقت الذي صارعت فيه بقوة دوائر مؤسساتية واجتماعية نافذة للحصول على مكاسب اقتصادية أو الحفاظ عليها، كلما قامت الحكومة بإجراء تغييرات كبيرة في التوجه الاقتصادي: من النموذج الرأسمالي إبان النظام الملكي قبل عام 1952، مرورًا بالتأميم الاشتراكي، إلى التحرير الاقتصادي الجزئي، ووصولًا أخيراً إلى نظام السوق الحرة الإسمي الذي يجمع في الواقع بين الدور المتبقي الواسع للدولة في المُلكية والإنفاق الرأسمالي مع رأسمالية المحسوبيات. الهيكل الإداري المعقد، والمجزأ بنفس القدر، في إدارة الشؤون المالية والأصول العامة يجعل من الصعب للغاية تطبيق القواعد واللوائح التي تشمل العديد من الإجراءات المتمايزة وغير الشفافة، والمعقدة، والتعسفية، استناداً الى تقرير البنك الدولي لعام 2006 المذكور سابقًا.50

يتمتع الاقتصاد العسكري الرسمي بعدد من الأفضليات القانونية، منها الوصول إلى مواد البناء والبنية التحتية العامة والطاقة المدعومة، والأهم وهو الحصول على العملة الصعبة بأسعار مخفضة.51 تنصّ قوانين التأسيس على بعض الأفضليات، وقد تتمتع بها أيضاً الهيئات العامة والشركات الخاصة المدنية (مثل الطاقة المدعومة). ولكن قد يجري وضع بعض تلك الأفضليات في اللوائح الداخلية كما في قانون التعدين والمحاجر المنقح 198 لعام 2014، الذي يتطلب موافقة وزارة الدفاع على استخراج الثروة المعدنية في أي مكان في مصر، ويمكّن الوزارة من فرض الرسوم على جميع ما يُستخرج في مواقع الإنتاج.52 إلى ذلك، تستطيع الكيانات الاقتصادية العسكرية أن تحتفظ بالودائع في البنوك التي تختارها بنفسها، على عكس الهيئات الحكومية المدنية التي يُسمح لها بالاحتفاظ بحسابات لدى البنك المركزي المصري فحسب، كما يمكن للكيانات العسكرية الاحتفاظ بحسابات من العملات الأجنبية والحصول على تمويل من خارج الميزانية من دون إشراف حكومي.

يتمتع الاقتصاد العسكري الرسمي بعدد من الأفضليات القانونية، منها الوصول إلى مواد البناء والبنية التحتية العامة والطاقة المدعومة، والأهم وهو الحصول على العملة الصعبة بأسعار مخفضة.

هذا ويستفيد الاقتصاد العسكري أيضاً من درجة ملحوظة من الغموض. وقد ادّعى كبار مسؤولي الصناعة الحربية من وقت إلى آخر أن هذا القطاع يخضع للضرائب بشكل اعتيادي، لكن هذا بالتأكيد غير صحيح. ففي كانون الثاني/يناير 2017، قدّم وزير الإنتاج الحربي اللواء محمد العصّار تمييزًا واضحًا حيث ذكر أن المصانع "تدفع مستحقات الضرائب والجمارك والتأمينات الاجتماعية على مستلزمات الإنتاج المدنية مع إعفاء المستلزمات الحربية من الجمارك".53 ولكن لا تزال هناك بلبلة حول الوضع القانوني للشركات العسكرية المسجلة كجزء من قطاع الأعمال العام، والمشاريع المشتركة مع الشركات الخاصة، المحلية والأجنبية على السواء، وهي التي سُمح للهيئات العسكرية بإنشائها بموجب القرار الرئاسي 127 الصادر في كانون الأول/ديسمبر 2015. من الناحية النظرية، يجب أن تخضع هذه للقواعد الضريبية العادية، لكنها في الممارسة لا تخضع لها، كما أقر بذلك اللواء العصار. ولا يقل أهمية عن ذلك أن جميع الكيانات والمرافق والأصول العسكرية تخضع حصرًا لسلطة المحاكم العسكرية، وبالتالي فإن حقوق الشركاء من رجال الأعمال المدنيين المنخرطين في المشاريع المشتركة أو حتى كمقاولين من الباطن تقع في مساحة قانونية رمادية ينبغي على المشرّعين أو صانعي السياسة المصريين التطرق إليها.

جميع الكيانات والمرافق والأصول العسكرية تخضع حصرًا لسلطة المحاكم/العسكرية، وبالتالي فإن حقوق الشركاء رجال الأعمال المدنيين المنخرطين في المشاريع المشتركة أو حتى كمقاولين من الباطن تقع في منطقة قانونية رمادية.

وبالمثل، أكد القانون رقم 6 لعام 1984 الذي أنشأ الهيئة القومية للإنتاج الحربي التي تشرف على شركات وزارة الإنتاج الحربي ومصانعها أنّ مجالس إداراتها ستتلقى مكافآت وحوافز وحصة من الأرباح. وسار إدخال الحوافز التجارية على خطى الممارسة في بقية قطاع الأعمال العام بعد عام 1983، لكن غياب الرقابة الخارجية على الصناعة الحربية يعني أنه لم تكن هناك طريقة للتحقق من الأداء أو الأرباح الفعلية (أي بعض خصم التكاليف والاحتياطي). والميزانيات السنوية للهيئة التي جرى إعلانها في عام 2011 لم تُظهر أي ربح، وقد أقر العصار مرارًا بأن معظم شركات الوزارة يتكبد خسائر، يوحي أن مكافآت وأسهم الأرباح المفترضة يتم توزيعها على المدراء قبل احتساب الأرصدة الصافية. ويقضي مرسوم صادر عن السيسي في أيلول/سبتمبر 2016 بأن يحصل موظفو الهيئة القومية للإنتاج الحربي وشركاتها الفرعية على "ما لا يقل عن 25 في المئة من صافي الأرباح" (التشديد مضاف)، إلا أن انعدام الشفافية حول الحسابات واللوائح المالية للهيئة يمنع التقييم الحاسم ليس فقط لقدرتها الاقتصادية بل أيضاً للامتثال القانوني.54

وكما ذُكر سابقًا، فإن القانون يخوِّل الاقتصاد العسكري الرسمي أن يعمل خارج حيّز كبير من الإطار التنظيمي الذي ينطبق على سائر مؤسسات الدولة. في بعض الحالات، كما هو الحال في قطاع التعدين المذكور أعلاه، تحكم لوائح داخلية محددة قيام المؤسسة العسكرية بتوليد الدخل من الأصول العامة أو الموارد الطبيعية. الأمر الأقل وضوحًا هو ما ينظّم تقاضي الرسوم أو الأرباح والاحتفاظ بها من الأشغال العامة والامتيازات التجارية والاستثمارات في الشركات التجارية، وتوزيع أرباحها، واستخدام المجندين كعمالة رخيصة، سواء في الأنشطة الأخيرة أو في أنشطة جني الأرباح. والمثال الأخير سافر بشكل خاصإذ يجري استخدام المجندين في القوات المسلحة المصرية كعمالة رخيصة في جميع قطاعات الاقتصاد العسكري تقريبًا. بدأت هذه الممارسة في عام 1986 عندما أعلن وزير الدفاع عندها، المشير عبد الحليم أبو غزالة، أنه سيتم تنظيم 30 ألفًا من المجندين في ما يسمى "كتائب إنشاء المشروعات المدنية" من أجل المساهمة في الاقتصاد الوطني.55 وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، لا تزال هذه الكتائب تُستخدم لتنفيذ المشاريع المموَّلة من القطاع العام، ولاسيما في مجالات البناء والزراعة واستصلاح الأراضي، سواء قام بها مقاولون من القطاع العام أو القطاع الخاص. كما أن شركات وزارة الدفاع، ووزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع، تستخدم المجنَّدين الذين هم في الأشهر الستة الأخيرة من الخدمة، وأحيانًا لفترات أطول بكثير، وتؤكّد المقابلات أن المجندين الماهرين "يعارون" بشكل دوري إلى شركات القطاع الخاص.

وأخيرًا وليس آخرًا، فإنَّ الوجود العسكري القانوني في بعض هيئات الدولة والعلاقات غير الرسمية التي يتمتع بها الضباط، مع المسؤولين المدنيين والمشرّعين، يمكّنان الالتفاف على القواعد النظامية لصالح الاقتصاد العسكري الرسمي. وقد لاحظ عالم السياسة، روبِرت سبرينغبورغ، كيف استخدم أبو غزالة منصبه كرئيس للجنة السياسات الوزارية خلال الثمانينيات، ليمنح عقود استصلاح الأراضي للهيئات العسكرية أو ليحجبها عن منافسيها في القطاع العام (وليقدّم صفقات ميسّرة لضباط القوات المسلحة المتقاعدين ورجال أعمال القطاع الخاص).56 وأكدت ورقة عمل صادرة عن البنك الدولي، نُشرت في عام 2018، أن هذه الروابط السياسية ظلت مهمة في الحصول على عقود حكومية لشراء السلع أو الخدمات، بعد مرور ثلاثين عامًا تقريبًا.57 وبصورة أعم، وكما اشتكى رجل الأعمال الكبير نجيب ساويْرِس، فالمؤسسة العسكرية تتمكن من أن تنجز العمل لأنه "عندما ينخرط الجيش، تكون التصاريح غير مهمة، ولا يتعين عليه دفع رشاوى، ويمكنه التغلب على جميع المشكلات التي نتمنى جميعًا أن نتغلب عليها".58

كما تستفيد الهيئات العسكرية والشركات التابعة لها أو شركاء القطاع الخاص من أدوات قانونية أخرى مثل الحواجز غير التعرفية أمام التجارة التي يمكن تصميمها لصالح شركات معينة واستبعاد المنافسين، بما في ذلك الشركات الأجنبية. وكما لاحظ علماء الاقتصاد إسحاق دِيوان وفيليب كِيفير ومارْك شيفْباور، فإن الحماية التجارية مصممة لتخدم الشركات المفضَّلة وليس القطاعات المحددة في مصر، التي شهدت أحد أعلى معدلات الحواجز غير التعرفية في العالم في عام 2010.59 ويمكن للهيئات الحكومية أن تحرف الأسواق بطرق إضافية: فبعد ثلاثة أشهر من قيام وزارة الإنتاج الحربي بعقد شراكة مع شركة غالانتز الصينية لتصنيع مكيفات الهواء محليًّا في حزيرن/يونيو 2016، مثلًا، فرضت السلطات قيودًا على استيراد مكيفات الهواء أجنبية الصنع.60 وتمكنت الهيئات العسكرية من الحصول على تعديل تشريعي مماثل أدى إلى مَنع المنافسة من جانب الشركات الهولندية الأكثر تخصصًا في مشاريع المياه الكبيرة. ومن المعروف أنّه عندما تفشل الوسائل القانونية فإن القوات المسلحة تلجأ إلى وسائل بديلة مثل منع دخول الآلات المستوردة إلى مصر من أجل إجبار الشركات على قبول شروطها، كالحصول على حصة من إنتاج المصنع على سبيل المثال، مقابل إصدار التراخيص اللازمة التي تسمح لها بالإنشاء في مناطق جغرافية أو قطاعات صناعية معينة.61

تستفيد الهيئات العسكرية والشركات التابعة لها أو شركاء القطاع الخاص من أدوات قانونية أخرى مثل الحواجز غير التعرفية أمام التجارة التي يمكن تصميمها لصالح شركات معينة واستبعاد المنافسين، بما في ذلك الشركات الأجنبية.

كشف حساب قانوني

لا تتمتع الهيئات العسكرية وحدها بهذه الامتيازات التي يوفرها القانون. فقد تم أيضاً إعفاء العديد من أجهزة الدولة والشركات العامة من دفع الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة في عهد عبد الناصر، وقد أعيد التأكيد على هذه الإعفاءات لاحقاً في القانون 91 لعام 1983.62وسمح كذلك لمستوردي البضائع والخدمات لأغراض التجارة والتصدير، والسلع الغذائية الأساسية، والطعام، والغاز الطبيعي، والكتب والمجلات، والأدوات العلمية والتعليمية والثقافية. وسُمح للقطاع الخاص باستيراد مواد البناء بلا رسوم بدءاً من عام 1977، ما شكّل ميزة رئيسة، لأن قطاع البناء الذي استأثر بجزء كبير من العقود العامة الممنوحة للقطاع الخاص، لم يتم تأميمه بالكامل.63 إلا أن استمرار القطاع العام في احتكار توزيع مواد البناء مكّن المسؤولين من تعجيل أو تأخير الحصص في أجل الحصول على الرشاوى وبيع الحصص إلى السوق السوداء.64 وبقيت أغلبية هذه الأفضليات قائمة. إلى ذلك، كما أشار خبير الاقتصاد السياسي المصري عمرو عدلي، فإن مساهمة القطاع الخاص في إيرادات الدولة من خلال فرض ضرائب على المكاسب الصناعية والتجارية والرأسمالية هي أيضاً صغيرة، فهي لم تتجاوز 7 في المئة في الفترة بين عامي 2008 و2012، وذلك بسبب التهرب الضريبي من قبل الشركات الصغيرة والمتوسطة، والإعفاءات الضريبية الواسعة والحوافز الحكومية للشركات الكبيرة.65 وبالمثل، بلغ متوسط الضرائب على الممتلكات من جميع المصادر 2.9 في المئة من إيرادات الدولة في الفترة نفسها. بالتالي فإن استثناء الهيئات العسكرية من الضرائب يشكّل جزءًا من مشكلة أكبر في إيرادات الدولة، وقد لا يُحدث انخفاضًا ملموسًا في عجز الموازنة بحد ذاته.

في الواقع، تستفيد جميع الجهات الاقتصادية الفاعلة في مصر من ثغرات واسعة النطاق في الإطار التنظيمي، كما وصف تقرير للبنك الدولي في عام 2003:

مع أن القانون واللّوائح التنفيذية يوفّران مفاهيم مهمة لمشتريات القطاع العام، ويقومان على مبادئ سليمة، إلا أنهما فضفاضان وغير واضحيْن دائمًا بشكل كافٍ للتطبيق المتّسق. وللتعويض عن هذا النقص في الوضوح وفي اكتمال القانون المكتوب واللّوائح المتاحة لهم، أنشأت وزارات مختلفة "قواعد" شراء غير مكتوبة خاصة بها. وأصبحت هذه "القواعد" غير المكتوبة معروفة لمقدمي العروض فقط من خلال التطبيق على الحالات الفعلية، ويمكنها أن تتباين. وبالتالي، فقد أصبحت القرارات الاستنسابية عند السلطة المختصة هي القاعدة لا الاستثناء، كما، على سبيل المثال، في اختيار طريقة الشراء القابلة للتطبيق أو قبول تعديلات العروض بعد فتح المناقصة.66

ليست الشركات العسكرية وحيدة أيضاً في الاستفادة من التفضيل القانوني الذي يسمح بمنح العقود الحكومية إلى شركات القطاع العام التي تكون عروضها في حدود 15 في المئة من المناقصات المتنافسة.67

يؤكّد ما سبق أن المشكلة بالنسبة لمصر، إلى حد كبير، ليست في أن العسكر يختلفون عن نظرائهم المدنيين، بل في أنّهم متماثلون إلى حد كبير. إن الأفضليات التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية متجذرة في القانون، لكنها، إلى جانب آخرين كُثر في الجهاز البيروقراطي للدولة، تستخدم سلطتها التقديرية الكبيرة لثني القواعد وتأكيد الحقوق التي لا ينص عليها القانون صراحة أو التي تتجاوز أحكامه بوضوح، إنْ لم تكن تنتهكها بصراحة. ويؤمّن الإطار القانوني والتنظيمي مجالًا واسعًا لتعزيز مصالحها الاقتصادية فيما تبقى ظاهريًّا ملتزمة بالقانون.

المشكلة بالنسبة لمصر، إلى حد كبير، ليست في أن العسكر يختلفون عن نظرائهم المدنيين، بل في أنّهم متماثلون إلى حد كبير.

وما يحدد التوازن بين الرسمي، وغير الرسمي، وغير الشرعي إنما هو درجة التأثير السياسي أو العلاقات التي تتمتع بها كل جماعة مصالح. هذا الأمر لم يعطِ الجيش الأفضلية دائمًا. ففي عهد السادات، تحوّل الميزان نحو ما سمي "برجوازية الانفتاح" الجديدة، فيما كان قادة الحزب الوطني الديمقراطي ورجال الأعمال المتحالفين من المحاسيب المستفيدين الرئيسين في العقد الأخير من حكم مبارك. غير أن إسقاطه في عام 2011 والتحول اللاحق في الحظوظ السياسية للقوات المسلحة منذ عام 2013، قد غيّر الموازين في المستقبل المنظور. إن الاستقلالية العسكرية الكاملة، القانونية والدستورية، عن أي شكل من أشكال السلطة المدنية، سواء التنفيذية منها أو التشريعية أو القضائية، يؤمّن بقاء الاقتصاد العسكري حتى عندما يتطفل على نظيره المدني.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

رسم خارطة الاقتصاد العسكري الرسمي (الجزء الأول): "قلعة" الصناعة المصرية

تشكّل الصناعات الحربية المملوكة من الدولة أقدم جزء من الاقتصاد العسكري الرسمي في مصر. حتى إن المصادر المصرية تعيد أصولها عمومًا إلى محمد علي الذي حكم البلاد في أوائل القرن التاسع عشر، وأسّس مصانع حديثة بمساعدة فرنسية لإنتاج الأسلحة والذخائر.1 لكن قادة هذه الصناعة اليوم، مثل وزير الدولة للإنتاج الحربي محمد العصّار، يعيدون الفضل بشكل أصحّ إلى الرئيس جمال عبد الناصر في إطلاق ما يسمونه "هذه المنظومة العملاقة" في خمسينيات القرن الماضي.2 أما شكلها الحالي، فيعود بشكل أكبر إلى النصف الثاني من السبعينيات، عندما رأى أنور السادات، خليفة عبد الناصر، أنها وسيلة لخفض تكلفة تلبية احتياجات مصر من الأسلحة، وحلٌّ لمشكلة النقص الدائم في رأس المال. ومنذ ذلك الحين، تطور القطاع ليشمل مجموعتين رئيستين من المصانع والشركات التابعة لوزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع، مع مساهمة بسيطة من شركات تابعة لوزارة الدفاع (ما تجري مناقشته في الفصل 3).

على الرغم من تاريخها العريق، فقد واجهت الصناعة الحربية عقبةً مزمنةً بسبب عدم كفاية التمويل وقلة الاستثمار في البحث والتطوير. وبالتالي، فإن قدرتها على التكيف التكنولوجي، والابتكار، وزيادة الإنتاجية، وإضافة القيمة تبقى قدرةً محدودة، الأمر الذي يؤدي إلى تدني الجودة وضعف القدرة التنافسية وعدم الكفاءة بشكل ملحوظ. وقد ادّعى مسؤولو الصناعة مرارًا وتكرارًا تحقيق زيادات في نسبة المحتوى المحلّي من المعدات العسكرية (والمدنية) المنتجة في مصر، أو التي تُجمع فيها، ووعدوا بالمساهمة في الاقتصاد الوطني عن طريق خفض الواردات وتعزيز الصادرات وتوفير العملة الصعبة. أما في الواقع، فقد عانى هذا القطاع من تأخيرات شديدة في تشغيل خطوط الإنتاج، والقصور الكبير في استخدام السعة الإنتاجية الكاملة للمصانع والآلات، وإقرار الاستثمارات التي لا تستند إلى الأداء أو الكفاءة. لقد نجا القطاع فقط عن طريق السماح له بتكبيد خزانة الدولة خسائره، والاستيلاء على العقود العامة من المنافسين المدنيين من القطاعين العام والخاص، ولاسيما منذ عام 2013.

وزارة الإنتاج الحربي: ريادة صناعية أم بقايا الهيئات الاقتصادية المملوكة للدولة؟

تجسد وزارة الإنتاج الحربي كُلاّ من آمال الصناعة الحربية وأوجه قصورها. فتأسيسها في عام 1954 عكس تبني الحكومة استراتيجية التصنيع للإحلال محل الواردات، الأمر الذي شهد إطلاق مصنع ضخم للحديد والصلب، إلى جانب خطوط تجميع السيارات ومصنع للطائرات الحربية.3 لكن فعاليتها مقابل الكلفة كانت متدنية وتوسعها مفرط السرعة والطموح، في الوقت الذي كانت فيه مصر تستورد كميات هائلة من الأسلحة السوفييتية، ما طغى على الوزارة وأدّى إلى إلغائها في عام1969.4 ثم أُعيد إحياؤها رسميًّا في عام 1971 بعد اتفاق سمح لمصر بالمشاركة في إنتاج الأسلحة السوفييتية، وهو ما لم ينفَّذ. استأنفت وزارة الإنتاج الحربي إنتاج المواد الاستهلاكية العسكرية ذات التكنولوجيا المنخفضة، كالأسلحة الخفيفة وقذائف الدبابات والمدفعية والمشغولات المعدنية وبطاريات السيارات، في أثناء العقد الذي تلا.5 إلا أن ورقة بحثية لوكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة في عام 1985، لاحظت أن هذه الأنشطة تُوجهها، إلى حدٍّ كبير، "الشخصيات، والمعارف، والإكراميات المتبادلة بين شبكات "الرفاق القدامى"في صفوف القوات المسلحة...بقدر ما توجهها الاحتياجات طويلة المدى أو القصور المتوقع في القدرات".6

كان نقص التمويل مشكلة مزمنة كذلك. وتشير التقديرات إلى أن الصناعة الحربية كانت تحتاج إلى ما بين أربعة وستة مليارات دولار أميركي من الاستثمارات الجديدة في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، لكن كبّلتها الديون الخارجية الهائلة لمصر (وهي كانت تقارب حينئذ 50 مليار دولار)، ومن ضعف التصنيف الائتماني.7 وكما لاحظ محلِّلتا  الشؤون الدفاعية فلورِنس غاوب وزوي ستانْلي - لوكْمان، فقد حال هذا الأمر دون إقامة مشروعات جديدة، وأعاق نقل التكنولوجيا والمعرفة العملية الصناعية من خلال الإنتاج بموجب تراخيص من الدول الصناعية المتقدمة، ما أدّى إلى تأخير المشروعات أو إلغائها.8 وقد أكّدت ورقة البحث نفسهاالصادرة عن وكالة المخابرات المركزية الأميركية والمذكورة أعلاه هذه العوائق. وسلطت الضوء على معيقات أخرى: الافتقار إلى التخطيط المتماسك والمركزي، والبرمجة، وعمليات وضع الميزانية، وعدم وجود تنظيم للتسويق يستهدف أسواق التصدير، والإفراط في التوظيف، وسوء الإدارة، ونقص المهارات، والإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية.9

وبعد مرور 34 عامًا، لا يزال معظم هذه المشكلات، إن لم يكن كلها، يعصف بالشركات التي تزيد عن العشرين التابعة لوزارة الإنتاج الحربي والمصانع السبعة عشر الملحقة بها، علمًا أن مجموع القوى العاملة المعلن فيها جميعها كان في عام 2016 يراوح بين 35 و40 ألفًا.10 وقد أعيد تصنيف الشركات التابعة للوزارة التي كانت قد أُنشئت في خمسينيات القرن الماضي وفقًا لقانون شركات القطاع العام 97 لعام 1983 الذي جعلها، نظريًّا على الأقل، خاضعة لتدقيق الحسابات من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات.11 بعد سنة من ذلك، تمَّ تجميعها تحت إطار الهيئة القومية للإنتاج الحربي، التي لا تزال تشرف عليها.12 وجرى السماح للهيئة، بموجب القانون، بالاحتفاظ بالأموال تحت عنوان "العملة الحرة"، أي أنها يمكن أن تحصل على عملات أجنبية بأسعار الصرف التجارية وليس الرسمية، من أجل استيراد احتياجاتها من المواد الوسيطة وإجراء الاستثمارات، وتسوية المستحقات غير المتوقعة في العملات الأجنبية. كما سُمح لها بفرض رسوم على إدارة المشروعات نيابة عن الهيئات المدنية.

على الرغم من هذه المزايا، ظلت وزارة الإنتاج الحربي تعاني الضائقة المالية. وفي عام 1993، أصدر مجلس الوزراء مرسومًا يقضي بإعفاء شركات الوزارة من تكاليف الإنتاج الحربي، على أن تتحملها خزينة الدولة بدلًا من ذلك. ولكن بقيت حاجة الوزارة إلى إعانات سنوية من وزارة المالية. ووفقًا للجهاز المركزي للمحاسبات، بلغت هذه المساعدات حوالي 3,6 مليارات جنيه مصري (190 مليون دولار في حينه) بين السنة المالية 2010-2011 والسنة 2014-2015. وفي حزيران/ يونيو 2014، قامت وزارة المالية بخصم 1,15 مليار جنيه مصري من الديون المتراكمة منذ السنة المالية 1994-1995، وسمحت لوزارة الإنتاج الحربي بترحيل الخسائر المتبقية، لكن الوزارة الأخيرة عادت وراكمت متأخرات قدرها 960 مليون جنيه مصري خلال العام التالي.13

هذا السجل الباهت لم يردع كبار المسؤولين في الصناعة الحربية عن الادّعاء أنها وسيلةً ناجعة لاستخدام الموارد الطبيعية للبلاد، والمساهمة في خطط التنمية الوطنية والنمو الاقتصادي، وتحقيق التآزر التجاري مع القطاع الخاص المحلي بطريقة تفيد الطرفين، والحصول على مصادر الائتمان والتكنولوجيا والأسواق الأجنبية. تم الإعلان عن برامج رئيسة لتحديث قدرات وزارة الإنتاج الحربي وترقيتها في سياق الخطط الخمسية المتتالية للفترتين 2003-2007 و2007-2012.14 وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، أفادت وسائل الإعلام المحلية عن خطة لبناء استراتيجية جديدة تمتد حتى عام 2052، تهدف مرحلتها الأولى المستمرة حتى عام 2030 إلى رفع المستويات التكنولوجية، وزيادة المحتوى والقيمة المضافة الحاليتيْن من خلال زيادة الاستثمار في البحث والتطوير، ودمج الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الروبوتات (الأجهزة الآلية) في خطوط الإنتاج، واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بفعالية.15

الخطط الطموحة

تواجه الاستراتيجية عقبات متعددة. عانت وزارة الإنتاج الحربي من تأخيرات مستمرة، وتضليل في البلاغات، وعدم كفاءة متأصلة. ويتضح ذلك من خلال مسار "مجمّع الصناعات الدفاعية" الذي أُطلق في أوائل العقد الأول من القرن الحالي من أجل نقل جميع مصانع ووحدات إنتاج وزارة الإنتاج الحربي إلى موقع واحد. في الظاهر، كان هدفه تزويد القطاع بأكمله بالبنية التحتية الحديثة وإنشاء مجمع لوجستي يمكن للصناعة من خلاله توفير الإمدادات إلى الزبائن، بمَن في ذلك مَن هم في الخارج. ولكنه ربما كان أيضًا محاولةً لإعداد الأساس لإنشاء منطقة اقتصادية خاصة للإنتاج الصناعي الحربي (على غرار نموذج الأردن والإمارات العربية المتحدة).16

عانت وزارة الإنتاج الحربي من تأخيرات مستمرة، وتضليل في البلاغات، وعدم كفاءة متأصلة.

كان مفترضاً في البداية نقل 28 وحدة بين عامي 2007 و2010 إلى منطقة أبو زعبل، شمال شرقي القاهرة مباشرة، وهذه المنطقة كانت أصلًا موطنًا لعدد من مصانع الوزارة. وكان من المقرر أيضًا أن يبدأ البناء في تشرين الأول/ أكتوبر 2010 في موقع ثانٍ في "بلبيس" القريبة التي وصفها وزير الإنتاج الحربي آنذاك، اللواء سيد مشعل، بأنها "هدية" للرئيس، وكان من المقرر تسميتها "مجمّع مبارك للصناعات الدفاعية 2".17 كما ورد أنه جرى نقل مصنعيْن إلى ما كان يشار إليه عادة باسم مجمّع مبارك 1 في عام 2007. ثم في عام 2013، أكّد تعليق من قبل القوات الخاصة المصرية على موقع فيسْبوك أن 28 مصنعًا نُقلت بالفعل إلى هناك بحلول نهاية عام 2012، وهو التاريخ الأصلي الذي كان قد أعلنه اللواء مشعل، مع وجود خطط تشمل 34 وحدة صناعية أخرى.18 كما زعم التعليق أن مجمّع مبارك 2 كان سيفتح أبوابه للعمل في بداية عام 2014.19

لكن لم يكن لكل ذلك أي أساس من الصحة. فمن بين ثلاثة مصانع دفاعية تقرر انتقالها في عام 2007، جرى نقل مصنع واحد فقط، هو شركة شبرا للصناعات الهندسية (المصنع 27)، إلى مجمع الصناعات الدفاعية (الذي لم يعد اسمه تيمنًا بمبارك) بحلول نهاية عام 2017.20 وفي منتصف عام 2015، قال وزير الإنتاج الحربي في حينه، اللواء إبراهيم يونس، إن المجمع "مكتمل نهائيًّا ومستعد 100 في المئة"، لكنه اعترف بأنه يعمل بقدرة منخفضة، وهو ما نسبه إلى "الوضع السياسي في السنوات السابقة"، وإلى التأخير في تسليم معدات التصنيع من أوروبا.21 توقّع يونس أن يكون المجمّع جاهزًا في عام 2016، ولكنه لم يجهز إلا عندما أعلن خليفة اللواء يونس، محمّد العصّار، في أيار/ مايو 2017، عن استعداد المجمّع أخيرًا لاستقبال الشركات المنتقلة.22

كان قد مر 33 عامًا منذ صدور القرار عن مجلس النواب في عام 1984 بنقل المصانع العسكرية بعيدًا عن المراكز السكانية، ما أدى في النهاية إلى إنشاء مجمع الصناعات الدفاعية.23 ووفقاً للجهاز المركزي للمحاسبات، جرى شطب المباني التي تبلغ قيمتها 269 مليون جنيه (38 مليون دولار) عندما انتقلت شركة شبرا في عام 2014، وتعيّن دفع مبلغ آخر قدره 69 مليون جنيه مصري إلى المقاولين كتعويض عن فروق الأسعار الناتجة من التأخير الطويل.24 الآلات التابعة لشركة أبو زعبل للكيماويات البالغة قيمتها 2,5 ملياري جنيه بقيت في الصناديق لمدة خمس سنوات، في حين أن تكلفة نقل شركة هليوبوليس للصناعات الكيمياوية بلغت مليار جنيه لنقل المباني و226 مليون جنيه للآلات والمعدات، علاوة على 126,8 مليون جنيه مستحقة كفوائد حتى قبل أن تُستأنف الأعمال.25 كما كشف انفجار مفاجئ وقع في أحد مرافق التخزين بالقرب من مطار القاهرة الدولي في 12 تموز/يوليو2018 أن عملية النقل لم تستكمل.26 بل أظهرت خارطة تفاعلية معروضة على الموقع الرسمي لوزارة الإنتاج الحربي لمواقع شركاتها وخدماتها ومنافذها التجارية، أن أيًّا منها قد انتقل فعليًّا الى المجمع المزموع حتى خريف عام 2019.27

والنتائج موضع الشك

كانت الادّعاءات الخاصة بالزيادات في الإنتاج والإنتاجية هي أيضًا بالقدر نفسه من عدم الاتساق، ما يثير شكوكًا حول قدرة وزارة الإنتاج الحربي على تجميع ومعالجة بيانات الإنتاج وإعداد التقارير المالية. وبحسب ما كان يُعلن، فإن الإنتاج كان ينمو باطّراد. على سبيل المثال، في شهر آب/أغسطس 2010، تفاخر اللواء مشعل بأن الصناعة الحربية قد حققت "طفرة غير مسبوقة في الأعوام الثلاثين الماضية... بالغةً قدرات هائلة تكنولوجية واقتصادية من كافة الأنواع في السنوات الأخيرة".28 وقد أُرجع الفضل إلى الذراع التنفيذية لوزارة الإنتاج الحربي، أي الهيئة القومية للإنتاج الحربي، في تحقيق إنتاج بقيمة 3,8 مليارات جنيه (618 مليون دولار) في سنة 2007-2008 (مقابل الإستثمارٍ بقيمة 1,515 مليار جنيه مصري)، في ارتفاع في الإنتاج من حجم 1,4 مليار جنيه قبل تسع سنوات.29 وأضاف مشعل أن إجمالي الاستثمارات خلال عهد مبارك بلغ ثمانية مليارات جنيه، حيث بلغ الإنتاج التراكمي 30 مليار جنيه.30 كما ادعى أن إنتاج وزارة الإنتاج الحربي قد بلغ أربعة مليارات جنيه في العام السابق، باستثمارات بلغت 2,5 ملياري جنيه، وأنه كان ينمو بنسبة 15 في المئة بفضل زيادة الإنتاجية من 107 آلاف جنيه إلى 117 ألف جنيه لكل عامل.31

إلا أن هذه الأرقام كانت مضللة. فالنمو المستدام بالمعدل الذي زعمه مشعل في عام 2010 كان سيؤدي إلى قيمة إنتاجية إجمالية تزيد على ستة مليارات جنيه مصري في غضون ثلاث سنوات، لكنها في الحقيقة وصلت إلى 4,5 مليارات جنيه على الأكثر، وربما كانت أقل من ذلك بكثير.32 وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإن الجهاز المركزي للمحاسبات كشف لاحقًا أن خزينة الدولة تتحمل تكلفة الاستثمار في شركات وزارة الإنتاج الحربي. وبعبارة أخرى، فإنها لم تكن تحقق الدخل الكافي لتعيد الاستثمار في أشغالها الخاصة. فقد بلغت الخسائر 134 في المئة من رأسمال شركة بَنْها للصناعات الإلكترونية، و104 في المئة في شركة المعادي للصناعات الهندسية، و103 في المئة في شركة حلوان لمحركات الديزل، و59 في المئة في شركة حلوان للآلات والمعدات، و56 في المئة في كلّ من شركتي حلوان والمعصرة للصناعات الهندسية. فكان تلميح مشعل إلى أن كافة تكاليف بناء مجمع الصناعات الدفاعية الجديد، بما في ذلك الطرق والبنية التحتية للكهرباء ومحطات تحلية المياه، كانت مغطاة بإيرادات وزارة الإنتاج الحربي، غير صحيح.33

إن تصريحات الوزراء الذين خلفوا سيد مشعل، فضلًا عن الأدلة على أن زيادة الإنتاجية والمحتوى المحلي والقيمة المضافة في شركات وزارة الإنتاج الحربي، لا تزال تمثل تحديات خطيرة، دحضت على الأقل بعض ما كان مشعل يفاخر به. وبعد فترة وجيزة من توليه منصب وزير الدولة للإنتاج الحربي في أيلول/سبتمبر 2015، استبدل العصّار رؤساء العديد من الشركات، واعترف فيما بعد بأن الوزارة عانت "خللًا في الهياكل المالية والخسائر في بعض الشركات".34 كما أوضح أن "العشوائية في التعيينات" كانت مشكلة أساسية نقلت مجموع مرتبات العاملين في وزارة الإنتاج الحربي من 800 مليون جنيه في عام 2010 إلى ملياري جنيه في عام 2015 (أي من 38 مليون دولار إلى 230 مليونًا)، وكانت النتيجة أنها وصلت إلى 56 في المئة من تكاليف الإنتاج في عام 2014، حتى إنها ارتفعت في بعض المصانع إلى 200 في المئة.35 وقد ذكر أنّه "لو أننا ننتج منتجًا مثلاً بـمئة (جنيه)، فنحن ندفع أجور 200 (جنيه) وهو خسارة بالغة".36 وفي مواجهة الصعوبات المالية، تراكمت على شركات وزارة الإنتاج الحربي متأخرات كبيرة في مدفوعات التأمين الاجتماعي للموظفين، ما اضطر الوزارة إلى التفاوض على تسوية مع وزارة التضامن الاجتماعي في آذار/مارس 2016.37

ومن المفارقات أن اعترافات العصّار تزامنت مع تصريحاته عن تحقيق أداء باهر. ففي حديثه إلى رؤساء البنك المركزي المصري وعدد من البنوك في أيلول/سبتمبر 2017، أكد العصّار لهم أن "المؤشرات المالية خلال الخمس سنوات الأخيرة أظهرت تطور الأداء تصاعديًّا".38 كان هذا صحيحًا، بالمعنى الحرفي للعبارة، لكن الأرقام التي ذكرها هو والمتحدث الرسمي باسم وزارة الإنتاج الحربي عن نتائج العام 2015-2016 كانت متواضعة: منتجات عسكرية بقيمة 1,95 مليار جنيه مصري، وسلع وخدمات مدنية قيمتها 970 مليون جنيه، أي ما مجموعه 2,92 مليارا جنيه.39 من حيث القيمة الدولارية، وهذا مقياس ذو صلة، لأن شركات وزارة الإنتاج الحربي تعتمد بشكل كبير على الآلات والسلع الوسيطة المستوردة، كما تستهلك كميات كبيرة من الطاقة، فقد بلغت قيمة الإنتاج العسكري والمدني حوالي 234 مليون دولار و117 مليون دولار على التوالي، أو ما يعادل بالدولار نصف إجمالي القيمة التي أعلنتها وزارة الإنتاج الحربي في عام 2010 (700 مليون دولار).40

إن الأمر المثير أكثر في بينات الإنتاج لعام 2015-2016 هو أنها مثلت زيادةً بنسبة 230 في المئة في الإنتاج العسكري و115 في المئة في الإنتاج المدني مقارنةً بالعام السابق، وفقًا للعصّار.41 وباستخدام هذه النسب المئوية وأسعار الصرف في تاريخه، فإن إجمالي الإنتاج في عام 2014-2015 كان سيكون 1,692 مليار جنيه (226 مليون دولار)، مقسومًا بشكل شبه متساوٍ بين الإنتاج العسكري والإنتاج المدني.42 وفي تشرين الثاني/نوفمبر2017، زعم العصّار أن المبيعات الإجمالية في وزارة الإنتاج الحربي زادت خلال العام السابق بمقدار 8,8 - 10 مليارات جنيه، أو 140 في المئة، وتوقّع زيادة أخرى إلى 13 مليار جنيه في العام التالي.43

إلا أنه أعاد النظر بجميع ادّعاءاته لاحقاً، إذ صرّح في آذار/مارس 2019 أن ناتج وزارته قد ارتفع من 4,2 مليارات جنيه في 2014-2015 إلى 6,3 مليارات جنيه في 2015-2016، و8,9 مليارات جنيه في 2016-2017، و11,6 مليار جنيه في 2017-2018. 44

كانت مزاعم العصّار الأصلية وتنبؤاته ستؤدي، لو تحقَّقت، إلى بلوغ ناتج وزارة الإنتاج الحربي إلى حجم 26 مليار جنيه في2018-2017، ما يدل على مدى قصور النتائج الفعلية. وحتى هذه النتائج تخفي نسبة التضخم الهامة، إذ فقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته أمام الدولار الأميركي في تشرين الثاني/نوفمبر2016، حيث تراجع من سعر 8,8 جنيهات للدولار إلى 18 جنيهًا بين ليلة وضحاها تقريباً (ليظل بسعر 16,2-18 جنيهًا للدولار منذ ذلك الوقت). ولو أخذنا بالبيانات المعدَّلة التي قدمها العصّار، فقد ازداد ناتج شركات الوزارة بشكل لافت في 2014-2016 بمعيار الدولار، من 236 مليون دولار إلى712مليون دولار، ليتراجع بعض الشيء في 2016-2017 و2017-2018 إلى حوالي 664-665 مليون دولار.

يضاف إلى ما سبق أن وزارة الإنتاج الحربي لم تكن قط مُصدّرًا مُهمًّا ولا مَصْدرًا جديرًا بالحسبان للعملة الصعبة. فقد بلغت صادرات الأسلحة المصرية ذروتها في ثمانينيات القرن العشرين، وهي تتكون أساسًا من الذخائر العادية ومعدات القوات المسلحة المصرية المستعملة التي بيعت إلى العراق في أثناء حربه مع إيران. وقُدّرت القيمة الإجمالية من الصادرات العسكرية خلال العقد بأكمله بمبلغ 505 ملايين دولار، علماً أن قرارات رئاسية بالموافقة على بيع صادرات عسكرية بقيمة إجمالية بلغت 2,52 ملياري دولار قد صدرت في فترة 1981-1984 وحدها، منها أسلحة وذخائر مودعة في مخازن القوات المسلحة المصرية بقيمة مليار دولار على الأقل.45 وفي جميع الأحوال، يعتقد أن قيمة الصادرات قد انخفضت إلى ما بين 5 و22 مليون دولار سنويًّا في الفترة ما بين 1990 و2015. 46

وبالتالي، فإن مكاسب الصناعة الحربية المصرية من الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه المصري بعد عام 2015 كانت بالضرورة محدودة. بالفعل، فإن اعتمادها على واردات آلات الإنتاج والسلع الوسيطة وإمكانية حصولها على العملات الأجنبية بأسعار مواتية يعنيان أن التكلفة النسبية لناتج الصناعة على الخزينة العامة لا يمكن إلا أن ترتفع كلما تراجع الجنيه المصري.47 وقد أدى انخفاض قيمة العملة والتدابير الحكومية التي تحد من طرح الدولار في الأسواق إلى حرمان الشركات الخاصة من العملة الصعبة من أجل تمويل وارداتها من السلع الإنتاجية، لكن الصناعة الحربية لم تُظهر علامات التباطؤ.

وزارة الإنتاج الحربي لم تكن قط مُصدّرًا مُهمًّا ولا مَصْدرًا جديرًا بالحسبان للعملة الصعبة.

معيقات متواصلة

وأيًّا كانت دقة أرقام الإنتاج المذكورة أعلاه، فقد أدى تضخم العمالة وتدني الإنتاجية معاً إلى خفض الناتج إلى الحد الأدنى في السنوات السابقة لعام 2016-2017. وبالفعل، لقد اتّخذ العصّار خطوة غير اعتيادية للغاية حين أقرّ في تشرين الثاني/نوفمبر2017 أن "هذا العام يشهد للمرة الأولى تجاوز الأرباح عن الخسائر".49 كما أن إقراره يثير تساؤلات عن الادّعاءات السابقة بأن الأرباح قد أعيد استثمارها في وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع والشركات التابعة لهما.50 فإذا ما كانتا تعرضتا للخسارة، فإما أنهما لم تقوما باستثمارات جديدة بشكل منتظم - سواء لإعادة تدريب العاملين، أو تحسين المعدات، أو توسيع خطوط الإنتاج، أو تسويق السلع - أو أن تكاليف التشغيل كانت تتحملها جهات أخرى، مثل خزينة الدولة أو الصناديق الخاصة الإستنسابية لوزارة الدفاع.51 وقد يفسر النقصُ في الدخل القابل للتصرف البطءَ في استكمال مجمع الصناعات الدفاعية، من بين أسباب أخرى. ففي حين قُدرت كلفته بنحو 1,5 مليار جنيه مصري في عام 2010 (259 مليون دولار)، فإن التكلفة تضاعفت بحلول عام 2013، بحسب ما ذكر.

وفي المقابل، فإن الارتفاع الهائل المزعوم في الإنتاج في عام واحد يعطي مصداقية لتأكيد العصّار أن مصانع وزارة الإنتاج الحربي لديها قدرة فائضة كبيرة.52 فقد استثمرت شركة أبو زعبل للصناعات الهندسية 2,3 ملياري جنيه مصري في مجال دَرْفَلَة الصلب، ولكن تم استخدام 13,13 في المئة من السعة الإنتاجية فحسب في السنوات الخمس حتى منتصف عام 2015. وحققت الشركة مبيعات قدرها 531 مليون جنيه في تلك الفترة، ولكن 25 في المئة من المواد الخام المستخدمة في الإنتاج قد فقدت، بدلاً من المعدل المعتاد عالمياً البالغ 4-5 في المئة. ويشير القصور في الاستخدام والهدر بهذا الحجم إلى نطاق أوسع بكثير من أوجه النقص. يؤكد ذلك رد العصّار على مشكلات وزارة الإنتاج الحربي المالية. ففي أيار/مايو 2017، أكد أن شركات وزارة الإنتاج الحربي تحتاج إلى زيادة الإنتاج وتحسين الأداء من خلال تحسين مراقبة الجودة والتسويق والبحث والإدارة.53 وقال إن ذلك، من ضمن أمور أخرى، سيؤدي إلى خفض فاتورة الرواتب والأجور كنسبة من إجمالي تكاليف الإنتاج، وقد ادّعى أنها انخفضت بالفعل من 54 إلى 36 في المئة بفضل الزيادة في المبيعات في عام 2015-2016. وفي آذار/مارس 2018، أعلن أنها انخفضت إلى 20 في المئة. (تراجعت نسبة الرواتب والأجور من الإجمالي بسبب ازدياد الناتج العام، ولكن لم يوضح العصّار نسبة ازدياد مكوِّنات الإنتاج الأخرى، ولا إذا سمحت بتحقيق ربحٍ صافٍ نهايته. يضاف إلى ذلك أنه يتم دفع الأجور بالجنيه المصري، بينما يترتب الحصول على العديد من المدخلات الأخرى إما عبر استيرادها أو إحلال محل الصادرات منها، كالوقود، والتي يتم تسعيرها بالدولار الأميركي، ما يعني زيادة كلفته الإجمالية).54

أصرّ العصّار على أن خفض الأجور لم يكن خيارًا، إلا أن المتحدث الرسمي باسم وزارة الإنتاج الحربي، اللواء عمرو فؤاد، أكد في أواخر عام 2016 أن هناك خططًا لخفض عدد القوى العاملة من 35 ألفًا إلى 30 ألفًا خلال خمس سنوات.55 كما ذكر اللواء فؤاد أن وزارة الإنتاج "تشجع الشباب" من خلال تعيين أربعة رؤساء شركات جدد، والطلب من جميع رؤساء مجالس الإدارة المشاركة في تدريب استراتيجي على الإدارة. (إن غالبية المدراء في المرتبة الثانية والعاملين في الشركات ومصانع وزارة الإنتاخ الحربي هم من المدنيين بالواقع، ويقدمون المساهمة الأكبر على الأرجح إلى الإنتاج والإدارة المالية، بينما يحتل ضباط القوات المسلحة نسبة 5-10 في المئة من المناصب العليا، ويتقاضون رواتب إضافية لقاء ذلك، علاوة على رواتبهم العسكرية).56 في أيلول/سبتمبر 2017، كلف العصّار شركة استثمار تملكها الدولة هي "إنْ آيْ كابيتال"، بإعداد خطط لإعادة الهيكلة المالية لشركات وزارة الإنتاج الحربي من أجل تحسين الأداء.57 وفي الوقت نفسه، تعاقد مع جمعية التنمية المصرية الكورية (وهي تمثل سبع شركات كورية جنوبية) على تجديد وتحديث مصانع الوزارة. وإضافة إلى كل ذلك، أصدر العصار تعليماته فيكانون الثاني/يناير 2017 لشركات الوزارة بنشر رقم هاتف هيئة الرقابة الإدارية حتى يتمكن موظفو الشركات من الإبلاغ عن الفساد، وبعد عامين أمر العصّار الشركات ببث "نشيد" الوزارة على نظام الإذاعات الداخلية في المصانع لحث عمالهم على زيادة الإنتاجية.58

الاقتناص كاستراتيجية اقتصادية

بدت هذه الخطوات منطقية اقتصاديًّا وإداريًّا، إلا أن تحقيق تأثيراتها لم يكن ممكناً بهذه السرعة. وتؤكد التجربة السابقة ذلك، فسبق أن ادّعى اللواء مشعل في عام 2010 أن برنامج "صيانة وتطوير المصانع العسكرية وإعادة تدريب الموظفين والعمال" كان قد اكتمل بالفعل بنسبة 80 في المئة.59 كما لم يُبلغ عن تسريح عمالٍ في مصانع وزارة الإنتاج الحربي. بدلاً من ذلك، كان السبب وراء الارتفاع الفوري في حسابات الوزارة في عام 2015-2016 هو اندفاع العصّار النشيط للفوز بعقود من وزارات حكومية أخرى. فمع مطلع عام 2017، حسب ما أكده العصّار بافتخار، كانت الوزارة قد وقّعت بروتوكولات تعاون مع "40 جهة بينهم 21 وزارة وعدد من المحافظات والجامعات ومشيخة الأزهر وشركة تنمية الريف المصري، وصندوق تحيا مصر، والصندوق الاجتماعي وغيرها".60 وفي وقت لاحق من ذلك العام، قال نائب رئيس الهيئة القومية للإنتاج الحربي إن "الوزارة لديها شراكة في كل الأنشطة التي تقوم بها الوزارات الأخرى... ونحن نوفر لجميع الوزارات مطالبهم".61

وبدلاً من المساهمة في زيادة القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، كما ادّعى العصّار ومسؤولون آخرون في الصناعة الحربية، فإن وزارة الإنتاج الحربي قد حسّنت حساباتها فقط عن طريق الحلول مكان الجهات الفاعلة الاقتصادية الأخرى التي كانت لولا ذلك ستفوز بعقود الأشغال العامة وعقود الشراء. وقد جرى تحقيق ذلك ليس بفضل الجودة أو الأسعار التنافسية، بل بفضل النفوذ السياسي القوي الذي تتمتع به المؤسسة العسكرية منذ عام 2013. وفي خطاب أعلن فيه عن أرباح وزارة الإنتاج الحربي في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، كشف العصّار بكل فخر عن أن الوزارة قد وقّعت مذكرات تفاهم مع 35 وزارة حكومية وسلطة ومحافظة (بالإضافة إلى اتفاقيات تعاون مع 34 شركة أجنبية و32 شركة محلية) في العام السابق.62 كان اقتناص العقود سبباً في الزيادة الهائلة في الناتج للسنة الثالثة على التوالي. والمعروف أن الوزارة تولت إدارة برنامج "البطاقات الذكية" الذي يهدف إلى توجيه الإعانات الحكومية نحو القطاعات الأكثر فقرًا في مصر، لكن النقاد لاحظوا أن ذلك أعطى "77 في المئة من أعلى شريحة إنفاق بطاقات ذكية تمنحهم الدعم في حين أن 82 في المئة من الفقراء لا يستفيدون من برنامج التأمين الاجتماعي في مصر الذي يعاني من الفساد والاحتيال".63

وزارة الإنتاج الحربي قد حسّنت حساباتها فقط عن طريق الحلول مكان الجهات الفاعلة الاقتصادية الأخرى التي كانت لولا ذلك ستفوز بعقود الأشغال العامة وعقود الشراء.

إلى ذلك، كانت وزارة الإنتاج الحربي تدخل إلى القطاعات التي كانت تعمل فيها أصلًا هيئات اقتصادية عسكرية أخرى: بناء الطرق ومحطات معالجة المياه، والوحدات السكنية، والمرافق الرياضية، والمباني الأخرى، والمشروعات التنموية في سيناء (تقوم بها عادة هيئات الهندسة والمياه في القوات المسلحة)، وعربات ومعدات السكك الحديد، والألواح الشمسية وغيرها من معدات الطاقة المتجددة، وسخانات ومبردات الماء وغيرها من الأجهزة المنزلية، وأجهزة الكومبيوتر المحمولة، وأسطوانات الغاز، والأنابيب وقطع الغيار اللازمة للصناعة البترولية، والآلات الزراعية (تنتجها عادة الهيئة العربية للتصنيع)، واستصلاح الأراضي والزراعة الحقلية والصناعات الزراعية (وهي عادة من اختصاص الهيئة الهندسية في القوات المسلحة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية).64 (بل حصلت إزدواجية في العديد من السلع المدنية التي تنتجها شركات ومصانع وزارة الإنتاج الحربي نفسها.).65

في تعزيزٍ لهذا التوجه، أعلنت وزارة الإنتاج الحربي في أيار/مايو 2015 أنها تقوم بتأسيس شركة متخصصة للقيام بالأشغال العامة وعقود الشراء (جرى إطلاقها في أواخر عام 2016 كشركة الإنتاج الحربي للمشروعات والاستشارات الهندسية والتوريدات العامة). من الناحية النظرية، فإن إنشاء مجمع خاص بقطاع الإنشاءات يزود الوزارة بالقدرة على تنفيذ مشروعات البنية التحتية الضخمة ويسمح لها بتوجيه المساعدة الخارجية نحوها. أما في الواقع، فإن لدى كلّ من القوات المسلحة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية أذرعها الخاصة لأعمال الإنشاء والتشييد، وهي تواصل العمل في نفس المجال.66 وإلى جانب الازدواجية الواضحة في هذا المجال، والاستشارات والمقاولات ذات الصلة، واستصلاح الأراضي، كان الغرض من الشركة الجديدة أن تعمل في القطاعات الطبية والعلاقات العامة والإعلانات والعقارات والسياحة، حيث كان للقوات المسلحة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية حضور قوي أصلًا.67 وكشف العصّار في أوقات مختلفة من عام 2017 أن وزارته تعمل أيضًا على زراعة 69,000 فدان بالنباتات العطرية للتصدير، وإدارة أراضٍ زراعية مملوكة للأوقاف الإسلامية في الدلتا، ومناقشة تأسيس مشروع مشترك مع مستثمرين إماراتيين لزرع 20 مليون نخلة على 92,000 فدان جنوب الوادي، ما يدلّ على ابتعاد الوزارة عن الصناعة التحويلية، بالإضافة إلى تكرار مجال نشاط جهاز لمشروعات الخدمة الوطنية.68 ثم أضاف خلال عام 2019 أن وزارته تؤسس شركة لصناعة المصاعد (ما كان أصلًا جهاز مشروعات الخدمة الوطنية قد قام به قبل سنوات) وتقيم المشروعات المشتركة الجديدة لإنتاج الصوب الزراعية والتوضيب وموانع التسريب (ما كرّر مجال نشاط جهاز لمشروعات الخدمة الوطنية مرة أخرى).69

الازدواجية ليست جديدة. في غياب البيانات المفصلة، يصعب تحديد المدى الذي تتنافس فيه وزارة الإنتاج الحربي بشكل مباشر مع الجهات الفاعلة الاقتصادية العسكرية الأخرى على العقود، أو ما إذا كان ذلك يؤدي إلى انخفاض أسعار السلع والخدمات التي تبيعها إلى القطاعين العام والخاص أو إلى عموم المستهلكين المصريين. لكن جاءت المرحلة الأخيرة من التوسع والتنوع في الإنتاج المدني للوزارة استجابةً بشكل واضح لحملة الرئيس السيسي لتوليد روافد الدخل وزيادتها. ويبدو أن هذا يكمن وراء جزء كبير من مشاركة المؤسسة العسكرية في مروحة متنامية من القطاعات الاقتصادية، إلى جانب الاعتقاد أن تحسين وفرة السلع الأساسية بأسعار ميسورة يشكّل وسيلة لتعزيز دعم الطبقة الوسطى ودعم الاستقرار الاجتماعي. كما أنه يفسر لماذا تستهدف أذرع الاقتصاد العسكري الرسمي المختلفة القطاعات نفسها، مع أن التركيز على قطاعات منفصلة أو متكاملة سيكون مجديًا ومنطقيًّا أكثر من الناحية التجارية.

وقد كشف العصّار سهوًا عن القيود التي تعيق وزارة الإنتاج الحربي في آذار/مارس 2018، عندما اعترف بأن ست شركات فقط من عشرين حققت أرباحًا في السنة المالية السابقة، بعد أن كان قد تفاخر بالطفرات الكبيرة في المبيعات.70 ومن المفترض أن تكون تكاليف المواد الخام والوسيطة، والآلات المستوردة، وقطع الغيار، وعناصر الإنتاج الأخرى مثل الكهرباء والوقود، قد ازدادت بما يتناسب طرديًّا مع الزيادات الهائلة المزعومة في حجم الناتج، ما سيحدّ بالتالي من صافي الدخل. وفي حزيران/يونيو 2019، صرح أيضًا بأن شركة وزارة الإنتاج الحربي للمشروعات والاستشارات الهندسية والتوريدات العامة قد أبرمت عقوداً مع القطاع الحكومي بقيمة إجمالية قدرها 15 مليار جنيه مصري (أقل من مليار دولار) في السنوات الثلاث منذ إنشائها، ولكن حقيقة أنّ هذه العقود تضمنت استيراد سلع مثل 1500 مصعد للعاصمة الإدارية الجديدة تدل على أن الكثير مما كانت تفعله الوزارة هو القيام بدور الوسيط لا مصنِّع السلع والخدمات.71 ومع ذلك، تباهى العصّار، وبلا أي سخرية واضحة، بأن "منظومة الإنتاج الحربي متميزة وفريدة ولا يوجد لها مثيل في الصناعة المصرية".72

الهيئة العربية للتصنيع: ورشة الدولة

تكشف الهيئة العربية للتصنيع عن أنماط مشابهة لنمط وزارة الإنتاج الحربي. وهي الذراع الرئيسة الثانية للاقتصاد العسكري الرسمي من حيث تاريخ الإنشاء والقدرة التصنيعية وليس من حيث المساهمة الصافية، وقد جرى إنشاؤها كمشروع مشترك مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة قطر في عام 1975 برأسمال مبدئي قدره مليار دولار.73 كان الهدف من إنشاء الهيئة تزويد الدول المشاركة بدرجة من الاكتفاء الذاتي في المعدات العسكرية التقليدية، وخفض تكاليف الدفاع، وبناء قاعدة تحويلية وعلمية للصناعة العربية، وتوليد الصادرات إلى الدول العربية والإسلامية.74 وقد استفادت من القانون 43 الصادر حديثاً في عام 1974 والقانون رقم 111 لعام 1975 اللذين سمحا للمستثمرين العرب (على عكس غيرهم من الأجانب) بامتلاك العقارات، ما مكّن بالتالي الشركات العسكرية من تقديم الأرض والبنية التحتية كأسهم.75 (لاحقًا، أقامت وزارة الإنتاج الحربي ووزارة الدفاع مشروعات مشتركة خاصة بهما على هذا الأساس أيضًا.) وقد علّقت دول الخليج مشاركتها في الهيئة بعد توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، ثم تخلّت عن حصتها التي بلغت قيمتها 1,8 مليار دولار في عام 1994، تاركةً المنظمة مملوكة بالكامل من قبل مصر، وإن كان وضعها القانوني بقي كما هو أي "منظمة إقليمية دولية متخصصة".76

تختلف الهيئة العربية للتصنيع عن الشركات العسكرية الأخرى في أنّها مسجلة كمنظمة دولية، وفي أن رئيس الجمهورية ومحافظ البنك المركزي هما في مجلس إدارتها.77 ولكنها، كسائر الصناعة الحربية، أُعفيت منذ إنشائها من "جميع الضرائب والرسوم" (بما في ذلك الرسوم الجمركية على الواردات والضرائب والرسوم التي تُفرض عادة على الصادرات). كما سُمح لها بفتح حسابات بالعملة الأجنبية في أي بنك تختاره في مصر أو في الخارج، وتحويل ودائعها بمختلف العملات بحريّة، وهذه ميزة في بلد كان يطبّق ضوابط صارمة على تحويل العملات حتى عام 2015.78 وقد مدد مرسوم رئاسي آخر في عام 1977 مفعول الإعفاءات نفسها ليشمل الشركات التابعة للهيئة التي سُمح لها أيضًا بالحصول على قروض معفاة من الرسوم والضرائب، وكذلك جميع مورّدي الهيئة والمقاولين معها من الباطن.79

ووفقًا لما ذكره الفريق حمدي وهيبه، الذي ترأس الهيئة في الفترة بين أعوام 2005 و2012، فإن الهيئة لم تخضع للمراجعة من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات، ولا لأحكام قانون العمل 137 لعام 1981 وتعديلاته في عام 2003.80 كما أن تعديل عام 2014 على القانون رقم 89 لعام 1998 بشأن المناقصات والعروض، منح الهيئة نفس سلطة وزارة الدفاع ووزارة الإنتاج الحربي في منح العقود من دون مناقصات، وعلى أساس الأمر المباشر، للموردين وللمقاولين من الباطن من اختيارها.81 وتماشيًا مع جميع الهيئات الاقتصادية العسكرية الفاعلة الأخرى، فيحق للهيئة أن تحتفظ بالأرباح (بدلًا من تحويلها إلى خزينة الدولة). ومثل وزارة الإنتاج الحربي، تدّعي الهيئة أنها تعيد استثمار جميع الأرباح في الشركات التابعة لها.82 إلى ذلك، تُعفى الهيئة من قانون الصحة والسلامة المنصوص عليه في قانون العمل رقم 12 لعام 2003، ما يسمح لها بمراقبة نفسها بنفسها.83

تألفت هيئة التصنيع العربية في البداية من أربعة مصانع عسكرية نُقلت من وزارة الإنتاج الحربي، ولكنها نمت إلى ما مجموعه 12 شركة ومصنعًا وقوى عاملة تتراوح بين 15 و17 ألفًا، بما في ذلك 1250 مهندسًا.84 وقد حصلت الهيئة على ملكية كاملة لمشروعين مشتركين تأسّسا في الأصل مع شركة بريتيش أيروسبايس وشركة رولْز رويْس، وهما الشركة العربية البريطانية الديناميكية والشركة العربية البريطانية للمحركات في عامي 1998 و2009، تاركةً شركة ثالثة هي الأميركية العربية للسيارات، مملوكة بشكل مشترك مع كرايسْلر.85 ويتألّف معظم إنتاجها الحربي من الإنتاج المشترك للمعدات غربية التصميم، بما في ذلك تجميعها.86 وبحلول عام 2006، زعم وهيبة أن 30 في المئة من الإنتاج الحربي في الهيئة العربية للتصنيع يجري تصديره إلى دول عربية، بمتوسط 20 مليون دولار سنويًّا في السنتين السابقتين.87 هذا يشير إلى حجم متواضع من إنتاج المعدات العسكرية، ولكن بعد ست سنوات، أعلن وهيبة أن هيئة التصنيع العربية حققت ربحًا إجماليًّا صافيا بقيمة 470-475 مليون جنيه مصري (78 مليون دولار) على مبيعات المنتجات والخدمات العسكرية والمدنية البالغة 3,4 مليارات جنيه (563 مليون دولار) في العام 2011-2012.88 أمّا خلَف وهيبة، الفريق عبد العزيز سيف الدين، فقد أعطى أرقامًا أقل في ما يخص إجمالي الإنتاج (3 مليارات جنيه) وصافي الأرباح (حوالي 220 مليون جنيه) في العام 2012-2013، ولكن هذا لا يزال يشير إلى تدفق منتظم في العمل.89

جاء الانقلاب العسكري في تموز/يوليو 2013 ليحوّل الصورة. فمنذ ذلك الحين، راحت كيانات القطاع العام وشركات القطاع الخاص التي كانت تسعى عادة إلى بناء علاقات مع جهات سياسية نافذة من أجل ضمان العقود والوصول إلى الأسواق في كل حقبة رئاسية، تزيد من روابطها مع الهيئات العسكرية كوسيلة لتأمين الأعمال. وقد ذكرت هيئة التصنيع العربية بعد ذلك أنها فازت بعقود بلغ مجموعها 965 مليون دولار (بما في ذلك 400 مليون دولار من المبيعات) و855 مليون دولار (بما في ذلك 760 مليون دولار من المبيعات) في العامين 2015 و2016 على التوالي.90

وعلى الرغم من التراجع في السنة الثانية، فقد أظهرت هذه المعدلات نموًّا مذهلًا مقارنة بالفترات السابقة، ولكنها لم تنجم عن إدخال تحسينات مخطط لها على الهيكل التنظيمي أو تدريب الموظفين التي كانت قد أعلنت عنها سابقاً.91 بالأحرى، وكما جرى مع وزارة الإنتاج الحربي، كانت القفزة في الإنتاج والمبيعات، بصورة كاملة تقريبًا، نتيجة حملة الهيئة للفوز بحصة أكبر من عقود الأشغال والمشتريات العامة، ما أدى إلى إزاحة الموردين والمقاولين الآخرين. افتخر سيف الدين مرارًا وتكرارًا بالعمل مع العديد من الوزارات والجامعات الحكومية. وتؤكد التقارير السنوية الصادرة عن الهيئة والتحديثات الدورية للمشروعات بشكل لا لبس فيه أن هذه الكيانات تؤمن الجزء الأكبر من عقود الهيئة ومبيعاتها إلى حد كبير. وقد يفسر ما سبق ادّعاء مصادر حكومية مجهولة بأن الهيئة زادت مبيعاتها إلى 500 مليون دولار في النصف الثاني من عام 2017، بزيادة قدرها 7 في المئة مقارنةً في النصف الأول من السنة.92

وكما جرى مع وزارة الإنتاج الحربي، كانت القفزة في الإنتاج والمبيعات، بصورة كاملة تقريبا، نتيجة حملة الهيئة للفوز بحصة أكبر من عقود الأشغال العامة والمشتريات، ما أدى إلى إزاحة الموردين والمقاولين الآخرين.

تدل ضآلة صادرات هيئة التصنيع العربية على اتكالها على ضمان العقود من القطاع العام المصري، إذ بلغت قيمة تصديرها مجرد 2,9 مليوني دولار في عام 2015، ثم 18,5 مليون دولار فقط في عام 2016، أي بعد أكثر من 40 عامًا على نشأتها.93 كان من المتوقع أن يؤدّي عقدٌ في عام 2016 لتزويد باكستان باثنتي عشرة طائرة تدريب صينية من طراز "ك-8 بي" (K-8P) يتم تجميعها وتصنيعها جزئياً بموجب ترخيص في مصر، إلى تحسين هذه الأرقام، لكن الهيئة كانت عمومًا غير قادرة على زيادة حجم التصدير أو إدامته. وكان الاستثناء الرئيس هو نجاحها في تصدير ما مجموعه 745 ناقلة جند مدرعة من طرازي الفهد والوليد إلى سبع دول عربية وأفريقية، ولكن حتى هذا كان متواضعاً نسبياً عندما نأخذ في الاعتبار أن إجمالي تكاليف الإنتاج كان حوالي 3,725 مليارات جنيه مصري (600 مليون دولار) على امتداد ثلاثة عقود من بداية التصديرات.94 هذه النتائج تدحض التفاخر بنجاح هيئة التصنيع العربية في "جلب العملة الصعبة لمساعدة الاقتصاد الوطني". على العكس، لقد استخدمت الهيئة العملة الصعبة لاستيراد السلع الوسيطة وُرزَم مكوِّنات التجميع وآلات الإنتاج.

البحث والتطوير المعوَّق

مع أن وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع قامتا بلا شك بخطوات واسعة في اكتساب الدراية التقنية في الإنتاج والتكنولوجيا، فإن تبجحهما والبلاغات المبهرة في وسائل الإعلام المصرية تحتوي على مبالغات كبيرة. فقد وصف سيف الدين الهيئة بأنها "قلعة" مهمة في الصناعة المصرية، وذلك بعدما أصبح رئيسها في عام 2012، فيما احتفل العصار بالذكرى السنوية الثالثة والستين لوزارة الإنتاج الحربي في عام 2017 بالإعلان عن أنّ "هدفها الأكبر" هو "تحقيق منظومة دفاعية مصرية 100 في المئة".95 لكن أوجه القصور الخطيرة في قدرة الصناعة الحربية على البحث والتطوير، التي تعتبر حاسمة في استيعاب التكنولوجيا والمعرفة الخارجية وتحويلها إلى إنتاج محلي، حدّت من تأثيرها الاقتصادي إلى حد كبير.

وفي منتصف التسعينيات، توقع ستيفن غوتوفيسكي، الذي كان يعمل عندها في مكتب الدراسات العسكرية الخارجية للجيش الأميركي، "احتمال أن يتراجع قطاع الإنتاج الحربي المصري في السنوات المقبلة. فمصر تعاني من إنتاجية منخفضة، ومن نقص في التمويل الكافي ونقص في الأسواق الخارجية". وقد تبين أن توقعاته عن التراجع خاطئة، لكن بقية نقده كانت دقيقة:

لم تشجع الصناعات العسكرية في مصر على تعزيز الواردات أو استدامة عوائد التصدير. وقد أثبتت المنافع التكنولوجية التي حققتها المشروعات الصناعية العسكرية للقوات المسلحة هامشية بالنسبة إلى التطورات الاقتصادية في مصر. ففي حين تقوم مصر بتجميع نُظُم أسلحة عسكرية متطورة، فإن الشركات الغربية هي التي تقوم بتوفير المنشآت على أساس "تسليم المفتاح"، إذْ يتلقى المصريون رزمًا من المكونات للتجميع. أما التكنولوجيا المعنية فإن الشريك الغربي هو الذي يسيطر عليها عن كثب. ومن هنا، فإنه لم يتم الحصول إلاّ على القليل من التكنولوجيا التي من شأنها أن تسمح بتطوير نُظُم مصرية مستقلة. بالنسبة إلى مصر، تُعد التكنولوجيا لغزًا مهمًّا، فالجهود الصناعية في مجال التكنولوجيا المتقدمة تتطلب كثافة رأس المال. غير أن مصر لديها اقتصاد بعمالة كثيفة ورأس مال شحيح.96

واستنادًا إلى رؤية مسؤولي دفاع أميركيين، قدّر عالما السياسة روبرت سبرينغبورغ وكليمنت مور هنري بعد بضع سنوات أن "كثيرًا من جهود [الصناعة الحربية المصرية] في مجال التصنيع، إن لم يكن معظمها، يبدو كمشتقات مباشرة من التكنولوجيا العسكرية المتدنية نسبيًّا.97 ونظرًا إلى أن القيمة الأساسية للصناعات الحربية المحلية بالنسبة للأمن القومي تكمن في إسهامها في قدرة الدول على التكيف العسكري، فإن عدم كفاية الاستثمار في البحث والتطوير يعكس إما عدم كفاءة مديريها والقادة السياسيين، أو عدم التزامهم إدامة صناعة حربيةٍ قديرةٍ حقاً.98

لقد أقرّ قادة الصناعة الحربية المصرية مرارًا بضرورة الاستثمار في البحث والتطوير. ففي عام 2010، ذكر مشعل أن وزارته تعاونت مع "جميع الجامعات المصرية لإقامة مركز بحث وامتياز علمي لخدمة الصناعة الدفاعية". وفي مقابلات أخرى، أوضح أن وحدات البحث والتطوير في جميع مصانع وزارة الإنتاج الحربي وشركاتها جُمعت في عام 2005 في مركز واحد جديد للامتياز العلمي بتكلفة تبلغ 200 مليون جنيه مصري (35 مليون دولار)، وأنها ستبدأ التشغيل في تشرين الأول/أكتوبر 2011.99 ومن ناحية أخرى، جرى تأسيس مجمّع متكامل للتكنولوجيا يشمل مدرسة ثانوية فنية، ومعهدًا متوسطًا، وكلية تكنولوجيا تضم 180 طالب ماجستير و40 طالب دكتوراه، كما جرى تدريب 300 "مهندس وكيميائي" سنوياً.100 بدورها، لدى الهيئة العربية للتصنيع المعهد العربي للتكنولوجيا المتقدمة ومركزان تقول عنهما إنهما يطوران القدرات في مجالات الإدارة والهندسة والتكنولوجيا وأنظمة المعلومات واللغات. ولكن، في جميع هذه الأحوال، يبدو أن التركيز هو على اكتساب مهارات فنية ضيقة من أجل تطبيقات محدودة، وليس على خلق مناخ مؤسسي تفاعلي للابتكار التكنولوجي والتجاري.101

بدا أن حمدي وهيبة، رئيس الهيئة العربية للتصنيع في حينه، قد أدرك عدم وجود بحث وتطوير بالمعنى الحقيقي عندما علّق في عام 2009 قائلًا إنّ "مصر تعيش في غيبوبة صناعية كبرى... فإن مصر تفتقد وجود التصميمات في 99 في المئة من الصناعات، بما فيها إبرة وابور الجاز وحنفية الميه والولاعة، وكل المنتجات المتوافرة في السوق تصميم أجنبي".102 ويبدو أن استحضاره خطابًا شهيرًا لجمال عبد الناصر في عام 1962، تصوّر فيه مصر تصنّع كل شيء من "الإبرة إلى الصاروخ"، إنما استهدف تقديم الهيئة بوصفها استثناءً كانت تقود الطريق بفضل قدرة حقيقية على البحث والتطوير.103 لكن المحلّلة سارة تشايْس وجدت أدلة قليلة على ذلك، عندما زارت مصنع الهيئة الذي ينتج الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية الاستهلاكية في عام 2013، فلاحظت:

[المصنع] يقوم فقط بتجميع مكونات صينية منخفضة الجودة لمنتجات واضح أنّها ذات معايير أقل من معايير البدائل المتوفرة بسهولة مثل "سوني" أو "سامسونغ". ولم يتم بيع مجموعته من أجهزة الكمبيوتر (التي توقف إنتاجها منذ الثورة [في 2011]) إلا للوزارات الحكومية. وفي الوقت الحالي، يركّز قسم البحث والتطوير المكون من 12 شخصًا على وحدات التحكم الكهربائية في مشروع محتمل لإضاءة الشوارع [بالطاقة] الشمسية الذي يستهدف أيضًا المشترين الحكوميين. هذا القسم، حتى وفقًا لأحد [مهندسيه]، لا يولّد أي ابتكار. وكان يتناوب على القسم مهندسون شباب يجري تعيينهم فورًا بعد إنهائهم الدراسة، وهم في طريقهم إلى وظائف ذات رواتب أعلى في القطاع الخاص، وذلك على الأقل حتى منتصف العقد الأول من القرن الحالي، وفقاً لمهندس آخر.104

نتيجة لذلك، واجهت الهيئة العربية للتصنيع ووزارة الإنتاج الحربي المتاعب في محاولتهما رفع نسبة المحتوى المحلي في المنتجات التي يتم تجميعها بموجب ترخيص أجنبي. وتعد هذه وسيلةً مألوفة في جميع أنحاء العالم للحصول على التكنولوجيا والمعرفة الإنتاجية، وطريقًا إلى إضافة القيمة وتحفيز الصناعات المغذية المحلية، غير أن معدلات النمو البطيئة في المحتوى المحلي تكشف عن عدم كفاية قدرة البحث والتطوير وتحد من العوائد الاقتصادية. إن ناقلة الجند المدرعة، "الوليد"، وخليفتها، "الفهد" تعطيان المثال: كلتاهما كانتا مبنيتين على تصاميم ألمانية وأُنتجتا في مصر بموجب ترخيص (بدءاً من عام 1960 للوليد و1985 للفهد)، لكن الأمر استغرق ثلاثين عامًا لكي ينتقل المحتوى المحلي في ناقلة الفهد من النسبة الأولية 25 في المئة إلى 68 في المئة.105 الأمر نفسه ينطبق على سيارة الجيب "ج8" (J8) التي يتم إنتاجها في مصر منذ أواخر 2008 بتجميع مكوّنات قدمتها شركة كرايسْلر الأميركية: كانت الشركة العربية الأميركية التابعة للهيئة العربية للتصنيع تقوم بتجميع نماذج مدنية وعسكرية لها منذ عام 1978، ولكن اُعلن في شهر نيسان/أبريل 2017 أنّ محتواها المحلي لا يزال بنسبة 45 في المئة فقط.106

وقد تأثر بالمثل الإنتاج المرخص منذ عام 1992 للدبابة القتالية الرئيسة "م1-أ1 أبرامز" (M1-A1 Abrams) الأميركية التصميم، والتي كان مسؤولو الدفاع المصريون يفتخرون بها بشكل خاص. منذ إنشائه، صنّع مصنع الدبابات 200، التابع لوزارة الإنتاج الحربي والمخصص لهذا الغرض، حوالي 40 في المئة من مكونات أول 555 دبابة م1 كانت مشمولة بالاتفاقية الأصلية، في حين تم استيراد 60 في المئة منها.107 كان هذا المستوى من المحتوى المحلي في واحدة من أكثر المركبات القتالية تقدمًا في العالم مثيرًا للإعجاب. وقد وعد مشعل بزيادة هذه النسبة إلى 90 في المئة بحلول عام 2011، وزعم أنها بلغت 95 في المئة بحلول تشرين الأول/أكتوبر 2011. ومع ذلك، كان هذا صحيحًا فقط بالنسبة إلى مكونات محددة مثل الهيكل، وحتى ذاك لم يتحقق سوى في عام 2015.108 وفي ما يعكس هذه القصورات، فإن الإنتاج المشترك في الواقع "زاد بشكل كبير من كلفة الوحدة بالنسبة إلى الدبابات وغيرها من المعدات المصنعة بشكل مشترك"، وفقًا لمكتب المحاسبة العامة في الولايات الذي كان يقيّم البرنامج بشكل روتيني في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة.109 إلى ذلك، كان المصنع 200 الذي يجمع دبابة م1 يستخدم أعدادًا كبيرة من العاملين ويقاوم ضغوط الشركة المصنعة الأمريكية "جنرال موتورز" لكي يخفض قوته العاملة من 6000 إلى 1200، مع أن المسؤولين الأميركيين قد قدّروا في البداية أنه لا يحتاج سوى 200، ليستقر عددهم نهاية على 4000 موظف، لينخفضوا بعد ذلك إلى 2500 مع اقتراب انتهاء الإنتاج عام 2018.110

ويبدو أن الشركات العسكرية المصرية في زيادة المحتوى المحلي وفي الحصول على التكنولوجيا ووسائل الإنتاج للقيام بذلك حين اتصل الأمر بالمعدات القتالية الرفيعة المستوى والتي تعزز القدرة الاستراتيجية للقوات المسلحة ومكانتها. إلى ذلك، يعكس الإصرار على الحفاظ على الإنتاج المشترك لدبابة م1 أملاً في استخدام ذلك منطلقًا للتصدير. في هذه الأثناء، يجري استخدام مصنع الدبابات لترقية النماذج السابقة من دبابات م1 أ1.111 وهذا أمر منطقي، لكن محدوديات قاعدة البحث والتطوير الأساسية تفرض سقفًا على ذلك وعلى الجهود الأخرى مثل تلك الخاصة بالوحدة 1703 في إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع التابعة لوزارة الدفاع، وهي وحدة تعمل على استكمال نقل التكنولوجيا العسكرية من خلال الحصول على معدات يُجري لها هندسةً عكسية من قبل مركز البحث التكنولوجي والتصميم والتطوير التابع لوزارة الدفاع.112 ويتبين جلياً من مراجعة المعدات العسكرية المعلنة على موقعي وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع أنها لا تحتوي سوى على التكنولوجيا المتقادمة؛ إن الاستثناء الوحيد هو رزم تجميع الدبابة م1أ1، غير أن حتى هذه اعتبرها  جهاز تعاون الأمن الدفاعي التابع لوزارة الدفاع الأميركية في عام 2015 أنه من بين عدد من "النظم الأقدم أوالمتقادمة أو المُنتَجَة من قِبل أطرف ثالثة" الموجودة في حيازة القوات المسلحة المصرية التي "ينبغي انتقالها خارج نطاق [المساعدات العسكرية الخارجية الأميركية] أو إنهاؤها"113.

في المقابل، تعتبر العالمة السياسية شانا مارشال أن الصناعة الحربية المصرية قامت بسعي حثيث وراء نقل التكنولوجيا من الأطراف الثالثة من خلال الإنتاج المشترك واتفاقيات التصنيع المرخصة إما مباشرة من شركات الدفاع الأجنبية أو من خلال شركات أجنبية وسيطة مورِّدة، وذلك منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي.114 وهذا الطريق إلى التكنولوجيا المتقدمة واعدٌ أكثر، لكن سجل القطاع ضعيف في هذا الصدد: بعد أكثر من أربعة عقود من تشكيل الهيئة العربية للتصنيع مشروعات مشتركة مع العديد من مصنعي الأسلحة الغربيين الرئيسين وحوالي ثلاثة عقود منذ بدء إنتاج خط تجميع الدبابات م1، لم يرتفع المحتوى المحلي إلا ارتفاعًا نسبيًّا قليلًا في المتوسط. بالفعل، إن ضعف قاعدة البحث والتطوير في مصر لم يتسبب في العرقلة الشديدة لاستيعاب التكنولوجيا الجديدة فحسب، وبالتالي منع التكيفات أو الابتكارات المحلية الهامة، بل حدّ أيضًا من القيمة المضافة من خلال إجراء عمليات الصيانة والإصلاح والتحديث في مصر. لذلك قد يكون الدافع وراء بناء العلاقات مع الشركات الأجنبية أقل ارتباطًا بنقل التكنولوجيا والدراية الفنية، بل يتعلق أكثر باستثمار أموال الوزارة في الخارج بهدف تأمين مصادر الدخل من الأرباح والحصول على حصص خارج مصر.

إن ضعف قاعدة البحث والتطوير في مصر لم يتسبب في العرقلة الشديدة لاستيعاب التكنولوجيا الجديدة فحسب، وبالتالي منع التكيفات أو الابتكارات المحلية الهامة، بل حدّ أيضًا من القيمة المضافة من خلال إجراء عمليات الصيانة والإصلاح والتحديث في مصر.

ومن الأمثلة على ذلك الاتفاق مع اليونان بالتبرع بـ92 مركبة قتال للمشاة مستعملة من طراز "بي م بي 1 أ 1" (BMP 1A1) إلى القوات المسلحة المصرية في أواخر عام 2018. حيث اتفق أن تقوم مصر بتمويل إجراء التفتيش الفني والتحديث على المركبات في المصانع اليونانية بدلاً من القيام بهذه المهام بنفسها. علاوة على ذلك، تم اللجوء إلى هذه الصفقة بدلاً من تحديث 205 مركبات بي م بي 1 الموجودة أصلاً في مستودعات القوات المسلحة المصرية.115 وبالمثل، عندما استحوذت وزارة الدفاع على أسطول من الطائرات الصينية بدون طيار متوسطة الحجم من طراز "وِنغ لونغ" (Wing Loong) في العام 2017، قام مقاولو الصناعة الحربية في الإمارات العربية المتحدة بتعديل أنظمة الاتصالات والمراقبة وتحديد الأهداف لتتكيَّف مع احتياجات القوات المسلحة المصرية.116 وكان وهيبة قد أعلن سابقًا أن الهيئة العربية للتصنيع كانت تُنتج 12 مركبة جوية صينية الصنع بدون طيار من طراز "أ س ن – 209" (ASN 209) في العام 2012، لكنّ ادّعاءه أنّ المحتوى المحلي في صنعها بلغ 99.5 في المئة لم يتم إثباته.117

كما تَظهر المحدوديات الحقيقية في التأخير المتكرر في إطلاق مشروعات الإنتاج الجديدة وفي تسليمها. فعلى سبيل المثال، مرت تسع سنوات بين طلب أولي بتسليم 120 طائرة تدريب من "طراز ك–8إ" (K-8E) وبدء تجميع الطائرات الأربعين الأخيرة منها في مصر باستخدام مكوّنات وفرتها شركة صناعة الطيران الصينية "هونغْدو" الموِّردة في عام 2008.118 وفي أعقاب قرار الولايات المتحدة في عام 2013 إعادة تخصيص "أموال المساعدة العسكرية الخارجية" بعيداً من نُظُم الأسلحة الرئيسة، مثل دبابة م1 وطائرة ف16 المقاتلة، أظهرت وزارة الإنتاج الحربي مرة أخرى تحيزها نحو التكنولوجيا العسكرية الثقيلة من خلال التفاوض مع الشركة الروسية "أوْرال فاغون زافود" في عام 2017 على تجميع 400-500 دبابة قتالية رئيسة طراز "ت-90" وتصنيعها جزئيًّا في مصر (الأمر الذي أيضًا لم يتحقق).119

لم يردع القصور في الإنجاز في الصناعة الحربية من عزيمة الوزير العصّار على شنّ حملة لترسيخ مكانتها الدولية. وعرض إنتاج الوزارة العسكري في معرض "إيدكس" الدولي للدفاع في أبو ظبي في شباط/فبراير2017، وكانت هذه أول مشاركة للوزارة في حدث مماثل منذ أكثر من عشر سنوات، وكأنه يستجيب للنقد المتضمن في الورقة البحثية لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في عام 1985 المذكورة سابقًا، حول الافتقار إلى عملية فعالة لجمع المعلومات ولتنظيم تسويق الصادرات من قِبل وزارة الإنتاج الحربي.120 وفي كانون الأول/ديسمبر 2018، افتتح أول معرض في مصر للدفاع (إيدكس)، بغية إنعاش الطلبات على منتجات الصناعة الحربية.121

استحقت تلك الجهود الثناء، إلا أن التسويق مقيد بضعف القدرة التنافسية للمنتجات الحربية المصرية في الأسواق العالمية. ومن أبرز المنتجات المعروضة في "إيدكس" تحسينات على ناقلات الجند المدرعة من طرازيّ "فهد" و"تمساح"، استنادًا إلى تعديلات على المركبات الألمانية والأوكرانية، والنماذج الأولية من المركبات "إس تي – 100" (ST-100) و"إس تي – 500" (ST-500)، المطورة تحت رعاية "مجموعة ماراتون الدولية المتحدة للتكنولوجيا" في جنوب أفريقيا.122 عكَست العربة تمساح دخول مجمع الصناعات الهندسية التابع لإدارة المركبات في القوات المسلحة المصرية كمنتِج حربي ثانوي جديد إلى القطاع: فقد تم تدشينه في أيار/مايو 2015، ويضم عشرة مصانع تنتج كل شيء بدءًا من قطع غيار السيارات (أنابيب العادم، والمشعّات الحرارية، الرادياتر، والأجزاء المطاطية غير المعدنية، ومقاعد الإسفنج، و"أول بطارية مصرية الصنع بالكامل") وصولًا إلى ناقلات الدبابات م 1 / أ 1.123

لم يشكل معرض "إيدكس" بوضوح علامة إطلاق مصر كمصدّر للأسلحة. فقد جرى الاتفاق على بيع 19 ناقلة فهد إلى بوروندي في آذار/مارس 2019، لكن لم يتم تأكيد أي طلبات أخرى من أي من هذه المركبات، حتى من قِبَل القوات المسلحة التي استمرت بدلاً من ذلك في استخدام المركبات المحمية ضد الألغام المقدَّمة من قِبل الولايات المتحدة ضمن برنامج "المواد الدفاعية الفائضة" منذ عام 2015.124 بالمقابل أثبت "إيدكس" أنه فرصة تسويقية لشركات الدفاع الأجنبية لإبرام مجموعة متنوعة من العقود مع القوات المسلحة المصرية.125

"بصماتنا في كل منزل": المتاعب المريرة للإنتاج المدني

لا تقل الصناعة العسكرية المصرية طموحاً في ما يتعلّق بإنتاجها المدني. وهذا يشمل مروحة واسعة من السلع الجاهزة والوسيطة الخاصة بالمنازل، والمؤسسات المالية، والزراعة، والصناعة، والاستخدامات البيئية: أدوات المطبخ، وآلات الغسيل، والثلاجات، وأجهزة التلفزة، ومستقبلات التلفاز، والحواسيب النقالة، وعدادات الماء والكهرباء، ومرشحات الماء (الفلاتر)، والمبردات، ومكيفات الهواء، ووحدات التدفئة والإضاءة، واسطوانات ومنظّمات غاز الطبخ، والأثاث الخشبي، ومعدات المستشفيات، والحقن غير القابلة لإعادة الاستعمال، والأدوية والمذيبات، وعربات إطفاء الحرائق وسيارات الإسعاف، وشاحنات القمامة، وشاشات ومقاعد الرياضة، والأقراص التعليمية، والمبيدات، وأنابيب الماء، والآلات الزراعية ومستوعبات التخزين، ونظم الري بالانتقال الأفقي، وشاحنات الطعام المبرّد، ومتفجرات البناء، ووحدات تصفية وتحلية المياه، والدهان، وإعادة تدوير الفضلات الزراعية ومحطات معالجة المياه، ومعدات الطاقة المتجددة.126 كما تقدّم الصناعة العسكرية الخدمات المدنية بما في ذلك التعاقد والإنشاءات، والتوريد والاستيراد، وتركيب وترقية تكنولوجيا المعلومات ونظم الرصد للمؤسسات العامة، والتدريب التقني.

لا عجب بعد كل ذلك أن يُفاخر مدير أحد مصانع وزارة الإنتاج الحربي بأن "بصماتنا مُنتشرة في كل منزل في مصر".127 بيد أن القصور في الإنتاج العسكري للصناعة العسكرية يمكن أن يكون حتى أكثر أهمية من إنتاجها المدني. هنا، تُنحى اللائمة جزئياً على البلبة والارتباك الكامنين في المبررات الرسمية لإنتاج السلع والخدمات المدنية. فقد أعلن المسؤولون النافذون مراراً وتكراراً أن الصناعة العسكرية لا تفعل شيئًا سوى إعادة توجيه الناتج الفائض عن حاجات القوات المسلحة إلى الأسواق المدنية، وأنها تفعل ذلك عبر استخدام السعة الفائضة، وكسر الاحتكارات، وإعادة الاستقرار إلى أسعار السلع "الاستراتيجية"، وتقليص الواردات، وتوفير الاحتياطي من العملات الصعبة، والمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي الناتج المحلي الإجمالي، وبالتحديد في خطط الدولة للتنمية القومية، الأمر الذي يساعد على إصلاح الاقتصاد ودعم القطاع الخاص.

أن القصور في الانتاج العسكري للصناعة العسكرية يمكن أن يكون حتى أكثر أهمية من انتاجها المدني.

يمكن من الناحية النظرية أن يكون بعض هذه الأهداف متجانسًا مع البعضالآخر، لكن معظمها متناقض في الواقع. على سبيل المثال، فإن القصور في استعمال السعة الصناعية العسكرية حاد، ومع ذلك كانت وزارة الإنتاج الحربي على وجه الخصوص تتحرّك على مسار توسعي منذ سنوات عدة، ما أضاف خطوط الإنتاج، والمصانع، والشركات الجديدة إلى ملفّها في إطار مواصلة استراتيجية العصّار الداعية إلى التوسّع.128 والحال أن غالبية القطاعات الاقتصادية التي تنشط فيها الهيئات العسكرية، إذا لم نقل جميعها، لا تعاني احتكارًا للقطاع الخاص يتطلّب التفكيك. ويضاف إلى ذلك أن تنظيم الأسواق والأسعار هو من اختصاص وزارات الحكومة وإدارات الدولة المتخصصة، كما أن التطمينات العسكرية بعدم التنافس مع القطاع الخاص تنفيها التصريحات العسكرية المقابِلة بضرورة التنافس بهدف خفض الأسعار.

والواقع أن قادة الصناعة العسكرية يدلون بخطابات متضاربة حيال هدفهم ومساهمتهم الرئيسة. فقد اشتكى العصّار في العام 2017 بأنه من الصعب زيادة الناتج المدني بالمقارنة مع العسكري "بفعل العديد من التحديات التي تشمل، على سبيل المثال، التنافس والواردات"، لكنه أكّد مع ذلك بعد سنة واحدة أنه "إذا ما أنتجنا سلعًا عسكرية فقط فلن نحقق مردودًا اقتصاديًّا".129 كما أكد الفريق عبد المنعم بيومي التراس، الذي أصبح رئيس مجلس إدارة الهيئة العربية للتصنيع في آب/أغسطس 2017، أن توفير احتياجات "رفيعة النوعية" للقوات المسلحة هو هدف الهيئة الرئيس وليس حصد الأرباح، وهو أمر غير مقنع نظراً إلى إقلاع الهيئة عن برامج إنتاجها العسكري ذي التكنولوجيا المتطوّرة السابقة، وتقادم المحتوى التكنولوجي لما تبقى من منتوجها العسكري.130 مثل هذه البيانات تقفز فوق الحقيقة بأن 60 في المئة على الأقل من الإنتاج هو مدني، وفق أرقام يقدّمها قادة هذا القطاع نفسه.131

الحفاظ على الجيب الصناعي العسكري: استنساخ الماضي

تنبثق كل هذه التناقضات من مصادر متعددة، أهمها أن الصناعة الحربية، بكونها جيبًا محميًّا، ورثت "المؤسسات، والهيكلية المؤسسية، وأطر السياسة العامة، وأنماط الإنتاج والتنظيم، والمصالح المترسّخة، وعادات التفكير والعمل" التي كانت خصيصة جُل الاقتصاد منذ حقبة ناصر، كما أوضح مدير البنك الدولي السابق لشؤون مصر خالد إكرام في تقييمه للقطاعاتالإنتاجية والبنى التحتية في البلاد.132 وهذا يعني أيضًا، جزئياً، احتفاظ الصناعة الحربية باحتياطي رأس المال من المعدات والمنشآت الذي تشكّل أساسًا من خلال استثمارات سابقة، على غرار مجمع الحديد والصلب الضخم ومصنع تجميع السيارات اللذين أقيما في أواخر الخمسينيات وحوُلّا جزئياً إلى الإنتاج العسكري بهدف استخدام السعة الفائضة، أو مصنع الطائرات الذي أعيد توجيهه لإنتاج السلع الاستهلاكية المدنية.133

علاوة على كل ذلك، لا تزال الصناعة الحربية مرتبطة باستراتيجية التصنيع للإحلال محل الواردات التي طُبّقت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وإن بشكل مشوّه ومقلَّص. وبالإضافة إلى الاستثمار في مشروعات تصنيعية في قطاعات مُنتقاة تحميها التعرفات الجمركية المرتفعة ( كالكيماويات الوسيطة، والأسمدة، والإسمنت، والصلب)، عمد قادة الصناعة الحربية غالباً إلى استغلال علاقتهم التفضيلية مع الوزارات والإدارات الحكومية للحصول على عقود المشتريات العامة بالأمر المباشر لضمان بيع المنتجات التي بوسعها التنافس مع السلع المحلية أو الأجنبية الأرخص، أو الأفضل جودةً. كما شنّ هؤلاء القادة الحملات الترويجية لسلعهم تحت شعارات "اشترِ المصري"، و"صنع في مصر"، و"شجّع مصر"، إضافة إلى تشكيل مجموعة على الفايسبوك اسمها "معاً لدعم المنتج المدني للصناعات الحربية".134 وقد أعلنت وزارة الإنتاج الحربي في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أنها ستقيم 22 منفذاً للمبيعات في أنحاء البلاد وأنها تشارك على نحو منتظم في معرض القاهرة التجاري، وكما عرضت مراراً "تخفيضات هائلة" على الأدوات المنزلية "احتفاء" بمناسبات خاصة مثل "السنة الميلادية وأعياد الاخوة المسيحيين" واليوم الوطني للشرطة.135 كما تعاقدت الوزارة لفترة مع شركة خاصة لتسويق منتجاتها المدنية تحت شعار "إسعد مصري".136

لاتزال الصناعة الحربية مرتبطة باستراتيجية التصنيع للإحلال محل الواردات التي طُبّقت في الخمسينات والستينات، وإن بشكل مشوّه ومقلَّص. 

ببساطة، فإن الصناعة الحربية ليست مجدية من دون سوق أسير. وهذا السوق محلي كلياً، تقريباً، لأن الصناعة الحربية قد فشلت فشلاً ذريعًا في تحقيق قدرات تصديرية ذات شأن؛ وحين تمكّنت من ذلك( كما في حالة الفوسفات والأسمدة) فإنها أفادت من الدعم المتعدد الأوجه. وكما الأمر بالنسبة إلى المنتجات العسكرية، كمنت العقبة الكأداء في الصناعة الحربية في ضعف الأبحاث والتطوير، ما أعاق ترقية المحتوى المحلي والقيمة المضافة الاقتصادية للمنتجات المخصّصة للأسواق المدنية أيضًا. وهذا في الواقع جزء من مشكلة عامة في مصر. فقد لاحظ المدير السابق لدائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جورج عبد في العام 2019 أن مصر أنفقت 0.6 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي على الأبحاث والتطوير، بالمقارنة مع 4.3 في المئة في كوريا الجنوبية وإسرائيل، و2.2 في المئة في سنغافورة، و2 في المئة في الصين، و1.3 في المئة في ماليزيا والبرازيل.137 وخلص إلى أنه نتيجة لذلك، أهملت مصر تطوير بنيتها الصناعية وتخلفت بشكل متواصل عن نظرائها في مجال دمج اقتصادها في سلسلة القيمة الصناعية العالمية.138

هذه الإعاقة تفسّر عدم مصداقية التشديد المتزايد من قبل قادة الصناعة الحربية على أهمية توطين التكنولوجيا والمعرفة الصناعية إلى مصر من خلال صفقات التجميع والترخيص للإنتاج من الباطن مع الشركات الأجنبية. فعلى رغم أن هذه المقاربة سليمة نظرياً، إلا أن قاعدة الانطلاق التكنولوجية المُتدنّية لدى الصناعة الحربية والاستثمارات غير الكافية في مجال البحث والتطوير، يحدان بشدة من قدرتها على اجتذاب التحويلات أو الإفادة منها. والحال أن الحاجة الملحّة لترقية البحث والتطوير كانت واضحة وجليّة منذ عقود، وقد اعترف بها وزراء الإنتاج الحربي السابقون ورؤساء الهيئة العربية للتصنيع طيلة السنوات العشرين الماضية، بيد أن المتطلبات لتحقيق ذلك بقيت في الحقيقة مُعلّقة في الهواء. وهكذا يبدو أن شعار التوطين كان يطفو على السطح ككلمة سحرية فقط، كما قال عبد المنعم التراس رئيس الهيئة العربية للتصنيع، "استجابة لتعليمات الرئيس السيسي بنقل وإعادة توطين التكنولوجيا، وتعميق الإنتاج المحلي بالتعاون مع الخبرات الدولية".139

أي مراجعة للصفقات الجديدة مع الشركات الأجنبية منذ ذلك الحين تشي في الواقع بأن شيئًا لم يتغيّر تقريباً. وفي مثال دالّ، وافقت وزارة الإنتاج الحربي في كانون الأول/ديسمبر 2018 على تحديد الاحتياجات وتوفير الرخص والأذونات لمشروعات مشتركة في مجال الطاقة والبنى التحتية مع شركة مجموعة هندسة الطاقة الصينية التي يُفترض أن توفّر التصاميم الهندسية الفعلية والمعدات، وأن تقدم خدمات الإنشاء الضرورية والدعم اللوجستي.140 بيد أن كل اتفاقات التعاون المشترك تقريباً التي تم التوصل إليها مع شركات أجنبية في 2016- 2019 في قطاعي السيارات والسكك الحديد، على سبيل المثال، لا تتوقع وجود محتوى محلي مصري أكثر من 40-50 في المئة، وهو رقم لم يرتفع إلى نسبة 60 في المئة سوى في حالات نادرة. وفي ظل هذه المعطيات يشي عدد بروتوكولات التعاون الموقّعة مع شركات وحكومات أجنبية بأن الصناعة الحربية المصرية لا تزال معتمدة على التكنولوجيا والمعرفة الأجنبية كما كانت في العام 1985 حين ذكر تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية المشار إليه سابقًا أن هذا الإعتماد  يعتبر مشكلة كبرى.

هذه الإعاقات توضح إلى حد كبير لماذا لم يؤتِ تحويل شطر كبير من السعة الإنتاجية للصناعة الحربية إلى الإنتاج المدني، والذي كان يُفترض أن يكون مجديًا اقتصاديًّا، بثمار. ولهذا السبب أيضًا لم تتحوَّل سوى قلة قليلة من بين عشرات مذكرات التفاهم واتفاقات التعاون بين وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع، من جهة، وبين الوزارات الحكومية والشركات والحكومات الأجنبية، من جهة أخرى، إلى نتائج فعلية. كما أن الحديث عن اجتذاب شركاء عرب لإعادة الاستثمار في الهيئة العربية للتصنيع أو لدمج الصناعات الحربية الناشئة في المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة لتكون شريكًا لنظيراتها المصريات، أمر بعيد المنال للأسباب نفسها.141 علاوة على ذلك، تقع لائمة استمرار المشكلة المزمنة المتعلقة بالقصور في استخدام السعة الإنتاجية في شركات الصناعة الحربية، حتى وهي تزيد سعتها، على الوضعية التنافسية الضعيفة وأكلاف الإنتاج المرتفعة. فالازدواجية في إنتاج سلع الصناعة التحويلية والخدمات يمكن أن تولّد تنافسًا مفيدا، لكن غياب الابتكار التكنولوجي الملموس وتعميقه يعنيان أن شركات الصناعة الحربية ما كانت ستقدر على المضي بإنتاج نفس السلع وبدخول نفس الأسواق، لولا إمكانة ترحيل الأكلاف الحقيقية للازدواجية وللسعة الإنتاجية الفائضة المعطّلة إلى الخزينة العامة. وعلى رغم مزاعم الصناعة الحربية بأنها تطرح المنتجات بأسعار معقولة، إلا أن الشركات الخاصة تشتكي من ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج التي تشتريها من وزارة الإنتاج الحربي، وتهدد بالعودة إلى الاستيراد بدلاً من ذلك.142  

تتموضع الصناعة الحربية بين دوري المنتج والمُشتري: فهي تستطيع صناعة منتوجات منخفضة المحتوى التكنولوجي بأسعار مقبولة، لكنها تبقى عالقة في مرحلة تجميع المكونات المستوردة حين ترتقي الُسلّم التكنولوجي، الأمر الذي لا يوفّر سوى محتوى محلي وقيمة مضافة أقل، أو أنها يمكن أن تعمل مباشرة كوسيط للسلع المستوردة. وهذا يتضح من خلال جهودها لإنتاج السيارات والعربات، وقطارات السكك الحديد والأجهزة الإلكترونية.

سعياً وراء "سيارة مصرية مئة في المئة"

يشكل قطاع السيارات نقطة انطلاق طبيعية للصناعة الحربية عالمياً بسبب تمتعه بالمحتوى التكنولوجي المتقدّم وبحلقات الإنتاج المتعددة، ما يجعله كذلك همزة وصل في التآزر التجاري بين قطاعات التصنيع التحويلي العسكري والمدني. بيد أن العقبات التي تمت مناقشتها أعلاه عرقلت التآزر الاقتصادي وهددت برفع أكلاف الاندفاعات الجديدة في مجال إنتاج السيارات التي خططت لها الصناعة الحربية المصرية. وهذا يتضح جلياً في الجهود المتكررة لإحياء شركة النصر للسيارات المملوكة للدولة من خلال وضعها تحت جناحوزارة الإنتاج الحربي، وأيضًا من خلال جهود بذلتها مؤخراً الوزارة والهيئة العربية للتصنيع لإطلاق خطوط خاصة بها لإنتاج السيارات.

إنَّ شركة النصر، التي كانت تُعتبر رائدة الصناعة التحويلية المصرية، كانت من بين مئات الشركات المملوكة للدولة التي وُضعت تحت إدارة تجارية في عام 1991، دون خصخصتها. وبعد المعاناة لسنوات مديدة من الشركات الخاسرة، وضعها مجلس الوزراء على لائحة التصفية في عام 2009، فتوقف الإنتاج فيها. لكن في نيسان/أبريل 2013، اقترح وزير الإنتاج الحربي آنذاك الفريق رضا حافظ إحياء مصانع النصر الأربعة تحت رعاية وزارته، ثم وعد بعدها بأن الشركة ستنتج أول سيارة مصرية بالكامل في غضون سنتين.143

أثار اقتراح حافظ ممانعة في صفوف الضباط المتقاعدين الذين يتربعون على عرش رئاسة شركات أخرى، والذين كانت موافقتهم على الاقتراح لازمة. فقد زعم رئيس الشركة القابضة للصناعات التعدينية، التي تنتمي إليها شركة النصر للسيارات، أنه يؤيد نقل هذه الأخيرة إلى وزارة الإنتاج الحربي، لكن فقط بشرط أن تتكفّل الوزارة بديون الشركة (التي كانت وقتها 1،2 مليار جنيه، أي نحو 172 مليون دولار)، وأن تلتزم بدفع الرواتب لمن تبقى من قوّتها العاملة لمدة ثلاث سنوات أخرى (بكلفة عامة تبلغ 180-216 مليون جنيه).144 بيد أن حافظ طلب بالمقابل أن تستوعب الشركة القابضة هذا الدين. كذلك، كان اللواء المتقاعد الذي عمل كمدير تنفيذي لرابطة مُصنعي السيارات، والذي كانت ستخسر جراء إحياء شركة نصر والتنافس من قبل  وزارة الإنتاج الحربي، أكثر صراحة في معارضته، مُدّعياً أن إحياء الشركة سيتطلّب استثمارات تبلع 10 مليارات دولار.145 على أي حال، جاءت وفاة حافظ لتحول دون إتمام عملية النقل التي أوقفها خَلَفَه الفريق إبراهيم يونس، الذي قرر أن يقرن حيازة وزارة الإنتاج الحربي لشركة نصر بالعثور على شريك عالمي كبير يستطيع أن يضمن إنتاج 200 ألف سيارة على الأقل سنوياً، وهو شرط مستحيل.146

بيد أن فكرة إحياء نصر لم تُسلِم الروح. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2015، استأنف داعموها الضغط على العصار الذي خلف يونس كرئيس لوزارة الإنتاج الحربي. وقد أكد العصّار بعدها بشهرين أن مصير الشركة سيكون قيد البحث، لكنه لم يبد اهتماماً حقيقياً باستيعابها في وزارته.147 وعلى مايبدو، فإن ادّعاء المؤسسة العسكرية في أنها معنية بإنقاذ المؤسسات الاقتصادية الوطنية، واعتقاد ناقديها أنها تسعى فقط للاستيلاء على الأصول المدنية، لم يتغلّبا على حسابات الربح والخسارة لديها. وقد طُرحت أفكار مختلفة على مدى السنوات الأربع التالية، بما في ذلك الإعلان في أيلول/سبتمبر 2017 بأنه يمكن إعادة ترميم النصر بمساعدة وزارة الإنتاج الحربي، لكن أيًّا من هذه الأفكار لم ير النور، وانطلقت وزارة قطاع الأعمال العام مجدداً للبحث عن شركاء أجانب كجزء من خطتها لتطوير شركات القطاع العام المضطربة في عام 2019.148

سعت الصناعة الحربية بدلاً من ذلك للانطلاق باتجاه مستقل. ففي الفترة بين حزيران/يونيو 2018 وأيلول/سبتمبر 2019 وافقت وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع على الإنتاج المشترك للشاحنات ومعدات جرف التربة "اللوادر" مع شركة مصنع مينسك (البلاروسية) والباصات الكهربائية مع شركةفوتون (الصين) وجيلي (الصين)، ومحطات الشحن للسيارات الكهربائية مع "س. إي. إى" وماراثون (الصين).149 التبرير المعتاد الذي سيق في كل حالة هو نقل التكنولوجيا والمعرفة، وتقليص الاستيراد، وتوفير السلع بأسعار مقبولة، ودعم التنمية: ولكن لا يوجد ما يبرر الاعتقاد أنه بإمكان وزارة الإنتاج الحربي أن تتهرّب من المتاعب المريرة التي واجهها قطاع إنتاج السيارات المدني. فعلى رغم الحماية التجارية الكثيفة التي تمتعت بها هذه الأخيرة حتى مطلع عام 2019، إلا أن التقديرات أشارت إلى أن السيارات المجمّعة محلياً كلّفت 20-30 في المئة أكثر من تلك المستوردة في عام 2005، وكانت لا تزال أكثر بنحو 30 في المئة في عام 2012، فيما كان قطاع السيارات في ذلك الوقت يعمل بنسبة 30 في المئة من طاقته الإنتاجية.150 والحال أن اعتماد صناعة السيارات على الواردات بنسبة 60 في المئة على الأقل من مكوناتها (هذا علاوة على آلات الإنتاج، والأدوات، والمواد) يعني أنها لم تكن قادرة على الاستفادة من الهبوط الحاد في سعر الجنيه المصري لتحقيق ميزة تنافسية حقيقية. من المهم أيضًا الإشارة هنا إلى أن وزير قطاع الأعمال العام هشام توفيق قدّر في كانون الثاني/يناير 2019 بأن المكونات المحلية مسؤولة عن 17 في المئة فقط من المُنتج النهائي.151 صحيح أن مبيعات السيارات المجمّعة محلياً تحسّنت بنسبة 18 في المئة غداة الهبوط الحاد بسعر صرف الجنيه المصري، إلا أن مبيعات السيارات المستوردة ارتفعت بنحو 58 في المئة بعد إلغاء رسوم الضرائب على السيارات الأوروبية في نفس الوقت (بموجب اتفاقية الشراكة المصرية – الأوروبية عام 2004).152

لذلك، يتعيّن الإطلالة بعين الشك على ادعاء قادة الصناعة الحربية، مثل التراس، الذي وعد في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 بأن الهيئة العربية للتصنيع ستنتج قريباً "سيارة مصرية 100 في المئة"153. وكانت الهيئة قد أنزلت إلى السوق سيارة بعجلات ثلاث من نوع "توك توك" الشائع قبلها بعام، الذي زعمت ، أنه يتضمن 90 في المئة من المكونات المحلية في مجالي القطع والعمل، وهو زعم معقول.154 بيد أن اتفاقية وزارة الإنتاج الحربي في أيلول/سبتمبر2019 للتعاون بشكل مشترك مع الشركة الصينية فوتون لإنتاج الباصات الكهربائية كشفت الوضع الحقيقي: فشركة فوتونستقدّم المكونات، بما في ذلك البطارية والمحرّك الكهربائي، وهما القطع الأكثر تعقيداً تكنولوجيًّا، وستوفّر شركة ماراثون الدولية للتكنولوجية المتحدة المصرية التمويل، فيما ستساهم وزارة الإنتاج الحربي بحصة صغيرة من رأس المال، والأرض، والقوة العاملة.155 ومرة أخرى، يعيق النقص في البحث والتطوير تحقيق الزيادات الممكنة في المحتوى المحلي والقيمة المضافة. ثم حقيقة أن رئيس الشركة العربية الأميركية للسيارات في الهيئة العربية للتصنيع كان لا يزال يشعر بالحاجة إلى تقديم وعود بالاستثمار في البحث والتطوير في آذار/مارس 2015 (أي بعد 38 سنة من تأسيس الشركة)، يوضح مدى النقص الحاد المتواصل في هذا المجال.156 وكذا الأمر في تفاخره في الحفاظ على المحتوى المحلي لسيارات الركاب بنسبة 45-47 في المئة، والتي لم تكن أكثر من الحد الأدنى الذي تطلبه وزارة الصناعة أصلاً. وبالمثل، فإن ادّعاء العصّار في عام 2017 بأن شاحنات "ماز" تُنتج في مصر بمحتوى محلي يبلغ 60 في المئة، لم يكن متناقضاً وحسب مع بيان وزير النقل آنذاك هشام عرفات، الذي قدَّر النسبة بـ 50 في المئة بعدها بسنة، بل هو يخرق أيضًا النسبة التي حددتها وزارة الصناعة كحد أدنى مقبول للمحتوى المحلي لهذه الفئة من العربات وهو 70 في المئة.157

الحركة المتثاقلة في السكك الحديد والإلكترونيات

يتضح القصور الكامن في الصناعة الحربية بوضوح في حقلين إثنين: السكك الحديد، التي يمكنها توفير الكفاءة والتوفير في قطاع النقل، والإلكترونيات التي تُعتبر حاسمة للابتكار الصناعي ولاندماج مصر في سلسلة القيمة العالمية. والأهم أن هذين القطاعين يوضحان كيف يخلق الإطار الأوسع لوضع السياسات وللاقتصاد السياسي العقبات في وجه النمو الصناعي، من خلال تشويه حساب الكلفة مقابل العائد ونظام الحوافز، الأمر الذي ينعكس بشكل مشابه في الصناعة الحربية.

والحال أن نظام السكك الحديد في مصر عانى من عقود من الإهمال وقلة الاستثمارات، على عكس الاستثمارات الحكومية الكثيفة في الطرق وإنشاء الأتوسترادات وما يترافق معها من تشديد على قطاع السيارات والعربات. وقد لاحظ المحلل تامر حافظ في أواخر عام 2016 أن "منظومة السكك الحديد غير الآمنة والتي لا يعتدّ بها إطلاقاً، لم تشجّع قطاع الأعمال في مصر على الاعتماد على القطارات لشحن البضائع، وهذا على الرغم من أن السكك الحديد وسيلة أرخص بكثير وأكثر فعالية لنقلها، خاصة حين نضع بعين الاعتبار حالة الطرقات المكتظة وغير الآمنة في البلاد. ومع ذلك تقلّص الشحن في السكك الحديد إلى نحو الصفر في السنوات القليلة الماضية".158 حينها، كان أقل من 1 في المئة من الشحن في مصر يتم عبر السكك الحديد (ارتفعت النسبة إلى 1.2 في المئة في عام 2017) ، فيما كان 20 فقط من نحو 700 رصيف للسكك الحديد مجهزاً تجهيزاً كاملاً لشحن وتفريغ البضائع.159 لكن، بدلاً من التركيز على توفير النقل العام الرخيص وخدمات الشحن، تنحو الخطط الطموحة الراهنة إلى إقامة خطوط سكك حديد بالغة السرعة وخطوط سكك أحادية بقيمة 13،9 مليار دولار، التي لايمكن أن تخدم سوى المسافرين المُوسرين أو المشروعات البعيدة عن احتياجات المواطنين العاديين على غرار العاصمة الإدارية.160

يبدو أن المؤسسة العسكرية تشاطر كلياً الحكومة انحيازها الجلي إلى النقل عبر الطرقات، لأنها أدارت معظم مشروعات الطرق القومية منذ أواخر عام 2013. وكما لاحظ حافظ، فإن أيًّا من المدن الصحراوية الجديدة التي تقع خارج وادي النيل والدلتا، والتي بُني معظمها بمساعدة أو إدارة عسكرية، "لا تقترب من خطوط السكك الحديد". وبالمثل، فإن تطوير النقل بالسكك الحديد مع السودان أُهمل بشدة على الرغم من أن العدد الكبير من المسافرين وحجم البضائع التي تتنتقّل بين البلدين سنوياً، وأيضًا على الرغم من الاستثمارات الحكومية الكثيفة في المجتمعات المحلية الحَضَرية الجديدة واستصلاح الأراضي واسع النطاق والمشروعات الزراعية على طول الطريق في الصعيد. وكان مشروع بناء خط للسكك الحديد قيد الدراسة في عام 2009 لكنه طُرح جانباً، إلى حين حفزت رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي على تجديد المفاوضات في عام 2019، غير أن هيئة السكك الحديد اعترفت بأنها ليست حائزة لا على التمويل ولا على موعد تاريخ البدء بتنفيذ المشروع.161

يبدو أن المؤسسة العسكرية تشاطر كلياً الحكومة انحيازها الجلي إلى النقل عبر الطرقات، لأنها أدارت معظم مشروعات الطرق القومية منذ أواخر عام 2013.

هذا التحيّز في السياسة الحكومية والمعضلة المعهودة المتعلقة بالاستثمار الضئيل في البحث والتطوير، أسفرا عن مساهمة مخيّبة من جانب الصناعة الحربية في قطاع السكك الحديد. فشركة مهمات السكك الحديد المصرية (سيماف)، التي تنتمي إلى الهيئة العربية للتصنيع، ادّعت العام 2018 أن المحتوى المحلي وصل إلى 95 في المئة في إنتاجها لعناصر بسيطة كعربات الشحن، لكنها اعترفت أن النسبة هبطت إلى "25-45 في المئة في قطارات الأنفاق(الميترو)، التي تضمّنت أنظمة كهربائية وإلكترونية غير مصنّعة محلياً بعد في مصر.162 وعلى الرغم من مفاخرة الهيئة العربية للتصنيع بإنتاجها لعربات ومعدات السكك الحديد كدليل على القدرات التصنيعية المحلية، إلا أن الصعوبات التي واجهتها في تسليم طلب حظي بإطناب إعلامي لـ212 عربة ركاب فولاذية مكيفة، أثبتت العكس. فقد أكد شريط فيديو ترويجي بثّ في تشرين الأول/أوكتوبر 2013 أن الهيكل، والطلاء، ومقاعد العربات فقط تُصنع في مصر، وأن مقاولاً إيطالياً من الباطن هو الذي يوفّر المحركات وأنظمة التشغيل والمكونات الأخرى.163 وقد تحوّلت الهيئة العربية للتصنيع إلى مزوّد صيني في عام 2014، ما سمح بتنفيذ المشروع عام 2017، بيد أنه من أصل العدد الإجمالي للعربات، قامت الهيئة بتجميع 12فحسب  وباستيراد 108 عربات.164

والواقع أن وزارة الإنتاج الحربي هي التي قادت التوّجه إلى توفير احتياجات السكك الحديد، بدلاً من الهيئة العربية للتصنيع، فانخرطت بالنقاشات حول توفير المزلقاناتوالقاطرات وعربات الركاب في أوائل عام 2015. وفي عام 2017 أعلنت الوزارة عن خطط تطوير أو توريد 295 مزلقانة وإعادة تأهيل 86 محطة سكك حديد.165 وفي كانون الثاني/يناير 2018، ناقشت خطة للإنتاج المشترك لمعدات التوجيه والمسارات السريعة مع شركة أوراسكوم للإنشاءات (قطاع خاص).166

كانت شركة سيماف هي الأخرى تجري نقاشات مع وزارة النقل لتوفير المزلقانات، رغم أنها لم تكن قد تلقَّت أي طلبات لسلعها أو خدماتها لمدة ستة أشهر حتى بداية عام 2018. لكن وزارة الإنتاج الحربي تعاقدت أخيراً مع الكونسورتيوم الروسي- المجريترانس ماش هولدينغ لتسليم 1399 عربة ركاب وتقديم خدمات الصيانة لمدة 15 عاماً في صفقة بلغت قيمتها 22 مليار جنيه مصري (آنذاك 1،17 مليار دولار). حتى ذلك الحين، كانت ورش هيئة السكك الحديد وشركة سيماف وحدهما يصنّعان عربات السكك الحديد، بيد أن وزارة التصنيع الحربي ستستورد 700 عربة وتستلم مكونات ووحدات فرعية للتجميع النهائي لباقي العربات في مصنع الدبابات (المصنع 200 الحربي).167 وكان الفريق كامل الوزير، الرئيس السابق للهيئة الهندسية للقوات المسلحة والذي أصبح وزيراً للنقل في آذار/ مارس 2019، وعد بالوصول إلى محتوى محلي بنسبة 100 في المئة في عربات السكك الحديد "في غضون سنوات قليلة".168 بيد أن شركة ترانس ماش هولدنغ كانت أكثر تواضعاً حين قالت إنها ستساعد وزارة التصنيع الحربي على الوصول إلى 80 في المئة من المحتوى المحلي في نهاية المشروع، فيما كان مدير مصنع الدبابات يقول إنها ستبدأ بنسبة 45 في المئة.169

صحيح أن هذا النوع من الاستثمار ضروري، إلا أنه أعاد إنتاج المقاربة النمطية لمعالجة المشاكل من خلال الحلول الفنية التي تركّز على اقتناء المعدات الجديدة وتوسيع البنى التحتية الجديدة، بدلاً من تسوية المشاكل الكامنة في قطاع السكك الحديد الحالي، وأيضًا بدلاً من اتباع السياسات التي تُحدَّد جدواه الاقتصادية في إطار نظام النقل الأوسع. الكثير من ذلك يسحب نفسه أيضًا على قطاع الإنتاج الإلكتروني في الصناعة الحربية، إذ هنا أيضًا يعاني هذا القطاع من انخفاض المحتوى المحلي، وضعف القدرة التنافسية، والقصور في استخدام السعة. في عام 2002 ألغت شركة دايوو الكورية الجنوبية عقداً مع شركة بنها للصناعات الإلكترونية لتجميع منتوجات إلكترونية استهلاكية، بعد أن قلّصت هذه الأخيرة أهدافها في الإنتاج والمبيعات بنسبة كبيرة.170 وقد لاحظ تقرير استشاري أُعِّد لمركز التحديث الصناعي في عام 2008 أن الاستخدام بلغ 50 في المئة "في أفضل الأحوال" لبعض السلع الإلكترونية الاستهلاكية مثل أجهزة التلفزة، وأجهزة استقبال الساتلايت، ومسجلات الفيديو، وشاشات الكومبيوتر، والحواسيب. واستنتج التقرير أن مصر "لا تستطيع الاندماج في سلسلة القيمة الإلكترونية العالمية. ففي هذه المرحلة يعمل المُصّنعون المصريون في الغالب في المرحلة الأخيرة فقط من سلسلة القيمة".171 بعدها بثماني سنوات، اشتكى رئيس القطاع الإلكتروني في اتحاد الصناعات المصرية من أن المنتجين الثمانية الأكبر في البلاد، بما في ذلك وزارة الإنتاج الحربي، مسؤولون عن 10 في المئة فقط من السوق المحلي، على الرغم من أنهم يمتلكون القدرات الكافية.172 ونظراً إلى معاناتها من هذه التحديات المتواصلة، تعتمد الصناعة الحربية على طلبات من مستهلكي القطاع العام مثل جامعة القاهرة التي تعاقدت مع بنها في أوائل عام 2017 لتجميع أو توريد 750 ألف قرص تعليمي لطلابها.173

خلاصة: الملاذ الأخير لمؤسسات حقبة ناصر

قد يكون نقص الربحية مفهوماً في المنتجات العسكرية غير الموجّهة أساسًا نحو التصدير، بيد أن السبب الوحيد لبقاء الصناعة الحربية المصرية على قيد الحياة على رغم المستويات المتدنية للإنتاجية، وقصور استخدام القدرات، ونقص الابتكار التكنولوجي في إنتاجها المدني للسلع والخدمات، هو أن خسائرها وأكلافها الخفية تُنقل إلى خزينة الدولة، ما يقلّص الكلفة الصافية لاستثمار رأس المال المترتبة عليها إلى الحد الأدنى. وهذا لا يعود إلى أي نقص في القدرات التصنيعية الحقيقية والمهارات الفنية، بل إلى الاقتصاد السياسي الأوسع الذي يعمل القطاع الاقتصادي العسكري في إطاره، والذي يسمح لقادته بتجاهل الحاجة إلى تحليل ميزان الكلفة مقابل المردود. (اتضح ذلك مجدداً من خلال المرسوم الرئاسي رقم 244 لعام 2018 الذي خصّص وزارة الإنتاج الحربي كجهة حكوميةً ذات طبيعة خاصةً، ما أعفاها من تطبيق قانون الخدمة المدنية في ما يتعلق بوجوب ملء المناصب الإدارية العليا عبر المسابقات). 174

إن هذه المشكلة تسحب نفسها على شركات القطاعين العام والخاص المحمية ذات الارتباطات السياسية في مصر عمومًا، لكن الصناعة الحربية تحظى بالحصانة المؤكّدة حتى في ظل ظروف سوقية كانت ستدفع بالحكومة في الأحوال العادية إلى إعادة هيكلة أو خصخصة القطاع الأول ومعاقبة الثاني. وفعلياً، تحظى الصناعة الحربية بالمداخل إلى رأس المال (في شكل عقود القطاع العام) يعادل رأس المال الذي ولّده ناصر من خلال الإصلاح الزراعي، والتأميم، والسياسات الاشتراكية لحقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والذي استُخدم أيضًا بلافعالية.

لعل إدراك الهيئات التي تتكوّن منها الصناعة الحربية والشركات والمصانع التابعة لها بأنها لن تتحمل عواقب عدم كفاءتها، هو ما يجعلها تستنسخ النشاطات بدلاً من التكامل مع بعضها البعض. وهي لهذا أيضًا لا تسعى إلى التخصّص في الإنتاج، والتعميق التكنولوجي، أو الاندماج والتعزيز. والواقع أن مساهمتها الصافية الحقيقية للاقتصاد الوطني وللمستهلكين مدار شك في أحسن الأحوال، غير أن قادة القطاع لا يظهرون استعداداً على ترشيده سواء عبر التخلص من نشاطات وقطاعات فرعية معينة أو إخضاع القطاع بالكامل إلى الشفافية وفعالية التكلفة، في سبيل توفير كلٍ من الاحتياجات الدفاعية المصرية والجدوى الاقتصادية في آن. وهنا، فإن المفتاح الأهم لمثل هذا التحوّل سيكون وضع حد لحيازة الصناعة الحربية بشكل مضمون على عقود المشتريات الحكومية، ما يؤدي إلى التستُّر على حالات القصور الكبرى والخسائر المالية وإلى صد أي حديث عن الإصلاح. لكن، من المستبعد أن يحدث الإصلاح طالما أن وظيفة الصناعة الحربية الرئيسة هي التمسّك بمنطق إدامة النظام السياسي القائم منذ الخمسينيات، وخدمة المكوّن العسكري للتحالف البيروقراطي الحاكم.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

رسم خارطة الاقتصاد العسكري الرسمي (الجزء الثاني): نحن نبني مصر، نحن نطعم مصر، نحن مصر

تمثل وزارة الدفاع الركن الثاني الأساسي في الاقتصاد العكسري الرسمي، لكنها، على عكس الصناعة الحربية الخاسرة، تقدم مساهمة كبيرة إلى الصناديق العسكرية خارج الميزانية. إنَّ المجموعة المتنوعة من الإدارات والهيئات والشركات التابعة لوزارة الدفاع تزوّد القوات المسلحة المصرية بالمستهلكات والخدمات غير القتالية، والأهم من ذلك أنها تقوم بأشغال عامة أساسية بموجب عقود صادرة عن الوزارات والهيئات الحكومية. لقد قامت هيئات وزارة الدفاع هذه، التي تشمل القوات المسلحة إضافةً إلى الإدارات التابعة لها، بتقديم مساهمات ملموسة في توفير السلع والخدمات المدنية المتنوعة، من طرق سريعة وجسور وإسكان إلى مواد كيميائية وسيطة، ولكن جرى كل ذلك بتكلفة باهظة. إنَّ حجم التكلفة يحجبه النقص المتعمد في الشفافية في الاقتصاديات الحقيقية للإنتاج، ما يخفي حجمًا كبيرًا بدوره من رأس المال العقيم (المعطّل وغير المنتج) وكلفة الفرص الضائعة، ليس فقط في مخططات المشاريع الجوفاء المهمة التي تديرها الهيئات العسكرية، بل وحتى في القطاعات التي يمكن أن تسهم بشكل إيجابي في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

الهيئة الأكثر أهمية بين هيئات وزارة الدفاع النشطة اقتصاديًّا هي جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، والهيئة الهندسية، وإدارات الأشغال والمشروعات الكبرى والمياه والمساحة للقوات المسلحة، والتي يدعمها أيضًا مكتب الاستشارات الفنية في الكلية الفنية العسكرية. إلى ذلك، تقوم هذه الإدارات بالتنسيق الوثيق مع الهيئات المدنية التي تضطلع بها وزارة الدفاع بدور مباشر بموجب القانون، وأبرزها المركز القومي لتخطيط استخدامات أراضي الدولة، وغيرها من الكيانات العامة الرئيسة الأخرى التي تُصدر العقود، مثل الجهاز المركزي للتعمير التابع لوزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة. وتضم وزارة الدفاع أيضًا ستة أقسام إضافية تؤدّي وظائف اقتصادية تحت إشرافها المباشر، مثل ما يسمى "قطاع التعدين"، فضلًا عن بضع شركات بحرية، كما تملك الوزارة أسهمًا في عدد من الشركات المساهمة المشتركة غير العسكرية.

وهذه الهيئات التابعة لوزارة الدفاع تختلف بشكل لافت عن شركات الصناعة الحربية والمصانع التي تنتمي إلى وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع من حيث النشاط الرئيس وأصناف المنتجات، ولكن أنشطتها المدرّة للدخل تكشف عن خصائص مشابهة. فهي تستفيد من إطار تنظيمي مُمَكَّن داعم للإعفاءات الضريبية والجمركية، والإذن بالحصول على القروض الحكومية، وبالاحتفاظ بالإيرادات، وبترحيل فوائض الميزانية من سنة مالية إلى أخرى (عادة ما يتم إيداعها والاحتفاظ بها في "صناديق خاصة")، وبالاحتفاظ بالودائع في بنوك تجارية من اختيارها.1 وتقدم مساهمات ملموسة للبنية التحتية العامة والأسر ذات الدخل المحدود، لكنها تكشف بالمقابل عن جدوى تجارية مشكوك فيها من حيث التكلفة الصافية على الخزينة ونوعية السلع التي تُباع للمستهلكين المدنيين. وتضطلع شبكات الضباط الساعية وراء الريع، والتي تمتد عبر الهيئات المتصلة بوزارة الدفاع والشركات الاقتصادية المملوكة للدولة والهيئات العامة، بدورٍ مهم في توجيه العقود والاستثمارات.

جهاز مشروعات الخدمة الوطنية

يشكّل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية إحدى الأذرع الاقتصادية لوزارة الدفاع، لكنه أيضًا دعامة مهمة في الاقتصاد العسكري بحد ذاته، حيث شمل 36 شركة بحلول نهاية عام 2019. وكما تدل الإشارة في اسم الجهاز، فإنه يستخدم الشباب المصريين الذين يؤدّون الخدمة الوطنية الإلزامية في القوات المسلحة لمدد تراوح بين 18 و36 شهرًا، وفقًا للمؤهل العلمي. يوفِّر المجندون عمالة احتياطية محتملة هائلة، إذ يقدّر عدد الذكور المصريين الذين يبلغون سن الخدمة العسكرية بحوالي مليون و551 ألفًا سنويًّا.2 ومع أنّ السيسي ذكر في عام 2015 أن استيعاب القوات المسلحة يبلغ حوالي مليون مجند، غير أنَّ التقدير الأكثر مصداقية قد صدر عن مجلة "جينز سيننْتينال سييْككْيوريتي أسِّسسْمنت" والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، اللّذين قدّرا عدد المجندين في الخدمة بين 220 و410 آلاف في العام 2016-2017.3

تأسس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بموجب مرسوم رئاسي رقم 32 لعام 1979 من أجل "دراسة وتنفيذ الأعمال والمشروعات التي تطلبها الوزارات والهيئات ووحدات الحكم المحلي وشركات القطاع العام"، ويعكس مساره تطور السياسة والاقتصاد في مصر منذ ذلك الوقت.4 وكانت ميزانية الجهاز بلغت 50 مليون جنيه مصري في السنة المالية 1982-1983. وبعد حوالي ثلاثين سنة، صرح مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية آنذاك، اللواء محمود نصر، بأن إجمالي الأعمال السنوية للجهاز بلغ 6,3 مليارات جنيه (1,06 مليار دولار) في عام 2011، حيث بلغ صافي أرباحه 7,77 مليارات جنيه منذ عام 1990.5 ويضم مجلس إدارة جهاز المشروعات رئيسي هيئتي التنظيم والإدارة والإمداد في وزارة الدفاع، ويُعتقد أن هيئة الشؤون المالية في الوزارة تشرف على الجهاز وتراقب مشاريعه.6

جيش المجندين الاقتصادي

حوّل رئيس الأركان الفريق عبد الحليم أبو غزالة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية عقب تعيينه وزيرًا للدفاع في آذار/مارس 1981. كان المشير من الشخصيات الطموحة، وقد رقّاه مبارك إلى رتبة مشير وتولى منصب نائب رئيس الوزراء في نيسان/أبريل 1982. وفي ظل إدارته، أنشأ جهاز المشروعات "قطاع الأمن الغذائي" بهدف توفير الكثير من احتياجات القوات المسلحة، لاسيما الماشية والدواجن والبيض ومنتجات الألبان والخبز. ووفقًا للعالم السياسي روبرت سبرينغبورغ، سعى الجهاز أيضًا للحصول على قروض من البنك الرئيس للتنمية والاعتماد الزراعي من أجل إعداد المجندين للقيام بأنشطة مماثلة عند الانتهاء من خدمتهم العسكرية. وفي عام 1986، أعلن وزير الدفاع أبو غزالة أيضًا أن القوات المسلحة ستنظم 30 ألفًا من المجندين في كتائب إنشاء المشروعات المدنية.7 وما زالت هذه الكتائب مصدرًا للعمالة الرخيصة لصالح الشركات العامة والخاصة التي تنفذ مشاريع الأشغال العامة منذ ذلك الحين، عاملة في إطار الهيئة الهندسية للقوات المسلحة (بدلًا من جهاز مشروعات الخدمة الوطنية).8

يعكس التوسع السريع لجهاز المشروعات عوامل مختلفة. ففي عام 1986، ادّعى أبو غزالة ومبارك أنه تم إنفاق نصف إيراداته على استكمال رواتب القوات المسلحة الضئيلة، بينما صُرف النصف الآخر على الملابس والإقامة وصيانة المعدات.9 علاوة على ذلك، حذا الجهاز حذو رجال الأعمال المدنيين الذين كانوا، في تلك الفترة، يستفيدون من التحرير الجزئي للتجارة عبر الاستثمار في مجالات إنتاج الأغذية والألبان والمعكرونة و المياه المعبأة.10 وكما كان الحال بالنسبة للشركات والمصانع العسكرية التابعة لوزارة الإنتاج الحربي، فقد وفّر الجهاز أيضًا فرصة لتكرار شبكات "الرفاق القدامى" العسكرية والمحسوبية الراسخة التي تأسست في عهد عبد الناصر: فعلى غرار القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع عندها عبد الحكيم عامر، الذي ترأس المجلس الأعلى للمؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي أي المؤمَّمة في ستينيات القرن العشرين، ترأس أبو غزالة لجنة السياسات الوزارية بدءًا من عام 1986، ما مكّنه من منح الأراضي إلى الجهاز من أجل استصلاحها وزراعتها، ومن حجبها عن الخصوم وتفضيل مَنح العقود إلى متقاعدي القوات المسلحة الذين ينضمون إلى القطاع الخاص وإلى شركائهم المدنيين.11

في أي حال، كانت التقديرات تشير بحلول عام 1986 إلى مسؤولية جهاز مشروعات الخدمة الوطنية عن توفير ما يقارب 5 في المئة من جميع مشاريع بناء المساكن و18 في المئة من إنتاج الأغذية على الصعيد الوطني، ما تقدّره الباحثة الاقتصادية السياسية صافيناز الطارورطي بقيمة 488 مليون جنيه مصري.12 لم يتم تأكيد هذه الأرقام، ويبدو أنه مبالغ فيها بالنسبة إلى قطاعٍ لإنتاج الغذاء يُقدَّر أنه كان يستخدم خمسة آلاف فحسب من أفراد القوات المسلحة في ذلك الوقت.13 ومع هذا، بدأ الجهاز أيضًا إنتاج المعكرونة في أنحاء البلاد بعد ذلك بثلاث سنوات، ولاحقًا جمع مصانع المعكرونة التابعة له في شركة واحدة. كما أقام مرافق مساندة مثل مصنع تعبئة الخضار وتغليفها.14

بفضل تلك الأنشطة، نما الناتج السنوي في جهاز مشروعات الخدمة الوطنية من 11 مليون جنيه مصري في عام 1979 إلى 644 مليونا بحلول عام 1990.15 وقد سمح ذلك بمرحلة جديدة من التوسع. إنعكاسًا للفرص التجارية التي وفرها التشبيك بين مختلف قطاعات الاقتصاد العسكري والقطاع العام، تفرّع جهاز المشروعات في عام 1992 ليقيم ست محطات وقود لخدمة الأسواق المدنية، مستعينًا مرة أخرى بالمجندين. وجرى ضم هذه المحطات إلى شركة جديدة هي "الوطنية" في عام 2002، ثم انتشرت المحطات في وقت لاحق في جميع أنحاء البلاد وتدعي الشركة حاليًّا أن لديها 71 محطة.16 وتضْمن مبيعات البنزين والزيوت ومواد التشحيم هامشَ ربحٍ كبيرًا، حيث يجري الحصول عليها بخصم من مصافي التكرير التي تتوغّل فيها مديرية المخابرات العامة. وتقوم محطات الوطنية منذ عام 2015 ببيع المساحيق من إنتاج إدارة الحرب الكيميائية التابعة للقوات المسلحة.17 وبعد الانقلاب العسكري في عام 2013، اشتكى رئيس سابق للهيئة العامة للبترول، المسؤولة عن إمداد الأسواق المدنية، من أن "معظم المحطات لا تتلقى حصتها الكاملة من البنزين، بعد أن تم تخصيص مزيد من الوقود للمحطات التي تملكها القوات المسلحة".18 وقد نوَّعت الوطنية أنشطتها عقب التطورات في الأسواق، حيث أقامت محطات تشحن السيارات الكهربائية في منافذها في عام 2018، وحصلت بعد سنة على موافقة حكومية للقيام بخدمات تموين وتحويل السيارات للعمل بالوقود المزدوج (بنزين وغاز طبيعي).19

تسارعت وتيرة توسع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية أثناء تسعينيات القرن الماضي، مع استمرار أولوية التركيز على الصناعة الزراعية والخدمات كثيفة العمالة. فأنشأ الشركة الوطنية للمقاولات والتوريدات في عام 1993. وثم مصنع البلاستيك بعد سنة، وشركة أخرى تنتج عصائر الفاكهة والمربى والمخلّل وزيت الزيتون في عام 1996. ثم انطلقت شركة النصر للخدمات والصيانة (التي كان إسمها الأصلي "كوين سرفيس" ) في عام 1998، وهي توفر خدمات التنظيف والصرف الصحي، والأمن، والصيانة، وإدارة المعدات والمرافق بما في ذلك الفنادق، والنقل الثقيل، وخدمات التوريد للشركات الحكومية والخاصة، بما في ذلك شراء واستيراد الغذاء.

واتسم دخول جهاز المشروعات إلى سوق استصلاح الأراضي بذات الأهمية. ففي عام 1998، أنشأ الجهاز شركة مصر العليا للتصنيع الزراعي واستصلاح الأراضي، التي أنتجت مجموعة من السلع الزراعية. وبعد عام، أسس الشركة الوطنية لاستصلاح وزراعة الأراضي بشرق العوينات التي استحوذت على 100 ألف فدان (42 ألف هكتار) في الصحراء الغربية كانت تابعة سابقًا لمشروع استصلاح تم إطلاقه في أوائل التسعينيات. وأنشأ بعد ذلك مزارع تُروى بالمياه الجوفية لإنتاج محاصيل مدرة للدخل من أجل التصدير إلى أوروبا؛ وتزعم الشركة أنّها أمّنت لوزارة التموين 78 ألف طن من القمح في عام 2015، وأجّرت أراضي لشركات مصرية وأجنبية ولمزارعين محليين في الجوار.20 يعتقد بعض الخبراء أن حوض المياه الجوفية في العوينات قد يكون غير قابل للتجديد؛ والحال ذاته بالنسبة إلى الحوض الجوفي في سيوة والذي تسوِّق مياهه الشركة الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه (صافي) التابعة للجهاز عبر 27 منفذًا في جميع أنحاء البلاد، فضلًا عن تزويد القوات العاملة تحت القيادة المركزية الأميركية والقوة المتعددة الجنسيات في سيناء.21

وكما تُظهر هذه الأمثلة، فقد شهد جهاز مشروعات الخدمة الوطنية طفرة نموٍ في العقد الأخير من حكم حسني مبارك، وهو ما حصل أيضًا لدى قطاعات أخرى من الاقتصادين العسكري والمدني. فقد أنجزت الشركة الوطنية لإنشاء وتنمية وإدارة الطرق، التابعة للجهاز، طريقًا سريعًا من القاهرة إلى منتجع عين السّخنة على البحر الأحمر في عام 2004. وفي الوقت نفسه، قامت شركات القطاع العام المدنية، مثل شركة النيل العامة لإنشاء الطرق، ببناء طرق ومطار تخدم مواقع إنتاج الجهاز في شرق العوينات.22 ومن عام 1995 حتى عام 2004، كان الجهاز قد قام أيضًا ببناء أو بإعادة تأهيل أربعة متاحف، و22 موقعًا أثريًّا، و390 مدرسة. وفي عام 2008، قام بتوحيد خطوط إنتاج المعكرونة تحت اسم "كوين". أمّا الأهم، فكان توليه استكمال مشروع مصنع إسمنت العريش في عام 2007، بعد أنّ تراجع المنافسون المدنيون الرئيسون عن دفع 300 مليون جنيه مصري (54 مليون دولار) ثمن رخصة المشروع.23 وبحلول هذه المرحلة، أصبح جهاز المشروعات شركة قابضة بعد الاستحواذ على شركتين مملوكتين للدولة، هما الشركة العربية الدولية للبصريات وشركة النصر للكيماويات الوسيطة، وبعد أن أنشأ شركة جديدة لإنتاج المصاعد.24

ما بعد عام 2013: المقاول المفضّل

لا يمكن التحقق من القيمة السوقية الحقيقية لإنتاج جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، ولكن، أظهرت حساباته اﻟﺨﺘﺎﻣﻴﺔ أن ناتجه بلغ 1,63 مليار جنيه مصري ﻓﻲ عام 2012-2013، بأرﺑﺎح ﺗﺒﻠﻎ 63 ﻣﻠﻴﻮن جنيه فقط وفقًا لأحد المصادر.25 ومهما كانت الحقيقة، فإن إطاحة القوات المسلحة بمحمد مرسي في تموز/يوليو 2013 قد فتحت الطريق أمام نمو جامح. فبين تشرين الأول/أكتوبر 2013 وشباط/فبراير 2014، منحت الحكومة المؤقتة برئاسة حازم الببْلاوي العقود بالأمر المباشر إلى الجهاز لتمويل وبناء وصيانة طريقين سريعين قوميين. وشمل ذلك الحق الحصري في تحصيل الرسوم، وبيع المساحات الإعلانية، واستئجار الأراضي لمدة 99 عامًا قادمة في محور روض الفرج حول القاهرة، ولمدة 50 عامًا على الطريق الصحراوي السريع بين القاهرة والإسكندرية.26

إن إطاحة القوات المسلحة بمحمد مرسي في تموز/یولیو 2013 قد فتحت الطریق أمام نمو جامح.

وقد ألغت الهيئة الحكومية العامة للطرق والجسور والنقل البحري على الفور التصاريح القائمة لشركات الإعلان في القطاع الخاص في روض الفرج، كما تنازلت في تموز/يوليو 2014 لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية عن الحق في ترخيص الإعلان على امتدادات إضافية لشبكة الطرق حول القاهرة، على أن تتقاسم الأرباح مع الجهاز لمدة 50 سنة.27 وفي الوقت نفسه، زاد الجهاز رسوم النقل الثقيل على الطريق السريع بين القاهرة والإسكندرية بنسبة 800 في المئة؛ وبموجب ترتيبات الإيجار، سيدفع الجهاز إلى الحكومة ما يقارب خمسة ملايين جنيه مصري كرسوم سنويًّا، لكنه يكسب 800 مليون جنيه (112 مليون دولار في ذلك الوقت) سنويًّا طوال سنوات امتيازه الخمسين.28 (من غير الواضح كم من كلفة بناء وصيانة هذه الطرق السريعة والطرق "القومية" وغيرها من تلك التي تديرها الهيئات العسكرية ستتحملها خزينة الدولة التي تتحمل مسؤولية ذلك بموجب قانون الطرق العامة رقم 84 لعام 1968).29

وقد ازداد جهاز المشروعات اندفاعًا باستمرار. ففي الفترة ما بين 2014 و2016 وحدها، كسب عقودًا بالأمر المباشر من هيئات حكومية متنوعة لتركيب كاميرات مرور عند 250 تقاطعًا في محافظة القاهرة بمبلغ 260 مليون جنيه مصري، ولبناء مجمّع خدمات في محافظة الغربية بمبلغ 240 مليون جنيه، ولتشييد محطة معالجة مياه الصرف الصحي ومحطتين للكهرباء في مدينة هليوبوليس الجديدة لقاء 200 مليون و230 مليون جنيه على التوالي، وأربعة مبانٍ لفرع جامعة الإسكندرية في مطروح بقيمة 346 مليون جنيه، ولترميم موقع الأهرامات بالقرب من القاهرة مقابل مبلغ متواضع قدره 20 مليون جنيه.30 كما تَشارك جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مع شركة أيادي للتنمية والاستثمار، وهي شراكة بين القطاعين العام والخاص تملكها الدولة وتأسست في آذار/مارس 2014، ومع الهيئة القومية لتنمية سيناء لتطوير شمال سيناء من خلال الاستثمارات في الصناعة المحلية والزراعة وقطاعات أخرى.31 في هذه الأثناء، أصدرت الحكومة مرسومًا يقضي بأن يُمنح تشغيل 500 كيلومتر من الطرق القومية التي يقوم بإنشائها جهاز التعمير المركزي التابع لوزارة الإسكان التي تربط واحة الفرافرة (وهي من محاور النشاط الاقتصادي العسكري) بتكلفة تبلغ 2,275 ملياري جنيه عند الانتهاء إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، الذي سوف يجبي رسوم المرور ويقيم عليها محطات وقود وخدمات شركة الوطنية التابعة له.32

كما قام الجهاز بتوسيع نشاط شركته الأمنية، "كوين سرفيس"، التي تأسست في عام 1988، ثم أعيدت تسميتها باسم شركه النصر للخدمات والصيانة.33 والشركة التي لا تزال معروفة باسمها السابق، كانتقد فازت منذ عام 2013 بالعديد من عقود الحماية والخدمات من العملاء، بما في ذلك مترو أنفاق القاهرة، وبنوك مملوكة للدولة، والجامعات والوزارات الحكومية. وفي أواخر عام 2013، فازت الشركة بعقد قيمته 600 مليون دولار من مجموعة من المستثمرين السعوديين والعرب لتقديم خدمات متكاملة للمستشفيات في مصر. وهذا ما أضاف إلى ملفها الذي يشمل خدمات إدارية في 250 مستشفى حكوميًّا، وجامعات، ومرافق عامة أخرى في البلاد.34 ومنذ ذلك الحين، شاركت كوين سرفيس في المشاريع العملاقة التي تديرها القوات المسلحة، مثل توسيع قناة السويس، فيما وسعت عملياتها لتشمل إدارة الموانئ البحرية والبرية وتوفير خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وبحلول كانون الثاني/يناير 2015، قالت الشركة إن لديها 20 ألف موظف، من بينهم خمسة آلاف من أفراد القوات المسلحة، حسب مدير عام الشركة اللواء وصفي محمود، مع أن هناك مصدرًا آخر زعم أن الشركة استخدمت 7500 من منتسبي ومجندي القوات المسلحة.35

الانفلات الكبير

قام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بتوسيع عملياته بوتيرة متسارعة مع توجه الاقتصاد العسكري لتوليد مزيد من العائدات، ليغذي ويستفيد من توسعات مماثلة لدى الهيئات الاقتصادية العسكرية الأخرى على حد سواء. ويشمل ذلك زيادة القدرة في المشاريع القائمة ودخول قطاعات جديدة، مع إزاحة الشركات الخاصة جانبًا في بعض الأحيان من أجل تحقيق ذلك.

والأهم أنّه في أيار/مايو 2015، أعلن الجهاز عن خطط لإنشاء خط إنتاج جديد في مصنع إسمنت العريش التابع له، حيث سوف يبلغ الإنتاج السنوي فيه 6,4 ملايين طن. وفي بداية عام 2018، استكمل الجهاز مصنعًا ثانيًا أوسع في بني سويف عزز قدرة الجهاز الإجمالية إلى 19,5 مليون طن.36 فقفزت حصة الجهاز في السوق الوطنية من 3 إلى 23 في المئة، ما أوقع الشركات الخاصة التي تمثل بقية قطاع الإسمنت في صعوبة مالية خطيرة. كما أسّس الجهاز الشركة الوطنية المصرية لاستكشاف وتنمية البترول (إنبيدْكو) في عام 2016 بهدف "تلبية احتياجات الدولة من النفط والغاز الطبيعي"، وتسعى الشركة إلى "أن تكون رائدة في مجال صناعة البترول على مستوى الشرق الأوسط".37 تجاهل هذا أن القطاع البترولي مغرَق إغراقًا مفرطًا من قبل الشركات العامة والخاصة والأجنبية في مصر (ناهيك عن منطقة الشرق الأوسط)، ولكن قد يكون الغرض من ولوج جهاز المشروعات إليه هو الاستفادة من استغلال حقل غاز "ظهر" البحري الجديد الضخم في مصر.

كما وضع الجهاز نفسه في موقع يستفيد فيه من النمو المثير للإعجاب في الأسواق المحلية والتصديرية لمصر من المواد الكيميائية الصناعية، بقيمة 1,7 مليار دولار في عام 2017.38 إلى ذلك، في شباط/فبراير 2016، بدأت شركة النصر للكيماويات الوسيطة التابعة للجهاز في بناء ما أعلنت أنه "أكبر مصنع" في مصر لتوريد الأسمدة لاستصلاح أراضٍ بمساحة 1,5 مليون فدان، وهو مشروع مفضَّل للرئيس السيسي.39 كما جرى إطلاق مجمّع من تسعة مصانع جديدة تابعة لشركة النصر للصناعات الفوسفاتية في عين السخنة في الوقت نفسه. لم تكن ثمة حاجة ظاهرة لهذا التوسع، إذ إنه كان هناك إثنا عشر منتجًا رئيسًا للأسمدة في مصر، حسب وزارة الاستثمار والتعاون الدولي. ولكن جهاز المشروعات يقوم بما قام به هو والهيئات العسكرية الأخرى في السنوات الأخيرة: أي اختراق أو توسع بسرعة في قطاع ينتج السلع السوقية بفضل الدعم الحكومي والحماية التعريفية، رغم أنَّ هذا القطاع يعاني من فائض السعة الإنتاجية، حيث تعاني شركات القطاع الخاص من تعطيل 30 في المئة من سعتها.40 وفي تشرين الأول/أكتوبر 2018، انضم جهاز مشروعات الخدمة الوطنية إلى ثلاث شركات أخرى تملكها الدولة في تشكيل "الشركة المصرية لتسويق الفوسفات والأسمدة الفوسفاتية"، التي تهدف بشكل معلن إلى أن تكون "الوكيل التجاري الحصري لجميع منتجي الفوسفات في مصر".41

وبالمثل، سعى قطاع التعدين التابع للجهاز (يُقدم أحيانًا على أنه تابع لوزارة الدفاع) إلى زيادة حصته. في آب/أغسطس 2014، استحوذ على 51 في المئة من شركة مصر سيناء الاستثمارية التي تم إنشاؤها حديثًا والتي خَططت لبناء مصانع للرخام والزجاج والإسمنت في شبه الجزيرة، بالشراكة مع العشائر المحلية.42 وورد أن الناتج الوطني من الرخام والمعادن المختلفة قد بلغ 1,4 مليون طن في عام 2015، لكن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية توسّع في أنشطة التعدين والمحاجر في العين السخنة ورأس سدر والميناء وأسوان.43 وقد ضم الجهاز هذه الأنشطة إلى الشركة الوطنية المصرية للرخام والغرانيت التي أسسها في أيار/مايو 2016، والتي ستسعى إلى "الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية في مصر... والاكتفاء الذاتي في تلبية احتياجات القوات المسلحة من هذه المواد الخام الاستراتيجية الهامة".44 وأصبحت هذه الشركة أداة الجهاز في الشراكة مع شركة مصر لتنمية سيناء.45

من الغريب أن شركة الجهاز الجديدة ادعت أنها ستحطم الاحتكار المفترض في قطاع الرخام والغرانيت، بينما افتخرت أنها كانت أصلًا تلبي 70 في المئة من "الفجوة الحالية" في العرض. وقد جرى تسليط الضوء على حصول جهاز مشروعات الخدمة الوطنية نفسه على وضع احتكاري في العام التالي، عندما أبلغ نظراءَه في القطاع الخاص أنه سيرفع قدرته الإنتاجية من الرخام إلى مليون متر مكعب سنويًّا، أو 80 في المئة من إجمالي إنتاج مصر.46 بل وبلغت سعة الجهاز الإنتاجية 3،6 ملايين متر مكعب سنوياً، ما يعادل 1،44 مليون طن، بعد تدشينه خمسة مصانع للرخام واثنين للغرانيت في بني سويف في 2018.47 وأفادت التقارير أيضًا أن الجهاز استولى على صلاحيات الهيئة العامة للثروة المعدنية في إصدار تصاريح دخول للمناطق العسكرية الغنية بالمعادن في منطقة شلاتين الحدودية الجنوبية وفي بيع المعادن المستخرجة هناك بالمزاد.48

من الغريب أن شركة الجهاز الجديدة ادعت أنها ستحطم الاحتكار المفترض في قطاع الرخام والغرانيت، بينما افتخرت أنها كانت أصلًا تلبي 70 في المئة من "الفجوة الحالية" في العرض.

وعلى صعيد منفصل، أسس الجهاز الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية في عام 2015، وأعلن في نهاية عام 2017 عن استثمار بقيمة 1,7 مليار جنيه مصري (107 ملايين دولار) في ما افتخر بأنها أكبر مشروع استزراع سمكي في الشرق الأوسط.49 وبموازاة ذلك، أعلن الجهاز عن خطط لتوسيع المساحة المزروعة في العوينات الشرقية من ثمانين ألف إلى مئة ألف فدان. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2016، أسس الجهاز الشركة الوطنية للزراعات المحمية من أجل توسيع إنتاج الصوب الزراعية بهدفين يبدوان متناقضين هما "سد الفجوة الغذائية المحلية"، وزيادة الصادرات المصرية في الوقت نفسه.50 وفي عام 2017، اشترى الجهاز كذلك 25,000 فدان من شركة المملكة للتنمية الزراعية، كان الثري السعودي الوليد بن طلال قد اشتراها سابقًا.51

تقييم النتائج الصافية

لا يمكن الطعن في أن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية يتبع استراتيجية نمو قوية. ففي عام 2014، عكست تبرعات بمليار جنيه مصري إلى صندوق تحيا مصر، وهو المشروع المدلل عند السيسي، تَنامي ثقة الجهاز وتضخم موارده.52 إلا أن تصوير وسائل الإعلام للهيمنة العسكرية على "أسواق المياه وزيت الزيتون والإسمنت والبناء والفنادق والبنزين"، أي بشكل أساسي القطاعات التي استثمر فيها الجهاز، كان غير دقيق إلى حد بعيد.53 ويدل استعراض سريع أنه يجب التعامل بحذر حتى مع ادعاءات الجهاز نفسه عن تحقيق النتائج المثيرة وعن أهدافه الطموحة.

على سبيل المثال، فإن حصة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية تمثل من 4 إلى 5 في المئة فحسب من سوق المياه المعدنية، حتى بعد زيادة إنتاجه من 37 مليون زجاجة سنويًّا إلى 50 مليون وهي نسبة أبعد ما تكون عن الهيمنة.54 وقد بلغ إنتاجه السنوي المعلن من البيض 120 مليونًا في شباط/فبراير 2018، وهو ما يكفي لإطعام كل مصري ما يزيد قليلًا عن بيضة واحدة في السنة، أو كل جندي في الخدمة الفعلية بيضتين كل ثلاثة أيام. وغالبًا ما يتم الاستشهاد بإنتاج الجهاز من المعكرونة، ولكن يجري تجاهل حقيقة أن مصنع معكرونة كوين الشهير التابع للجهاز ينتج 24 ألف طن سنويًّا على الرغم من قدرته على إنتاج 150 ألفًا، وحتى هذه السعة القصوى تمثل فقط 1,5 كيلوغرام للفرد سنويًّا، أو أقل من 100 غرام لكل جندي يوميًّا.55 لقد استحوذ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية على نسبة محترمة لكنها صغيرة نسبيًّا، وهي 6 في المئة من إجمالي صادرات مصر من منتجات الزيتون الإجمالية في عام 2005، في حين بلغت حصة محطات الوطنية للوقود 4 في المئة في السوق في عام 2015 (فيما بلغت حصة هيئات حكومية أخرى 54 في المئة).56 وبالمثل، فإن مزارع شرق العوينات التي تم تقديمها على أنها "أحد أكبر المشاريع التي تنتج المحاصيل الاستراتيجية (القمح والشعير والذرة)"، لم تتمكن من زيادة المساحة المزروعة إلى الهدف المعلن عنه وهو مئة ألف منذ عام 2012.57 وعلى الرغم من إبراز إنتاج جهاز المشروعات من زيوت الطعام، فإن مصر كانت لا تزال تستورد 97 في المئة من احتياجاتها في عام 2018.58

ما زال جهاز مشروعات الخدمة الوطنية يدّعي أنه يهدف في المقام الأول إلى توفير الاكتفاء الذاتي للقوات المسلحة، رغم تواضع إنجازاته وتوسعه الهجومي في قطاعات ليست ذات صلة. في حزيران/يونيو 2019، شبّه مدير الجهاز، اللواء صبري عبد اللطيف، خلال حديثه إلى وسائل الإعلام دور الجهاز بالمنافذ التجارية العسكرية وموقع المبيعات عبر الإنترنت التابعين إلى "بي إكس" في الولايات المتحدة ومنافذ مؤسسات القوات البرية والبحرية والجوية (نافي) التي تخدم القوات المسلحة البريطانية في الخارج.59 أعلن الجهاز أيضًا أن إنتاجه من المواد الغذائية يسعى إلى "تخفيف العبء عن القطاع المدني" ويجري توفيره بنصف التكلفة، لكنه في الواقع يسعى غالبًا إلى تحقيق هذا الهدف عن طريق إغراق الأسواق المحلية بالسلع الرخيصة المستوردة، مثل اللحوم وقطع الدجاج المجمدة.60 وكان رئيس الأركان صبحي صدقي قد أبلغ أعضاء البرلمان سابقًا أن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية استورد "كميات كبيرة من زيت الطهي وحليب الأطفال"، وأكد عبد اللطيف أن الجهاز يبيع اللحوم المحلية وتلك المستوردة من السودان على حد سواء.61

من الواضح أن كل ذلك كان في خدمة الغرض السياسي الرئيس لإدارة السيسي، المتمثل في إبقاء الأسعار في متناول حاضنتها الاجتماعية. في تشرين الأول/نوفمبر2016، على سبيل المثال، أفادت وسائل الإعلام المصرية أنّ السيسي حثّ الهيئات الحكومية، بما في ذلك جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، على زيادة عدد المنافذ التي تديرها لبيع السلع الغذائية الأساسية قبل التخفيض المخطط له للجنيه المصري، ما كان من المتوقع أن يؤدي إلى تضخيم الأسعار.62 (يُعتقد أن الزيادات الحادة السابقة لأسعار الأغذية في عامي 2008 و2010 أسهمت بشكل مباشر في إندلاع ثورة 2011). ولكن مع أن مسؤولي الجهاز برروا علنًا وارداته كمساهمة في مكافحة التضخم وتخفيض تكاليف المعيشة، إلاّ أنّ تعليقات بعض المستهلكين تشير إلى أن أسعاره ليست أرخص من منافذ وزارة الزراعة التي تعتمد على المزارعين المصريين (وعلى الواردات)، علمًا أنَّ مصادر أخرى تُؤكد أنَّ المنافذ العسكرية (وتلك التابعة لوزارة الداخلية أيضًا) تبيع بأسعار دون أسعار السوق بعشرة في المئة.63 ومع ذلك، فقد وسّع الجهاز طاقة مبيعاته أربعة أضعاف من خلال شراء 250 شاحنة طعام من الهيئة العربية للتصنيع في عام 2016، مضيفًا إلى منافذه المتنقلة الواحدة والستين التي يعمل فيها مجندو القوات المسلحة.64 والكثير من منتجات الجهاز يباع في منافذ البيع تحت شعار الجهاز "ابتسم"، كما يقوم بتسويق البضائع من خلال تجار تجزئة آخرين. وبحلول عام 2019، أعلن الجهاز أنه موجود في 98 مركزًاتجاريًّا وفرعًا لتجارة التجزئة ومقصفًا (مدنياً) في جميع أنحاء البلاد.65

يتضح أن مشاركة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في استيراد السلع الغذائية الأساسية تُغير حصته الإجمالية في السوق. لكن تواضع حصته من الإنتاج المحلي لا ينفي أهميتها. وكما أظهرت حالة الإسمنت، فقد كان الجهاز قادرًا على القفز من 3 في المئة من الطاقة الإنتاجية الوطنية إلى 23 في المئة في غضون بضع سنوات؛ فحقيقة أنه يتمتع بمكانة سياسية قوية ويحظى بسوق لمنتوجه في المشروعات الضخمة الخاضعة للإدارة العسكرية مكّنته من منافسة الشركات المصرية الخاصة أو المتعددة الجنسيات التي كانت تهيمن على القطاع.66 سهّلت هذه الامتيازات أيضًا حصول الجهاز على موافقة حكومية على منح الأراضي من أجل إقامة مشاريع تجارية وصناعية وزراعية جديدة في عام 2018، بما في ذلك 30 ألف فدان لزراعة الزيتون وإنتاج الزيت في سيوه (مع مستثمرين إسبان) وحوالي 34 ألف فدان لإنشاء الصوب الزراعية تحت إدارة الشركة الوطنية للزراعات المحمية التي كان الجهاز قد أسسها في عام 2016.67

وبالأهمية نفسها، فإن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية حذا حذو جهات عسكرية أخرى في تحقيق زيادات هائلة في نشاطها الاقتصادي من خلال انتزاع العقود العامة من المنافسين بدلا من رفع الإنتاجية. وكان بعض الخاسرين هم شركات من القطاع الخاص. فقد حلت شركة "كوين سرفيس" مكان شركة "جِي 4 إِس" في توفير الأمن في محطات مترو الأنفاق في القاهرة، على الرغم من فرض زيادة بأسعار التذاكر تفوق 10 إلى 15 في المئة.68 لكن غالبية كبيرة من عقود الجهاز الجديدة جاءت من الهيئات الحكومية والمؤسسات العامة، أو من هيئات عسكرية أخرى. ففي كانون الأول/ديسمبر 2015، مثلًا، صرح اللواء كرم سالم محمد، مدير إدارة المشاريع الكبرى في وزارة الدفاع، بأن الجهاز سيفتح منافذ بيع لخدمة العمال الذين يقومون ببناء مدينة الإسماعيلية الجديدة.69 وبعد ذلك بأسابيع، تعاقد محافظ الفيوم مع الجهاز لإقامة منافذ بيع اللحوم والدواجن، ومصنع لمعالجة الفواكه والخضروات، وأحواض للملح، ومعصرة للزيوت، وغيرها من مشاريع الإنتاج الغذائي في المنطقة.70 وقد واصل الجهاز هذه المقاربة، إذّ خطط في 2019 لبناء مصنع للبسكويت بقصد تزويد المدارس الحكومية والأسواق المحلية، وإقامة مصنعين جديدين لمنتجات الألبان، وتوسيع مواشيه، وفتح محلات السوبر ماركت الجديدة "ابتسم" في المدن الصحراوية التي تنشئها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة (تجري مناقشتها لاحقًا).71

الجيش كمقاول ووكيل أراضٍ ومدير

شكَّلت العقود التي أعطيت إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية منذ عام 2013 جزءًا من شريحة أكبر بكثير من عقود الأشغال العامة الممنوحة للهيئات العسكرية، حيث ذهب نصيب الأسد منها إلى إدارات أخرى من إدارات وزارة الدفاع. كان عبد الناصر، قد لجأ في خمسينيات القرن الماضي إلى ضباط من القوات المسلحة، من أجل ضمان السيطرة على الخدمة المدنية التي تشكّلت في ظل النظام الملكي لإطلاق الأشغال العامة الكبيرة كاستصلاح الأراضي، لكن خصومته مع وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة عبد الحكيم عامر صرفته عن استخدام المؤسسة العسكرية كأداة مؤسساتية أساسية لتنفيذ مبادراته الاقتصادية الرئيسية، أيّ أصلًاح الأراضي، ومَصْرَنة الشركات الخاصة بالمقيمين من غير المصريين، والتأميم.72

وبالتالي، ظهرت المعالم الرئيسة للدور الاقتصادي العسكري الرسمي الذي قامت به المؤسسة في أعقاب إطلاق سياسية الانفتاح فقط، أيّ، التحرر الاقتصادي المحدود الذي بدأه السادات في عام 1974 من أجل تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وعقب معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979. وقد استفادت وزارة الدفاع من تدفقات جديدة كبيرة من المساعدات الخارجية، وتولت إعادة الإعمار بعد الحرب في مدن مصر في محور قناة السويس، وأصبح لها قول في استخدام بعض أصناف أراضي الدولة. وقد وسّعت أنشطتها الريعية وزادت التنوع في مشاريع الأشغال العامة والبنية التحتية الأخرى التي تقوم بها على مدى العقدين التاليين، واكتسبت دورًا إضافيًّا كوسيط في العقود العامة. وضعت هذه التطورات الأساس لارتقاء الوزارة الملحوظ منذ عام 2013 لتصبح مديرة لبعضٍ من أكبر مشروعات الأشغال العامة في تاريخ مصر.

رأس المال التشغيلي

تمثل غرض وزارة الدفاع من توليد الدخل بدايةً في تمويل التحسينات الطفيفة في شروط الخدمة للعاملين في القوات المسلحة، والتي تشمل المواد الغذائية والترفيه والمكافآت، من بين أمور أخرى. فعلى مر السنين، عمدت الوزارة أيضًا إلى فتح مرافقها الترفيهية والخدمية أمام زبائن من الطبقة المتوسطة (مقابل رسوم تنافسية مع القطاع الخاص إلى حد كبير)، مع توزيع الأرباح على الضباط (بلغ عددها 574 بحلول عام 2015 وفقًا لإحصاء رسمي).73 إلا أن وزارة الدفاع أسهمت أيضًا في البنية التحتية العامة، حيث قامت إدارات القوات المسلحة بمد أكثر من 40 في المئة من الخطوط الهاتفية الجديدة المشمولة بخطة الحكومة الخمسية للتنمية للفترة 1982-1986، وبناء خطوط كهرباء ومجارٍ وجسور وممرات علوية في القاهرة ومدن أخرى.74 نُسب إليها في سنوات لاحقة، الفضل في إنجاز مرافق عامة أخرى بارزة بما فيها طريق مطار القاهرة الدولي، ودار أوبرا عايدة، ومسرح الجلاء.75

وقد تلقت مالية وزارة الدفاع دفعة كبيرة بفضل الزيادة الهامة في المساعدات العسكرية الأجنبية، التي عوضت معظم تكلفة التحويل من المعدات القتالية السوفييتية إلى الغربية. فقد تلقت مساعدة عسكرية مبدئية بقيمة 1,5 مليار دولار في الفترة 1978-1980، وهي جزء من برنامج مدته خمس سنوات بقيمة 3 مليارات دولار، وخطوط ائتمان بقيمة 2-4 مليارات دولار لشراء أسلحة.76 ووفقًا لوكالة الحد من التسلح ونزع السلاح الأميركية، بلغت قيمة عمليات نقل الأسلحة إلى مصر ما بين عامي 1983 و1987 نحو 7,8 مليارات دولار.77 ولعب الإعفاء من الديون أيضًا دورًا مهمًّا. فقد أدى التأجيل لمدة عشر سنوات الذي فرضه السادات في عام 1977 على تسديد ديون عسكرية بقيمة أربعة مليارات دولار إلى الاتحاد السوفييتي إلى إراحة وزارة الدفاع حتى عام 1987. ثم جددت مصر التعليق، على الرغم من تلقيها مساعدات سوفييتية قيمتها 340 مليون دولار إضافية بين عامي 1983 و1987، إلا أنها قامت في النهاية بتسوية جميع ديونها العسكرية والمدنية لروسيا في عام 1994.78

بداية، كلفت المساعدة الأميركية العسكرية مصر 600 مليون دولار سنويًّا لتسديد رأس المال والفوائد، لكنها حصلت على إعفاء مماثل عندما قامت الولايات المتحدة بتحويل مساعداتها إلى منَح بعد عام 1984.79 إلى ذلك، قامت الولايات المتحدة بخصم 7,1 مليارات من الديون العسكرية في عام 1990، مكافأةً لتأييد مصر التدخل الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق في الكويت.80 كما قامت البحرية الأميركية بدفع رسوم تفوق الرسوم المعتادة التي يتوجب أن تدفعها جميع السفن العسكرية العابرة لقناة السويس، وذلك طوال تلك الفترة وحتى الوقت الحاضر.81

وفي موازاة ذلك، ذهب جزء بلغت قيمته 17 مليار دولار أميركي من المساعدات الغربية غير العسكرية التي تدفقت على مصر في الفترة 1974-1980 إلى مشاريع البنية التحتية الرأسمالية الكبيرة، بما في ذلك إعادة إعمار المدن والبنى التحتية في منطقة قناة السويس وأماكن أخرى بقيادة وزارة الدفاع.82 ومن المعروف أن الوزارة قد نفذت مشاريع تنموية أخرى مثل استصلاح الأراضي باستخدام المساعدات الخارجية في تلك الفترة، ما خلق نمطًا لا يزال مستمرًّا حتى اليوم. كما استولدت الوزارة إيرادات عن طريق تأجير مراسي السفن في الموانئ البحرية إلى الشركات الأجنبية التي تجلب الآلات الثقيلة أو الإسمنت إلى البلد، أو عن طريق مطالبة الشركات برفع مستوى المرافق في الموانئ مقابل السماح باستخدامها.83

إلا أن وزارة الدفاع كانت لا تزال بحاجة إلى رأس مال قابل للتصرّف. وقد حصلت على ما يقدر بنحو 500 مليون دولار عن طريق بيع الذخائر من مخزونات القوات المسلحة إلى العراق خلال حربه مع إيران، لكن سوق العقارات وفّر مصدر إيرادات أهم. وقد حضّر السادات الظروف القانونية لذلك قبل أسبوع من اغتياله في تشرين الأول/أكتوبر 1981، من خلال إنشاء جهاز مشروعات الأراضي للقوات المسلحة ومنحه سلطة بيع أو تأجير منشآت القوات المسلحة وعقاراتها.84 وكان من المقرر إنفاق ما يصل إلى 20 في المئة من دخل الجهاز على شراء الأسلحة، ولكن بما أن المساعدة الأجنبية غطت هذه الحاجة فقد كان الأثر الرئيس هو تسريع تراكم رأس المال في وزارة الدفاع.85

وربما وفرت سيطرة وزارة الدفاع على ترخيص الأراضي وإطباقها على صفقات المصادر الأهم والأكثر استدامة لرؤوس أموال قابلة للتصرف. إذْ كان لتطوير مناطق عسكرية واسعة على امتداد قناة السويس وفي شرق القاهرة، في أعقاب حرب عام 1967 مع إسرائيل، أثرٌ جانبي منح وزارة الدفاع احتياطًا من الأراضي يمكنها الاستفادة منها. وكذلك فإن نهج بيع عقارات رئيسة في المدن، كانت تضم في السابق منشآت أو ثكنات للقوات المسلحة، إلى مستثمرين مدنيين كان قد استُهلّ في ظل إدارة أبو غزالة في الثمانينيات.86بالتالي، كانت وزارة الدفاع مهيأة للاستفادة من مشاريع البنية التحتية العامة المهمة في ذلك العقد. الطريق الدائري الذي كان سيتم بناؤه كجزء من المخطط الرئيسي للقاهرة الكبرى والذي تم إطلاقه في عام 1981 قُدِّم مثال على ذلك، فبحسب ما وثّق الباحث المتخصص في مصر، دورمان، فقد قامت وزارة الدفاع بحظر البناء على القوس الشرقي من العاصمة، حيث كان لديها مخطط خاص لتحويل المناطق العسكرية إلى مشاريع إنشائية حضرية كبرى (بما في ذلك ما أصبح لاحقًا "القاهرة الجديدة")، وحيث جرى لاحقًا إدماج الكثير من المخططات الحضرية ضمن مشاريع إسكان القوات المسلحة والشرطة.87 بدوره فإن تسريع العمل في المدن الصحراوية قد أتاح فرصًا إضافية لوزارة الدفاع لاستخراج الأموال مقابل السماح باستخدام أراضي الدولة (علما أنّ العمل على أربع من تلك المدن كان جاريًا في ثمانينيات القرن الماضي). كما استفادت الهيئات ذات العلاقات العسكرية، مثل التعاونيات التي شكلها ضباط القوات المسلحة والمتقاعدون، من خلال الاستيلاء على أكثر من حصصهم في هذه المجتمعات الحضرية الجديدة.

وربما وفرت سيطرة وزارة الدفاع على ترخيص الأراضي وإطباقها على صفقات المصادر الأهم والأكثر استدامة لرؤوس أموال قابلة للتصرف.

توّلد نمط دائم. وكما أكّد الباحث في المجال الحضري فلوريان شتاينبرغ فقد "كانت القوات المسلحة مترددة في التخلي عن الأراضي الواقعة تحت سيطرتها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن هذه الأراضي [...] من المتوقع أن تحقق مكاسب مرتفعة بفضل المضاربة ".88 وقد دفعت ممانعةُ وزارة الدفاع الوكالةَ الألمانية للتعاون الدولي (GTZ) والبنك الدولي إلى سحب التمويل للمشاريع في منتصف الثمانينيات، كما يلاحظ دورمان، إلا أن المكاسب المحتملة من المبيعات التجارية المستقبلية إلى المستخدمين المدنيين فاقت بكثير هذه الخسارة. ووفقًا لأحد التقديرات، فإن مبيعات العقارات العسكرية في منطقة قناة السويس وحدها بلغت مليار جنيه بحلول عام 1994 (ما كان يوازي عندها 295 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي).89 كما قامت وزارة الدفاع بتأجير أو بيع أرض كانت تشغلها في مدينة نصر (القاهرة)، لاستخدامات تجارية وسكنية. في المقابل، استعادت وزارة الدفاع في بعض الأحيان العقارات التي كانت قد تنازلت عنها سابقًا في مواقع رئيسة، مثل أرض مستشفى الصحة النفسية المصري الرئيس، في العباسية، من أجل إقامة المباني الجديدة لاستخدامها الخاص.90 كما ساعد إعفاء وزارة الدفاع وجميع فروعها وهيئاتها من ضريبة المبيعات، بموجب القانون رقم 11 لعام 1991 على تراكم رأس المال لديها.

"المشاريع الجوفاء": استصلاح الأراضي والمدن الصحراوية

قدَّم انخراط القوات المسلحة في استصلاح الأراضي وبناء عشرات المدن الصحراوية الجديدة مصدرًا مهمًّا لرؤوس الأموال لوزارة الدفاع على مدى العقود. فمنذ تأسيس الجمهورية، رأى رؤساء الدولة المتعاقبون وكبار المسؤولين أن "التوسع الأفقي" خارج وادي النيل والدلتا، حيث يعيش 95 في المئة من السكان على 5 في المئة من أراضي مصر، ضروري لتخفيض الاكتظاظ والتعويض عن فقدان الأراضي الزراعية بسبب التوسع العمراني. وقد أعلن الرؤساء، من ناصر إلى السيسي، مرارًا وتكرارًا، عن مشاريع تخليدية كبيرة تهدف إلى استعادة أكثر من ستة ملايين فدان (2,5 مليون هكتار)، وتأمين إنتقال 20 مليون شخص أو أكثر إلى حوالي 50 بلدة ومدينة جديدة.91 وبطبيعة الحال، فإن هذه المساعي تتطلب نفقات مالية ضخمة، ولكن على الرغم من استنزاف الخزينة، إلا أن هذه المشاريع لم ترْقَ إلى مستوى الأهداف، ما جعلها نموذجًا على المشاريع الجوفاء، ضخمة الكلفة، قليلة المردود.

جعل الصحراء تزدهر؟

لعبت المؤسسة العسكرية دورًا رئيسًا منذ اللّحظة الأولى، وما زالت تستمد إيرادات هامة جرّاء تنفيذ أو إدارة مخططات تحويل الأراضي الصحراوية للأغراض الزراعية وبناء مدن كاملة بالبنى التحتية المرتبطة بها، رغم إنجازاتها الضحلة، فالضباط الأحرار عينوا أحد مهندسي القوات المسلحة لإجراء تقييم فني لمشروع استصلاح الأراضي الرئيسي في محافظة التحرير بعد فترة وجيزة من الإطاحة بالعرش في عام 1952. وتم تعيين ضابط في القوات المسلحة لرئاسة هيئة محافظة التحرير المسؤولة عن العمل في عام 1961، وتولى ضابط آخر المسؤولية عن جميع مشاريع استصلاح الأراضي الرئيسة في عام 1965.92 لكن هذه الجهود كانت مكبلة بسبب ضعف تحليل التربة أو ضعف تصريف المياه أو ارتفاع الملوحة، والاستهلاك المفرط من مياه الري، والصيانة غير السليمة للقنوات، وتكاليف عالية للغاية بوجه عام، ولا تزال هذه المشكلات قائمة.93 وبحلول عام 1970، لم يكن سوى ثلث الأراضي المستصلحة قد أثمر عن شيء ما أدى إلى وقف الدعم من المانحين الغربيين وردعهم عن تقديمه عندما أعادت الحكومة المصرية إطلاق مشروع الاستصلاح في النوبارية في عام 1977.94 وقد، مضت القوات المسلحة قُدمًا رغم ذلك، إلا أنّ المشروع عانى مرة أخرى من تشبع التربة بالمياه والتملح.95

لحظ روبرت سبرينغبورغ أن الاستثمار المستمر في هذه المخططات يعكس "نمو مجموعة مصالح مؤسّساتية قوية لضباط عسكريين سابقين في الجهاز البيروقراطي لاستصلاح الأراضي". وهذا وفر"فرصة ذهبية حقيقية" خلال حقبة عبد الناصر وما بعده،" حيث كانت فروع الخدمة المدنية والقطاع العام المسؤولة عن استصلاح الأراضي واستخدام تلك المستصلَحة، بما في ذلك هيئة محافظة التحرير، والمؤسسة العامة للتنمية الصحراوية، والمؤسسة العامة لاستصلاح الأراضي، مملوءة بعدد وافر من الضباط... وهم لم يكونوا مهتمين فقط بالضغط على الحكومة لاستصلاح كميات متزايدة من الأراضي، ولكن بالاحتفاظ بسيطرة الدولة على الأرض، إذْ كان على معظم شركات الاستصلاح وهيئات القطاع العام التابعة لوزارة استصلاح الأراضي أيضًا مسؤولية زراعة الأرض ما إن تصبح تحت المحراث".96

وقد لاحظ جون وُوتربري بشكل منفصل أن ضباط القوات تناولوا المهمة كأنها "حملة عسكرية"، حيث "لم تكن هناك استراتيجية زراعية، وإنما فقط السد [العالي] واستصلاح أراضٍ".97

مع أن ملاحظات سبرينغبورغ ووُتربوري كتبت في عامي 1979 و1983، فإنها تبقى صحيحة. لقد جرى تعليق عمليات استصلاح الأراضي الرئيسة في عام 1980 (كما عُلّق تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، لكنها استؤنفت بعد عام 1990 (إلى جانب الدعم المقدم من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية) بسبب النمو السكاني الهائل الذي دفع المزيد من التوسع العمراني وفقدان الأراضي الزراعية الرئيسة في وادي النيل والدلتا. وقد تولى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مشروع شرق العوينات الكبير في عام 1998، ولكن بعد ذلك بسنة، قامت الحكومة بإعادة إحياء خطة أكبر بكثير (جرى وضعها أصلًا في عام 1985 ثم وضعت على الرف) لمشروعين كبيرين لزراعة الأراضي الصحراوية، وبناء ست مدن جديدة، وتطوير أربع مناطق للتجارة الحرة.98 ومن هذه المشاريع، سعى مشروعا تنمية الجنوب الغربي (جنوب مصر أو الوادي الجديد) وتنمية شمال سيناء، المعروفان باسم "توشكى" و"سلام" على التوالي، إلى استصلاح 1,44 مليون فدان (588 ألف هكتار)، وخلق 3,6 ملايين فرصة عمل، وإعادة توطين ما بين 3 ملايين و6,3 ملايين مصري على مدى ثلاثين سنة. في نهاية المطاف، كان الهدف توزيع سكان البلد على أكثر من 20 في المئة من أراضيه مقارنة بنسبة 5 في المئة والمساعدة في زيادة المساحة الصالحة للزراعة الإجمالية بنسية 44 في المئة بحلول عام 2017.99

النقطة الحاسمة هي أن مسؤولية التخطيط للمشروعين الجديديْن والحفر فيهما أُوكلت إلى القوات المسلحة ووزارة الإنتاج الحربي. لكن المشروعين توقفا، إذْ افتقر مشروع السلام إلى الموارد المائية وفشل تمامًا، بتكلفة قدرها "مليارات"، وفقًا لرئيس جمعية مستثمري شمال سيناء، تاركة محطات رفع المياه وضخها التي تم بناؤها بالفعل في رفح متداعية بسبب عدم الاستخدام، كما تم تعليق توشكى فعليًّا بحلول منتصف العقد الأول من هذه الألفية بسبب سوء التخطيط ونفس عدم فعالية الإدارة.100 إلى جانب ذلك، فإن 3 في المئة فقط من أصل 2.8 مليوني فدان كانت الحكومة قدّرت في بداية العمل أن تكون قابلة للاستصلاح على صعيد البلد كله، كانت من الدرجة الأولى، و20 في المئة من الدرجة الثانية، والباقي تكوّن من تربة رملية خشنة ومقحلة أقل نفعًا.101 إلا أن ميزانية الدولة واصلت منذ ذلك الحين تخصيص اعتمادات سنوية لهذين المشروعين ولما يقارب 12 مشروع آخر لاستصلاح أصغر. وعلى الرغم من جهود استصلاح أراضٍ استمرت ستة عقود ونصف، وحتى بعد إنشاء قناة لربط بحيرة ناصر بعدد من الواحات، إلا أن المساحة المزروعة في مصر زادت بنحو 15 في المئة فقط بين عامي 1947 و2018.102

أسفرت هذه المشاريع الجوفاء عن خسائر كبيرة للخزينة العامة. كانت الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية مدينة لصاحب المصلحة الرئيسي، بنك الاستثمار القومي المملوك للدولة، بمبلغ 23.5 مليار جنيه مصري (3.59 مليارات دولار) بحلول عام 2011.103 ووفقًا لرئيسها اللواء مجدي أمين، فإن الهيئة نفسها تكبدت مبلغ 15 مليار جنيه من المستحقات من قبل العديد من شركات القطاع الخاص والعام اعتبارًا من عام 2013.104 من بينها شركة أحمد عرابي التعاونية لاستصلاح الأراضي التي كان أعضاؤها أساسًا من متقاعدي القوات المسلحة ولم يعرف عنها أنها قامت بأي عمل زراعي؛ وفي هذه الأثناء بقيت عشرات القرى الصحراوية التي شيدتها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة غير مأهولة في الغالب.105 وفي عام 2014، كانت الشركات المتفرعة عن الشركة القابضة لاستصلاح الأراضي التابعة للقطاع العام تدين بمبلغ 4.8 مليارات جنيه لمصلحة الضرائب والمصارف وشركات التأمين وغيرها من الدائنين.106

ولم تردع هذه الإخفاقات ونوعية الأراضي المشكوك بها والتكاليف الباهظة السيسي عن جعل الاستصلاح ركنًا في خارطة الطريق الاقتصادية التي أعلنها في حملته الانتخابية للرئاسة. ففي نيسان/أبريل 2014، وعد باستصلاح ما مجموعه مليون فدان (630 ألف هكتار) في غضون عامين فقط.107 وقد رفع هذا الرقم إلى مليون ونصف مليون فدان، وأعلن أن هذه هي مجرد المرحلة الأولى من الهدف الذي يبلغ أربعة ملايين فدان. كما أعاد السيسي إحياء مشروع توشكى رغم أن المشروع لم يحقق سوى 10 في المئة من أهدافه بحلول عام 2012.108 وكان يُعتقد أن التقدير الأصلي لتكلفة المشروع، أي 6 مليارات جنيه (1,76 مليار دولار في عام 1999) قد وصل إلى 70 مليار دولار بحلول عام 2015، مع أنه، كالمعتاد، يصعب الحصول على حسابات موثوق بها وعلى بيانات ذات مصداقية.109

وقد تواكب إحياء مخططات استصلاح الأراضي الضخمة مع الجهود المبذولة لاستعادة المستثمرين الخليجيين إلى مصر. وكان سبق أن استأجر العديد من الأفراد والشركات مساحات كبيرة من الأراضي المخصصة للزراعة في عهد مبارك، لكنهم واجهوا تحديات قانونية بعد ثورة 2011 على أساس أنهم حوّلوا وجهة استخدامها من الزراعة إلى الأغراض العقارية. وقد جرى، مثلًا، الإعلان عن "المزارع العملاقة" في توشكى أثناء مؤتمر "دعم وتنمية الاقتصاد المصري" رفيع المستوى الذي عقد في شرم الشيخ في آذار/مارس 2016.110 واستمر تدفق الاستثمارات الإضافية، حيث خصص مجلس الوزراء مليار دولار لاستصلاح 181 ألف فدان وإنشاء مصنع للسكر في المنيا الغربية في كانون الثاني/يناير 2018، على سبيل المثال.111 تبقى ملاحظة ووتربري الساخرة في عام 1983 مفيدة في الحاضر، في أنه "يمكن تبرير أي شيء تقريبًا باعتبارات الأمن الغذائي وزيادة الإنتاج"112وكما كان متوقعًا، اضطلعت وزارة الدفاع بدور محوري في هذه المخططات المتنوعة. ففي عام 2014، تلقت عقدًا حكوميًّا بالأمر المباشر لاستصلاح 500 ألف فدان في منطقتي باريس والفرافرة في الوادي الجديد، حيث تعهدت الإمارات العربية المتحدة بمبلغ 1,3 مليار دولار للتمويل. ولتخفيض تكاليف العمالة التي يقدَّر عموما أنها تمثل نصف أو أكثر من تكلفة استصلاح الأراضي، خططت القوات المسلحة لاستخدام المجندين والمزارعين المحليين.113 وفي الوقت نفسه، قام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بمشروع تجريبي لاستصلاح 10 آلاف فدان وبناء قريتين نموذجيتين.114 وقد عملت وزارة الدفاع ​​منذ ذلك الحين مع الهيئة العامة لمشاريع التعمير والتنمية الزراعية والشركة القابضة لاستصلاح الأراضي، وكلاهما يرأسها متقاعدون من القوات المسلحة، ومع شركة تنمية الريف المصري، وهي شركة قابضة جديدة شكلتها الحكومة في أواخر عام 2017.115 وحين أعرب السيسي عن عدم رضاه عن وتيرة تنفيذ مشروع المليون فدان في شهر أيار/مايو من نفس العام، حذر من أنه سيطلب من القوات المسلحة والشرطة استعادة الأراضي غير المستخدمة في الزراعة.116

یُعتقد أن التقدیر الأصلي لتكلفة المشروع، أي 1.76 ملیار دولار في عام 1999 ، قد وصل إلى 70 ملیار دولار بحلول عام 2015 ، مع أنھ، كالمعتاد، یصعب الحصول على حسابات موثوق بها وعلى بيانات ذات مصداقية.

مدن صحراوية، رأسمال عقيم

كان مشروع السيسي لاستصلاح المليون فدان جزءًا من مشروع ضخم لبناء 48 مدينة جديدة وثمانية مطارات، بكلفة إجمالية قُدّرت بنحو 140 مليار دولار.117 كان هذا هو الأحدث في سلسلة طويلة من المخططات التي أُطلقت منذ بداية ستينيات القرن العشرين أو قبلها، عندما بدأ التخطيط لنقل فائض السكان من القاهرة إلى أربع مدن متصلة بها سيتم بناؤها لهذا الغرض في مناطق صحراوية مجاورة.118 استأنف السادات هذا الجهد في عام 1974، وأنشأ هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في عام 1979 لتحقيق ذلك.119 إنَّ البيانات الرسمية الصادرة عن الهيئة غير متناسقة، ولكن القوائم التي نشرتها في عامي 1997 و2004 أظهرت أنها تهدف إلى بناء 41-44 مدينة وبلدة جديدة يبلغ عدد سكانها 6,7-6,8 ملايين نسمة.120 لكن محلّل التخطيط الحضري، ديفيد سيمز، استخدم الأرقام التي نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لإظهار أن المدن والبلدات الـ23 التي تم بناؤها حتى عام 2006 بلغ مجموع سكانها 783 ألفًا فقط بدلًا من الهدف الرسمي الذي احتسبه الهدف الرسمي البالغ 20,6 مليونًا.121 زعمت هيئة المجتمعات العمرانية أنها أنجزت 27 مدينة بعدد سكان خمسة ملايين بحلول عام 2011، ولكن الحقيقة هي أنه كان من المفترض لمشروع توشكى وحده أن يجذب بين أربعة وستة ملايين نسمة، ما يدل على مدى فشل المدن الصحراوية.122 وأكدت الهيئة أيضًا أنها تتوقع بلوغ عدد السكان 22 مليونًا في عام 2022، بعد الانتهاء من بناء خمس مدن إضافية، ولكن خبراء التنمية الحضرية لاحظوا مجددًا أنها "أخفقت في الاقتراب مطلقًا من عدد السكان المتوقع" حتى حلول عام 2019.123

واستخلص سيمز في عام 2017 أنه لم يتم تحقيق هدف واحد من أهداف التنمية الصحراوية، التي قصّر معظمها بأضعاف عدة.124 أضاف أنه في جميع المدن الجديدة "وخصوصًا حول القاهرة، تبقى مشاريع الإسكان والعقارات (العامة والخاصة)... متوقفة أو شاغرة أو غير مستغلة لسنوات – من دون عائدات، أو تدوير، بقيمة استخدامية ضئيلة أو معدومة". لقد امتلأ بعض المجتمعات الجديدة من الجيل الأول مثل 6 أكتوبر والقاهرة الجديدة (الأولى تستضيف مساكن ضباط القوات المسلحة، في حين أن الثانية بُنيت على أرض مرخَّصة من وزارة الدفاع) استجابة لتحوّل تركيز التطور العقاري نحو مشروع العاصمة الجديدة القريب، لكن سابقًا لم تستقطب تلك المدن سوى ربع السكان المستهدفين.125 بشكل عام، وفقًا للباحث سيمز، فإن عدد سكان جميع المدن الجديدة لا يمثل سوى 3,8 في المئة من إجمالي الزيادة السكانية في مصر، أو ما يقارب ثلث المعدل اللازم لبدء عكس الزحام الشديد.126

النتيجة هي ما يسميه علماء الاقتصاد رأس مال "عقيم" على نطاق واسع. ففي عام 2016، قدّر الجهاز المركزي للمحاسبات إجمالي الخسائر التي تتكبدها مصر نتيجة الفساد وسوء الإدارة والدخل المفقود من المجتمعات العمرانية الجديدة بمبلغ 880 مليار جنيه مصري (وهذا يشمل فترة ست سنوات من الخفض المتكرر في قيمة العملة، وبالتالي يصعب تخمين القيمة المعادلة بالدولار).127 عانت المنهجية المستخدمة من شوائب، مع ذلك تشير النتائج إلى وجود مشكلات كبيرة حتى لو تم التقليل من المبلغ المنشور بنسبة حادة. ومع ذلك، استمر رؤساء الجمهورية المصرية والجهات الفاعلة المؤسساتية القوية لأكثر من ستة عقود في استصلاح الأراضي وبناء المدن في المناطق الصحراوية. أحد الأسباب هو أن "شرائح واسعة تمتلك الآن مصالح مهمة، وليس نخبة الشركات فحسب، بل أيضًا موظفو الحكومة وصغار المستثمرين والملايين من العاملين في الخليج".128 وكما لتأكيد ذلك، فإن معرض "العقارات المصرية" الذي نظمته شركة "تواصل للعلاقات العامة"، وهي شركة تابعة لشركة فالكون غروب إنترناشونال التي هي بدورها شركة أمنية خاصة على صلة وثيقة بالمخابرات الحربية، قد أقيم ثلاث مرّات في الفترة 2017-2019 لجذب المغتربين المصريين في الإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة.129

لا تقل المصالح العسكرية المرتبطة بالمشاريع الضخمة الجوفاء أهمية، حسب ما أشار سبرينغبورغ قبل عدة عقود. على سبيل المثال، تمركزت المناطق الصناعية الجديدة الأكثر نجاحًا في الإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية، حيث كان لدى الاقتصاد العسكري أصلًا العديد من الاستثمارات المتداخلة وعقود الأشغال العامة. والمدن التي خُطط لها أن تكون خارج وادي النيل والدلتا جرى تطويرها لتكون تجمعات منفردة من دون أن يجري التفكير كثيرًا في وسائل النقل العام أو السكك الحديد القائمة، كما لاحظ محللٌ يعمل في غرفة التجارة الأميركية المصرية في عام 2016.130 لكن ذلك وفّر فرصًا للهيئات الاقتصادية العسكرية لتنفيذ عقود ضخمة لبناء طرق تربط القاهرة والمدن الرئيسة الأخرى في هذه المناطق الاستثمارية، بما في ذلك مواقع استصلاح الأراضي التي تديرها القوات المسلحة، دون أن تخدم أي غرض آخر. وفي ما عدا هذه الاستثناءات، فإن الأمر الملحوظ عن التوزيع الجغرافي للمدن الجديدة القائمة أو المزمع إنشاؤها حتى عام 2052 هو أنَ واحدة أو إثنتان منها فقط تقع حقيقة في المناطق الصحراوية، بينما تقع الغالبية على أطراف وادي النيل أو في الدلتا، ما عدا حوالي ست مدن ساحلية يتم تقديمها على أنها ملاذ جميل للأثرياء.

وينطبق الشيء نفسه على الإمداد بالمياه ومعالجة النفايات، وهما قطاعان تنشط فيهما وزارة الدفاع ووزارة الإنتاج الحربي والشركات التابعة لهما.131 فمعظم مشاريع استصلاح الأراضي والمدن الصحراوية يعتمد على نقل المياه في القنوات عبر مئات الكيلومترات أو على استخلاصها من أحواض المياه الجوفية، بما فيها حصة هامة غير قابلة للتجديد. اعتمد مشروع توشكى على رفع المليارات من الأمتار المكعبة من بحيرة ناصر في قناة طولها 240 كيلومترًا مثلًا، فيما اعتمد مشروع سلام في شمال سيناء على نقل المياه من وادي النيل عبر أنفاق تحت قناة السويس.132 في المقابل، فإن مشروع السيسي للمليون فدان يأخذ 88.5 في المئة من احتياجاته المائية من مصادر تحت الأرض و11.5 في المئة فقط من نهر النيل.133 وفي عام 2015، خصصت الحكومة ستة مليارات جنيه مصري (692 مليون دولار) لحفر أكثر من خمسة آلاف بئر في الصحراء الغربية للاستفادة من طبقات المياه الجوفية، وقد نفذت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة معظم هذه الأعمال، أو أدارتها، في ما أطلقت عليه وسائل الإعلام الوطنية تعبير "المعجزة التي سوف تسقي سبعة ملايين فدان".134

تكمن مشكلة إضافية في التكلفة العالية لضخ المياه إلى مواقع مرتفعة مثل توشكى أو مناطق نائية مثل سيناء. فقد وصلت تكلفة بناء محطة ضخ لهذا الغرض في عام 2005 إلى 436 مليون دولار، إلى جانب التكلفة المتوقعة البالغة 4,5 مليارات جنيه مصري لحفر قناة الحمل الرئيسة وفروعها. بإضافة ثمن الوقود، وصلت كلفة إيصال الماء وحده إلى 11100 جنيه لكل فدان.135 مع ذلك، فإن إعادة إطلاق السيسي العمل في مشروع توشكى كجزء من مخططه للمليون فدان أعطت قوة دفع جديدة للشركات العسكرية مثل مصنع قادر التابع للهيئة العربية للتصنيع الذي قام بصنع مضخات المياه لمشروع توشكى في عام 2016 واستورد معدات ري أخرى بتكلفة تبلغ حوالي 500 مليون جنيه بعد سنة من ذلك.136 وكما أشار مدير سابق لدائرة مصر في البنك الدولي، فإنه حتى بعد تكبد التكاليف، قد يستغرق تحسين نوعية التربة بما يكفي لنمو غطاء عشبي بسيط خمس سنوات أو أكثر.137

التنوع والتضافر

بموازاة مخططات استصلاح الأراضي ونقل المياه، أخذت وزارة الدفاع على عاتقها مروحة تزدادُ اتساعًا وتنوعًا من مشاريع الإنشاء والإدارة الممولة من الحكومة منذ منتصف أو أواخر تسعينيات القرن الماضي. ومثل أي شركة كبيرة تجمع رأس المال والخبرة العملية والنفاذ إلى السوق، سعت الوزارة كذلك إلى تضافر أذرعتها وأنشطتها المختلفة. فقامت الهيئة الهندسية وإدارات الأشغال والمشروعات الكبيرة والمياه والمساحة في القوات المسلحة ببناء الطرق السريعة والجسور، ومرافق الصرف الصحي أو معالجة المياه، والإسكان الاجتماعي. كما التزمت تنمية الأحياء الفقيرة الحضرية والعشوائيات أو أشرفت عليها، وقامت بأشغال عامة أخرى (مثل الملاعب الرياضية، والمخابز والمجازر، والمدارس والعيادات، والمراكز الترفيهية والاجتماعية، والمرافق الحكومية كدُور القضاء)، وأزالت التعديات غير المرخصة على نهر النيل وقنوات الري الفرعية أو الترع، وعلى الأراضي الصحراوية، لاسيما حول مشروعات استصلاح الأراضي والمدن الجديدة.

في العديد من الحالات، وصفت وزارة الدفاع بكل فخر البنى التحتية التي تنجزها كالجسور، بأنها "هدايا" القوات المسلحة للشعب المصري، في حين أن معظمها، إن لم يكن جميعها، كان يموَّل في الواقع من الأموال العامة.138 فالحكومة كانت فعليًّا تمنح وزارة الدفاع عقودًا من أجل تنفيذ المشاريع التي كانت تنفذها عادةً الهيئات المدنية (وزارات الأشغال العامة والإسكان، الهيئات العامة والقومية والبلديات). إلى ذلك، فإن وسائل الإعلام التابعة للقوات المسلحة لم تتورع عن الادعاء بأن المشاريع التجارية الناجحة التي تنفذها شركات القطاع الخاص في مناطق الاستثمار التي تديرها المؤسسة العسكرية هي أيضًا من إنجازها.139

كثيرًا ما كانت مشاريع الأشغال العامة الضخمة تخدم مصالح وزارة الدفاع التجارية أيضًا، ليس أقلها في مجاليّ إنتاج الأغذية والتجارة. على سبيل المثال، أكد مصدر عسكري لم تُذكر هويته في حديثٍ إلى مراسلين في أوائل عام 2015، على أهمية ما زعم أنه العديد من المراسي التي أقامتها القوات المسلحة في النيل لتحفيز السياحة والتبادل التجاري بين مصر والسودان.140 ومع أنه ربط ذلك بتحقيق "التنمية الشاملة" للبلاد، إلا أن ذلك سهّل أيضًا استيراد الماشية والمنتجات الزراعية الأخرى من السودان، وهي تجارة مربحة تشترك فيها بثقلها هيئات وزارة الدفاع وإدارات القوات المسلحة، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية.141 وكما هو الحال مع عقود الأشغال العامة أو الأنشطة التجارية الأخرى، تلازم ذلك مع الشركات التي يرأسها متقاعدون من القوات المسلحة مثل الشركة المصرية للتجارة بالجملة، التي تستورد أيضًا اللحوم الطازجة والماشية الحية من السودان.142

وكان قد سبق لوزارة الدفاع أنّ أقامت بعض البنى التحتية للنشاط التجاري من خلال الاستحواذ على الشركة المتحدة للتغليف (1995)، وشركة السكك الحديد سيماف (نُقلت إلى الهيئة العربية للتصنيع في عام 2004)، وترسانة الإسكندرية (التي تصنّع صنادل النقل النهري، 2007).143 وفي بداية عام 2014، استثمرت القوات المسلحة مبلغ 7 مليارات جنيه مصري (حوالي 930 مليون دولار) من أموالها الخاصة في ربط طرق الواحات الصحراوية السريعة لخدمة مشروعات استصلاح الأراضي في الوادي الجديد.144 وقد تكون دوافع مماثلة قد حَدَت بوزارة الدفاع إلى الانخراط في بناء الطريق السريع المؤدي إلى العين السخنة في عام 2004، وهو في الأصل ميناء بحري بملكية خاصة أصبح نقطة محورية للمشاريع الاقتصادية العسكرية الكبرى وللاستثمار الأجنبي في الصناعة والبنية التحتية. جرى تكرار النمط منذ ذلك الحين بتطوير مطار سوهاج الدولي وميناء الغردقة، مرة أخرى على امتداد شاطئ البحر الأحمر حيث تستثمر المؤسسة العسكرية بشكل واسع في السياحة والعقارات فضلًا عن التجارة الخارجية. وينطبق الشيء نفسه كذلك على تطوير أحواض الملح في الإسكندرية وترخيص استخدام الأراضي وتوفير البنية التحتية لتطوير المنتجعات السياحية الكبرى على الساحل الشمالي لمصر قبل عام 2011، مع إضافة طرق سريعة جديدة لربطها في عام 2015.145

كما أن التركيز على مشاريع البنية التحتية الرئيسة المموَّلة من القطاع العام في منطقة البحر الأحمر قد أسهم في الانتشار العسكري الاستراتيجي للقوات المسلحة. ويصدق هذا على مشاركتها في بناء طرق سريعة جديدة في جنوب وشمال سيناء، ما يساعد في عمليات مكافحة التمرد المستمر هنالك منذ حوالي عشر سنوات. وقالت دراسة إسرائيلية نشرها معهد القدس للدراسات الاستراتيجية في كانون الثاني/يناير 2018 إنه فيما تهدف البنية التحتية الجديدة في المقام الأول إلى التنمية المدنية، إلا أنها أيضًا تعزز قدرة انتشار القوات المسلحة المصرية من خلال زيادة مهاجع للطائرات المقاتلة والمدرجات المحصّنة، ومستودعات الوقود ومخازن العتاد المحمية والمحسَّنة لتسهيل الحركة شرق القاهرة وفي سيناء.146

مهما كان حجم الأشغال العامة التي تضطلع بها القوات المسلحة المصرية لأغراض عسكرية، فإن وزارة الدفاع لطالما استخدمت حجة الأمن القومي للتأكيد على حق شبه حصري بالتزام أو إدارة تطوير البنية التحتية المدنية ومشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سيناء، ما يضمن لها استمرار نفاذها إلى العقود العامة. ففي أواخر عام 2013، على سبيل المثال، خصصت الحكومة المؤقتة التي تشكّلت بعد الانقلاب العسكري 2,7 ملياري جنيه (ما كان يساوي عندها 380 مليون دولار) للتنمية و527 مليون جنيه للإسكان في سيناء. وجرى منح العقود، عبر الأمر المباشر كالعادة، إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.147 وفي آب/أغسطس 2015، أعلن السيسي أن القوات المسلحة ستقود بناء مدن جديدة في شبه الجزيرة، وفي آذار/مارس 2016، تعهدت المملكة العربية السعودية بمبلغ 1,55 مليار دولار لتمويل مشاريع التنمية الزراعية والمجمعات السكنية هناك، بما في ذلك المستشفيات والمدارس.148

وزارة الدفاع لطالما استخدمت حجة الأمن القومي للتأكید على حق شبھ حصري بالتزام أو إدارة تطویر البنیة التحتیة المدنیة ومشاریع التنمیة الاقتصادیة والاجتماعیة في سیناء.

الاستفادة المالية من المناطق الاستراتيجية

كما تُظهر الأمثلة السابقة، تمكنت وزارة الدفاع من الحصول على دخل كبير من تصوير مهمتها والمشاريع العامة التي تنفذها على أنها "استراتيجية". وما يعزز هذا التصوير هو السلطة الواسعة التي مُنحت لها على استخدام أراضي الدولة في مناطق واسعة من البلاد خلال العقود الأربعة الماضية. فقد اشترط القانون 38 لعام 1977 على وكالات السياحة الحصول على تصريح من وزارة الدفاع من أجل العمل في المناطق الحدودية، بما في ذلك السواحل، وهي وجهات سياحية رئيسة.149 ووسّع المرسوم الرئاسي 143 لعام 1981 هذا الشرط ليشمل جميع "الأراضي الصحراوية"، التي تشمل كافة الأراضي غير المسجلة في السجلات العقارية كالذمم، أي التي يملكها الأفراد أو الكيانات الاعتبارية، العامة أو الخاصة، الخاضعة للضريبة العقارية.150 وقد شمل ذلك ما يقدّر بنحو 90-95 في المئة من المساحة الكلية لمصر.

جرى توسيع صلاحيات وزارة الدفاع في ما يتعلق باستخدام الأراضي بشكل كبير بموجب المرسوم الرئاسي رقم 152 لعام 2001.151 وقد حدد المرسوم "المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية العسكرية في الأراضي الصحراوية"، ووضع المعايير التي يجب أن تلبيها أي هيئة مدنية أو شخص ينوي القيام ببناء أو أي نشاط آخر، سواء فوق الأرض أو تحتها، أو على طول الطرق، أو قبالة شواطئ البحار والبحيرات، في جوار المنشآت العسكرية. في الواقع، منح المرسوم أيضًا وزارة الدفاع سلطة الاستنساب في تعيين الأراضي للاستخدام التجاري.152 تُرك تحديد مواقع المناطق الاستراتيجية لوزارة الدفاع، التي ستحدد أيضًا المسافات التي يجب أن تفصل بين محيطها والبناء المدني الجديد، وارتفاع المباني المسموح به في الجوار، والمواصفات الفنية للأنشطة المنتجة للنفايات (الصلبة أو الغازية أو السائلة) التي تجري في مكان قريب.

وعلى عكس الافتراض السائد، فإن هذه القوانين لم تمنح وزارةَ الدفاع ملكيةَ الأرض ولا حيازتها، بل السيطرة على استخداماتها. إذ لا يمكن بناء أو تطوير أي مشروع كان على الأراضي الصحراوية، سواء سكني أو صناعي أو زراعي أو متعلق بالخدمات والبنية التحتية، أكانت ملكيته خاصة أو عامة، إلا بإذن من وزارة الدفاع (وبعض الوزارات الأخرى، بما فيها الزراعة والآثار والبترول). في عام 2006، مثلًا، كشف البنك الدولي عن حالة نمطية لجهة استثمارية كبيرة انتظرت مدة 12 عامًا للحصول على التصاريح اللازمة لتسجيل ملكيتها. ويضاف أنَّ هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، التي يهيمن عليها بشكل كبير ضباط القوات المسلحة المتقاعدون وتعمل عن كثب مع الكيانات الاقتصادية العسكرية، قد أخّرت أيضًا نقل بعض قطع الأراضي، مطالبةً بزيادة حادة في السعر الأصلي، وفي النهاية منحت الأرض لمستثمرين منافسين.153

الحاسم هنا هو أنّ تسمية أي أرض منطقة استراتيجية يجب أنْ يتم تصديقها بموجب مرسوم رئاسي، إلا أن الخرائط التي توضح إحداثياتها الدقيقة تبقى سرية تذَرُّعًا بالأمن القومي. ومن غير الواضح ما إذا كانت مناطق معينة قد تم ترسيمها في الواقع بهذه الطريقة، أو ما إذا كان المرسوم يعمل كغطاء عام يمكن الاستناد إليه في أي وقت ويمكن تطبيقه بأثر رجعي. وقد أتاح ذلك لوزارة الدفاع هامشًا ضخمًا للادّعاء بأن الأرض التي تسعى الجهات المدنية لإستخدامها من أجل مشروع، تقع في منطقة استراتيجية، من دون الحاجة إلى تقديم المزيد من الأدلة. ويساعد على ذلك حقيقةُ أنّ نسبة كبيرة من الأراضي التي تخضع للملكية الخاصة تظل غير مسجلة وبلا سندات عقارية، وقد قدّرت دراسة في عام 2004 أن هذا ينطبق على 92 في المئة من مالكي العقارات، ما مكّن القوات المسلحة بشكل روتيني من وضع يدها على ما يُدّعى أنه تعديات غير قانونية.154

يؤكّد رجال الأعمال أنه يُطلب منهم بانتظام، منذ عام 2001، التبرع لصندوق القوات المسلحة مقابل الحصول على إذن بتسجيل الأراضي أو تغيير وجهة استخدامها، أو دفع الرشاوى.155 وغالبًا ما يجري تقديم الطلبات إلى القيادات العسكرية المحلية بدلًا من إدارة متخصصة مؤهلة في وزارة الدفاع، ناهيك عن وزارات التجارة والصناعة أو المالية، ما يخلق فرصًا لطلب الرشاوى، لاسيما من الشركات الصغيرة بل أيضًا من الوزارات الحكومية. وفي بعض الأحيان، يجب الحصول على تصاريح من الصنوف المنفصلة في القوات المسلحة. على سبيل المثال، يحدد سلاح الجو ما إذا كان ارتفاع البُنى قد يؤثر على استخدام المجال الجوي. إشتكى رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس عندما سئل عن مشروعٍ للهواتف المحمولة في عام 2011، أن القوات المسلحة هي "واحدة من العديد من السلطات التي لا بد من موافقتها على تركيب الصواري".156

فجاء المرسوم الرئاسي رقم 152 لعام 2001 نعمة، نظرًا إلى صدوره عشية طفرة من المضاربات الهائلة في أسواق العقارات. على سبيل المثال، فرضت وزارة الدفاع رسومًا على السماح لشركات القطاع الخاص ببناء مساكن ومنتجعات سياحية على طول الساحل. وقد لحظت أخصائية علم الاجتماع الحضري، منى أباظة، أنه في الفترة اللاحقة، "تكاثرت بشكل واسع المنتجعات البحرية على طول الساحل الشمالي والبحر الأحمر، على الرغم من فشل المنتجعات التي لا حصر لها خلال العقود الماضية والتي تبدو وكأنها أطلال الحرب".157 كما استفادت وزارة الدفاع من المشاريع العملاقة مثل تطوير منطقة القاهرة الجديدة الراقية امتدادًا للعاصمة والتي بُني معظمها على أرض تسيطر عليها وزارة الدفاع، وقد بيعَت في صفقات غامضة إلى مستثمرين وأباطرة التطوير العقاري.158 في وقت لاحق، ادّعى رئيس هيئة الشؤون المالية في الوزارة أنّها لم تقبض رسومًا إلا عندما اضطرت إلى "نقل كتيبة أو العثور على ميدان تدريب بديل لأنشطتها"، لكن ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنّ هذا هو العرف فعلًا.159

استغلت وزارة الدفاع أيضًا امتيازها القانوني بطرق أخرى. فهي، كما أفاد الصحافي المصري أحمد أبو العينين، تفرض على المستثمرين أن يدفعوا مقابل التأكد من أن الأرض التي يستملكون خالية من الألغام والذخائر العسكرية الأخرى.160 والأهم من ذلك أن الشركات الخاصة، سواء المحلية أو الأجنبية، العاملة في المناطق النائية بعد عام 2001، كانت تعتمد بالكامل على تصريح وزارة الدفاع لإحضار الآلات والمواد والعمالة وكذلك المواد الغذائية والمياه والإمدادات الأخرى. وكان هذا صحيحًا بشكل خاص في القطاعات عالية القيمة مثل النفط والغاز التي كانت تقع بالكامل تقريبًا في المناطق الصحراوية المخصصة للاستخدام العسكري أو التي يمكن اعتبارها استراتيجية.

فعلى سبيل المثال، اضطرت شركة لاستكشاف الطاقة تعمل في الصحراء الغربية في العقد الأول من القرن الحالي إلى التعاقد مع القوات المسلحة لترتيب التفريغ والتخليص الجمركي لوارداتها ولنقل معداتها الثقيلة، فضلًا عن استخدام المقاولين المدنيين المتعاقدين مع القوات المسلحة كمورّدين رئيسين لها من المواد الغذائية ومعدات السلامة وغيرها.161 وذكر مسؤول في الشركة أن القوات المسلحة كانت تراقب عدد الموظفين الأجانب الذين يُسمح لنا بإحضارهم، لكن ضابط الارتباط قد يضيف، مثلًا، 10 في المئة بشكل غير رسمي مقابل دفعات نقدية تحت الطاولة. لكن قضيتنا الكبرى كانت انخفاض إنتاجية العمالة المصرية، ولاسيما خلال شهر رمضان، لذلك كنا نستأذن دومًا الزيادات الكبيرة في القوى البشرية. وكان ضابط الجيش يقول إنه لم يكن هناك ما يكفي من العمالة محليًّا، لكنه كان يعرض جنوده الذين كانوا أكثر انضباطًا وإنتاجية بكثير. وكان الضابط يقبض. لا أعرف أين ذهبت الأموال، لكن القبض كان دائمًا نقدًا.162

وكان على نفس المسؤول أن يتعامل مع "ملازم شاب كان أقوى من عميد لأنه كان ابن وزير، وكان يحتكر بالكامل تسليم كافة المواد التي نحتاجها للبناء وما إلى ذلك. لقد كان في الواقع مقاولًا من باطن باطن الباطن!" واستفاد ضباط آخرون من القوات المسلحة في المنطقة المحيطة من خلال فرض إتاوات الحماية، حيث انتزعوا رسومًا تحت الطاولة لضمان عدم قيام العشائر المحلية بوقف أو سرقة الشاحنات والصهاريج التي تجلب الطعام والماء، ولعلهم تواطأوا معها أصلًا.

أدى تحكّم وزارة الدفاع باستخدام الأراضي والوصول المباشر إلى المعلومات الداخلية المتعلقة بتقسيم المناطق وخطط التنمية إلى ممارسات غير مشروعة أخرى. إذْ طالما استفاد الضباط وعائلاتهم وأصدقاؤهم من شراء الأراضي الصحراوية بأدنى الأسعار في المناطق التي يتم فيها التخطيط لمشاريع البنية التحتية أو الإسكان العملاقة، ثم بيعها بعد أن تصبح عقارات مرغوبة. قال أحد موظفي الخدمة المدنية: "حاول أحد أصدقائي جعلي أشتري بعض الأراضي معه في المنطقة القريبة من طريق عين السخنة السريع والمعروفة باسم التجمع الخامس بمبلغ 50 قرشًا للمتر [في أوائل الألفية الثالثة] لأنه كان يعرف أين ستُبنى الطرق والمدن الجديدة". وأضاف: "لقد رفضت، ولكن فيما بعد، ارتفعت قيمة الأرض بشكل هائل".163 وجرى منح ابن ضابط سابق في القوات المسلحة فرصة شراء قطعة أرض في نفس المنطقة "مقابل ألفيْ دولار فقط كدفعة أولى، وأصبحت تلك القطعة في نهاية المطاف جزءًا من مجمع سكني فاخر يساوي الملايين".164 وقد كان كلٌّ من مبارك والقوات المسلحة يسمح بالمضاربة كوسيلة لضمان الولاء.

"بالأمر المباشر": وزارة الدفاع كمقاول

إن منح هيئات وإدارات القوات المسلحة عقود أشغال عامة تزداد ضخامة وطموحًا يوحي بأن لديها قدرة هائلة على تصميم المشاريع وتنفيذها وصيانتها، وذلك بمعايير عالية. بل يبدو وكأن الكمّ الهائل والتنوع المتزايد في المشاريع الموكلة إلى تلك الجهات أو التي تنسبها إلى نفسها في السنوات الخمس عشرة التي سبقت عام 2013 يؤكدان بحد ذاتهما قدراتها العالية. فتتمتع القوات المسلحة بصورة إعلامية راقية للغاية، وهي صورة تروّجها هي الأخرى عن نفسها. لكن مراجعة أكثر دقة تبين أن قدرتها على تنفيذ هذا الحجم من الأشغال العامة محدودة للغاية. بل إنها تلعب في أغلب الأحيان دور المدير للمشاريع الممولة من القطاع العام، حيث تقوم بتأمين العقود الحكومية ثم الإشراف على تنفيذها من قبل المتعاقدين من الباطن من القطاع الخاص. ويجري تبرير هذا بشكل روتيني على أساس أن القوات المسلحة تضمن الكفاءة والتسليم في الموعد المحدد، ولكن البيانات التفصيلية التي تدل على فعالية التكلفة مقابل الردود لم تُنشر قط.

إن منح هيئات وإدارات القوات المسلحة عقود أشغال عامة تزداد ضخامة وطموحًا يوحي بأن لديها قدرة هائلة على تصميم المشاريع وتنفيذها وصيانتها. لكن مراجعة أكثر دقة تبين أن قدرتها على تنفيذ هذا الحجم من الأشغال العامة محدودة للغاية.

وفيما تقوم القوات المسلحة المصرية بالفعل بالتسليم في الموعد المحدد في حالات عديدة، إلا أن هذا ينطبق في الغالب على المشاريع الصغيرة، في حين أن عدة مشاريع ضخمة تديرها لم تكتمل قط.

وإلى ذلك، فإن التعاقد من الباطن يقوّض الادعاءات القائلة بأن الهيئات العسكرية تسلّم الأشغال بتكلفة أقل بكثير من شركات القطاع الخاص المحلية أو الأجنبية، حيث إن هذه الشركات الأخيرة هي التي تقوم عمومًا بالعمل الفعلي، ساعية للقيام به تمشياً مع أسعار السوق. في مثل هذه الحالات، تكون القوات المسلحة قد أمّنت دقة المواعيد فقط من خلال زيادة التكاليف، التي تمررها إلى خزينة الدولة أو تعوّض عنها من خلال إقناع المقاولين المصريين من الباطن (على عكس الشركات الأجنبية) باستيعاب الخسائر أو العمل مجانًا، حتى في المشروعات الكبيرة. وقد كشف رئيس شركة أملاك القابضة، وهي شركة متوسطة تضم 500 موظف، عن نطاق هذه الممارسة عندما اشتكى في آب/أغسطس 2019 من عدم قدرته على استعادة 220 مليون جنيه مصري (13,3 مليون دولار) من وزارة الدفاع لقاء أعمال البناء على سلسلة من المباني بما في ذلك قصر الرئاسة في العلمين الجديدة.165 كما أشار إلى أنه لم يتم تعويض شركته وشركات المقاولات الأخرى عن الخسائر الناتجة عن انخفاض قيمة الجنيه المصري، ما أثر على الطلبات التي كانوا قد قدموها لاستيراد المعدات والمواد، وأنهم اضطروا إلى بناء منازل فخمة للسيسي وقادة القوات المسلحة.

ووفقًا لبيانات هيئة الهندسية في القوات المسلحة، فقد نفذت 473 مشروعًا استراتيجيًّا وخدميًّا بين عامي 2012 و2014.166 لكن في العامين التاليين، وصولًا إلى حزيران/يونيو 2016، ورد أنها نفذت 1737 مشروعًا، بزيادة قدرها 367 في المئة.167 لكن الغالبية العظمى من المشاريع التي لم يسلّمها متعاقدون من الباطن من القطاع الخاص (أي التي نفذتها الهيئة الهندسية بإمكانياتها) كانت صغيرة، بما في ذلك قاعات الصفوف الدراسية والعيادات في المناطق الريفية أو محطات معالجة المياه الصغيرة، ولم تكن تستوجب سوى التصميم والتنفيذ الأساسيين.168

أما المشاريع الكبيرة التي تتطلب قدرات إدارية معقدة ومهارات فنية، فقد جرى تكليف شركات خاصة بها حيث استأثرت بالجزء الأكبر من العقود الممنوحة إلى القوات المسلحة من قبل الحكومة بين أيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2013 والبالغة قيمتها سبعة مليارات جنيه مصري (التي كانت تساوي آنذاك مليار دولار). وقد شمل ذلك حتى عقود بناء منشآت عسكرية. إذ منحت القوات المسلحة، مثلًا، الشركة العقارية للبنوك الوطنية التي يرأسها لواء متقاعد من القوات المسلحة، عقودًا بقيمة 209 ملايين جنيه في عامي 2012 و2013.169 في وقت لاحق، أوضحت مساعدة وزير التعاون الدولي المصري، نهى بكر، أن "المشاريع تنفذ من قبل مقاولين مدنيين من الباطن... فيما دور الهيئات العسكرية، كونها المقاول الرئيس، هو الإشراف ومراجعة الجودة والإطار الزمني للتنفيذ".170 وأكد وزير التنمية المحلية في حينه، عادل لبيب، وجهة النظر هذه عند منح عقد بقيمة ملياريْ جنيه إلى القوات المسلحة لتحسين الأحياء العشوائية الفقيرة في القاهرة، معتبرًا أن هذا من شأنه "ضمان إنجازها على الفور وبدقة".171

ومن غير المستغرب أن ضباط القوات المسلحة يعتبرون أنَّ الإدارة العسكرية للمشاريع متفوقة بالضرورة. على سبيل المثال، أشار الرئيس السابق لجهاز تعمير سيناء التابع لوزارة الإسكان، اللواء محمد مختار قنديل، إلى أنّ الخطط الحكومية في المنطقة كانت عادة مخططة على عجل، مع بعثرة الإشراف بشكل مفرط بين الوزارات والمحافظات المتعددة. فحاجج إن إدارة مخططات معقّدة "يجب أن تكون مثل الجيوش التي لديها قيادة لتنسيق الخدمات المشتركة وتبادل الدعم". واقترح أن يتم دمج التنسيق "في وزارة واحدة للرقابة والمتابعة، كما تفعل بعض الدول الأوروبية"، ولكن من السهل معرفة لماذا يَنظر الآخرون إلى القوات المسلحة، وليس إلى وزارة حكومية ما على أنها هي الهيئة المؤهلة بشكل طبيعي للاضطلاع بهذا الدور.172

حتى إدارة الإخوان المسلمين قصيرة العمر تبنت هذا الخطاب، ظاهريًّا على الأقل. فعندما خصصت حكومة رئيس الوزراء هشام قنديل 4,4 مليارات جنيه مصري للتنمية في سيناء، فقد أوكلت المسؤولية إلى القوات المسلحة. قد يعكس هذا ببساطة الإدراك البراغماتي بأن القوات المسلحة كان من شأنها أن تمنع أي برنامج مدني لم يمر من خلالها في منطقة كانت تدّعي أنها ضمن مجالها الأمني حصريًّا، أما علانيةً، فقد أشارت الحكومة إلى رغبتها في السرعة والكفاءة، مدّعية أنها سعت إلى التطبيق في فترة بين ستة وتسعة أشهر.173

مرة أخرى، فإن السجل الفعلي للإنجاز هو أكثر تباينًا بشكل كبير. ففي أوائل الألفية الثالثة، وبحجة أن القوات المسلحة يمكن أن تنفذ بنصف التكلفة، انتزع وزير الدفاع عندها، المشير محمد حسين طنطاوي، عقد إنشاء طريق العين السخنة السريع من الشركة الإسبانية التي كان قد تم منحها إياه. إلا أن هذا المنطق قد أغفل حصول القوات المسلحة على العمالة المجندة شبه المجانية، والإعفاء من الرسوم الجمركية على الواردات، ودعم الدولة للوقود والطاقة، والإعفاء من الضرائب.174 لم تقدم براهين على صافي الوفر الذي تحقق للخزينة العامة، ومن المحتمل أن يكون متواضعًا في أفضل الأحوال إن لم يكن سلبيًّا. ومع ذلك، فقد طرحت هذه الحجة مرات لا تحصى منذ ذلك الحين لإبعاد التدقيق عن الادعاءات العسكرية، ناهيك عن كشف دفاتر المشاريع.

دور إداري صاعد

وبالمثل، فإن الارتفاع الحاد في مجال وحجم العقود الممنوحة لوزارة الدفاع بعد تموز/يوليو 2013 تجاهل الأداء وحسابات الجدوى الاقتصادية الحقيقية. اتضح ذلك في الجهود المبذولة لمعالجة أزمة الإسكان الحادة في مصر، على سبيل المثال، حيث يقدر أن ما بين 15 و50 في المئة من السكان يعيشون في عشوائيات تشمل مساكن غير رسمية مبنية على أراضٍ عامة أو خاصة وتحويل أراضٍ زراعية إلى حضرية بشكل غير قانوني، من دون بنية تحتية أو خدمات عامة أساسية.175 وقُدّر النقص في المساكن بنحو 3,5 ملايين وحدة سكنية في عام 2014، علما أن النقص ينمو بمعدل 250 ألف وحدة كل عام.176 ووفقًا لمدير الهيئة الهندسية في القوات المسلحة في عام 2011، اللواء كامل الوزير، فقد أمر المشير حسين طنطاوي الذي كان عندها رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقائم بأعمال الرئيس، "بتشغيل جميع الشركات المدنية التابعة للقوات المسلحة والبالغة 60 شركة في تنفيذ مشروعات الإسكان"، وذلك إدراكًا لخطورة المشكلة ومداها. وأضاف إن طنطاوي علّل ذلك قائلًا: "بالرغم من أن دور الجيش هو القتال في الحروب"، فإنه يمكن أن يكرس نفسه لأمور أخرى في وقت السلم، و"ذلك يعتبر في الوقت ذاته تدريبًا عمليًّا وواقعيًّا وراقيًا للإدارات الهندسية في الجيش المتخصصة في هذه المهام".177

كان سجلّ الحكومة السابق في توفير المساكن الجديدة ضعيفًا، لكن سرعان ما وجدت وزارة الدفاع نفسها في وضع مماثل. وكان مشروع الإسكان الشامل الذي أطلقه مبارك خلال حملة إعادة انتخابه في عام 2005، مثلًا، قد حقق أقل من نصف هدفه البالغ مليون وحدة خلال السنوات الست التالية.178 وفي عام 2011، تعهد جهاز التعمير المركزي التابع لوزارة الإسكان والذي يهيمن عليه بشكل مكثف مهندسو القوات المسلحة المتقاعدون، ببناء مليون وحدة إسكان اجتماعي في غضون خمس سنوات. والتزمت وزارة الدفاع بناء 25 ألف وحدة، وأعلنت عن تبرع بقيمة ملياريْ جنيه مصري (336 مليون دولار) للمشروع من أموالها الخاصة.179 ويلحظ أنها قامت بأكثر من مجرد الالتزام ببناء المساكن، فقد نسقت أيضًا التسعير مع وزارة الإسكان.180

وقد دفعت حسابات سياسية مماثلة السيسي إلى الإعلان في آذار/مارس 2014 أن وزارة الدفاع سوف تتعاون مع شركة أرابْتك الإماراتية للإنشاءات على بناء مليون وحدة سكنية تستهدف جزئياً الشباب والمجموعات ذات الدخل المنخفض، وذلك بتكلفة 40 مليار دولار على مدى خمس سنوات.181 وقد تفاخر المتحدث الرسمي العسكري بأن رجال الأعمال قد "استجابوا لنداء الجيش" من أجل الاستثمار، وأن "الميزانية بمجملها كانت مغطاة بالفعل".182 كان الادعاء خادعًا، وأثبتت هذه الخطط مرة أخرى أن طموحها مفرط.183 فقد انسحبت أرابْتك بسبب خلافات مع وزارة الدفاع حول نسبة المساكن المخصصة للمجموعات ذات الدخل المنخفض والمتوسط، فضلًا عن تقاسم الأرباح. ووفقًا لمصدر من داخل عالم الأعمال، "يبدو أن أرابتك قد رفضت مطالب القوات المسلحة بتوظيف عمالة مصرية وشراء مواد مصرية"،184 فتمّ استبدال أرابْتك بوزارة الإسكان التي كانت تفتقر إلى الأموال اللازمة للمضي قدمًا. وفي الوقت نفسه، لم تفلح وزارة الدفاع في التزاماتها الأصغر. فكانت قد التزمت ببناء 150 ألف وحدة سكنية اجتماعية بتمويل حكومي،185 ولكن لم تكن قد استكملت سوى 7500 وحدة وبدأت العمل على 50 ألف وحدة أخرى (بتمويل إماراتي منفصل) بحلول بداية عام 2015،، ولم يتم تسليم أي منها إلى المستفيدين المقصودين.186

من الواضح أن وزارة الدفاع كانت ستعجز عن تسليم 200 ألف وحدة في العام كمتوسط من أجل تحقيق أهداف مشروع أرابْتك لو كانت قد باشرت بالتنفيذ، أو على البقاء في حدود الميزانية لو أنها فعلت. لكن العوامل السياسية، وليس الأداء، هي التي حددت منح العقود الرئيسة إلى الهيئات العسكرية. فالقوات المسلحة هي العمود الأساسي للنظام الجديد الذي تَشكّل بعد تموز/يوليو 2013، واعتمد عليها السيسي أكثر من أي هيئة أخرى في الدولة أو أي عنصر من ائتلافه الحاكم من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية الضرورية وتعزيز مبادراته السياساتية في مجالات أخرى.

إن العوامل السیاسیة، ولیس الأداء، ھي التي حددت منح العقود الرئیسة إلى الھیئات العسكریة، وھي العمود الأساسي للنظام الجديد.. واعتمد علیھا السیسي من أجل تحقیق الأھداف الاقتصادیة الضروریة وتعزیز مبادراتھا السیاساتیة في مجالات أخرى.

وقد منحت الحكومة المؤقتة لرئيس الوزراء آنذاك حازم الببْلاوي، تجسيداً لهذا الهدف الشامل عقود بالأمر المباشر إلى وزارة الدفاع قيمتها أكثر من سبعة مليارات جنيه مصري (مليار دولار) بحلول تشرين الثاني/نوفمبر. كما أدارت الوزارة المشاريع لصالح جهات غير حكومية. فصرح اتحاد البنوك المصرية أن أعضاءه قد أنفقوا ما يقارب مليار جنيه على تطوير العشوائيات بين عامي 2011 و2014، وخصصوا 300 مليون جنيه إضافي في عام 2014 للمشاريع التي ستتولاها الهيئة الهندسية في القوات المسلحة بإشراف رجل الأعمال حسين صبور (وهو كان قد أشرف على التمويل العسكري الخارجي الأميركي لمصر في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي)187. كما أدارت القوات المسلحة مشاريع تموّلها وكالات المعونة الأجنبية (ولوّ جزئيًّا)، ما يكرر النمط الذي تم تأسيسه في الثمانينيات. على سبيل المثال، مدّد البنك الدولي قرضًا لمصر بقيمة 500 مليون دولار لمشاريع الإسكان الاجتماعي في عام 2015.188

تلت ذلك عقود أخرى في تعاقب سريع. ووفقًا لأحد المصادر، فقد شملت العقود بحلول نهاية عام 2014 أكثر من 4,7 مليارات جنيه مصري (660 مليون دولار) لصيانة الطرق والجسور و3,2 مليارات جنيه للتنمية والإسكان في سيناء، ومليارين لتجديد الأحياء الفقيرة، وحوالي 960 مليون جنيه لمشاريع بناء متنوعة بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجسور وإشارات المرور والمخابز والمراكز الإدارية، أي ما يقارب مجموعه 11 مليار جنيه (1,53 مليار دولار).189 وكان هذا إلى جانب مشاريع الطرق السريعة القومية وطرق المدن الجديدة، وقد جرى منحها مرة أخرى من خلال الأمر المباشر، بقيمة إجمالية بلغت 14,76 مليار جنيه (أكثر بقليل من ملياري دولار عندها)، ما يجعل القيمة التراكمية لجميع عقود الأشغال العامة الممنوحة إلى وزارة الدفاع منذ تموز/يوليو 2013 حتى تاريخه 25,7 مليار جنيه.190

هذا وعززت التعديلات على القانون رقم 89 لسنة 1998 بشأن العروض والمناقصات التي أصدرها الرئيس المؤقت عدلي منصور في حزيران/يونيو 2014، الاتجاه العام من خلال رفع العتبة أمام الهيئات الحكومية حين تمنح عقودًا دون مناقصات مفتوحة، ما يمنع الطعون القانونية من قبل طرف ثالث بالعقود العامة. وكان يعني ذلك بالتالي التحرير الفعلي لوزارة الدفاع، ووزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع وهيئاتها وإداراتها وفروعها، من التقيُّد أي عتبات مسبقة.

قناة السويس: أفق اقتصادي جديد

حوّل تعديل القانون 89 وزارة الدفاع إلى وسيط اقتصادي رئيس بصفتها الخاصة. وقد ظهر ذلك على الفور عندما أعلن السيسي عن خطة لتوسيع قناة السويس في آب/أغسطس. سيتم مناقشة التوسع في الفصل السادس، لكن منطقة القناة كانت فعلياً إقطاعًا صرفًا لوزارة الدفاع التي اتخذت الأمن القومي ذريعة دائمة لتأكيد القول الفصل في أي نشاط مدني يتم القيام به ضمن ممر واسع على جانبي القناة. لقد ترأس ألوية سلاح البحرية المتقاعدون على مدار عقود من الزمن هيئة قناة السويس وسيطروا على هيئاتها الفرعية وشركاتها، وعلى غالبية المرافئ الثلاثة والأربعين على طول الساحل المصري البالغ 2420 كيلومترا (1512 ميلًا).191 إلى ذلك، فإن مرافق خدمة ودعم النقل البحري العابر تُوفّر عقودًا آمنة للهيئات التي تملكها وزارة الدفاع مثل ترسانة الإسكندرية، وكذلك العديد من الشركات خاصة ذات الإرتباطات العسكرية. وأخيرًا وليس آخرًا، يُعتقد أن وزارة الدفاع تفرض نسبة مئوية خارج الكشوفات المالية من دخل القناة من رسوم الشحن الدولية التي بلغ متوسطها ما بين 400 و500 مليون دولار شهريًّا في الفترة 2014-2019.192

لهذا السبب، اعترضت وزارة الدفاع بشدة عندما أعلن الرئيس مرسي إطلاق مشروع تطوير محور قناة السويس في آذار/مارس 2013، بناءً على مقترحات قائمة منذ زمن بعيد لتطوير المنطقة وجذب الاستثمارات الأجنبية. إن حقيقة أنه لم يستشر الوزارة مسبقًا، إلى جانب السرعة التي استهل بها اتفاقيات مع الهند للاستثمار في الممر والقطاعات الأخرى، أقلق القيادة العسكرية.193 وقد أدت خطته لتوسيع منطقة تطوير القناة البالغ طولها 193 كيلومترًا لتشمل خليج السويس إلى توجيه اتهامات له بأنه كان ينوي إنشاء "إقليم مستقلّ للسويس" يرتبط بسيناء وينفصل عن مصر في نهاية المطاف.194 كان هذا مجرد تلفيق، لكن إنشاء مرسي لهيئة جديدة مرتبطة بالرئاسة للإشراف على المشروع برمته هدّد بتهميش هيئة قناة السويس وتحدّى سلطة وزارة الدفاع الفاعلة في منطقة القناة.

كان أول رد من وزارة الدفاع هو التحذير علنًا ​​من أنها لن تسمح للمشروع بالمضي قدمًا من دون مراجعته وموافقتها عليه، كما لن تسمح باستخدام الأراضي المخصصة للأغراض العسكرية. وأكدت أنه يمكن "الانتفاع" من الأراضي الأخرى في المنطقة، وليس بيعها، شريطة أن لا يؤثر ذلك على الأمن القومي، وأن أي عقود يتم التوصل إليها مع شركات أجنبية يجب أن تخضع حصرًا للقانون المصري وليس القانون الدولي.195 ظاهريًّا، كانت وزارة الدفاع تتمسك فحسب بالمراسيم الرئاسية لعاميْ 1981 و2001 بشأن الأراضي الصحراوية والمناطق الاستراتيجية، وتتصرف "لضمان عدم الإضرار بالأمن القومي للدولة".196 ولكن، كما أشارت عالمة السياسة شانا مارشال، كانت وزارة الدفاع تطمح إلى تحويل منطقة القناة إلى "مجمّع رئيس لوجستي ومركز للتصنيع الثقيل" تابع لها، والتعاقد مع شركات عسكرية لبناء وتجهيز مشاريع صناعية وتوليد الطاقة وتوفير خدمات للشحن.197

تحرّكت وزارة الدفاع بسرعة لحماية مصالحها. وأعادت تأكيد سلطتها في تحديد الأطر السياساتية والتنظيمية في منطقة القناة، ثم اقترحت مسودة لوائح تنفيذية لإنشاء هيئة جديدة لتنمية قناة السويس.198 فحصرت اللّوائح المقترحة هذه التنمية المسموح بها في المناطق التي كانت تنفذ فيها أصلًا مشاريع قائمة، واشترطت أن تكون 55 في المئة من الملكية مصرية في المشاريع المشتركة العاملة في المنطقة، وأخضعت المشاريع الجديدة لموافقة مجلس الوزراء. وقد مكّنت المادة الأخيرة وزارة الدفاع فعليًّا من نقض أي شيء يهدد ما تعتبره ضمن المصلحة القومية وبالتالي مصلحتها الخاصة.199 كما ألغت وزارة الدفاع صلاحية الرئيس في تحديد استخدام أراضي الدولة في نطاق صلاحية الهيئة المقترحة، في الوقت الذي حرمت فيه صراحة سيطرة الهيئة على "الأراضي في المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية العسكرية والأراضي المخصصة لوزارة الدفاع أو التي تملكها الوزارة وهيئاتها". ضي الدولة (الذي يرأسه بموجب القانون شخص ترشحه وزارة الدفاع، وبالتالي فهو لواء كذلك) إلى مجلس إدارة الهيئة المقترحةلتالي فهو لواء كذلك) إلى مجلس إدارة الهيئة المقترحة.200

ويبدو أن تراجع إدارة مرسي جزئياً حلَّ الخلاف، وفي منتصف أيار/مايو 2013 أعلن أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن خطة التنمية المنقحة تلبي احتياجات الأمن القومي.201 إلا أن القوات المسلحة كانت قد توصلت أصلًا في مارس/آذار إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكن التعايش مع جماعة الإخوان المسلمين، ما يوحي بأن الخلاف حول ممر تنمية قناة السويس كان القشة الأخيرة.202 فأطاحت بمرسي في 3 تموز/يوليو، وجرى انتخاب السيسي رئيسًا في أيار/مايو 2014. وفي 5 آب/أغسطس، كَلّف السيسي وزارة الدفاع بإدارة مشروع توسيع قناة السويس.

وزارة الدفاع: قلب الاقتصاد العسكري

من الواضح أن الهيئات العملياتية في القوات المسلحة بالإضافة إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية هي الأهم من حيث الحجم والنطاق الاقتصاديين، لكن هيئات وزارة الدفاع الأخرى تخدم أيضًا دورًا إضافيًّا في توليد الدخل، حتى لو كان دورًا ثانويًّا. ويدور معظم نشاطاتها حول شراء الاحتياجات العسكرية، من الغذاء والعتاد إلى الأسلحة وغيرها من المعدات القتالية، وهي المنطقة التي حددها مؤشر الحكومة لمكافحة الفساد التابع لمؤسسة الشفافية الدولية على أنها معرضة "بشكل حرج" لمخاطر الاحتيال المالي.203 وتمتلك وزارة الدفاع أيضًا عددًا قليلًا من الشركات التي سعت، بطريقة غير متسقة إلى حد ما، إلى الترويج لهاتجاريًّا، بالإضافة إلى أسهم في عدد من الشركات المدنية. إلى ذلك، تكشف هيئات الوزارة وشركاتها عن الدور المتصل لشبكات الضباط غير الرسمية المبطَّنة في هذه الهيئات وفي العديد من نظيراتها المدنية في القطاع العام، والتي يجري من خلالها تبادل المعلومات الداخلية وضمان الأرباح الخاصة.

الهيئات الخدمية

كان الرئيس السادات قد أشار إلى الوظيفة الاقتصادية لهيئات وزارة الدفاع من خلال إنشاء المؤسسة العامة الاقتصادية للقوات المسلحة في عام 1977.204 إلا أنها لم تنشط حتّى نيسان/أبريل 1981 عندما تم نقل القوى العاملة فيها وأصولها إلى جهاز الخدمات العامة الذي كان قد جرى إنشاؤه حديثًا كشركة، وكانت لديه مهمة تقديم "جميع الخدمات الاقتصادية بأسعار مناسبة لوحدات القوات المسلحة المصرية والموظفين وعائلاتهم".205 في وقت ما، في تسعينيات القرن الماضي، جرى اعتبار جهاز الخدمات العامة "هيئة عامة اقتصادية" وفقًا للقانون 11 لعام 1979، ما جعل ميزانيته مستقلة عن كل من ميزانية الدولة العامة وميزانية الدفاع، ولكن الأهم أن هذا سمح للجهاز بتغطية عجزه مباشرة من خزانة الدولة وتلقي تحويلات إضافية منها أيضًا.206

يساعد الجهاز في الحفاظ على تأييد أفراد القوات المسلحة ودائرتهم الاجتماعية الواسعة لنظام الحكم. وقامت التعاونيات الاستهلاكية العسكرية تحت تسمية "صَن" التي تضم حاليًّا عشرين مركزًا تجاريًّا (مول) و17 محل سوبر ماركت، وستة فروع في أنحاء البلاد اعتبارا من 2019(علمًا أن القوات المسلحة تدير 55 منفذًا إضافيًّا).207 ويمكن لجميع الضباط وضباط الصف والجنود المتطوعين والمجندين بالخدمة الفعلية، أو الضباط الفخريين والاحتياطيين والمتقاعدين، والعاملين المدنيين وأسرهم الاستفادة من الجهاز ومن استخدام قسائم الحسم لشراء سلع منتَجَة محليًّا ومستوردة، علما أنّ السلع المستوردة مدعومة أصلًا بفضل إعفائها من الرسوم الجمركية.208وقد تخطت موازنة الجهاز، وكان قدرها 45 مليون جنيه في عام 1982، مبلغ 500 مليون جنيه في 2010-2011.209 وفي ضوء أهمية الجهاز السياسية، جرت زيادة موازنته بحوالي 50 في المئة عقب الانقلاب العسكري في تموز/يوليو 2013، فارتفع من مبلغ 679 مليون جنيه (98 مليون دولار) في موازنة السنة المالية 2013-2014 التي كان قد وافق عليها مرسي قبل إقصائه إلى مليار جنيه في السنة المالية 2014-2015.210 ومع انخفاض قيمة الجنيه المصري خلال العامين اللذيْن تليا، تضخمت الموازنة لتصل إلى ملياري جنيه في السنة المالية 2016-2017.211

تشارك هيئة الإمداد والتموين أيضًا في شراء وتوزيع السلع الأساسية، ولاسيما الأغذية، وذلك غالبًا لصالح القوات المسلحة ولكن أيضًا للأسواق المدنية. والهيئة تلبي احتياجات القوات المسلحة من غذاء وخبز، ونقل ووقود، وزي رسمي وعدد شخصية (مهام)، ومطبوعات، وخدمات طبية بيطرية، وخدمات مكافحة الحرائق والإنقاذ.212 إن تمييز الأدوار غير واضح بين هذه الهيئة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، حيث إن مسؤولي وزارة الدفاع وقادة القوات المسلحة عادةً ما يمنحون الفضل للاثنيْن عن نفس النشاطات. وتشمل هذه النشاطات الإنتاج الغذائي والتوضيب، فضلًا عن تشغيل المخابز العسكرية.213 وقد استوردت هيئة الإمداد والتموين وجهاز الخدمات العامة سلعًا غذائية أساسية، مثل اللحوم والدواجن والسكر والأرز عندما تسبب المضاربة على أيدي التجار المدنيين وزيادات الأسعار بنقص في الأسواق المحلية.

تشارك ھیئة الإمداد والتموین التابعة لوزارة الدفاع في شراء وتوزیع السلع الأساسیة، ولاسیما الأغذیة، وذلك غالبًا لصالح القوات المسلحة ولكن أیضًا للأسواق المدنیة.

كما توسعت هيئة الإمداد والتموين، في أنشطة خاصة بها تدرّ الدخل. فجرى توسيع إدارة المطبوعات التابعة لها من أجل إطلاق عمليات تجارية في عام 2001 أو قبل ذلك. وفي أوائل عام 2016، تنافست الإدارة بشكل مباشر مع الشركات المحلية الصغيرة عن طريق فتح مطبعة حديثة كبيرة في الإسماعيلية.214 وربما كانت الهيئة تولد دخلًا أكثر ربحية من شراء وبيع الأغذية والمعدات والخدمات مثل التخليص الإداري والنقل. وقد تكون هي أيضًا هيئة وزارة الدفاع المسؤولة عن بيع الوجبات والاحتياجات الأخرى لأفراد القوات المسلحة في المقاصف في القواعد العسكرية أو من المنافذ المتنقلة التي تخدم المجندين الذين يعملون في المزارع العسكرية وغيرها من المواقع، وفي أحيان أقل، عمال المقاولين المدنيين المستخدَمين في مشاريع الأشغال العامة التي تشرف عليها القوات المسلحة.215

ولكن الأبرز في المجال العام يتمثل في إدارة الخدمات الطبية التي تدير حاليًّا مستشفيات عسكرية في 20 محافظة، و10 عيادات للسرطان في أنحاء البلاد، وعيادات متنقلة في المنطقة الحدودية الجنوبية مع السودان. وتدّعي أنها تعالج المواطنين بنصف أسعار المستشفيات الخاصة. وفي عام 2014-2015، تفاخرت بأنها قدمت الرعاية الطبية برسوم مخفضة إلى 400 ألف شخص، وإلى 40 ألف من سكان سيناء مجانًا.216 وبالنظر إلى أن السياحة الطبية إلى مصر لم يتم الترويج لها بفعالية، فقد يكون الغرض الرئيس هو الحفاظ على تأييد المجتمع وتغطية تكاليف دائرة الخدمات الطبية أكثر منه توليد عوائد مالية كبيرة.217

كذلك، تعاظم دور قطاع التعدين التابع لوزارة الدفاع في السنوات الأخيرة. فكما في هيئة الإمداد والتموين، يتداخل قطاع التعدين بشكل كبير مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الذي أنشأ شركة تعدين خاصة به عندما تم تأسيسه في عام 1979. يبدو أن نشاط وزارة الدفاع في هذا القطاع (ومعظمه في الرخام والغرانيت) قد جرى تضمينه في إطار جهاز مشروعات الخدمة الوطنية حتى حزيران/يونيو 2015، حين أُعلن أن إنتاجه بلغ 1,44 مليون طن. إلا أن قانون التعدين والمحاجر المعدل رقم 198 ﻟﻌﺎم 2014 غيّر الأمور. ﻓﺎﻟﻤﺎدة 8 من اللوائح التنفيذية التي جرت اﻟﻤواﻓﻘﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﻨﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ نصّت ﻋﻠﻰ أﻧﻪ ﻻ يمكن إﺻدار تراخيص لاستخراج الثروات المعدنية في أي مكان في مصر، سواء ﻋﻠﻰ أراضٍ ﺧﺎﺻﺔ أو على أراض تملكها الدولة، دون موافقة وزارة الدفاع. إلى ذلك، فالمادة 13 منحت الوزارة الحق الحصري في عائدات استخراج وتجهيز المواد الخام من المناجم والمحاجر الواقعة في الأراضي العسكرية.218 ومن المحتمل أن يشمل ذلك أي منطقة تم تعيينها كمنطقة عسكرية، ويفاد أن ذلك يشمل أراضي الدولة التي استرجعتها القوات المسلحة من تعديات المدنيين.219 إلى ذلك، ينضم قطاع التعدين في وزارة الدفاع إلى السلطات المدنية المعنية في الفصل في الالتماسات القانونية التي يقدمها السكان المحليون المطالبون بحقوقهم من الأرض والمعادن، ومن أجل حل الشكاوى البيئية.220 ومن خلال ربط صلاحية وزارة الدفاع بالنشاط بدلًا من قصرها على مناطق جغرافية مخصصة للاستخدام العسكري أو معتبرة استراتيجية، فإن القانون المعدل يمنحها سلطة على قطاع التعدين في كل أنحاء البلاد.

وفي خطوة ذات صلة، حدّد السيسي قطاعًا في الشلاتين، على الحدود الجنوبية الشرقية مع السودان، كمنطقة عسكرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2014.221 وما يتسم بالأهمية هنا أنّ اللّوائح المرفقة بالقرار قيّدت بشدة حق الإقامة المدنية على السكان المحليين، وحظرت أي إسكان مدني جديد في هذه المناطق أو غيرها من محافظات البحر الأحمر وأسوان والوادي الجديد ومرسى مطروح التي يكون فيها مصالح اقتصادية عسكرية.222 مع ذلك، طرحت الحكومة 1,5 مليون فدان للبيع للمقاولين والمستثمرين حول العديد من الواحات الجنوبية ومشروعات استصلاح الأراضي في مغارة، والفرافرة، وغرب المنيا، وتوشكى (وآخرها جزء من الأراضي النوبية)، وذلك في تشرين الأول /أكتوبر 2016.223

ومنذ صدور القانون المعدل رقم 198 لسنة 2014، انضمت شركة الوادي الجديد للموارد المعدنية والطفلة الزيتية (واديكو)، التي يُعتقد أن وزارة الدفاع لها حصة فيها، إلى إئتلاف (كونسورتيوم) تجاري يقوم بتصدير المعادن من منطقة الشلاتين في جنوب مصر.224 وبالتوازي مع ذلك، فإن نقاط التفتيش التابعة للقوات المسلحة، التي كانت أصلًا تجبي رسوم استخدام يومية ثابتة مباشرةً على المركبات التي تخرج من المحاجر، عمدت إلى اعتماد تعرفة جديدة للرسوم تستند إلى وزن الشاحنات المحملة وعدد الرحلات، ما زاد الرسوم ثلاثة أضعاف، وزاد دخل وزارة الدفاع إلى حد كبير.225

ومن الأمور التي قد تكون حتى أهم من ذلك، الغزوة الجديدة لوزارة الدفاع في التنقيب عن الذهب والذي يمثل حاليًّا 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المصري.226 لوزارة الدفاع حصة مباشرة من خلال جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الذي حصل في عام 2016 على 34 في المئة من شركة الشلاتين للثروة المعدنية. كانت الشركة تشرف في ذلك الوقت على ثلاث شركات خاصة في مجال التنقيب عن الذهب، غير 13 شركة أخرى كان من المقرر أن تبدأ عملها في عام 2017، فضلًا عن شراء الذهب من المنقّبين المحليين بنسبة 20 في المئة من سعر السوق.227 وكانت لوزارة الدفاع أيضًا حصة غير مباشرة في هذا القطاع، فقد ترأس شركة الشلاتين اللواء المتقاعد محمد جاب الله طلْخان في حين كان محافظ البحر الأحمر، اللواء أحمد عبد الله، ومدير مكتب الاستثمارات في المحافظة اللواء صلاح الجمل، منخرطيْن أيضًا في إطلاق ما وُصف بأنه أول "مدينة مصرية دولية للذهب والتعدين" في مرسى علم في تموز/ يوليو 2016.228

شركات وزارة الدفاع واستثماراتها

يعد جهاز الصناعات والخدمات البحرية أحدث إضافة إلى ملف وزارة الدفاع الاقتصادي، وقد جرى إنشاؤه في عام 2003. ومع أنه هيئة عسكرية، فقد حاز بالإطار القانوني نفسه تقريبًا لشركة قابضة تابعة للقطاع العام في كافة الأمور ما عدا التسمية الرسمية: فجرى تخويله تشكيل المشاريع المشتركة مع الشركات المحلية والأجنبية، والاحتفاظ بنسبة مئوية من أرباح الشركات التابعة له مقابل الإشراف والإدارة، والحصول على قروض مقابل هذه الأصول أو حصتها في المشاريع المشتركة.229 وجرى تأمين رأس ماله الأولي عن طريق تحويل أصول الشركة المصرية لبناء وإصلاح السفن إليه.

يكشف مسار جهاز الصناعات والخدمات البحرية الادعاءات الاقتصادية والافتراضات التجارية المشكوك فيها التي يستند إليها القطاع. ويتّضح هذا الأمر بشكل ظاهر في ترسانة الإسكندرية، وهي شركة مملوكة للدولة جرى نقلها إلى ملكية الجهاز فور إنشائه.230 وقد أُعفيت الترسانة من تطبيق تشريعات الصحة والسلامة الصادرة في نفس العام (إلى جانب إعفاء 15 منشأة تابعة لوزارة الإنتاج الحربي).231 وكما أشارت شانا مارشال، قدمت الترسانة وسيلة لتأمين نقل التكنولوجيا، وبناء المرافق الجديدة، واستيراد المعدات الأساسية، وتدريب العاملين.232 في عام 2011، أعاد سلاح البحرية التفاوض على عقد بقيمة 13 مليون دولار لبناء أربعة زوارق دورية في الترسانة بدلًا من شرائها مباشرة من شركة "سويفت شيبس" الأميركية؛ وقد رفعت المشاركة المصرية في التجميع والإنتاج التكلفة إلى 20 مليون دولار. وبعد ثلاث سنوات، فازت ترسانة الإسكندرية باتفاق إنتاج مشترك مشابه لتجميع ثلاث فرقاطات فرنسية من طراز غوويند.233

ولعلّ توقّع وزارة الدفاع بتحقيق مكاسب تجارية حفزَّها أيضًا على الاستحواذ على الترسانة، التي تكبدت خسائر سنوية تبلغ نحو 50 مليون جنيه مصري (15 مليون دولار) حتى عام 1997، ولكن كان من المتوقع أن تبلغ قيمتها نحو خمسة مليارات جنيه بعد تحديثها من أجل إعدادها للخصخصة. وتأمّل المسؤولون في أن يجعلوا الترسانة وجهة السفن الـستة عشر ألفا التي تمر عبر قناة السويس كل عام والتي تحتاج إلى تصليح أو صيانة.234 وبعد عقد من الزمن، قدم قائد سلاح البحرية اللواء بحري أسامة الجندي صورة وردية لرؤية وزارة الدفاع من خلال الدعوة إلى توحيد فكر "القطاع العسكري والمدني، بالتعاون مع غرفة الملاحة... وملاك السفن والتوكيلات الملاحية، للارتقاء بهذه الصناعة لما لها من أثر قوي لدعم الاقتصاد المصري لدعم التجارة على مستوى العالم".235

بالطبع، كانت هنالك انتهازية تجارية في دخول وزارة الدفاع إلى القطاع البحري. كما لاحظ عالِما السياسة جوشوا ستاخر وشانا مارشال، فإن إصدار الحكومة المصرية لخطة إجمالية للفترة 2001-2017 لتحرير القطاع اقتصادياً ولّد "تدافعًا استثمارياً" ترك أكبر الشركات البحرية في العالم تمتلك غالبية الأسهم في شركات النقل البحري المصرية، حيث احتفظت وزارة الدفاع بالأقلية.236 في غضون ذلك، توسع جهاز الصناعات والخدمات البحرية: استمرت الشركة المصرية لبناء وإصلاح السفن في العمل ككيان مستقل، ولكن جرى إنشاء شركة تريومف للملاحة في عام 2009 ثم جرى الاستحواذ على شركة النيل العامة للنقل النهري من القطاع العام في العام التالي.237

لكن لم يتحقق أي من هذه الطموحات التجارية، على الرغم من التفاخر بأن "الترسانة حققت الربحية للمرة الأولى في تاريخها" عندما ترأسها اللواء بحري حسين أحمد سنارة ما بين عامي 2000 و2007.238 ظلت الإنتاجية منخفضة إلى حد بعيد. ووفقًا للخط الزمني على موقعها على الإنترنت، فإن ترسانة الإسكندرية قامت ببناء ما مجموعه 20 سفينة بسعة إجمالية قدرها 188840 طنًّا بين عامي 1972 و2010 (بالإضافة إلى 40 صهريجًا أصغر لنقل النفط والمياه، وقاطرة، وصندل نهري)، مع أنها ادعت أيضًا أنها شيدت أكثر من 35 سفينة تجارية (للبضائع).239 وزعمت مصادر أخرى أن الإنتاج قد وصل إلى 300 ألف طن في أواخر عام 2017، ولكن حتى هذه النتائج كادت أن تزيد عن وزن ناقلة نفط عملاقة واحدة في عرض البحار. إلى ذلك، استلزمت ترسانة الإسكندرية، إلى جانب نظيرتها الأصغر في بورسعيد، ما يقارب ضعفين، وخمسة أضعاف، وثمانية أضعاف ونصف، و11 ضعفًا من ساعات العمل لإنتاج كل طن من سفن الشحن مقارنة لنظيراتها في الصين، وكوريا الجنوبية، وإسبانيا، واليابان، على التوالي.240 وما يكشف عن شحّ العمل أنَّ الترسانة قامت بتصنيع خزانات الصلب لمصنع معالجة الشمندر السكري المحلي.241

ويبدو أن أداء الترسانة كان ضعيفًا حتى في ما يتعلق بإنتاجها الحربي. وفي عام 2016، وفي مواجهة العقوبات التي تلوح في الأفق لعدم وفائها بجدول تسليمها السفن الحربية من طراز "غوويند"، لجأت وزارة الدفاع إلى طلاب الكليات الثانوية العسكرية عندما أضرب عمال ترسانة الإسكندرية. وبعد ذلك بعامين، دخلت مجموعة نافال الفرنسية (نافال غروب)، التي كانت قد صممت فرقاطة "غوويند"، في محادثات لبناء المزيد من السفن في الإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية، ما يشير إلى أن الترسانة لم تكن مدمجة في سلسلة إنتاجها.242 وفي كانون الأول/ ديسمبر 2019، افتتحت مجموعة نافال فرعًا لها في مصر، هو الإسكندرية البحرية للصيانة والصناعة، من أجل صيانة سفن غوويند العاملة في خدمة سلاح البحرية المصرية، علمًا أن تلك مهمة كان ينبغي أن تكون ترسانة الإسكندرية قادرة على القيام بها.243 وربما دفعت هذه الصعوبات بجهاز الصناعات والخدمات البحرية في وزارة الدفاع إلى تكليف مركز التحديث الصناعي، وهو منظمة شبه حكومية بتمويل مشترك من الحكومة والاتحاد الأوروبي لتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بتحسين قدرات الترسانة وتحديثها.244

كانت الترسانة بعيدة كل البعد عن كونها "واحدة من أكبر قلاع الصناعات الثقيلة وقائدة صناعة السفن وإصلاحها في مصر والشرق الأوسط"، كما كانت تتباهى.245 بالفعل وبالنظر إلى الأداء الضعيف المزمن لهذه الشركات البحرية، فمن الممكن أن تكون وزارة الدفاع حصلت عليها كوسيلة لشطب الخسائر المالية من دفاترها، بقدر ما كان للحفاظ على القدرة الصناعية وقدرة دعم سلاح البحرية. وقد سمح شراء شركات القطاع العام لوزارة الدفاع أن تستحوذ على إيراداتها، مع ترحيل خسائرها إلى خزينة الدولة، وهي حيلة طورها في الأصل رجل الأعمال من القطاع العام والمحسوب على الرئاسة، عثمان أحمد عثمان، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.246

وزارة الدفاع كمحور لشبكات الضباط

يحجب غموض حسابات وزارة الدفاع المالية أمرين: النطاق الكامل لشبكات الضباط التي تمتد عبر هيئات وزارة الدفاع وغيرها من الهيئات الحكومية والشركات المدنية (لاسيما العامة منها، ولكن الخاصة أيضًا)، وحجم الدخل غير المشروع الذي تستمده تلك الشبكات بفضل موقعها البيروقراطي ونفوذها المتميز. يتجلى ذلك بشكل أوضح في ما يتعلق بترخيص استخدام أو إعادة تصنيف أراضي الدولة، فالمعروف أن الضباط الفاسدين يطلبون رشاوى كبيرة من شركات القطاع العام والوزارات الحكومية (مثل الإسكان)، كما من الشركات الخاصة، مقابل إصدار الموافقة. إنَّ المبلغ الذي كسبته وزارة الدفاع من الرسوم الرسمية غير معروف، لكن التقرير المشترك الذي نشرته هيئة الرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات في عام 2015 قدّر التكلفة التراكمية لأعمال الفساد والتعدي، وسوء الإدارة أو التقليل من قيمة أراضي الدولة، التي أسهم فيها ضباط القوات المسلحة، بحوالي 440 مليار جنيه مصري.247

المشتريات هي المصدر الرئيس الآخر من الدخل غير المشروع داخل المؤسسة العسكرية، فهي تغطي مجموعة واسعة جدًّا من المجالات والأنشطة. وهي أيضًا ملتقى رئيس يربط بين الهيئات المرتبطة بوزارة الدفاع والموردين وشبكات الضباط. على سبيل المثال، كان الرؤساء المتعاقبون على جهاز الخدمات العامة أعضاء منتدبين في مجلس إدارة شركة النصر للاستيراد والتصدير التي تملكها الدولة. وشركة النصر التي أُنشئت في الأصل من قبل جهاز المخابرات العامة كواجهة لمواجهة نشاط الاستخبارات الإسرائيلية في أفريقيا، أصبحت شركة تجارية رئيسة بحد ذاتها في ستينيات القرن الماضي، ولكنها أغلقت بعد ذلك معظم فروعها الأجنبية في العقود التي تلت معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979.248 ليس من الواضح متى عاد اهتمام وزارة الدفاع بشركة النصر، لكنها الآن تتاجر بالعديد من السلع التي إما تتطلبها القوات المسلحة أو تنتجها الصناعة الحربية وتباع أيضًا في الأسواق المدنية، المحلية والتصديرية على حد سواء.

تكشف شركة النصر الكثير عن تداخل الكيانات والشبكات المرتبطة بالعسكر. وتعتبر إحدى شركات الوساطة التجارية التابعة لها، وهي شركة الدلتا للسكر، مساهِمة رئيسة في الشركة المتحدة لمواد التعبئة والتغليف التي حصلت عليها وزارة الدفاع في عام 1995، وهي توظف المجندين في قواها العاملة.249 علاوة على ذلك، تعد شركة النصر واحدة من 14 شركة فرعية تابعة للشركة القابضة للنقل البحري والبري ضمن القطاع العام، ويرأس هذه الشركات ضباط سابقون في القوات المسلحة. وكذلك يرأس الشركة القابضة نفسها اللواء بحري محمد أحمد إبراهيم يوسف.250 وما لا يقل أهمية هو أن ضابطين متقاعدين قد ترأسّا مجلس إدارة شركة النصر في العقد الماضي؛ وذلك بعد أن تولّيا مناصب رفيعة أيضًا في السابق في هيئة الرقابة الإدارية، وهي أقوى هيئة تدقيق في مصر.251

إن إعادة تدوير ضباط القوات المسلحة (المتقاعدين بشكل خاص، ولكن ليس حصرًا) عبر العديد من المواقع المدنية أمر شائع (وستتم مناقشة ذلك في الفصل 4). كان اللواء أيمن سالم من أعضاء مجلس إدارة شركة النصر في عام 2016، وهو كان قضى السنوات الخمس عشرة السابقة رئيسًا للشركة المصرية لتجارة التجزئة، التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية، وقد فشلت في تحقيق أرباح حتى سنة 2014-2015.252 وقد جرى استبدال سالم في شباط/فبراير 2016، جنبًا إلى جنب مع رؤساء 27 شركة فرعية أخرى تابعة للشركة القابضة، وذلك "لفشلهم في الحد من الخسائر"، ولكن سالم أصبح على الفور رئيس شركة "عمر أفندي" الشهيرة العاملة بمبيعات التجزئة، فضلًا عن الانضمام إلى شركة النصر.253 وعندما شكّل وزيرُ التجارة والصناعة المجلسَ الأعلى للوجستيات والشحن لتسهيل التجارة من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص في كانون الأول/ديسمبر 2017، فقد عيّن خمسة ضباط سابقين من القوات المسلحة، بمن في ذلك رئيس شركة النصر الجديد اللواء فتحي جبريل.254

إحدى تبعات لعبة "الكراسي الموسيقية" الفعلية لمتقاعدي القوات المسلحة هي التغطية على الأداء السيئ المتواصل. وقد افتخر تقريرٌ مشرقٌ عن أداء شركة النصر للتصدير والاستيراد في آذار/مارس 2015 أنها حققت "طفرة هائلة في حجم الأعمال تتجاوز مليار جنيه مصري"، لكن جبريل الذي تولى رئاسة الشركة في كانون الأول/ديسمبر 2016، اعترف بصراحة أن الشركة "ليست في أفضل حالاتها الآن".255 وأضاف أن الشركة كانت قد حققت أداء جيدًا في السابق عندما فازت بعقود القطاع العام "بموجب الأمر المباشر"، لكن "الآن المناقصات لنا وللقطاع الخاص على السواء وللأسف لا نملك المرونة التي يمتلكها القطاع الخاص في التصرف والتسعير، ولهذا فإن المنافسة غير عادلة".256

إحدى تبعات لعبة "الكراسي الموسیقیة" الفعلیة لمتقاعدي القوات المسلحة ھي التغطیة على الأداء السیئ المتواصل.

كأنها لم تأبه، أعلنت الشركة القابضة للنقل البحري والبري أن شركة النصر حققت نموًّا بنسبة 60 في المئة في السنة المالية 2016-2017 و68 في المئة في سنة 2017-2018، لكن هذه النتائج كانت صحيحة فقط عند قياسها بالجنيه المصري. إلا أن أيّ شركة تتعامل بالتجارة الخارجية تكون شديدة التعرض لأسعار صرف العملات، ما يعني أن صافي قيمة شركة النصر ظلّ ثابتًا في أحسن أحواله أو تراجع بعد خسارة الجنيه حوالي 50 في المئة من قيمته. وفي تأكيد ضمني لذلك، اعترف اللواء بحري يوسف في أيلول/سبتمبر 2017 أن شركة النصر سوف يعاد هيكلتها.257 بعد ذلك بسنتين، كان من المقرر أن تقوم شركة النصر، إلى جانب شركة مصر للاستيراد والتصدير التي يديرها أيضًا متقاعدو القوات المسلحة، بالاضطلاع بدور في خط شحن مخطط له يربط العين السخنة بميناء مومباسا في كينيا.258 لم تتم إعادة الهيكلة الموعودة لشركة النصر حتى الآن، لكن مشاركتها المزعومة أعادت تأكيد الترابط الوثيق بين المصالح العسكرية في مشاريع البنية التحتية، والتجارة الخارجية، والشركات المدنية والهيئات الحكومية التي يرأسها الضباط.

ما كشفته حالة شركة النصر أيضًا هو أن الشركات التابعة لوزارة الدفاع يمكنها أن تتطلع إلى الحصول على دخل من نشاط الشركات الأخرى في حين تنقل التكاليف والخسائر الخاصة بها أو تلك الخاصة بشركاتها الفرعية، التي تظل اسمياً مؤسسات مدنية مملوكة للدولة إلى ميزانية الدولة. ومن الأمثلة على ذلك الشركة المصرية للملاحة التي وصلت إلى الانهيار المالي في عام 2015 وتعين إنقاذها من قبل الشركة القابضة للنقل البحري والبري.259

لكن ممارسات الشراء الفاسدة تحدث أيضًا على نطاق واسع في أماكن أقرب بكثير. فليس من المستغرب أن تكون شبكات الضباط ناشطة بشكل خاص في شراء السلاح، ويُذكر أنّها تتمحور حول أفراد أساسيين مثل وزير الدفاع السابق طنطاوي، أو وزير الإنتاج الحربي العصّار، أو الشلل مثل خريجي الكلية الفنية العسكرية (وهم منتشرون في وزارة الإنتاج الحربي وهيئة التسليح في القوات المسلحة)، فضلًا عن كيانات مثل دائرة المخابرات والاستطلاع العسكرية، ومكتب المشتريات العسكرية في السفارة المصرية في العاصمة الأميركية واشنطن.260قد تتداخل الشبكات، لكنها تتنافس أيضًا. وتاريخيًّا، تتمتع الشبكات الأقرب إلى رئاسة الجمهورية بأفضلية واضحة، ولهذا يُعتقد أن قادة عديدين سابقين للحرس الجمهوري كانوا من تجار الأسلحة ذوي النفوذ. لكن صعود السيسي شجع الضباط في المخابرات الحربية التي ترأسها حتى عام 2012، ويُعتقد أن هؤلاء الضباط يتعدون على منافسيهم. إلى ذلك، برز جيل جديد من ضباط المشتريات في وزارة الدفاع منذ انقلاب عام 2013، ويقال إنهم "أكثر جشعًا" في الرشاوى التي يطلبونها من الوكلاء التجاريين الذين غالبًا ما يكونون هم أيضًا متقاعدين من القوات المسلحة، مقابل منح العقود.261

تنطبق الأنماط نفسها على جميع الجوانب الأخرى للمشتريات، مثل تلك المتعلقة بالأغذية والتي يقوم بها كل من جهاز الخدمات العامة وهيئة الإمداد والتموين. لكنها تمتد أيضًا إلى ضمان أنّ الشركات التي تتعامل مع الهيئات العسكرية تستخدم نفس الوكلاء ومكلفي الجمارك المفضلين الذين تستخدمهم وزارة الدفاع، إن لم تستخدم وزارة الدفاع نفسها نظرًا إلى إعفائها من التفتيش في موانئ الدخول؛ وتدفع إلى قسم النقل في هيئة الإمداد والتموين لنقل الآلات الثقيلة؛ وتوظف العمالة عبر وساطة هيئات الدولة التي لها علاقات عسكرية وثيقة، مثل شركة بتروجيت في حالة قطاع النفط والغاز.262

يؤدي إتساع هذه الممارسات حتمًا إلى استنتاج أنها تتم بالتواطؤ مع الإدارة المالية في وزارة الدفاع، وبالتالي بمعرفة كبار القادة والمسؤولين. في حالة تقدم نموذجًا اعتيادياً، يُطلب من مسؤولي المالية تجهيز فواتير الشحن والعمالة وتكاليف المواد لمعدات القوات المسلحة التي يُزعم أنها ستُرسل إلى الخارج للصيانة، لكنها لا تغادر البلد مطلقًا وتجري صيانتها من قبل مقاولين محليين أو لا تجري صيانتها على الإطلاق.263 قد يُلقي هذا مزيدًا من الضوء على سبب قيام وزارة الدفاع بتملك شركات أو شراء أسهم في شركات أخرى، لاسيما الأجنبية منها. ومن الأمثلة المبكرة على ذلك إقدام الهيئة الاقتصادية العامة، والتابعة لوزارة الدفاع التي لم تدم طويلاً، على الاستثمار في عام 1980 في الشركة الوطنية للأمن الغذائي، وهي واحدة من الشركات الكبرى التي تأسست بموجب القانون 43 لعام 1974 في شراكة مع القطاع الخاص المنبعث آنذاك.264 بحلول عام 2011، كانت لدى وزارة الدفاع "مجموعة استثنائية من الاستثمارات في شركات محلية وشراكات الأجنبية على نطاق واسع"، وفقًا للعالِمة السياسية شانا مارشال.265

أما كيفية ممارسة وزارة الدفاع ملكيتها بالضبط، فهو أمر غير واضح. وعلى عكس أسهم وزارة الإنتاج الحربي في شركة ثروة البترولية المسجلة بإسم الهيئة القومية للإنتاج الحربي، مثلًا، فإن هيئة الشؤون المالية في وزارة الدفاع لا تملك مباشرة أسهمًا في شركات الوزارة.266 والأهم من ذلك أن غرض الحصول على أسهم في كل من الشركات المدنية المحلية والأجنبية غير واضح أيضًا. وكما هو مذكور في الفصل 2، تقول شانا مارشال إن الغرض هو تأمين نقل التكنولوجيا، لكن الممارسة السابقة في شركات القطاع العام توحي بأغراض أخرى محتملة. فالاستثمار في الأسهم يمتص فوائض الميزانية التي يمكن إظهارها كنفقات في الحسابات السنوية ثم يجري شطبها كخسائر صافية تتحملها خزانة الدولة. كما أن إيداع الأموال في الخارج يبعد الرقابة المحتملة عنها من جهة، ومن جهة أخرى فإن إنشاء المشاريع المشتركة يتيح للهيئات العسكرية والشركات التابعة لها أن تستورد المعدات المستعملة بأسعار مضخمة، وثم الادعاء في حساباتها بأنها جديدة بدليل شهادات مزورة مقدمة من موظفي الجمارك الفاسدين.267

المساعدة الأميركية العسكرية: فرصة تجارية

من العناصر الحاسمة في اقتصاديات الدفاع في مصر حزمة التمويل العسكري الخارجي الأميركي السنوية التي تتلقاها مصر منذ عام 1978. ويقدر أن هذه المساهمة تغطي حوالي 80 في المئة من احتياجات القوات المسلحة للأنظمة القتالية الرئيسة، ما يمكّن وزارة الدفاع من إنفاق أموالها القابلة للتصرف على أولويات أخرى مثل الحصول على الأسهم في الشركات المدنية وتمويل التدخلات العسكرية في قطاعي الإسمنت والصلب أو غيرهما من الأسواق. لولا التمويل العسكري الخارجي الأميركي، فإن وزارة الدفاع كانت ستواجه صعوبات جمّة لتوفير الاحتياجات الدفاعية الحقيقية للقوات المسلحة. أما في الواقع، فقد تمكنت وزارة الدفاع من الحصول على دخل إضافي من تلك العلاقة، سواء من خلال الاستغلال التجاري لمعدات القوات المسلحة ومرافق وزارة الدفاع الممولة في إطار برنامج التمويل الأميركي، لأغراض مدنية بدلًا من أغراضها العسكرية الأصلية، أو من خلال مجالات أخرى للتعاون العسكري مع القوات الأميركية في المنطقة أو لخدمتها.

التمویل العسكري الخارجي الأمیركي یغطي حوالي 80 في المئة من احتیاجات القوات المسلحة ا للأنظمة القتالیة الرئیسة، ما یمكّن وزارة الدفاع من إنفاق أموالھا على أولویات أخرى مثل الحصول على أسھم في شركات مدنیة.

بالأهمية نفسها، يوفر التمويل الخارجي العسكري الأميركي أيضًا فرصًا تجارية مواتية بشكل خاص لضباط القوات المسلحة، أكانوا في الخدمة أم المتقاعدين، بفضل نفوذهم المتميز، وغالبًا الحصري للوصول إلى المعلومات والعقود المتعلقة بالدفاع. هذه الفرص مستمدة من عقود الشراء (للأسلحة وغيرها من المعدات أو العتاد)، وعقود الدعم والخدمات المرتبطة بتسليم التمويل الخارجي العسكري الأميركي، وغيرها من الخدمات والأنشطة لصالح القوات الأميركية أو بالشراكة معها. تعد مشاركة الضباط السابقين في العقود الدفاعية التجارية أمرًا شائعًا في جميع أنحاء العالم، إلا أن الأمر في حالة مصر يتخذ شكلًا أكثر وضوحًا في المتاجرة الداخلية والتربّح من المساعدات العسكرية الأميركية والروابط الدفاعية والتي هي في الواقع سوق أسير.

بقي برنامج المساعدات العسكرية ساري المفعول بمعدل 1,3 مليار دولار منذ العام 1987. علاوة على ذلك، أقر الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر في العام 1979 "آلية التدفق النقدي" لمصر، ما سمح لها بدفع ثمن المشتريات من المعدات العسكرية الأميركية بالتقسيط بدلًا من دفعة واحدة، وهي ميزة استمرت حتى عام 2018.268 وهذا مكّن مصر من تقديم طلبات بقيمة 3,5 مليارات دولار بدلًا من 1,3 مليار دولار في عام 1982، على سبيل المثال.269 كما قضى إجراء خاص منذ العام 2000 بصرف المنحة المالية دفعة واحدة، ما أتاح لمصر مراكمة المساعدات التي لم تُنفق والحصول على فوائد منها، يمكن بعدها صرفها على مشتريات إضافية.270 وهكذا تلقت مصر كمّا متراكمًا من التمويل العسكري الأميركي قدره 48 مليار دولار حتى العام 2017، هذا إلى جانب استلامها ما تصفه الولايات المتحدة بمسمى "المواد الدفاعية الفائضة"، أي التي لا تحتاجها القوات المسلحة الأميركية، وقيمتها مئات ملايين الدولارات سنويًّا.271 إلى ذلك، يسمح برنامج المساعدات العسكرية لمصر بتوفير مبالغ كبيرة من العملات الأجنبية، ما شكّل نحو8,5 في المئة من عائداتها في الفترة 1984-2000.272

وبالمقابل فإن ثبات مبلغ المساعدة العسكرية الأميركية السنوية أدّى مع مرور الزمن إلى خفض قيمتها الشرائية، ما يحد من فرص الانتفاع التي تولّدها. إنّ الأرقام الدقيقة ليست متوافرة: أشار تقرير لمكتب المحاسبة التابع للحكومة الأميركية عام 2006 الى أن حتى البنتاغون (وزارة الدفاع) لم يستطع أن يتتبع التزامات المعونة مقابل الإنفاق الفعلي المصري قبيل عام 1998. بيد أن الوكالات الأميركية قدّرت أن نحو ثلث المساعدات العسكرية لمصر مرصودة لشراء أسلحة ومعدات جديدة، والثلث الثاني للتحديث، والثلث المتبقي لمختلف عقود الدعم.273 يفسح الثلثان الأوّلان مجالًا للضباط كي يتلقوا العمولات، فيما يقدّم الثلث الأخير فرصًا تجارية إضافية. وبناء على القيمة المتراكمة من المعونة العسكرية على مر السنين، نرى أن المداخيل المحتملة المستقاة منها كبيرة بالفعل.274

تتم المقتنيات بموجب مذكرة التفاهم المتبادل حول المشتريات الدفاعية بين الولايات المتحدة ومصر. وهذه المذكّرة تعلّق القانون المصري الرقم 89 للعام 1998 حول العطاءات والعروض الذي سمح للهيئات العامة بتفضيل المتعاقدين المحليين على الأجانب. غير أن مذكرة التفاهم تسمح للشركات الأميركية بتقديم العطاءات على قدم المساواة مع منافسيها المصريين بما يخص العقود الدفاعية.275 لكن، بما أن المشتريات في قطاع الدفاع مغلقة، فهي تستوجب أن يكون هناك ممثّل مصري لمقدمي العروض الأميركيين (وغير الأميركيين).276 وكما في العديد من البلدان، يلعب الضباط السابقون هذا الدور، مع أنّه يبقى عليهم رشوة ضباط المشتريات في وزارة الدفاع كي تكون لهم الأفضلية.277

ومن بين الشركات الناجحة التي تزوّد القوات المسلحة بمعدات دفاعية أجنبية وتدريب وخدمات أخرى "مجموعة تراينجل" (المثلث) التي أسسها في عام 1990 اللواء عبد المنعم الطويل، وهو ضابط سابق في سلاح الجو تولّى أمر مشتريات القوات المسلحة من الولايات المتحدة في الفترة بين 1985 إلى حين تقاعده وتأسيس شركته. كما أنه أصبح عضوًا بارزًا في غرفة التجارة الأميركية المصرية.278 وتمثّل شركة "تراينجل للفضاء الجوي" شركات دفاعية غربية مثل لوكهيد مارتن، ورايْثيون، ونورْثروب غرومان، وراينْمِيتال ديفنس، وغيرها، وتفاخر بوجود "فريق مستشارين مُنتقين، كلهم من كبار الضباط المتقاعدين الذين خدموا في مختلف وحدات وزارة الدفاع" في الشركة، إضافة إلى "مهنيين شباب متخصصين من ذوي الكفاءة العالية".279

لا تتمتع كافة الشركات الوسيطة والمُزّودة بخلفية عسكرية. على سبيل المثال، إن "مجموعة أرتوك"، وهي أيضًا واحدة من أهم الشركات الممثلة للعديد من الشركات العالمية في مصر وتزوّد القوات المسلحة بمعدات غير قتالية (من أجهزة قذف مقاعد الطائرات إلى آلات اللياقة البدنية)، تعمل في العديد من الحقول التي تنشط فيها أيضًا القوات المسلحة أو الضباط المتقاعدون، مثل الهياكل الفولاذية، والنفط، والعقارات، وتشييد المطارات، والخدمات، والشحن، وصناعة السيارات.280 مثلٌ آخر هو شركة "بيرافِيجين للتجارة والاستشارات"، وهي شركة مصرية متعددة الجنسيات تتعهد نقل التكنولوجيا إلى الصناعة الحربية المصرية، وكذلك دعم عدد كبير من القطاعات المدنية بما في ذلك الصناعة الثقيلة، والإسمنت والبتروكيماويات، وبناء السفن، والطيران وخدمات الطيران، والسيارات وقطع الغيار، والنفط والغاز، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والبيئة، والصناعات الغذائية.281

تكمن وراء الجانب القانوني من النشاطات الاقتصادية العسكرية في مصر تعاملات تراوح بين ما تسميه شانا مارشال "الرشى المشرعنة" إلى تلك غير القانونية صراحة، كما الحال في معظم قطاعات الاقتصاد العسكري.282 فمصر، مثلها مثل بعض الدول العربية الأخرى، تتطلب من جميع عقود المشتريات أنْ تنص على أنّ الأتعاب التجارية التي تدفع إلى الوكلاء لضمان مبيعات المعدات أو الخدمات، لا تقع على كاهل الحكومة، ولكن غالبًا ما يجري تجاهل هذا البند الرسمي.283 وكما أسرّ وزيرٌ في عهد مبارك (بعد إقالة الرئيس) في ما يتعلق بمسألة التربح غير القانوني في القوات المسلحة، "ثمة قضية كبرى خفية هي مشتريات الأسلحة من الولايات المتحدة. والحقيقة أن أي شيء سرّي ويتضمن احتكارًا يوفّر فرصًا ضخمة [للانتفاع]، هذا في حين أنه في قطاع كالإسمنت قد تصبح المسألة معروفة فورًا وتُحرج الجيش".284

تمحور معظم عمليات تقاضي العمولات حول مبارك حتى عام 2011، ظلّ الرجل يستأثر لنفسه بتفويض اتفاقيات شراء الأسلحة... وليس سرًّا أن مثل هذا التفويض فتح أبوابًا هبّت منها رياح فساد عاتية"، بحسب السياسي المعارض والمرشح السابق للرئاسة أيمن نور.285 وسواء انخرط كبار ضباط القوات المسلحة ومسؤولي قطاع الدفاع في الفساد أم لا، إلا أنهم شكّلوا جزءًا من النخبة اللاهثة وراء الريع، وقد توفّرت لهم بالتأكيد، ولا تزال، أفضل الفرص المدرّة للأرباح الوفيرة".286 ضباط الخدمة الفعلية العاملين برئاسة مكتب مشتريات وزارة الدفاع المصرية في واشنطن، فضلًا عن الملحقين العسكريين والضباط الذين يشاركون في الآليات الثنائية التي تمر عبرها مفاوضات المعونة العسكرية الأميركية، هم في أحسن وضع للانتفاع من هذه الفرص. وتشمل الآليات الثنائية مذكرة اتفاق التشغيل المشترك للاتصالات والأمن، ولجنة التعاون العسكري، ومؤتمرات توفير الموارد الدفاعية. هذه المواقع يشغلها عادة رؤساء هيئة التسليح في وزارة الدفاع، أو كبار القادة في القوات المسلحة، وتعمل أيضًا كمنصات انطلاق نحو تسلّم مواقع رئيسة في إدارات الحكومة أو شركات القطاع العام عند التقاعد.

ثمة مصدر آخر للدخل لا يقل أهمية، وهو الحصة الكبيرة من المعونة العسكرية المخصصة لعقود الدعم والإسناد، لاسيما عقود نقل إمدادات الأسلحة والمعدات الأميركية عند وقت البيع ولاحقًا لشحن أنظمة معيّنة للصيانة والتحديث في الولايات المتحدة وثم إعادتها. وهناك بند خاص في برنامج المعونة العسكرية يسمح بأن تكون السفن المستخدمة في نقل المعدات ملكية مصرية خاصة حتى نسبة 50 في المئة، فقد سارع رجال الأعمال المتنفذين لتأسيس شركات مسجّلة في الولايات المتحدة لحصد هذه العقود.287 ووفقًا لعالِم السياسة روبرْت سبرينغبورغ، شكّل عصمت السادات، شقيق الرئيس أنور السادات، والعديد من الجنرالات شركة لشحن معدات عسكرية من الولايات المتحدة بقيمة 300 مليون دولار، ويقال إنهم تقاضوا 56 مليون دولار مقابل هذه الشحنة، على الرغم من أن البنتاغون قدّر الكلفة المطلوبة بنحو 11 مليون دولار.288 كما ظهرت قضية مماثلة عندما طالب النائب عن حزب الوفد، علوي حافظ، بفتح نقاش رسمي حول الفساد في العقود العسكرية بعد صدور تقارير صحفية تفيد بأن رجل الأعمال المحسوب على مبارك، حسين سالم، وغيره من المسؤولين الحكوميين حققوا مكاسب غير مشروعة تقدر بمبلغ 73 مليون دولار من عقود المساعدات العسكرية الأميركية الخارجية.289

ومع أنّ حالات استغلال أقل كُشِفت علنًا على هذا النحو منذ ذلك الحين، إلا أن النظام نفسه لم يتغيّر. في الواقع، قال مصدر معارض للحكومة إن عضوًاا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كان مسؤولًا عن متابعة المساعدة العسكرية الأميركية في 2011 ضغط على الولايات المتحدة لزيادة نسبة المعونة المخصصة لعقود الدعم، الأمر الذي كان من شأنه لو تم أنّ يوسّع الفرص التجارية أمام ضباط القوات المسلحة لكسب أرباح مجزية عبر شركات الواجهة.290

في المقابل، ما هو مؤكّد هو أن مصر فشلت في الاستفادة من الحصة المُخصصة للصيانة والحاجات اللوجستية للقوات المسلحة والبالغة نسبة 15 في المئة من إجمالي المعونة بغرض جلب الأعمال فضلًا عن التكنولوجيا والدراية الفنية إلى الصناعة الحربية المصرية. وكان هذا دومًا هدفًا معلنًا، وبالتالي كان السلوك المصري متناقضًا. ففي ذروة التعاون العسكري في أواخر الستينيات في القرن الماضي، رفض الاتحاد السوفييتي الترخيص لمصر بإنتاج التكنولوجيا أو نقلها إليها، إذْ كان يتعيّن إعادة المعدات القتالية الرئيسة إلى الاتحاد السوفييتي لإجراء الصيانة والتصليحات عليها، ما أعاق نمو المعرفة والمنشآت المصرية، وأثار الامتعاض.291 ومع ذلك، فقد أخفقت الصناعة الحربية المصرية بشكل استنثنائي في الاستفادة من التسهيلات الأميركية الأكثر كَرَمًا، والتي يعتبرها المسؤولون الأميركيون وسيلة لمساعدة مصر على تطوير قدرات محلية مُستدامة.292 مثال عن التبعات هو أنه عندما تم تعليق المساعدة العسكرية الأميركية في الفترة 2013-2015، تراجعت جاهزية مروحيات أباتشي الأميركية الصنع الموضوعة في خدمة القوات المسلحة لأن المقاولين المصريين كانوا يفتقرون إلى الكفاءة التقنية ليحلوا محل المقاولين الأميركيين.293

وبالفعل، بحلول عام 2014، كانت وزارة الدفاع المصرية تنفق عمليًّا ما يقارب نصف حزمة المساعدات الأميركية السنوية على صيانة ودعم أنظمتها الحالية.294 وحتى قياسًا بالمعدّل الأقل وهو 15 في المئة، كانت القيمة التراكمية لهذا البند ستكون 7,2 مليارات دولار منذ بدء تطبيق برنامج الأميركي للتمويل العسكري الخارجي. ويظهر حجم القيمة الكامنة للعقود الثانوية التي لم تتلقفها الصناعة الحربية المصرية من خلال حالة نموذجية هي عقد أميركي للخدمات الفنية بلغت قيمته 210 ملايين دولار لتقديم معدات وقطع غيار وتدريب ودعم لوجستي لِست فرقاطات بحرية مصرية، ومعه صفقة منفصلة قيمتها نحو 750 مليون دولار لتحديث 156 محرك طائرات في الفترة 2009-2010.295 هذا الفشل يتناقض بشكل حاد مع التأكيدات المغالية عن قدرات الصناعة الحربية التي أطلقها العديد من مسؤولي وزارة الدفاع، ولاسيما منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، ومع مزاعمهم بأن الجهود لزيادة كلٍّ من نقل التكنولوجيا والمكونات المحلية قد تضاعفت.296

لكن، فعلى الرغم من كل التباهي بالاكتفاء الذاتي، إلا إن القوات المسلحة والصناعة الحربية المصرية إما تفتقد إلى الخبرة الفنية والتكنولوجيا للقيام بالصيانة (التي يتركونها للمقاولين الأميركيين) أو أنها تفضل السماح لكبار الضباط باستخراج الريع السهل من حصة المعونة المخصصة لعقود الدعم. وهذا قد يفسّر أيضًا لماذا سعت وزارة الدفاع إلى زيادة حصة عقود الدعم في المعونة (وحصل ذلك)، ولماذا قابلت الاقتراحات الأميركية في العام 2014 لإعادة هيكلة برنامج المعونة العسكرية (التي أُقرّت في خاتمة المطاف في 2015) بامتعاض بائن. في المقابل، فالممارسة المذكورة أعلاه المتمثلة في تقديم فواتير مزورة عن أعمال صيانة وشحن وهمية تشير إلى خطر أن تكون وزارة الدفاع المصرية قد سعت وراء الزيادة بغية توسيع فرص الاقتناص الريعي..

لكن وزارة الدفاع تمارس أيضًا أشكالها الخاصة من السعي لاقتناص الريع من برنامج التمويل العسكري الخارجي الأميركي. وقد أكد دبلوماسي أميركي سابق في القاهرة أن وزارة الدفاع تُصر على استخدام فنادق تمتلكها لعقد المؤتمرات والاجتماعات المشتركة مع الجانب الأميركي، وكذلك مستشفيات عسكرية حين يحتاج عسكريو حفظ السلام الأميركيون العاملون في القوات متعددة الجنسيات والمراقبون في سيناء إلى العلاج الطبي، الذي يتعيّن على الولايات المتحدة دفع أكلافه.297 وبالمثل، فإن الجنرال مايْكل كولينْغز الذي ترأس في الفترة 2006-2008 مكتب التعاون العسكري الأميركي في مصر، الذي يدير المعونة، قد اشتكى من الأسعار التي تتلاعب بها الشركات التي تختارها وزارة الدفاع لتوفير المعدات أو الخدمات، من الكراسي والطاولات إلى قوارير الماء للاجتماعات.298

أكد دبلوماسي أميركي سابق في القاهرة أن وزارة الدفاع تُصر على استخدام فنادق تمتلكها لعقد المؤتمرات … وكذلك مستشفيات عسكرية حين يحتاج عسكريو حفظ السلام الأميركيون …إلى العلاج الطبي، الذي يتعيّن على الولايات المتحدة دفع أكلافه.

فضلا عن ذاك، حصدت وزارة الدفاع الملايين جراء تنفيذ المناورات العسكرية المشتركة، مثل مناورات "النجم الساطع" التي كانت تجري كل سنتين مع الولايات المتحدة (والتي عُلّقت في عام 2011 وثم استؤنفت في العام 2017، وإن بحجم أصغر)، أو مناورات "المرجان" مع المملكة العربية السعودية.299 لكن الشائن أكثر في نظر بعض المسؤولين الأميركيين هو الاستغلال التجاري الذي تقوم به وزارة الدفاع، مع هيئات عامة حليفة، للمرافق والمعدات التي يوفرها التمويل العسكري الخارجي الأميركي. مثال أساسي هنا هو المركز الطبي الدولي المكوّن من 800 سرير "غير المخصص للربح"، الذي أُعد حصريًّا لاستخدام القوات المسلحة المصرية، لكنه يعلن بفخر عن خدماته للمرضى الخصوصيين الذين يدفعون رسومًا، من المصريين والأجانب على حد سواء. وما "يزيد الطين بلّة" هو أن الموقع الإلكتروني للمركز لا يعترف بالتمويل الأميركي، ويكتفي بمجرد الإشارة لُمامًا إلى أن المركز "شيدته الخبرات المصرية والأميركية والتعاون بينهما".300 وبالمثل، يتم تأجير جهاز "سِنْكرولِفْت" باستمرار للاستخدامات التجارية، وهو جهاز وفرته الولايات المتحدة لرفع السفن الكبيرة من المياه لتصليحها، وقد تم تثبيته في قاعدة رأس التين في الإسكندرية لاستخدام سلاح البحرية فقط. ويروي ضابط أمريكي رفيع، كان مسؤولًا عن برنامج التمويل العسكري الخارجي في ذلك الوقت، أنه اعترض مرارًا وتكرارًا عند قائد سلاح البحرية وقتها، الفريق مهاب مميش، الذي أكد أن "هذا لن يتكرر مرة أخرى". لكن في الزيارة التالية، رأى الضابط نفسه سفينة تجارية مرة أخرى تخضع للصيانة في الرافعة "سِنْكرولفت".301

أخيرًا، يستفيد الاقتصاد العسكري بشكل غير مباشر من المساعدات الأميركية وغيرها من المساعدات الدولية لمشروعات التنمية المدنية. وكما لاحظ العالِم السياسي جون واتربري، جرى استثمار مساعدات أميركية كبيرة منذ سبعينيات القرن الماضي في البنية التحتية العامة، مثل محطات توليد الطاقة ومرافق التخزين والإسكان والري والنقل، وهي جميعها مجالات تنخرط فيها الهيئات العسكرية وجمهورية الضباط بشكل كبير.302 وما يمكّنها من الانتفاع من المساعدات، التي يفترض نظريًّا أن تكون مناطة حصريًّا بالقطاع الخاص، هو القانون الرقم 43 للعام 1974 الذي يعتبر الشركات المملوكة للدولة على أنها خاصة إذا كان 20 في المئة من رأس مالها معروضًا للبيع إلى المساهمين الخاصين.303 وقد استخدمت منظمات دولية، على غرار البنك الدولي، هذه الثغرة أيضًا لتمويل مشاريع كبيرة الحجم تنفذها الهيئات الاقتصادية العسكرية أو تديرها وزارة الدفاع، ولاسيما منذ عام 2013.

خلاصة: رأس المال العقيم، والبقرات الحلوب، وألعاب "الكشتبان"

تقوم وزارة الدفاع والهيئات التابعة لها الآن بحجم هائل ومروحة كبيرة من المشاريع المدنية، لكن القيمة الصافية التي تضيفها إلى الاقتصاد الوطني مشكوك فيها، أو سلبية في كثير من الأحيان. لا يجري قياس ذلك فقط من حيث الأصول المادية التي تنتجها أو الإيرادات التي تولّدها، والتي يمكن أن تكون كبيرة، بل من حيث المدى الذي يمكّنها من تحقيق نمو مستدام، أو إطلاق التنويع الاقتصادي، أو تعزيز قدرة المدنيين في القطاعين الخاص والقطاع العام على ممارسة صنع القرار المستقل القائم على اعتبارات السوق. وحتى في حالة المساهمات المفيدة حقًا، مثل تشييد البنية التحتية العامة والإسكان، فإن الفعالية من حيث التكلفة الفعلية للمشاريع التي تديرها الهيئات العسكرية ليست مُثبتة، حيث يتم نقل الكثير من التكلفة الحقيقية لعوامل الإنتاج الخاصة بها إلى الخزينة العامة ويجري التعتيم عليها أو تبهيت قيمتها.

وفيما تلعب المؤسسة العسكرية الآن دورًا أكبر بكثير في إدارة الأشغال العامة، وقيادة الاستثمار، وتلبية احتياجات العرض في الأسواق المدنية، فقد أصبحت مواقفها ووجهات نظرها أكثر تأثيرًا من أي وقت مضى على مسار الاقتصاد. وهي تشارك نظراءها المدنيين في الجهاز البيروقراطي للدولة المصرية منظورهم التكنوقراطي والنهج الأبوي الفوقي المتأصل لقادة الدولة المتعاقبين عند تصميم وتنفيذ السياسات في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، سواءعكس ذلك تطبعّها (أي المؤسسة العسكرية) أم بوصفها ركنًا أساسيًّا للنظام. ينتج عن هذا ما يصفه عالِم السياسة جون واترْبري بأنه "الهروب إلى الأمام"، وهو الميل إلى تجنب المشكلات المعقدة، مثل تغيير التوزع المكاني لسكان مصر، من خلال بناء مدن صحراوية أو نقل الشركات الصغيرة قسرًا إلى مواقع نائية.304

وتشكل طريقة توزيع وتدوير المؤسسة طريقة للميزانيات والفوائض والعقود والاستثمارات … لعبة تحايلية "كشتبان" مدروسة تُعقّد المحاسبة الفاعلة والتقييم الهادف للأداء وفعالية التكلفة، إن لم تكن تمنعها.

وفي أحسن الأحوال، فإن اللّلجوء العسكري إلى هندسة الحلولالسريعة للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية المستعصية يجسد الاعتقاد بأن الحل يأتي بمجرد تنفيذ المقاولات والإنشاءات والتشييد، وذلك في بلد زاد فيه الفقر المدقع من 26,5 في المئة من السكان إلى 32,5 في المئة، منذ تولت القوات المسلحة السلطة، لو أخذنا مؤشرًا واحدًا بسيطًا.305 وفي أسوأ الأحوال، تتمسك المؤسسة العسكرية بالأنشطة التي تضمن له تدفقات دخل ثابتة على الرغم من الأدلة الصارخة على عدم جدوى هذه الأنشطة وعلى فعاليتها المزرية من حيث التكلفة. لا يوجد سبب وجيه لتقوم هي بتغيير ذلك طوعًا: فقد تمكنت المؤسسة العسكرية من الحصول على مستويات متفاوتة من رأس المال والفرص الاقتصادية من المالية العامة والمساعدات الخارجية لما يقارب سبعة عقود، من دون مساءلة عن نسبة التسليم الفعلي. وبالإضافة إلى خزينة الدولة، فإن الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأمريكية، ومستثمرين جدد مثل الشركات الصينية الضالعة في المشاريع العملاقة التي تديرها الهيئات العسكرية، تشكّل "البقرات الحلوب" التي تمتص المؤسسات العسكرية منها المال. وتشكل طريقة توزيع وتدوير المؤسسة طريقة للميزانيات والفوائض والعقود والاستثمارات بين مختلف نظرائها في القطاعين العام والخاص، وخزينة الدولة، والشركاء الأجانب، وهيئاتها هي أيضًا لعبة "كشتبان" تحايلية مدروسة تُعقّد المحاسبة الفاعلة والتقييم الهادف للأداء وفعالية التكلفة، إن لم تكن تمنعها تماماً.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

رسم خارطة الاقتصاد العسكري غير الرسمي: جمهورية الضباط

يشكِّل الموقع النافذ للقوات المسلّحة المصرية داخل الدولة، كونها القابض النهائي للسياسة في مصر، القاعدة الوطيدة التي لا غنى عنها للاقتصاد العسكري الرسمي، ولكنه أيضاً الركيزة الثابتة لجمهورية الضباط المكوَّنة من شبكات ضباط القوات المسلحة المتقاعدين، المُدغمة في كل قطاعات جهاز الدولة والتي تعيد إنتاج نفسها.1 وعلى الرغم من شغلهم مناصب في الجهاز البيروقراطي الرسمي، إلا أنهم يشكلون دعامة لما يمكن تسميته بالجناح غير الرسمي للاقتصاد العسكري، حيث إن الهيئات التي يرأسونها أو يسيطرون عليها والموارد التي يديرونها، لا تخصّ المؤسسة العسكرية بصفة رسمية.

ينطوي جوهر جمهورية الضباط هذه على مئات عدة من ضباط القوات المسلحة المتقاعدين الذين يحتلون مناصب رؤساء، أو مديرين عامين، أو أعضاء مجالس إدارات الدولة وشركات قطاع الأعمال العام التي تدير الأصول الاقتصادية، وتضطلع بالإنتاج، والتجارة، والخدمات، أو تقدّم العقود في سياق هذه الأنشطة. هذا علاوة على أنها تُسيطر على حيِّز كبير من الإطار السياساتي والناظم لعمل القطاعين العام والخاص. وثمة عنصر مُكمّل وازن لجمهورية الضباط يتألف من الآلاف من متقاعدي القوات المسلحة العاملين في الوزارات والهيئات الحكومية ومجمل دوائر الحكومة المحلية، التي تشكل بدورها هيكلية ضخمة، حيث يتقلد هؤلاء الضباط مناصب عليا، بينما يعمل آخرون كوكلاء أو مستشارين للوزارات. وتكفل جمهورية الضباط للعديد من كبار الضباط المتقاعدين المداخيل التي تزيد كثيرًا عن تلك التي كانوا يتلقونها أثناء الخدمة، كما أنها تضمن رواتب متواضعة لما بعد التقاعد لمئات، إن لم يكن لآلاف، المتقاعدين الآخرين الذين يتوزعون في المراتب الأدنى في هيئات الدولة.

ينطوي جوهر جمهورية الضباط هذه على مئات عدة من ضباط القوات المسلحة المتقاعدين الذين يحتلون مناصب رؤساء، أو مديرين عامين، أو أعضاء مجالس إدارات الدولة وشركات قطاع الأعمال العام

وجود جمهورية الضباط هو ما يفسر إلى حدٍّ بعيد الاعتقاد الشائع أن المؤسسة العسكرية تسيطر على ما بين 25 إلى 60 في المئة من الاقتصاد الوطني. بيد أن التوغل الكثيف للضباط المتقاعدين في جهاز الدولة لا يترجم نفسه سيطرةً عسكرية مباشرة على الأصول المالية وغيرها للهيئات والشركات الاقتصادية العامة، ناهيك عن تملّكها. بالطبع، يضمن هذا الوجود المداخيل للشركات العسكرية المُسجلة رسميًّا ويُعزز المنفعة الاقتصادية المتأتية من عوامل الإنتاج التي تقع بشكل أساسي تحت السيطرة العسكرية، خاصةً الأراضي. لكن عدا ذلك، فإن هذا السلوك الساعي إلى الريع قائم أيضاً وبنفس القدر لدى الجهات المدنية، في كلٍّ من القطاعين العام والخاص. فالهيئات الحكومية التي لا يرأسها ضباط متقاعدون تعمل بالطريقة نفسها تقريباً لضمان الحصول على العقود أو منحها، والمسؤولون المدنيون يستخدمون سلطاتهم البيروقراطية في مجال التراخيص الاقتصادية والتنظيمات في جهد مماثل، والشركات الخاصة تسارع إلى الإفادة من كل ذلك من خلال الرشى والروابط التفضيلية.

فضلًا عن ذلك، ليس بوسع المؤسسة العسكرية أن تبلغ حتى النسب والادّعاءات الأكثر تواضعاً التي تُطرح حول إمبراطوريتها الاقتصادية، ناهيك عن تلك المبالغ فيها. فإنه سيتعين على المؤسسة العسكرية أن تستحوذ على مجمل إنتاج القطاع العام للبضائع والخدمات في مصر والتي شكَّلت نسبة 31 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2016.2 ولإعادة التأكيد، فإن السعي لتحديد قيمة دقيقة ليس من المستحيل فحسب، بل إنه يصرف النظر عن استيعاب الأثر الحقيقي لجمهورية الضباط على الاقتصاد السياسي المصري. وكما فعل نظراؤهم في الاقتصاد العسكري الرسمي، يستخدم الضباط المتقاعدون في أجهزة الدولة سلطاتهم الاستنسابية المُقرّة قانونًا باستمرار لمنح العقود غير التنافسية إلى العملاء المُفضَّلين، فيخفون عدم الكفاءة الاقتصادية وسوء إدارة الأموال والأصول العامة، ويمكّنون التربّح والمضاربة من الداخل ويحمونها، حتى حين تصل أحيانًا إلى حد العمل الإجرامي المنظم. وباختصار، تعد جمهورية الضباط جزءاً لا يتجزأ، ونتاجاً في آن لنهج المحافظة على استمرارية النظام السياسي والآخذ في التطور منذ عام 1952، وكذلك للنهج المتبع من قبل كل الأطراف التي تلعب دورًا في الاقتصاد المصري وإدارته.

جمهورية الضباط

يُشكل ضباط القوات المسلحة المتقاعدون مجتمعين العمود الفقري للاقتصاد العسكري غير الرسمي، ويضمنون آلية الولاء التي تمنح جمهورية الضباط تماسكها. فهم موجودون في كل أنحاء جهاز الدولة، لكن الأهم بالنسبة إلى الاقتصاد العسكري هو تركّزهم في شطرين كبيرين من القطاع العام: الأول، هو البيروقراطية الإدارية المدنية التي تتضمن ما يُدعى الهيئات العامة والقومية، والإدارات المركزية والهيئات التنظيمية الأخرى، وهيئات الحكم المحلي؛ والثاني هو الشركات الاقتصادية التي تملكها الدولة، بما في ذلك العدد الكبير منها الذي جرى خصخصته جزئياً أو كلياً منذ عام 1991.

يُشكل ضباط القوات المسلحة المتقاعدون مجتمعين العمود الفقري للاقتصاد العسكري غير الرسمي، و يضمنون آلية الولاء التي تمنح جمهورية الضباط تماسكها

إرث راسخ

انبثقت جمهورية الضباط من عوامل عدة، بيد أنها تضرب جذورها عميقًا في سياسات حقبة الرئيس جمال عبد الناصر، التي تميّزت بتعيين ضباط القوات المسلحة في مناصب وزارية أو مدنية، كوسيلة لضمان كلٍ من الكفاءة الفنية والولاء في القطاع العام الذي نما إلى 900 ألف موظف بحلول عام 1960، ثم توسّع بشكل كاسح غداة المراسيم الاشتراكية في تموز/يوليو 1961 التي أدت إلى تأميم شطر وازن من الاقتصاد.3 علاوةً على ذلك، كان الاعتماد على ضباط القوات المسلحة جزءاً من الصراع على السلطة في رأس الدولة: فمن جهة كان هناك عبد الناصر "الذي كان عليه أن يُشرف على تغيير الموظفين حتى في المراتب الدنيا من الجهاز البيروقراطي، والقوات المسلحة، والقطاع العام للاقتصاد، وأن يُبقي عينه ساهرة كي لا يبني أحد أنصاره السابقين ’مركز قوة‘ يمكن أن يعرّضه إلى مخاطر".4 ومن جهة أخرى، كان هناك وزير الدفاع القوي عبد الحكيم عامر الذي استغل انبجاس التوسّع المؤسسي للعمل على تمديد شبكات محسوبياته العسكرية الخاصة.5

تركت حقبة عبد الناصر إرثًا راسخاً. وأهم ما تضمنه هو تولّي ضباط القوات المسلحة مناصب مدنية، علمًا أن التنافس مع عامر ضمن أن هذا جاء أيضًا بامتيازات ومزايا عديدة وعادات مترسخة قوّضت المهنية العسكرية، كما ظهر بشكل كارثي في حرب حزيران/يونيو 1967 مع إسرائيل. وقد ورد في الوصف المؤثر لخبيرة الاقتصاد السياسي سامية سعيد أن "عامر رأى أن المؤسسة العسكرية بمثابة قبيلة بشكل فعلي، وإنه شيخ هذه القبيلة". وقد منح عامر من يفضّلهم مهام عسكرية سهلة، ووضع آخرين داخل إدارات الدولة في مناصب مثل رؤساء شركات ومحافظين، أو تم إرسالهم إلى دول أجنبية مع مزايا وبدلات دبلوماسية.6 ويذكر أن عبد الناصر حاول أن يجعل الضباط يتركون الخدمة في القوات المسلحة عند توليهم المناصب المدنية، ولكنه فشل في ذلك المسعى. ولم يتم تعليق رواتب ومعاشات ضباط القوات المسلحة عند توليهم مناصب مدنية أكان ذلك في حالتي الإعارة أثناء الخدمة الفعلية أو بعد التقاعد، سوى في حتى عام 1975، عندما قام خليفة عبد الناصر أنور السادات بإصدار قانون الضمان الاجتماعي رقم 79 لعام 1975 وقانون التقاعد والتأمين الاجتماعي والمعاشات للقوات المسلحة المعدل رقم 90 لعام 1975.

أما الآن، لا تضمن جمهورية الضباط تدفق العقود والموارد التي تساعد على ديمومة الشركات العسكرية فحسب، بل إنها تعمل على أشياء أكثر من ذلك بكثير. فوظيفة جمهورية الضباط الأخرى هي أن تكون "آلية الولاء" فمن جهة أولى، تربط كبار ضباط القوات المسلحة بالرئاسة وبالنظام السياسي الحاكم، وتربط الضباط من الرتب المتوسطة برؤسائهم. ومن الجهة الثانية، توفّر جمهورية الضباط قوة احتياط بيروقراطية عسكرية يمكن استدعاؤها لملء الإدارات المدنية. وتعود فوائد ذلك على كلا الجانبين. فلأن متقاعدي القوات المسلحة يبقون خاضعين للنظام القضائي العسكري، يمكن لوزارة الدفاع والهيئات التابعة لها استخدام نفوذها على إدارات الدولة التي تقوم بعمليات التدقيق - مثل هيئة الرقابة الإدارية التي يرأسها دائمًا ضابط رفيع، ويعمل فيها عدة مئات من الضباط المفروزين من الخدمة الفعلية والمتقاعدين - لبدء التحقيقات والملاحقات القضائية بهدف معاقبة رؤساء الشركات الذين يختلفون عن تفضيلات نظرائهم العسكريين. إن الضباط السابقين على دراية تامة بتوقعات المؤسسة العسكرية ويمتثلون إلى حد كبير لتجنب أي عمل انتقامي. صحيح أن المرسوم التشريعي الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في أيار/مايو 2011، والذي منح مدعي وزارة الدفاع صلاحية تحديد ما إذا وجُبت إحالة ضباط القوات المسلحة المتهمين بالمكاسب غير المشروعة أثناء الخدمة إلى المحاكم العسكرية أو المدنية، حتى إن كانوا قد غادروا الخدمة وقتها، قد وفر الحماية لهم، إلا أن المرسوم شكَّل أيضاً سيفاَ مصلتًا فوق رؤوسهم.

أما الآن، لا تضمن جمهورية الضباط تدفق العقود والموارد التي تساعد على ديمومة الشركات العسكرية فحسب، بل إنها تعمل على أشياء أكثر من ذلك بكثير. فوظيفة جمهورية الضباط الأخرى هي أن تكون "آلية الولاء"

آلية الولاء

ما سمّاه العالم السياسي الراحل سامر سليمان "علاوة الولاء"، هو، في آنٍ، سمة مُستدامة من سمات جمهورية الضباط، وجزء لا يتجزأ من الاقتصاد العسكري غير الرسمي.7 إذ منذ حقبة عبد الناصر، كان ضباط القوات المسلحة يُعيّنون في المراتب العليا من القطاع العام، وهم تجذّروا في كل القطاعات تقريباً وعلى كل مستويات جهاز الدولة المصرية الضخم. فمن نحو 1500 ضابط في عهد عبد الناصر، يشي نموذج عشوائي للقطاع المدني ورد في كلٍّ من دراسة كاتب هذه السطور المعنونة "فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر" والصادرة عام 2012، وكذلك في مسوحات إضافية أُجريت إعدادًا لهذا التقرير، أن عدد هؤلاء الضباط ازداد أضعافًا مضاعفة. ويستخدم هؤلاء الضباط العلاقات والصداقات التي أنشأوها في الكلية العسكرية (أي "الدفعة" و"الشلة")، والتي تتواصل في خدمتهم اللاحقة بمختلف صنوف القوات المسلحة والهيئات التابعة لها. وقد جاء في بحث أجرته وكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 1985 أن شبكات الرفاق القدامى هذه لها تأثير كبير في تشكيل سلوك الهيئات المدنية التي تنضم إليها.8

تراجع هذا المنحى مؤقتاً حين وصل أنور السادات إلى السلطة، إذ سعى لتوكيد سلطته الرئاسية على القوات المسلحة، وإلى نزع الصبغة العسكريّة جزئيًّا عن جهاز الدولة في سبعينيات القرن العشرين.9 غير أن جمهورية الضباط عادت إلى النمو بزخم مجددًا في ظل المشير محمد حسين طنطاوي، الذي كان وزير الدفاع من 1991 وحتى الإطاحة بمبارك عام 2011، وثم لمدة عام آخر حينما كان بمثابة الرئيس الفعلي للبلاد. وقد رأى ضباط القوات المسلحة أن قوتهم الشرائية واستحقاقاتهم الرسمية تقلصت بسبب التضخم والتدهور مقارنة بنمو وتوسع القطاع الخاص على مدى العقد الماضي (أي الثمانينيات)، علمًا أن طنطاوي قام بنجدة الكثيرين من خلال منحهم فرصًا لتحقيق الدخول الإضافية بعد التقاعد مقايضةً لولائهم أثناء الخدمة.10 وشهدت جمهورية الضباط نموًّا ضخمًا خلال هذه الفترة. وساهمت في ذلك التحولات التي شهدها القطاع العام خلال موجتين من الخصخصة بين أعوام 1991-1997 و2004-2009، وكذلك التوسع الذي شهده سوق العقارات بسرعة صاروخية، وغير ذلك من أعمال المضاربة والنمو بالاستثمار والتجارة الخارجية، والتي ضاعفت جميعها فرص توظيف متقاعدي القوات المسلحة.

كانت آلية الولاء بالغة الأهمية السياسية إلى درجة أن مصدرًا وثيق الاطلاع متعاطفًا مع حكم الرئيس محمد مرسي يدّعي أن أعداد الضباط المتقاعدين المُعينين في جهاز الدولة ازدادت على نحو كبير: من 400-500 إلى نحو 4000 خلال سنة واحدة من رئاسته.11 وسواء كان هذا الرقم دقيقًا أم لا، إلا أنه يعكس القوة الراسخة لهذه الآلية غير الرسمية، بقدر ما يدلّ على توق جماعة الإخوان المسلمين لاسترضاء القوات المسلحة. إن هذا الإرث لا يزال قائمًا، بل وقد تعزز بالفعل عقب تولّي القوات المسلحة حكم البلاد في تموز/يوليو 2013 واعتماد السيسي عليها لتحقيق النتائج الاقتصادية.

تركّز آلية الولاء على وجه الخصوص على كبار الضباط. ويُقدّر أحد اللواءات المتقاعدين أنهم يمثّلون 15 في المئة من مجموع ضباط القوات المسلحة في عام 2012.12 وهذه نسبة مرتفعة وفق المقاييس الدولية، وهي تشير إلى وجود نظام مُصمَّم للحفاظ على ولاء الضباط عبر زيادة عددهم إلى ما يفوق المتطلبات العسكرية والعملياتية، وتمديد مدة خدمتهم إلى ما بعد سن التقاعد المقررة. يُلاحَظ أيضاً تواجد عدد كبير غير اعتيادي من اللواءات المتقاعدين في مصر. وهذا يعود جزئياً إلى الترقية الفورية للعمداء إلى رتبة لواء حال تقاعدهم، ما يضمن لهم معاشات ومكافآت نهاية الخدمة، إضافة إلى تحسين فرص الدخل. يشكّل هؤلاء الضباط القاعدة المكينة لجمهورية الضباط، جنباً إلى جنب مع عدد أصغر، لكنه مهم، من رفاق آخرين في القوات المسلحة المنتدبين إلى مديرية المخابرات العامة أو إلى إدارات أخرى كهيئة الرقابة الإدارية، حيث يؤدون الخدمة الفعلية.

فيما يُنظر إلى آلية الولاء على أنها استحقاق، فإنها توفر راتباً متواضعاً نسبياً يَضاف بعد التقاعد إلى المعاش العسكري لغالبية المتقاعدين. فبموجب القانون رقم 31 لعام 1992، لا يجوز أن يتجاوز المعاش الممنوح لأي فرد من أفراد القوات المسلحة (بعد الأخذ في الاعتبار كل البدلات) إجمالي راتبه الأساسي عند التقاعد، مما يجعل إعادة التوظيف ضرورية.13 وبعد نهاية خدمتهم الاعتيادية التي يستحقون على أساسها المعاش التقاعدي، يمكن إعادة تعيين المتقاعدين بموجب عقود "استدعاء" لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد، ما يسمح لهم بالبقاء في الزي الرسمي وفي الخدمة (غير القتالية).14 وفي معظم الحالات، تستمر وظائف ما بعد التقاعد لسنوات قليلة، يُخلون بعدها مواقعهم للسماح بتعيين متقاعدين جدد مكانهم. بيد أن عقود المتقاعدين الذين يلعبون أدوارًا رئيسة في جمهورية الضباط يمكن أن تُجدّد إلى نحو عشر سنوات، وربما أكثر من ذلك في بعض الحالات، حيث أنهم يتنقلون بين سلسلة من الوظائف الجديدة. ويجري التعاقد مع متقاعدين آخرين على أساس أنهم مستشارون لمدد محدودة اسميًّا، إلا أنها في الواقع تُجدد بحسب ما يستنسب مسؤولو التوظيف. زد على ذلك أن كل التعيينات تأتي مع كافة الامتيازات ومخصصات الخدمة والعلاوات المرتبطة بها.

وقد تعززت خطة الولاء منذ أن أصبح السيسي رئيسًا في عام 2014. وبعدها بعامين، صادق البرلمان على مسودة قانون اقترحته وزارة الدفاع، يقضي بمنح الرئيس صلاحية تمديد الخدمة أربع سنوات أخرى لضباط مختارين برتبة لواء ممن يتقاعدون عادةً في سن الـ58.15 وفي كانون أول/ديسمبر 2017، تمت الموافقة أيضاً على تعديل القانون رقم 90 الذي رفع سن التقاعد لمن هم برتبة فريق بأربع سنوات أيضًا (حتى 64 سنة).16 وتمدد هذه الخطوات التشريعية القدرة على انتداب الضباط قيد الخدمة في مناصب مختارة في أجهزة الدولة. وبذلك، تُحوّل وزارة الدفاع التكاليف إلى إدارات أخرى، وهو الأمر الذي بات واضحًا مثلًا حين نقل المجلس الأعلى للقوات المسلحة أربعة لواءات للعمل في وزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، والهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي في عام 2011، إذ طلب من هذه الحهات "بوصفها الجهة المستفيدة أن تتحمّل كل الرواتب والتعويضات العسكرية المستحقة لهم طوال مدة الإعارة، فضلًا عن الحوافز المالية والإدارية التي يتم صرفها لأسرهم".17 والواقع أن هذا قد يكون عاملًا محفزًا لتعيين الضباط قيد الخدمة الفعلية في الهيئات المدنية، ويُذكر أن هيئة الرقابة الإدارية وحدها توظّف مئات عدة، في حين أن مديرية المخابرات العامة قد يكون فيها بضعة آلاف.

بديهي بعد كل ذلك أن تُجرى التعيينات وفق سلّم مُتدرج غير رسمي، استنادًا إلى درجة الولاء الظاهرة، وكأنه ترتيب هرمي. فالضباط الذين يصلون إلى هيئة الأركان العامة في القوات المسلحة أو هيئات أركان الصنوف الأربعة للقوات المسلحة (الجيش، سلاح الجو، سلاح البحرية، والدفاع الجوي)، أو إلى الإدارات المركزية كالهيئة الهندسية للقوات المسلحة والوحدات الخاصة مثل الحرس الجمهوري، هم ظاهريًّا الأكثر كفاءة، لكنهم في الواقع أولئك الذين أظهروا ولاءً لا يتزعزع لأطول فترة زمنية. هذه الشريحة العليا تُضمن لها التعيينات بعد التقاعد في أرقى المناصب الإدارية في الجهاز البيروقراطي المدني والشركات المملوكة للدولة والتي تقدم رواتب متساوقة مع رواتب الشركات التجارية. كما تحصل على فرص لتوليد مداخيل إضافية ومراكمة الأصول، حيث يرأس بعض الضباط أكثر من شركة، ويعملون أعضاء منتدبين في مجالس فروع الشركات أو يُفرَضون على مجالس إدارة الشركات الخاصة.18 وعمومًا، يصبح كبار الضباط رؤساء أو أعضاء في مجالس إدارات الشركات العامة لسنوات قليلة، ثم يُخلون المجال للصف التالي من العسكريين. أما الضباط من ذوي الرتب المتوسطة فهم يتحمّلون الحصول على رواتب وشروط خدمة متواضعة نسبياً على أمل أن يأتي دورهم لاحقًا.

بديهي بعد كل ذلك أن تُجرى التعيينات وفق سلّم مُتدرج غير رسمي، استنادًا إلى درجة الولاء الظاهرة، وكأنه ترتيب هرمي.

الإقطاعيات العسكرية

لا يستند التعيين في الإدارات الحكومية أو الكيانات التجارية إلى أي مسوّغات أو استحقاقات قانونية -عدا في حالة شركات مملوكة للدولة مثل "مصر للاتصالات"، التي يستوجب القانون أن ينضم رئيس أركان سلاح الإشارة في القوات المسلحة إلى مجلس إدارتها. بل إن التعيين يعكس نفوذ القوات المسلحة والانتشار الأخطبوطي لجمهورية الضباط. وقد تكثّف هذا المنحى بحدة غداة إطلاق عمليات الخصخصة في عام 1991، التي وسّعت بسرعة الفجوة في الرواتب بين القطاعين العام والخاص. ووفق معلومات كشفها بعض الضباط، فإن أكثر المتقاعدين حظًّا باتوا يحصلون على رواتب كثيرًا ما تراوح بين 100 ألف جنيه مصري ومليون جنيه (كان هذا يساوي آنذاك 16670 دولارًا و166670 دولارًا على التوالي) بحلول عام 2011؛ فيما يُعتقد أن الشراكات الخفية التي أقامها بعض المتقاعدين كانت ترفع المداخيل السنوية لذوي الرواتب الأعلى إلى ما بين 12 مليون جنيه و100 مليون جنيه (مليونا دولار و16,67 مليون دولار على التوالي).19

كما بات معتادًا أيضاً أن يخدم الضباط في مسارهم نحو المناصب القيادية العليا دورة أو أكثر كملحقين عسكريين، أو على رأس مكتب المشتريات العسكرية في واشنطن، أو كمدراء في الشركات العسكرية. ويتلقى هؤلاء "بدلات مهمة" ومجموعة إضافية من الامتيازات والعلاوات الخاصة بكل منصب - بما في ذلك وحدات سكن إضافية يمكنهم بيعها أو تأجيرها - سواء كوفئوا أم لا بمزيد من الترقيات أو بالتعيين في رئاسة هيئات أو شركات حكومية.

بعضٌ من هذا العدد الكبير من كبار المتقاعدين الذين لا يصلون إلى هذه المراتب العليا، يُمنحون مناصب إدارية في النوادي والفنادق العسكرية، حيث يتولى المواقع المرغوبة الضباط أصحاب العلاقات الأفضل، فيما يذهب المتقاعدون الأقل حظًّا إلى المواقع الأبعد. ويُعيّن عدد أكبر بكثير من المتقاعدين في جهاز الدولة المدني الضخم، أو في هياكل إدارات الحكم المحلي. ويحتل الضباط المتنفذون مواقع تتحكم بالمقدّرات مثل سلطة منح تراخيص مقالع الرخام أو مشاريع التنمية المموّلة دولياً، والتي توفِّر الفرص أمام التربّح وتلقي الرشى. ويجري توظيف متقاعدين آخرين كمستشارين واستشاريين في الوزارات والإدارات أو في الشركات التي تملكها الدولة. ويقال إن الرواتب الشهرية لهؤلاء تراوح بين 6 آلاف و28 ألف جنيه (ألف إلى4670 دولارًا)، وكانوا ينالون أيضاً علاوات ومخصصات تقدّر بنحو 10 آلاف جنيه (1667 دولارًا) شهرياً في عام 2011. قد لا تكون هذه العطاءات سخية للغاية بالمقارنة مع موظفي الشركات المدنية الذين لديهم نفس الأقدمية والمؤهلات، لكنها تشكّل تزخيمًا مهمًا للّواءات الذين بلغ تعويضهم عند نهاية الخدمة في ذلك العام زهاء 40 ألف جنيه (6670 دولارًا) مع معاش تقاعدي وتعويض شهري يصل إلى 3 آلاف جنيه مصري (500 دولار).20

واضح، إذاً، أن الاستنساب وليست الأهلية المهنية أو الكفاءة، هو صلب آلية الولاء. على سبيل المثال، يتمتّع وزير الدفاع بصلاحية منح الضباط حق استخدام الشاليهات لمدى الحياة في المنتجعات الساحلية المرغوبة والتابعة لوزارة الدفاع، لكنه يستطيع أيضاً سحب هذه الإجازة، بهدف التحفيز على الولاء والطاعة.21 وهناك حاجز مُضمر يفصل الضباط من ذوي الرتب الصغيرة والمتوسطة عن كبار الضباط، وهو يتمثل في أن الأوائل يُمنحون شققًا مقابل دفع أقساط شهرية لمدة ثلاث إلى خمس سنوات، وقروضاً من الصناديق العسكرية لشراء سيارات، في حين أن كبار الضباط يحظون بفيلات وسيارات، ويُخصص لهم سائقون حين يتقاعدون.22 صغار الضباط يجب أن يعلّموا أولادهم على نفقتهم الخاصة، وهذه شائبة مهمة نظرًا إلى حالة الوهن والضعف في نظام التعليم الرسمي الحكومي المصري، ما يضطر الوالدين إلى دفع تكاليف الدروس الخصوصية. لكن أولاد كبار الضباط (بل وأقاربهم حتى الدرجة الرابعة وفقًا لأدلة سرديّة) يستفيدون من منح دراسية للانتساب إلى مدارس دولية تديرها القوات المسلحة أو تدار لصالحها.23

أن الاستنساب وليس الأهلية المهنية أو الكفاءة هو صلب آلية الولاء

في المقام الأول، تؤمّن جمهورية الضباط ببساطة مصالح دائرة كبيرة من الضباط السابقين. فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة وهيئة التنظيم والإدارة في وزارة الدفاع هي التي تقرر تعيين الضباط المتقاعدين في المرافق الاجتماعية والشركات العسكرية (بحيث يبقى هؤلاء في السلك ويحتفظون بامتيازات الرتبة)، ما يخدم في المقام الأول خطة "الولاء" أكثر من خدمة منطق استراتيجي واضح. إلا أن العملية بالنسبة إلى غالبية المتقاعدين أكثر عشوائية. فهيئة الرقابة الإدارية ترسل بشكل روتيني إلى الوزراء أسماء ومؤهلات ضباط القوات المسلحة الساعين إلى تعيينٍ بعد التقاعد.24 وقد أدّت هيئة التنظيم والإدارة المسؤولة عن التطوير الإداري والإصلاح، والتي ترأسها اللواء المتقاعد صفوت النحاس في الفترة بين 2004 و2016، دورًا مماثلًا أيضاً.

قوة الاحتياط البيروقراطية العسكرية

وعلى مستوى آخر، انتهجت عملية توزيع متقاعدي القوات المسلحة نمطين أساسيين اثنين ميّزا الاقتصاد العسكري غير الرسمي: الأول، يتم بشكل منهجي تعيين المتقاعدين من كل من صنوف القوات المسلحة في هيئات إدارية أو اقتصادية تتّسق مع مجال خدمتهم السابقة. وتعود جذور هذه الاقطاعيات العسكرية البيروقراطية إلى حقبة الخمسينيات حين عمل الضباط الذين تم تعيينهم في جهاز الدولة على بناء شبكاتهم العسكرية الخاصة في داخل مؤسسات القطاع العام التي أداروها ومنذ ذلك الوقت وهي تضمن للضباط القادمين من كل صنف عسكري المناصب والمهام الميسَّرة والمُدِرَّة للدخل. باتت هذه سمة دائمة من سمات جمهورية الضباط.

على سبيل المثال، يتسلّم ضباط سلاح الجو السابقون إدارة هيئات وشركات الطيران المدني؛ وضباط سلاح البحرية يقومون بعمل مماثل في القطاع البحري وقناة السويس؛ فيما زملاؤهم في سلاح الإشارة يهيمنون على قطاعي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات السلكية واللاسلكية؛ وضباط الجيش يسيطرون على قطاعات البناء والنقل البري والأشغال العامة. أما الضباط المسؤولون عن إدارة النوادي والفنادق التابعة للقوات المسلحة، فهم ينتقلون (كما هو متوقع) إلى قطاع السياحة بعد تقاعدهم. وكذا، أصبح مدير إدارة التوجيه المعنوي في القوات المسلحة وزيرًا للإعلام في العام 2011، ثم رئيساً لاتحاد الإذاعة والتليفزيون. وبرزت أنماط مشابهة في سياقات أكثر تباينًا. مثلًا، كان ثلاثة من أصل أربعة رؤساء للهيئة العربية للتصنيع قادة سابقين في الحرس الجمهوري؛ وجاء كل رؤساء الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء منذ عام 1977 من الجيش، الأمر الذي كان تجسيدًا جليًّا لمبدأ منح المناصب الميسَّرة.

النمط الأساسي الثاني كان التعايش النفعي الذي ترعرع بالتدريج بين مختلف أذرع القطاعات الاقتصادية العسكرية، الرسمية وغير الرسمية. في البداية، كان هذا بالدرجة الأولى استمرارًا للمسار السابق، حيث نَحَتْ الإقطاعيات إلى أن تتمركز في قطاعات يعتبرها رؤساء الجمهورية والحكومات المتعاقبة محركات الاقتصاد المصري، وعلى رأسها البنى التحتية الرئيسة والخدمات المرتبطة بها، والصناعات التحويلية والمغذية المختارة، والهيئات العامة، الإدارية والتنظيمية ذات الصلة. وقد جاء التوازي بين توسّع آلية الولاء التي تطبّقها القوات المسلحة وبين برامج الخصخصة الحكومية في عام 1991 ليدفع قُدُمًا وبقوة عملية تركّز المتقاعدين في تلك القطاعات، لكنه كان لا يزال يعكس على الأرجح إرثًا أكثر من كونه منطقًا استراتيجيًّا واضح الملامح. وتمثل الاستثناء الهام الوحيد هنا في سياسة وزارة الدفاع القاضية بتعيين الضباط في الهيئات المدنية المسؤولة عن التخطيط لاستخدام أراضي الدولة، علمًا أن دافع ذلك ربما كان الأمن القومي إضافة إلى كونه محاولة مبكّرة لتوليد الريع.

منذ عام 2013، طفا على السطح هدف استراتيجي أكثر اتّساقًا أسفر عن تعميق النشاطات والاستثمارات في القطاعات الاقتصادية التي حققت فيها الأطراف العسكرية أصلًا وجودًا مرموقًا، وعن التوسّع في قطاعات أخرى أيضاً. لعل نمط تولي الضباط المتقاعدين رئاسة الهيئات العامة (بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة) على أن يكون لديهم نواب مدنيون من المدراء المحترفين أو المتخصصين في المجالات ذات الصلة، يعكس وعياً متزايدًا بالحاجة إلى ضمان الإنتاجية وحتى الربحية. فهذا يؤمن النفوذ العسكري، إن لم تكن سيطرة، مع ترك أعمال إدارة هذه الهيئات فعلياً للأفراد أصحاب الكفاءة. لكن الحصيلة بقيت مجرد تعايش نفعي بين الاقتصاد العسكري الرسمي وبين جمهورية الضباط، أكثر منه تعاونًا تآزرياً. صحيح أنه كان مفيدًا للجميع، إلا أنه لم يؤد إلى نتائج مشتركة أكبر. ومن هذا المنطلق، فإن الاقتصاد العسكري غير الرسمي هو أشبه بمجرد صورة طبق الأصل عن بقية القطاع العام. ودليل آخر على الإدارة الاستراتيجية يتمثل في تدوير ضباط مؤتمنين بين الهيئات الحكومية والشركات المملوكة للدولة المختلفة (وكثيرًا ما تم ذلك، وإن ليس دائمًا، داخل القطاع نفسه)، وأيضاً في تولّي المناصب البيروقراطية العليا داخل الحكم المحلي.

لكن، بدلًا من أن يدل كل ذلك على وجود اقتصاد ظلٍّ واسع يديره الضباط برقابة مُحكمة وسيطرة مكثفة، فإن ظاهرة "الباب الدوّار" تعكس على الأغلب عوامل متقاربة ولكنها متميزة: توظيف وزارة الدفاع شبكات الضباط لتأمين مصالحها في قطاعات محددة مثل التوريد والتجارة الخارجية من جهة، ومن جهةٍ أخرى تمديد السلطة الرئاسية عبر المحافظين الذين يمثلونه (فيما يستكملون الأنشطة الاقتصادية العسكرية أيضاً). ويخدم كل ذلك منطق المحافظة على النظام القائم والمتبع منذ قيام الجمهورية في عام 1952.25 ويتعين تفكيك شبكات الضباط وخطة الولاء التي تشكّل اللحمة بينهم وبين الإدارة الحاكمة، إذا ما أُريدَ للحكومة المصرية أن تتمكّن يومًا من ممارسة إدارة اقتصادية فعّالة وتحقيق تنمية مُستدامة.

نخبة إدارية عسكرية، أم إقطاعيات عسكرية؟

هناك أربعة أنواعٍ رئيسة من المؤسسات العامة المشاركة في النشاط الاقتصادي في مصر إلى جانب الوزارات الحكومية: المؤسسات الإنتاجية للحكم المحلي، والهيئات العامة الخدمية، والهيئات العامة الاقتصادية، وشركات القطاع العام. وتعتبر الهيئات العامة الاقتصادية وشركات القطاع العام هي الجهات الفاعلة الاقتصادية الرئيسة. وستتم مناقشة شركات القطاع العام لاحقًا، لكن يوجد حاليًا بين 51 و61 هيئة عامة مسؤولة عن الأصول الاقتصادية والميزانيات التشغيلية، والأطر التنظيمية، وقرارات الاستثمار والتطوير، والتنفيذ في أهم قطاعات الاقتصاد، بما في ذلك قناة السويس، والبترول، والتوريد والتجارة، والتأمين الاجتماعي والصحي، والبنية التحتية العامة واستصلاح الأراضي، وغيرها. كما ينبغي إضافة بعض الهيئات من أصل حوالي 120 هيئة عامة خدمية إلى ذلك، حيث تؤثر على النشاط الاقتصادي أو تدرّ دخلًا بطريقة أو بأخرى. وتعمل الهيئات العامة كشركات شبه مستقلة بموجب القانون رقم 11 لعام 1979، الذي يفصل ميزانياتها عن ميزانية الدولة العامة.26

يحتل متقاعدو القوات المسلحة موقعاً مهمًا في الهيئات العامة التي تمنح العقود الحكومية في مروحة واسعة من المجالات تشمل النقل، والإسكان، والبناء، واستصلاح الأراضي، والبنى التحتية، والمرافق العامة، والمناجم والمحاجر، والنفط، والسياحة، والأعلام، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والطاقة (شاملة النووية منها)، والأوقاف الدينية. تقع معظم هذه الهيئات، التي تأسست بمراسيم رئاسية، تحت سلطة الوزارات المعنية المسؤولة عن تلك القطاعات، ماعدا حفنة تعتبر مستقلة تمامًا، كهيئة قناة السويس. وبالإضافة إلى ذلك، صدر في عام 1995 المرسوم الرئاسي رقم 281 الذي أعطى الهيئات العامة اختصاصات محددة للقيام بأعمال التخطيط، والتنفيذ، والتشغيل، وصيانة الأعمال المتعلقة بمياه الشرب والصرف الصحي في بعض المحافظات.27 وعشية تنفيذ برنامج الخصخصة عام 1991، كانت الهيئات العامة تمثّل 23 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المصري، وكان يجري تمويل موازناتها التشغيلية إما من نشاطاتها الخاصة، أو من بنك الاستثمار القومي، أو من أقنية المساعدات الخارجية عبر الحكومة - ومعظم الهيئات تعمل بخسارة.28

تولى متقاعدو القوات المسلحة رئاسة أو نيابة أو عضوية مجلس الإدارة في 40 هيئة من أصل 72 هيئة عامة تم معاينتها من أجل هذا التقرير (معظمها اقتصادية ولكن بعضها خدمية)، أي نسبة 56 في المئة منها، في عام 2018. وهذا لا يشمل عشر هيئات تابعة لوزارة الدفاع، يرأسها كلها ويشغل مناصبها ضباط من القوات المسلحة. كما يحتل متقاعدون عسكريون نسبة مماثلة من المناصب في نحو 24 من الهيئات الحكومية التي تقوم بتشكيل المجال الاقتصادي: الهيئات القومية التي تشرف على السكك الحديد، والتأمين، ومعاشات التقاعد، والبريد، وغير ذلك، التي تأسست بموجب قوانين منفصلة تمنحها مكانة متساوية مع الوزارات؛ والمجالس أو المراكز القومية المُناط بها التخطيط أو وضع السياسة العامة في حقول محددة وضيقة النطاق مثل الطاقة واستخدام الأراضي؛ وأجهزة الدولة المركزية التي تقوم بالرقابة، والتنظيم، والإحصاء وغيرها من المعلومات. ثم إن بعض الهيئات العامة لها فروع جهوية أو إقليمية يرأسها غالباً متقاعدون عسكريون. المثل البارز هنا هو الجهاز المركزي للتعمير في وزارة الإسكان الذي يُعتبر موظِّفًا رئيساً لمهندسي القوات المسلحة.

تولى متقاعدو القوات المسلحة رئاسة أو نيابة أو عضوية مجلس الإدارة في 40 هيئة من أصل 72 هيئة عامة تم معاينتها من أجل هذا التقرير.

يكشف التوزيع القطاعي لمتقاعدي القوات المسلحة تمركزًا ملحوظًا بشكل خاص في البنى التحتية للنقل والخدمات المرافقة؛ وفي مرافق معينة؛ والإسكان والمجتمعات العمرانية؛ واستصلاح الأراضي. فالضباط هم رؤساء أو أعضاء مجالس الإدارة في 15 من أصل 16 هيئة عامة للنقل، (البري، بما فيها الطرقات، والجسور، والأنفاق؛ والبحري، بما في ذلك الموانئ؛ والجوي)؛ كما يرأسون كذلك الهيئتين القوميتين للأنفاق والسكك الحديد؛ واثنتين من أصل ثلاث هيئات عامة في الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة؛ وهيئة واحدة من أصل هيئتي استصلاح الأراضي؛ وثلاثًا من أصل سبع هيئات في القطاع الزراعي؛ والهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي.

من الجلي هنا أن القاسم المشترك هو المقاولات والإنشاءات، لكن السيطرة على استخدامات الأرض هو العامل الداعم الرئيس: فهي تكمن في جوهر النهج التجاري الذي تتبعه المؤسسة العسكرية. ومتقاعدو القوات المسلحة قد ترأسوا المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة لنحو عقدين. علاوة على ذلك، فإن تلك السيطرة توطّد تمدد جمهورية الضباط في مجال تنمية وبناء المنتجعات السياحية وخصوصًا في المناطق الساحلية الرئيسة، التي تقع كلها تحت سلطة وزارة الدفاع بوصفها "مناطق استراتيجية". ويرأس متقاعدو القوات المسلحة أو ينضمون إلى عضوية مجالس الإدارة في 7 من أصل 11 هيئة عامة للسياحة. وهم موجودون للسبب نفسه بكثافة في هيئات إقليمية مهمة، أبرزها قناة السويس، ومحور التنمية الاقتصادية في السويس، والهيئة العامة لتنمية سيناء. أيضاً يلعب متقاعدو القوات المسلحة دورًا مهمًّا في الهيئات الحكومية التي تتعامل مع العقارات، بما في ذلك المباني التعليمية، والأوقاف الدينية (التي تدير أصولًا مقدرة بقيمة 70 مليار جنيه مصري في عام 2016، أو 4.24 مليارات دولار أمريكي)، وإدارة العقارات للتأمين الاجتماعي.29

السيطرة على استخدامات الأرض هو العامل الداعم الرئيس: فهي تكمن في جوهر النهج التجاري الذي تتبعه المؤسسة العسكرية، ومتقاعدو القوات المسلحة قد ترأسوا المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة لنحو عقدين

تمتد جمهورية الضباط بطبيعة الحال أيضاً إلى استصلاح الأراضي والمشاريع الزراعية واسعة النطاق المتصلة، ما يواصل مسلسل طويل من الانخراط والتدخّل الذي لم يتوقّف منذ عهد عبد ناصر. وكما لاحظ روبرت سبرينغبورغ في أواخر سبعينيات القرن الماضي أن "حالة الحضور القوي للضباط العسكريين السابقين لم تنتهِ بوفاة عبد الحكيم عامر أو جمال عبد الناصر، ومعظمهم من منتفعي عامر، في الإدارات البيروقراطية والقطاع العام المسؤولة عن استصلاح وزراعة الأراضي".30 كما أضاف أنهم كانوا ملتزمين بمواصلة هذه الأنشطة لأنهم اعتقدوا أنها مرغوبة، وكذلك "لأنه بدون مثل هذه الأنشطة، لن يترك للشركات والمؤسسات الحكومية التي يعملون فيها سوى القليل لتفعله أو لا شيء".31 إن هذا التركيز مستمر بعد أربعين عامًا. فعلى سبيل المثال، إن رئيس الهيئة العامة للتعمير والتنمية الزراعية، وهو من متقاعدي القوات المسلحة، هو أيضاً عضو في مجلس إدارة شركة تنمية الريف المصري التي تشكلت من أجل تنفيذ استصلاح مليون ونصف مليون فدان من الأراضي الصحراوية بناء على أوامر السيسي في عام 2014، وذلك إلى جانب رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ونائب وزير الإسكان، وهما أيضاً من متقاعدي القوات المسلحة. وعلاوة على ذلك، تقع الأراضي الصحراوية هذه في منطقة مشاريع استصلاح أراضٍ سابقة كانت قد استثمرت فيها القوات المسلحة منذ عقود في الفرافرة وتوشكى وغرب المنيا الغربية والمغارة.32

تضم جمهورية الضباط أيضاً ستًّا من أصل تسع هيئات عامة تقع تحت صلاحيات وزارة التجارة والصناعة، ولها تأثير على كلِ من الشركات العامة والخاصة. ويمارس متقاعدو القوات المسلحة نفوذاً متنامياً من خلال الهيئات القومية كالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء - وهو الهيئة العامة الوحيدة المخوّلة بإصدار الإحصاءات الرسمية، والتي كان يرأسها متقاعد من القوات المسلحة منذ عام 1980- وهيئة الرقابة الإدارية. إضافة إلى ذلك، يحتلّ ضباط هيئة الرقابة الإدارية مواقع في نحو 18 هيئة حكومية كالمجلس القومي للمدفوعات، والمجلس الأعلى للسياحة، والمجلس الأعلى للاستثمار، الأمر الذي لا يمدد سلطة رئيس الجمهورية فحسب، إنما يخدم أيضاً جمهورية الضباط. وللضباط المتقاعدين وجود قوي أيضاً في اتحاد الإذاعة والتلفزيون (المعروف باسم ماسْبيرو)، هذا في حين أن رئيس أركان سلاح الإشارة بالقوات المسلحة هو قانونياً عضو في الهيئة القومية للاتصالات السلكية واللاسلكية (وكذلك شركة الاتصالات الرسمية في البلاد "المصرية للاتصالات").

ويمارس متقاعدو القوات المسلحة نفوذاً متنامياً من خلال الهيئات القومية كالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء- وهو  الهيئة العامة الوحيدة المخوّلة بإصدار الإحصاءات الرسمية

توضح الهيئة العامة للتنمية الصناعية كلًّا من امتداد النفوذ الذي تتمتع به جمهورية الضباط عندما يرأس أحدهم هيئة حكومية تعمل كمحور هام لهيئات أخرى. فقد خضعت الهيئة العامة للتنمية الصناعية لضابط متقاعد لأول مرة في عام 2011، وقبل ذلك كان يرأسها دائمًا مدير سابق في الهيئة الهندسية أو إدارة المياه التابعتين للقوات المسلحة. إن اللواء الذي شغل هذا المنصب في عام 2016، هو بفضل ذلك أيضاً عضو مجلس إدارة كلٍّ من الهيئة العربية للتصنيع، والمركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة، ومركز تحديث الصناعة، والهيئة العامة لتنفيذ المشروعات الصناعية والتعدينية، وشركة أبو قير للأسمدة، والهيئة المصرية العامة للمواصفات والجودة، والهيئة العامة للمناطق الاقتصادية، وهيئة كهرباء الريف، والمنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين، وهيئة المواد النووية، وجهاز شؤون البيئة، ومركز بحوث وتطوير الفلزّات.33

يُعدّ قطاع الملاحة البحرية خير مثال على إظهار الكيفية التي تعمّقت وتوسعت فيها جمهورية الضباط. يأتي في مقدمة ذلك إحكام القبضة المستمرة على هيئة قناة السويس، وهي واحدة من أهم مصادر مصر للعملات الأجنبية. فقد ترأس ضباط القوات المسلحة هذه الهيئة على نحو متواصل منذ عام 1964، كما أن العديد من قادة سلاح البحرية السابقين يشغلون حالياً مناصب نواب رئيس الهيئة. والحال أن ضباط البحرية سيطروا لعقود على 29 ميناءً مصرياً من أصل 43 ميناء مرفأ متخصص (للتجارة، والتعدين، والنفط، والسياحة، وصيد السمك)، كما هيمنوا على العديد من الشركات والوكالات البحرية المتُخصصة (وهذا ما سنتطرق إليه في القسم التالي). هذا التموضع سمح لجمهورية الضباط بالتمدد الأفقي نحو هيئات على غرار الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، وهي منظمة مشتركة بين الحكومات العربية، ومعها مركز الأبحاث والاستشارات التابع لها. فإن 17 من أصل 28 عضواً في مجلس إدارة الأكاديمية هم ضباط بحريون يرأسون الهيئات العامة والشركات البحرية.34 ومن ناحية ثانية، يرأس متقاعد عسكري بحري الاتحاد العربي لغرف الملاحة، الذي أسّسه مجلس الوحدة الاقتصادية العربية التابع للجامعة العربية. بيد أن إدارة قطاع النقل البحري في مصر كانت بائسة إلى درجة أن المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة وضعتها على اللائحة السوداء في عام 2010، مُشيرة إلى الفساد المتفشي الذي يؤثّر على عمليات تفحّص سلامة وصيانة السفن والعبّارات.35

فضلًا عن ذلك، يترافق حضور متقاعدي القوات المسلحة في مناصب قيادية داخل الهيئات الحكومية مع انتشار جمهورية الضباط بشكل أوسع في كافة أرجاء الإدارات البيروقراطية التي يرأسونها. على سبيل المثال، تضمنت لائحة غير كاملة نشرتها أجهزة الإعلام خلال عام 2016 لعدد اللواءات في وزارة النقل: أربعة مستشارين للوزير، ورئيس ومستشار في قطاع النقل البحري، مدير الإدارة العامة للمراسم، مدير الإدارة المركزية للديوان العام، مدير وثلاثة أعضاء في مركز الأزمات، رئيس هيئة السكك الحديد، رئيس ونائب رئيس في الإدارة المركزية للشؤون الإدارية، رئيس الإدارة المركزية للمنشآت والمحطات، مساعد رئيس لهيئة الأملاك والإعلانات في الهيئة العامة للطرق والكباري والنقل البري، رئيس قطاع التنفيذ والمناطق، رئيس قطاع الحركة، رئيس الإدارة المركزية للشؤون الإدارية للموانئ البرية والجافة، رئيس الهيئة المصرية لسلامة الملاحة البحرية، رئيس قطاع المنائر في هيئة السلامة البحرية، ومستشار شؤون الموانئ والمنائر في قطاع النقل البحري.36 أما الوزارة نفسها فكانت في الفترة بين 2015 و2016 برئاسة لواء متقاعد من القوات المسلحة، والذي سبق له أن ترأس الهيئة العامة للطرق والنقل البري في 2014- 2015.

عسكرة الحكم المحلي

تتواجد هذه الأنماط نفسها في الحكم المحلي، الذي يتضمن حتمًا أكبر تمركز للعسكريين - البيروقراطيين تقريباً، علمًا أن ليس لديهم سيطرة حصرية، حيث إن الحكومة المحلية هي أيضاً مزودة بكثافة من قبل ضباط الشرطة والأمن السابقين، ما يولِّد، ما يطلق عليه روبرت سبرينغبورغ، الاحتكار الثنائي على السيطرة.37 ويأتي دمج متقاعدي القوات المسلحة المصرية في الحكم المحلي على نطاقٍ واسعٍ للغاية، ليوحي بقوة بأن المؤسسة العسكرية موجودة في جميع أنحاء الفضاء العام في مصر. هناك الآن 27 محافظة كانت مقسَّمة في عام 2002 إلى 166 مركزًا و200 منطقة حضرية مسجّلة كمدن، تليها مئات من الأحياء المدينية و4617 قرية (بينها 920 بحجم يتيح لها مجلسها المحلي الخاص). ويتم تعيين المسؤولين في كل مستويات الحكم المحلي بالأمر التنفيذي منذ الستينيات في القرن الماضي ـــ المحافظون من قِبَل الرئيس، ورؤساء المراكز والمدن من جانب رئيس الحكومة، وهلم جرًّا - الأمر الذي جعل هذا القطاع الحكومي مصدرًا مثالياً للمناصب الميسّرة لمتقاعدي القوات المسلحة.38

ويأتي دمج متقاعدي القوات المسلحة المصرية في الحكم المحلي على نطاقٍ واسعٍ للغاية ليوحي بقوة بأن المؤسسة العسكرية موجودة في جميع أنحاء الفضاء العام في مصر.

وقد وصل عدد المحافظين المتحدّرين من القوات المسلحة إلى أدنى مستوياته في أواخر عهد السادات في عام 1980، حيث بلغ 20 في المئة، لكنه ما لبث أن ارتفع إلى ما بين 50 إلى 80 في المئة على نحو متواصل منذ التسعينيات، مع هبوط حاد ولكن مؤقت في عهد مرسي في الفترة 2012-2013. ومنذ الاستيلاء العسكري على الحكم في تموز/يوليو 2013، عاد هذا النمط إلى التزايد، حيث تم تعيين 17 من أصل 27 محافظاً في تشرين الثاني/نوفمبر جاءوا من القوات المسلحة (واثنين من لواءات الشرطة)، أي بمعدلات أعلى مما كانت عليه في حقبة مبارك، التي كانت عالية في الأساس. وكان قد تم الاحتفاظ بهذه الأعداد خلال جولة التعيينات الرئيسة التالية التي أعلنت في آب/أغسطس 2018.

وعلى الرغم من أهمية عدد المحافظين، إلا أنه يحوّل الانتباه عن الحقيقة الأكثر أهمية المتمثلة في احتلال المتقاعدين العسكريين نسبة أكبر في المناصب التابعة للحكم المحلي، ومنها: نائب المحافظ، مدير مكتب المحافظ، الأمين العام ومساعد الأمين العام للمجلس المحلي للمحافظة، وكذلك مساعدون ومستشارون للمحافظ في مروحة واسعة من المجالات التخصصية. وهذا المنحى يتكرر على المستويات الإدارية الأدنى للمراكز، والمدن، والأحياء، والقرى.39 علاوةً على ذلك، لكل محافظة مع توابعها من مراكز ومدن مديروها الخاصون في مجالات التخطيط، والأملاك، والمالية، والمشاريع والشؤون الفنية والهندسية، الذين يديرون الإدارات الخدمية، وفروع شركات المرافق، وكيانات حكومية أخرى. هؤلاء المسؤولون يستنسخون أو يشرفون على نشاطات الإدارات الحكومية في مجالات الخدمات الاجتماعية والصحية، والتعليمية، وفي والرعاية والتنمية، ويحددون في كثير من الأحيان كيف ستنفق موازنات تلك الإدارات محلياً. كما يرأس متقاعدو القوات المسلحة الإدارات المركزية في وزارة التنمية المحلية، مثل هيئات تنمية القرى والحرف.

إن التغطية الإعلامية البارزة تشجّع المواطنين على إسباغ الفضل في الخدمات التي يقدّمها الحكم المحلي على القوات المسلحة. لكن الأقل وضوحاً هنا هو الاقتصاد الموازي الذي يديره الرؤساء المحليون في إدارتي البيئة والجيولوجيا وباقي الخدمات الإدارية، الذين يستغلون سيطرتهم على إجراءات التسجيل ومنح الرخص لرجال الأعمال، والمنظمات غير الحكومية، والمحاجر، والمناجم، وغيرها، لاقتناص مداخيل غير قانونية من رشى وعمليات ابتزاز. وهذا واضح في التقارير التي تشير إلى أن الفساد في مؤسسات الدولة يبلغ ذراه في الحكم المحلي.40 وهذه الأنماط جليّة وواضحة على وجه الخصوص في المحافظات التي يُعتبر أنها تؤثر على الأمن القومي مثل سيناء، التي يتمركز فيها متقاعدو القوات المسلحة بكثافة، وكذلك في مناطق الموارد المعدنية والاستثمارات الحكومية.

إن التغطية الإعلامية البارزة تشجّع المواطنين على إسباغ الفضل في الخدمات التي يقدّمها الحكم المحلي على القوات المسلحة المصرية

يكشف الحكم المحلي عن مدى تداخل وتشابك مختلف أجزاء الاقتصاد العسكري غير الرسمي. فتوزيع المحافظات يتّبع نمطاً واضحاً، حيث قادة المناطق العسكرية السابقون (الذين يأتون من القوات البرية، أي الجيش) يتسلمون عادة رئاسة محافظة القاهرة (أو مناطقها الفرعية الأربع)، والسويس، ومحافظة سيناء، على سبيل المثال، فيما البحرية تأخذ عادةً المحافظات الساحلية، وتحكم القوات البرية أو إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع المناطق الداخلية أو الحدودية الحساسة كمنطقة الصعيد. هذا التوزيع يترافق مع خريطة الِأشغال العامة والنشاطات والمشاريع الاقتصادية التي تقوم بها جهات عسكرية رسمية جنباً إلى جنب مع زملائهم العسكريين غير الرسميين في الهيئات الحكومية. فضلًا عن ذلك، يستثمر الجميع بكثافة في بناء الطرق السريعة وتوابعها من بنى تحتية وخدمات تتعلق بمناطق التمركز هذه.

يتم اختيار المحافظين من بين ضباط القوات المسلحة الأكثر ولاء وفعالية في خدمة السلطة الرئاسية، ولهذا السبب يتنقلون باستمرار بين مواقع الاقتصاد العسكري غير الرسمي. ويكفي هنا مثالان حديثان على ذلك: الأول هو اللواء عمرو عبد المنعم الذي كان مدير هيئة التسليح، ثم مدير مكتب المشتريات العسكرية في واشنطن خلال حكم مبارك، وأصبح أمينًا عامًا لمجلس الوزراء غداة الاستيلاء العسكري على الحكم في تموز/يوليو 2013، وبعدها عُيِّن نائب وزير في 2014، وأخيرًا أصبح محافظ القليوبية في أيلول/سبتمبر 2016.41 والمثل الثاني هو اللواء عاطف عبد الحميد مصطفى الذي أصبح محافظاً للقاهرة في العام نفسه، وترأس سابقًا مجلس إدارة شركة مصر للطيران للصيانة والأعمال الفنية وكذلك الشركة القابضة لمصر للطيران من 2002 وحتى 2008.42

برّر وزير التنمية المحلية في العام 2016 أحمد زكي بدر الاعتماد الكثيف على الضباط بالقول إن "الناس لم تعد تُقبل على منصب المحافظ ولا تحبه، لأن أعباءه كثيرة ومن دون أي مقابل. كما أن [المرشحين الكفوئين] أصبحوا يحجمون عن هذه المناصب".43 وفي خطوة بدا أنها تؤكد هذه النقطة، جاء 19 من 93 من المرشحين رفيعي المستوى في منافسة لتعيين "قادة ممتازين" في الوزارة في تموز/يوليو من القوات المسلحة وحدها.44 ومن سخرية القدر أن من خلفَ بدر في التعديل الوزاري الذي جرى في شباط/فبراير 2018 كان اللواء المتقاعد أبو بكر الجندي الذي كان قد ترأس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء منذ عام 2005. كان أول عمل قام به الجندي هو تشكيل هيئة جديدة هي الهيئة العليا لتنمية جنوب صعيد مصر، والتي سيمثّل في مجلس مديريها كلٌ من وزارة الدفاع ووزارة الإنتاج الحربي بحكم القانون، بالإضافة إلى وضع أحد متقاعدي القوات المسلحة في منصب رئيس مجلس إدارتها.45

التغلغل في الشركات المملوكة للدولة

يشكّل تمدد جمهورية الضباط في الشركات الاقتصادية التابعة للدولة، المكوّن الرئيس الثاني في الاقتصاد العسكري غير الرسمي. ومثل الكثير من الجوانب الأخرى للاقتصاد العسكري، هذا أيضاً له جذوره من عهد عبد الناصر. لكن برنامج الإصلاح الاقتصادي والتصحيح الهيكلي الحكومي للعام 1991 هو الذي وفّر لمتقاعدي القوات المسلحة الفرص التجارية الأكثر سخاءً، والتي لم يتوانوا لحظة عن اغتنامها. هذا إضافة إلى أن الخصخصة تزامنت مع تبوؤ طنطاوي منصب وزير الدفاع، ما أطلق العنان أكثر لتطبيق آلية الولاء. وبديهي بعد ذلك أن يكون التوزيع القطاعي لمتقاعدي القوات المسلحة في الإدارات البيروقراطية المدنية الذي تطرقنا إليه في الصفحات السابقة، وفي شركات القطاع العام، متماثلين تمامًا في كلا المرحلتين.

وكما لاحظ العالم السياسي جمال سليم، كان سلك ضباط القوات المسلحة "المعبر الأساسي إلى المناصب الحكومية العليا منذ حقبة عبد الناصر"، وهذا يشمل رئاسة شركات القطاع العام.46 وأضافت خبيرة الاقتصاد السياسي سامية سعيد أن تمديد الإدارة الأمنية المصرية لتشمل سوريا خلال فترة الوحدة قصيرة الأجل بين البلدين (1958-1961) إلى جانب التدخل العسكري المصري في اليمن (1963-1967) عمل على تعزيز دمج البيروقراطية العسكرية في مجموعة واسعة من الأنشطة التجارية، كما فعل عامر عندما ترأس المجلس الأعلى للمؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي اعتبارًا من نيسان/أبريل 1961 إلى ما بعد ذلك.47

وقد سمح التحرير التدريجي للاقتصاد المصري بدءاً من منتصف السبعينيات بتوسيع دائرة ومجالات توظيف متقاعدي القوات المسلحة، من خلال السماح بتأسيس ما يقدر بنحو 240 مشروعاً مشتركاً بين شركات محلية وأجنبية خاصة.48 وكما ناقش روبرت سبرينغبورغ وكليمنت مور هنري، كان السادات قد قام بتعويض المؤسسة العسكرية عن "فقدانها الشكلي للسلطة وسماحها بإعادة تأهيل النظام السياسي المدني" من خلال توفير "رعاية زبائنية مستمدة من عمليات اقتصادية شبه مخصخصة، والتي تم وضع الكثير منها تحت أمرة عسكرية" وبوسائل مثل "إنشاء طرق للتحكم عن بعد تمر عبر الاقتصاد السياسي".49 بينما تعطي القائمة الجزئية التي أعدتها سعيد شعورًا بتنوع الشركات والقطاعات التي شغل فيها المتقاعدون العسكريون مناصب عليا أو كان لديهم حصص كبيرة فيها: بنك النيل وبنك الدلتا الدولي المُنشآ حديثًا، وواردات التبغ، والاستثمار العقاري، ولوازم البناء، والطباعة والنشر، ووكالة سيارات "بيجو"، والملاحة البحرية والشحن، وإنتاج الغرانيت والرخام، والبناء، والقرطاسية، والأحذية، والحفاظ على المواقع الثقافية.50 كما قامت الشركات الكبرى المملوكة للدولة مثل شركة "المقاولون العرب" بتوظيف "عشرات اللواءات بعشرة أضعاف رواتبهم السابقة"، وكانت هذه الأخيرة دائمًا مقاولًا فرعيًّا للمشاريع التي تديرها وزارة الدفاع منذ ذلك الحين.51

أعطى إطلاق عملية الخصخصة في عام 1991 دفعة كبيرة لهذا الجزء من الاقتصاد العسكري غير الرسمي. جمّع برنامج الإصلاح الاقتصادي والتصحيح الهيكلي، الذي أُعِّد بمساعدة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، 314 شركة تملكها الدولة في قطاعات صناعية وتجارية في إطار27 شركة قابضة ووضعها تحت إشراف إدارة موجّهة نحو السوق.52 ويشار إلى أنه في ذلك الوقت، كانت الشركات والمؤسسات العامة تنتج قرابة العشرة في المائة من إجمالي الناتج المحلي وتوظف حوالي ستة في المائة من القوة العاملة، وهيمنت بالإضافة إلى ذلك على قطاعي البنوك والتأمين.53 وقد استثنى قانون المؤسسات العامة الرقم 203 للعام 1991، الذي نظّم هذا البرنامج، هذه المؤسسات من التقيّد بالإجراءات المعهودة المرعية في منح عقود المشتريات والأشغال المطلوبة من الهيئات الحكومية. كما أنها أعطت مجالس المديرين حق منح الموظفين – وأنفسهم - الرواتب والمزايا، والمعاشات التقاعدية التنافسية، وأيضاً المكافآت الاستنسابية، ما وضعهم على قدم المساواة مع شركات القطاع الخاص. فباختصار، لقد حُررت الشركات العامة في مصر من القيود التي فُرضت عليها سابقًا كشركات مساهمة اسمية تم تشكيلها بموجب القانون 97 لعام 1983، وبات يتم التعامل معها مثل الشركات الخاصة من جميع النواحي (ما لم يوجد ما ينص على خلاف ذلك).54

الحاسم هنا هو أن القانون الرقم 203 طبّق ليس فقط على الشركات المُرشّحة للخصخصة، بل أيضاً على الشركات التي لم تزل في حضن الملكية العامة. وكما لاحظ المدير السابق لدائرة مصر في البنك الدولي خالد إكرام، يضع هذا القانون نشاطات القطاع العام "على قدم المساواة تقريباً مع الشركات الخاصة في مجال السياسات الإدارية والمالية والتوظيف".55 وقد أسفر ذلك عن فُرص لا سابق لها لمديري هذه الشركات. وسبق لقانون في عام 1980 أن وضع ميزانيات شركات القطاع العام خارج نطاق ميزانية الدولة، على الرغم من أن هذه الأخيرة هي التي تموّل عجوزاتها الصافية، لكن بات بإمكانها الآن خصخصة أرباحها فيما يتم تأميم الخسائر.56 وهذا بالطبع سحب نفسه أيضاً على الاقتصاد العسكري.

وسبق لقانون في عام 1980 أن وضع ميزانيات شركات القطاع العام خارج نطاق ميزانية الدولة، على الرغم من  أن هذه الأخيرة هي التي تموّل عجوزاتها الصافية، لكن بات بإمكانها الآن خصخصة أرباحها فيما يتم تأميم الخسائر

الاستجابة العسكرية

بيد أن الاستجابة العسكرية لعملية الخصخصة كانت متناقضة. فمن جهة، انتصب ضدها دعاة الاقتصاد الوطني الذين عارضوا بيع ما يعتبرونه مؤسسات ناجحة تابعة للدولة. ويتذكّر أحد زملاء طنطاوي في مجلس الوزراء أن هذا الأخير ضغط بقوة على وجه الخصوص لمنع بيع مصارف كبرى مثل بنك القاهرة وبنك الإسكندرية خلال الموجة الكبرى الثانية من الخصخصة في 2004-2009، لكن مبارك أحبط مساعيه هذه.57 ووفق لواء سابق، كانت شركات القطاع العام - بما في ذلك العسكرية منها - تعتمد على الاقتراض من المصارف التابعة للدولة لدفع رواتب موظفيها، ما أدى إلى تراكم الديون الهالكة.58 وأظهرت برقية مُسربة في عام 2008 أن السفارة الأميركية في القاهرة كانت تعتقد أيضاً "أن العسكر يعتبرون جهود [الحكومة المصرية[ للخصخصة بمثابة تهديد لموقعهم الاقتصادي، وهم بالتالي يعارضون الإصلاحات الاقتصادية".59

لكن المؤسسة العسكرية عارضت الخصخصة كذلك لأن المشترين غالباً ما أرادوا ببساطة تجريد شركات القطاع العام السابقة من أصولها، خاصة الأراضي، وهددت الاستقرار الاجتماعي والسياسي من خلال صرف العمال. مثل هذا القلق كان مبررًا، حيث إن العمالة انخفضت فعلًا بنحو 75 في المئة في الشركات المخصخصة.60 والواقع أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أشارت، بعد إطاحة مبارك، إلى موقفها السابق كدليل على أنها كانت تدافع عن المصلحة الوطنية، حتى قبل أن ترفض أوامره باستخدام القوة ضد المتظاهرين خلال الربيع العربي عام 2011.

ومن جهة أخرى، استفادت جمهورية الضباط من برنامج الإصلاح الاقتصادي والتصحيح الهيكلي بشكل كبير، بعد أن تمتع متقاعدو القوات المسلحة بزيادات هائلة في مداخيلهم من خلال التعيين في شركات القطاع العام، سواء أكانت مخصخصة أم لا. وقد أكد وزير سابق، استنادًا إلى مناقشة في عام 2011 مع ضباط عسكريين كانوا لا يزالون في الخدمة، أن قادة هيئة الأركان ونوابهم من مختلف فروع القوات المسلحة يتطلعون، فور تقاعدهم، إلى الحصول على رواتب شهرية تبلغ مليون جنيه مصري (168 ألف دولار آنذاك) لقاء إدارتهم الشركات التي تملكها الدولة.61 كما يمكنهم أيضاً أن يكونوا أعضاء في مجلس إدارة شركة أو أكثر من شركات القطاع العام وهم ما زالوا في الخدمة، فيتلقون رواتب تراوح بين 250 و500 ألف جنيه (42- 84 ألف دولار).

هذا "الفساد المُمأسَس"، على حد تعبير هذا الوزير، شكَّل ذروة آلية الولاء. ووفقًا لأحد معارضي الحكومة، كان رؤساء الخمس وخمسين شركة من أكبر الشركات في مصر، والتي ادّعى أنها تسيطر معاً على ثلث اقتصاد البلاد، من متقاعدي القوات المسلحة في عام 2014.62 قد يكون ثمة مبالغات كبيرة في كلا الرقمين، ولكن فيهما بعض الحقيقة أيضاً. إذ إن الضباط المتقاعدين تموضعوا بشكل جيد أيضاً للاستفادة من بيع الأسهم في شركات قطاع عام مختارة عبر ترتيبات مسبقة (وليس من خلال مزاد علني مفتوح). وقد استحوذت وزارة الدفاع على 75 في المئة من شركة النصر للخدمات والصيانة، على سبيل المثال، وكانت اليد العليا فيها للمتقاعدين العسكريين.63

الارتباطات السياسية ودولة رأسمالية المحاسيب

اعتمد نمط التغلغل في شركات القطاع العام التي جرى خصخصتها بشكل كثيف على الارتباطات السياسية. كما أنه كشف أيضاً عن مدى تشبّث رأسمالية الدولة في مصر، حيث تمكّن النظام أن يأخذ نصيبه من الكعكة بل وأن أكلها أيضاً، كما لاحظ روبرت سبرينغبورغ وكليمنت مور هنري، إذ يدير نمط رأسمالية المحاسيب بينما يُظهِر نفسه وكأنه ملتزم بإجماع واشنطن المؤيد لسياسات اقتصاد السوق الحر.64

فطيلة نحو عقدين من الزمن، كان السياسيون ورجال الأعمال المقرّبون من مبارك أو نجله الأكبر جمال يقطفون حصة الأسد مما تم خصخصته سواء جزئياً أو كلياً في الاقتصاد، وكان العديد منهم أعضاء في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم. ووفقًا للخبراء الاقتصاديين دارون عاصم أوْغلو، وطارق حسن، وأحمد طحون، لم يكن هناك تقاطع بين الشركات المرتبطة بالحزب الوطني الديمقراطي وبين الشركات العسكرية، علمًا أن الشركات المرتبطة بالحزب الوطني الديمقراطي كانت قيمتها أكثر بنحو عشرة أضعاف من الشركات العسكرية.65 بيد أن تغيّر الحظوظ السياسية في أعقاب عام 2011 قلب الصورة، حيث قامت الشركات على جناح السرعة بتغيير مجالس إداراتها "كي تضم ممثلين عن المجموعة التي وصلت إلى السلطة خلال كل مرحلة من مراحل الربيع العربي في مصر، وخاصة من القوات المسلحة. فحدث "هبوط حاد في ربحية الشركات المرتبطة بالقوات المسلحة" خلال العمر القصير لإدارة مرسي، أعقبتها "زيادة واضحة في عدد الضباط في مجالس الإدارات بعد عام 2013".66 علاوة على ذلك، كانت 12 شركة قطاع عام قابضة لديها ضباط في مجالس إدارتها تستحوذ على 33 شركة من أصل الـ177 شركة المسجّلة في سوق الأوراق المالية في عام 2013، أو كان لديها أسهم فيها، وفق إحصاء أوغْلو وحسن وطحون.67

الجدير بالملاحظة هنا أن التوزيع القطاعي لشركات القطاع العام المرتبط بالجهات العسكرية يتطابق مع باقي الاقتصاد العسكري على نحو كامل تقريبًا. فشركات القطاع العام هذه، مثلها مثل الشركات العسكرية المسجلّة والهيئات العامة التي لديها ارتباطات عسكرية، تتركّز أساساً في قطاعي النقل البحري والجوي (43 في مجالات الإدارة، والخدمات، والشحن والتخليص، وشركات التخزين)، وفي البنى التحتية والنقل (31 شركة، كلها ماعدا اثنتين ملكية عامة بالكامل). ولهذه الشركات أيضاً أدوار كبرى في الصناعات الكيماوية وتلك المتعلّقة بالبترول وفي المنسوجات (14 شركة)، وتموين تخزين المواد الغذائية (14)، والمقاولات والإنشاءات (11)، والسياحة (9)، والطاقة (5، بما في ذلك الشركات المتعلّقة بالنقل والخدمات) والعقارات والسيارات والتجارة (7). وتستند هذه الأرقام إلى مسح أُجري لهذا التقرير أظهر وجود 137 شركة قطاع عام لها ارتباطات عسكرية في عام 2016. كما كشف مسح محدَّث عن حدوث تراجع طفيف، إلا أن متقاعدي القوات المسلحة ما زالوا يرأسون مجالس إدارة 128 من أصل 374 شركة، أو هم أعضاء فيها، أي بنسبة 35 في المئة. والنسبة نفسها صحيحة أيضاً في الشركات التي جرت خصخصتها (جزئياً أو كلياً) كما في تلك التي كانت لاتزال في حيازة الملكية العامة في أيار/مايو 2018.68

أدّت فوائد الإدارة الموجهة نحو اقتصاديات السوق الحر، خاصة منها التحوّل إلى قواعد أكثر ليبرالية في ما يخص إصدار العقود وتقديم الحوافز المالية للمديرين على قدم المساواة مع القطاع الخاص، إلى حدوث استجابة موازية. فمع أنه لم تتم خصخصة الهيئات العامة بموجب القانون رقم 203 لعام 1991، وبالتالي ظلت خاضعة لمعدلات الرواتب الحكومية الاعتيادية، قام مديرو بعض هذه الهيئات بالمطالبة بتحويل هيئاتهم إلى شركات قابضة أو فرعية. وقد أقّر هذا الطلب في حالات الخطوط الجوية الوطنية (مصر للطيران)، وفي الهيئات العامة للمطارات الرئيسة، وفي كل مؤسسات الطيران المدني تقريبًا، التي ضغطت كلها بقوة لإجراء هذا التحوّل. لكن القطاع البحري لم يحذُ حذوه، غالباً بسبب ضعف حيويته التجارية. وقد لاحظ سفيان العيسى، وهو مستشار للبنك الدولي، أن العديد من مدراء القطاع العام "استخدموا مداخلهم إلى الأموال العامة والشبكات لتأسيس شركاتهم الخاصة أو شراء" شركات أخرى مملوكة للدولة، ما سمح بالتوسّع والتنويع.69

وفّر التوغل في الشركات التابعة للدولة لجمهورية الضباط المداخل إلى شطر كبير من الاقتصاد الوطني، بغض النظر عن الخصخصة. وكانت هذه العملية قد تباطأت بحدة بعد عام 2008، علمًا أن 382 شركة كان قد تم خصخصتها حتى ذلك الوقت - ثلثها بالكامل- وجرت تصفية بضع عشرات أخرى بحلول عام 2014. ساهمت شركات القطاع العام بنحو 37 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في ثمانينيات القرن الماضي، وحصدت 55 في المئة من الناتج الصناعي وسيطرت على أكثر من 80 في المئة من التجارة الخارجية وزهاء 90 في المئة من قطاعي التأمين والمصارف.70 لكن حتى بعد التجريد ونقل الأصول، لا يزال ما يصنّف "قطاع الأعمال العام" يسيطر على شطر وازن من الاقتصاد، الأمر الذي يُديم وحتى يضخّم مجالات الفساد والمحسوبيات. على سبيل المثال، لاحظت مدوّنة للبنك الدولي أنه فيما تحسّن أداء الشركات التي تمت خصخصتها بالكامل، إلا أن الشركات المُخصخصة جزئياً لم تُظهر تحسنًا، أساساً لأنه لم تحدث فيها تغييرات في الإدارة.71 بكلمات أخرى، قدّمت الخصخصة لأطراف متنفذة، كجمهورية الضباط، زيادات كبرى في الرواتب والمزايا الأخرى، فيما أخفت عن الأنظار استمرار الممارسات الاقتصادية السيئة وانعدام الفعالية.

قدّمت الخصخصة لأطراف متنفذة كجمهورية الضباط زيادات كبرى في الرواتب والمزايا الأخرى، فيما أخفت عن الأنظار استمرار الممارسات الاقتصادية السيئة وانعدام الفعالية

يجادل الباحث المصري محمد عبد السلام، في ما يتعلق بقطاع الطاقة، أن تأسيس شركات قطاع عام جديدة تتشابك صلاحياتها مع الهيئات العامة القائمة أصلًا، جعل من الصعب للغاية إصدار أحكام موثوقة عن أدائها الاقتصادي، بسبب الدعم الذي تتلقاه من هذه الهيئات. وقد اشترى وسطاء مُفضّلون منتوجات كالغاز بأسعار مدعومة ثم باعوها للمستهلكين بأرباح فاحشة؛ هذا في حين كان مسؤولو الشركات منخرطين في "الفساد المتفشّي في مجالات استكشاف الغاز وعقود الإنتاج مع الشركات الأجنبية".72 وقد تكرر هذا النمط في قطاعات أخرى "حيث تستخدم القروض التفضيلية، وتقديرات تقل عن أسعار السوق لقيمة أصول الدولة، علاوة على وسائل شائعة أخرى لمكافأة أزلام النظام"، كما لاحظت شانا مارشال.73 وهذا يساعد على تفسير لماذا كانت شركات القطاع العام القابضة التي أُنشئت أصلًا بهدف مواصلة العمل إلى حين خصخصتها، تتوسّع بدلًا من ذلك وتشتري المزيد من الشركات.74

هذه الهياكل التحفيزية الفاسدة شكّلت سلوك كل الأطراف الاقتصادية، ولم تشذّ عنها جمهورية الضباط. صحيح أن الناطقين باسم وزارة الدفاع يُطرون بإسراف، وبشكل دائب، المهارات الإدارية المتفوّقة والخبرات الخاصة التي يتمتع بها ضباط القوات المسلحة، لتبرير التغلغل في نشاطات القطاع العام، لكن الصحيح أيضاً أن سجلاتهم تشي بالعكس في معظم الحالات. في العادة، كما يقول مستشار أجنبي، "حين تلتقي بمدراء شركات أو أعضاء في مجلس الإدارة، يكونون لواءات متقاعدين لا يفقهون شيئاً عن القطاع الذي يعملون فيه".75 والحال أن الأبحاث التي أُجريت من أجل هذا التقرير تكشف عن نمط ملحوظ يتمثّل في تعيين مدنيين أكفاء نوابًا لرؤساء مجالس إدارة الشركات العسكريين بهدف ضمان إدارة فعّالة، أو ضم المتقاعدين العسكريين إلى مجالس الإدارة التي يرأسها مدنيون كي يتوفّر لهؤلاء العسكريين مناصب ورواتب ميسّرة من دون توكيلهم بمهام عملية تُذكر.

الإقطاعيات التجارية العسكرية

على نحو مماثل، برزت الإقطاعيات القطاعية في قطاع الأعمال العام، حيث يُسيطر الضباط السابقون لإدارة المياه في القوات المسلحة، على سبيل المثال، على 24 فرعاً من الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي. هذا في حين يُهيمن متقاعدو سلاح الجو على شركات الطيران على كل فروعها تقريباً، على غرار المطارات الإقليمية وشركات الخدمات المرتبطة بها. فضلًا عن ذلك، تُظهر لائحة غير رسمية أن المتقاعدين يتنقلون على نحو دائب من مجلس إدارة إلى آخر على امتداد قطاع الأعمال العام، وغالباً أيضاً في الهيئات العامة والقومية وفي رئاسة المحافظات، ما يكرّس آلية الولاء ويُديمها ويشكل امتدادًا للنفوذ العسكري.

يؤكد استعراض عشوائي لشركات القطاع العام المرتبطة بالجهات العسكرية أنماطَ تغلغل شبيهة بتلك الموجودة في الهيئات العامة. فالدخول العسكري على المستويات الإدارية يوفرّ مجالًا واسعاً من التوظيف لمتقاعدي القوات المسلحة في المستويات الأدنى أيضاً - وقد يكون هذا المجال واسعاً جدًّا في بعض الحالات، كما الأمر مع المجمعات الاستهلاكية التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية - والتي لديها 4000 تعاونية في أنحاء البلاد ــــ أم مع تعاونيات الإنشاءات والإسكان التابعة لوزارة الإسكان.76 وتعطي شركة عامة كبرى، هي "حسن علام للمقاولات"، صورةً عن مدى هذا المجال: إذ يؤكد منبر إعلامي معادٍ (تابع لجماعة الإخوان المسلمين) أن الشركةأُرغمت على توظيف 60 لواءً متقاعدًا في عام 2016 وحده.77

وكذلك فإنَ شركات القطاع العام التي لديها ارتباطات عسكرية تُشبه كثيرًا شركات الصناعة الحربية لجهة عدم كفاءاتها الاقتصادية وسوء إدائها المالي. وهذا يؤثرّ على الشركات الكبيرة والصغيرة على حد سواء. فتبيّن مثلًا أن شركة القاهرة للعبّارات والنقل البحري التي يرأسها منذ عام 2008 لواء متقاعد في القوات المسلحة، قد راكمت ديونًا وصلت إلى 80 مليون جنيه (نحو 5,2 ملايين دولار) في أيار/مايو 2016. وذُكر أن كل موظفيها الخمسين كانوا ضباطًا متقاعدين آنذاك.78 وكشفت لجنة تحقيق برلمانية في الوقت نفسه أن شركة الإسكندرية للتبريد، التي صُنِّفت للتصفية في عام 2002 بعد تكبّد خسائر بلغت 15,7 مليون جنيه، كانت لاتزال تعمل بعدها طيلة 14 عامًا، فيما الشركة القابضة للصناعات الغذائية التي تنتمي إليها، فشلت في تحصيل 455 مليون جنيه تخلّف عن دفعها مختلف المتعاقدين، بما في ذلك 285 مليون جنيه من شركات خاصة، الأمر الذي أثار الاشتباه بوجود احتيال.79 والواقع أن رئيس الشركة القابضة، وهو لواء متقاعد، اعتُقل ووجهت إليه تهم فساد في أيار/مايو 2018.80

الواضح أن عمالقة قطاع الأعمال العام لم يبلوا بلاءً أفضل. على سبيل المثال، قدّر الجهاز المركزي للمحاسبات أن الشركتين القابضة لمصر للطيران وللمطارات والطيران وفروعهما، التي يهيمن عليهما متقاعدو سلاح الجو، خسرتا 7,5 مليارات جنيه ( نحو 1,19 مليار دولار) في الفترة بين السنتين الماليتين 2010-2011 و2013-2014.81 وفي تموز/يوليو 2015، كشف رئيس الشركة المصرية للملاحة، وهو لواء بحري متقاعد، النقاب عن أن ثماني سفن فقط بقيت من أسطولها الأصلي الذي كان يضم 70 سفينة، وبأنها مدينة بنحو 100 مليون جنيه للتأمين، والضرائب، والتصليحات، وقطع الغيار.82 كما أرجأت شركة المقاولات الكبرى حسن علام دفع الأرباح المُستحقة قانونًا للعمال لمدة 17 شهرًا في 2015-2016 بسبب المردود غير الكافي من المشاريع الجديدة، فيما اتهم العاملون فيها رئيسها، وهو لواء متقاعد من القوات المسلحة، ببيع شاحنات الشركة وتوظيف أقاربه برواتب عالية.83 كانت شركة حسن علام واحدة فقط من 13 فرعاً تابعاً للشركة القابضة للتشييد والتعمير التي اعتبرت الحكومة أنها في حاجة إلى مساعدة مالية في عام 2015. هذا إضافة إلى أن عملاق آخر في قطاع المقاولات، هو شركة المقاولات المصرية "مختار إبراهيم"، وقعت في دين قدره 350 مليون جنيه.84

وفي هذه الأثناء، كانت شركات قطاع الأعمال العام، مثلها مثل زميلاتها في الصناعة الدفاعية، تزهو بطريقة استعراضية بأنها حققت تحسنًا باهرًا في نتائجها على الرغم من أدائها الضعيف، وهذا لم يكن بفعل زيادات مثبتة في مستوى الكفاءة والإنتاجية، بل بفضل إعادة توجيه التمويل العام. فعلى سبيل المثال، اعترف رئيس الشركة القابضة للتشييد والتعمير، وهو لواء متقاعد من القوات المسلحة، في عام 2014 أن الأداء كان ضعيفاً، حيث كانت المبيعات الكليّة مليار جنيه والأرباح 40 مليون جنيه في العالم المالي الذي سبق ذلك، واقترح إعادة هيكلة الفروع ذات الأداء الضعيف أو تصفيتها في إطار شركة جديدة لإدارة الأصول تعمل مع القطاع الخاص.85 لكن بدلًا من ذلك، قفزت المبيعات الكلية في السنة التالية إلى ستة مليارات جنيه مع أرباح قدرها 480 مليون جنيه، وذلك حين حصلت هذه الشركة القابضة على عقود حكومية بقيمة 18 مليار جنيه للعمل مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة لتوسيع قناة السويس وتنفيذ خطة الطرق القومية.86

وفي هذه الأثناء، كانت شركات القطاع الأعمال العام، مثلها مثل زميلاتها في الصناعة الدفاعية، تزهو بطريقة استعراضية بأنها حققت تحسناً باهراً بنتائجها على الرغم من أدائها الضعيف، وهذا لم يكن بفعل زيادات مثبتة في مستوى الكفاءة والإنتاجية، بل بفضل إعادة توجيه التمويل العام

كما حقق رئيس الشركة القابضة انعطافاً مالياً مماثلًا لإحدى الشركات الفرعية التي كانت تعاني من المتاعب المالية هي الشركة العربية للاستشارات الهندسية، وذلك من خلال تحويلها إلى مؤسسة استشارية حصرية للشركات الفرعية الأخرى التابعة للشركة القابضة.87 وحقيقة أن صحيفة "الأهرام" اليومية الحكومية وصفت قرار معاقبة رئيس الشركة العربية للاستشارات الهندسية، وهو لواء متقاعد آخر من القوات المسلحة، من خلال نقله إلى شركة أصغر، بكونه "إبعادا"، يكشف بوضوح كيف تعمل آلية الولاء، كما سلّط قرار النقل الضوء على التدوير المتواصل في المواقع التي هي خصيصة بارزة لجمهورية الضباط. 88

تجلّت المداورة عيانياً في لعبة الكراسي الموسيقية التي مورست حين تم اعتقال رئيس الشركة القابضة للصناعات الغذائية، وهو لواء متقاعد، بتهم الفساد في أيار/مايو 2018. كان كلٌّ من نائبه والرئيس الجديد للشركة لواءين متقاعديْن أيضاً، أحدهما رئيس سابق لفرع الشركة القابضة ذاتها، هي الشركة العامة لتجارة الجملة، إلى أن أصبح رئيساَ للشركة القابضة في عام 2016.89 والواقع أن وزارة التموين والتجارة الداخلية، التي تتبع لها الشركة القابضة، كان يرأسها اثنان من متقاعدي القوات المسلحة خلال السنوات القليلة الماضية: اللواء علي مصيلحي واللواء محمد أبو شادي.

تسحب هذه الأنماط نفسها على قطاعات كالبترول، التي يعمل فيها عدد كبير على وجه الخصوص من الشركات الخدمتية. ففي حزيران/يونيو 2018، على سبيل المثال، كان الرئيس الجديد لشركة سيناء للخدمات البترولية والمعدنية اللواء أكرم بدوي، وهو ضابط سابق في الحرس الجمهوري، قد عمل لفترة ملحقًا عسكريًّا في الكويت قبل أن يصبح مساعدًا لرئيس شركة جنوب الوادي القابضة للبترول، ثم ضابط أمن في شركة كبرى هي الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية التابعة للدولة.90 وهذا يعني أن جمهورية الضباط تعيد إنتاج نفسها باستمرار عبر هذه الأساليب وغيرها. مثلًا، حين دشّنت الهيئة العامة للبترول مستشفاها في عام 2016، عيّنت لواءً متقاعدًا رئيسًا لها.91

تتجلى حقيقة أن شركات القطاع العام التجارية تعمل كإقطاعيات على نحو بيّن في مثال شركة النهضة للإسمنت، وهي فرع من الشركة القابضة للصناعات الكيماوية. ففي أوائل عام 2016، كان المدير التنفيذي لشركة النهضة لواءً متقاعدًا من القوات المسلحة وعمل سابقًا كنائب محافظ قنا حيث كان مقر الشركة الفرعية، فيما كان رئيس العلاقات العامة فيها لواءً متقاعدًا آخر وعضوًا سابقًا في لجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي. وقد وجدت الشركة القابضة أن 75 في المئة من موظفي شركة النهضة جاءوا من عشيرة محلية واحدة ينتمي إليها مدير الأمن فيها، وهو لواء شرطة وعضو سابق في الحزب الوطني الديمقراطي. وقد تم تسريح مجلس الإدارة برمته في عام 2016، ومع ذلك أُحضر متقاعدان عسكريان اثنان آخران (أحدهما المدير السابق للهيئة الهندسية للقوات المسلحة) كي يديرا الشركة على الفور.92

الخاتمة: الدفاع المتبادل

إن توزيع متقاعدي القوات المسلحة المصرية عبر الجهاز البيروقراطي للدولة والشركات المملوكة للقطاع العام خلال العقدين الأخيرين من عهد مبارك عكس مزيجاً من الدوافع. فعلى مستوى واحد، استجاب الضباط السابقون لبرنامج الخصخصة من خلال دخول القطاعات الاقتصادية التي توفر الفرص والحوافز الأفضل، مثلما فعل المدراء المدنيون ورجال الأعمال من القطاع الخاص. كما انجذب الضباط بشكل طبيعي نحو القطاعات أو الهيئات أو الشركات الحكومية التي تعاملوا معها أثناء خدمتهم الفعلية، سواء كان ذلك في أحد الصنوف الرئيسة للقوات المسلحة أو في شركة عسكرية أو مصنع يعمل في المجال نفسه. ويفسر هذا جزئياً العدد الكبير للمتقاعدين العسكريين في قطاعات معينة مثل الصناعة التحويلية والنقل والإنشاءات. وعلى العكس من ذلك، على مستوى آخر، فإن نمو جمهورية الضباط بعد عام 1991 قد كشف أيضاً عن التوجه والتنسيق الاستراتيجيْين، وخير مثال على ذلك وضع متقاعدي القوات المسلحة داخل الهيئات الحكومية المفصلية أو "العقدية" التي تتحكم في استخدام الأراضي، والاتصالات، والمعلومات والإحصاءات، والمحاسبة والتدقيق.

إن التوسع الهائل في اختصاص الهيئات العسكرية الرسمية في إدارة الأشغال العامة، وتوليد الإيرادات، والوساطة في الإمداد والتموين للأسواق المدنية منذ عام 2013، قد أثَّر على جمهورية الضباط، وإن كان ذلك بطرق ليس جميعها ظاهرًا للعيان. ولا يبدو أن دورها وتوزيعها قد تغيرا بشكل كبير: فلم تتغير نسبة متقاعدي القوات المسلحة في المناصب الإدارية في الهيئات والشركات الحكومية بشكل ملحوظ في معظم القطاعات، علمًا أنه جرت إعادة تشكيل عامة للنفوذ والشبكات داخل الجهاز البيروقراطي للدولة لصالح المؤسسة العسكرية. والأهم من ذلك هو أن هذا قد أدى إلى عزل الشبكات المنافسة في القطاعات المربحة مثل وسائل الإعلام والنفط والغاز الطبيعي التي كانت في السابق المجال شبه الحصري لمديرية المخابرات العامة. ولا يزال منطق الريع الذي يدفع جميع المشاركين في الاقتصاد العسكري غير الرسمي دون تغيير يذكر، وهو الشيء الأهم، بل وسيسعى متقاعدو القوات المسلحة إلى البحث عن الفرص الجديدة التي يفتحها أمامهم نشاط الهيئات العسكرية الرسمية، طالما استمر دور هذه الأخيرة في التوسع. ولكن جمهورية الضباط هي أكثر من مجرد طرف انتهازي: ولأنها تقع في نهاية حزام ناقل يبدأ داخل سلك كبار الضباط العاملين في القوات المسلحة، فهي تقدم الحماية لهم وتضمن الحماية لنفسها في آن لمواجهة أي مسعى مستقبلي لإعادة هيكلة أو ترشيد الاقتصاد العسكري، ناهيك عن تفكيكه.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

عسكر و رجال أعمال

ما هي آثار الاقتصاد العسكري على القطاع الخاص في مصر؟ تم التخوف أحيانًا من نمو الأول في السنوات الأخيرة من حقبة مبارك الرئاسية، ولكن لم تظهر المخاوف الجدية من مزاحمته للقطاع الخاص فعليًا سوى منذ أن انطلق على مساره التوسعي الجديد في أواخر عام 2013. وحتى ذلك الوقت، بقي إجمالي الإنتاج العسكري للبضائع والخدمات المدنية صغيرًا بالمقارنة مع حصة القطاع الخاص، أكان ذلك قياذسًا بالناتج المحلي الإجمالي أم بأي قطاع اقتصادي محدد. غير أن التحوّل الملموس في التوجه الاقتصادي للمؤسسة العسكرية وإقحامها في لعب دور متزايد بالمشتريات الحكومية من قبل إدارة السيسي قد أدّيا إلى مضاعفة حجم التفاعل العسكري مع القطاع الخاص ونطاق المجالات التي يحصل فيها ذلك التفاعل. فكثيرًا ما بالغت المخاوف من النشاط الاقتصادي العسكري من حجمه وأخطأت في تصويره على أنه استثنائي (مقارنة بنظيره المدني)، لكنها لم تعد خالية من الصحة. إذان التوسع الهجومي للنشاط الاقتصادي العسكري صار يهدد الشركات الخاصة ويزعزع استقرار القطاعات التي طالما كانت تهيمن عليها.

الرياديون المدنيون والعسكريون في اقتصاد ريعي

تتسم العلاقة بالتعقيد، إذن. فعلى عكس الافتراض بأن النشاط الاقتصادي العسكري يجلب الضرر على القطاع الخاص بالضرورة، كانت العلاقة مفيدة للجانبين غالبًا، إذ تتوجّه الهيئات العسكرية حجمًا كبيرًا من العقود نحو مقاولي الشركات الخاصة. ولكن العلاقة طفيلية أيضًا في أحيان كثيرة، حيث توفر الهيئات العسكرية الفرص التفضيلية للشركاء المدنيين للحصول على المدخلات ومواد الإنتاج المدعومة وعلى عقود الأشغال العامة، بهدف توليد المداخيل أو انتزاع الحصص في أسهم الشركات المدنية بالمقابل. ومع تسارع الاقتصاد العسكري، فإنه بات يفرض آثارًا جديدة على القطاع الخاص.

على عكس الافتراض بأن النشاط الاقتصادي العسكري یجلب الضرر على القطاع الخاص بالضرورة، كانت العلاقة مفیدة للجانبین غالباً، إذ تتوجّه الھیئات العسكریة حجماً كبیراً من العقود نحو مقاولي الشركات الخاصة. 

يراوح كثيرًا التوازن المحدد بين التعاون والتآزر الحقيقيين في ترتيبات نفعية تزيد الأكلاف المالية وتقلِّل العائدات من الجهة الأخرى، بين قطاع إنتاجي وآخر. ويتوقف الأمر جزئيًا على نوعية النشاط: صناعة تحويلية، أم أشغال عامة، أم تموين وتجارة. كما يتوقف أيضًا وبشكل خاص على مستوى رأس المال والمهارات الفنية والمعدات والتكنولوجيا المتقدمة التي تحتاج إليها تلك النشاطات، وعلى قدرة الشركات المقاولة الخاصة (بما فيها الأجنبية) على توفيرها. وعلاوة على ذلك، فإن هذه العوامل تحدد ما إذا كان النظير المدني للجهة العسكرية المعنية سيكون شركة كبيرة، متوسطة، أم صغيرة (ومحلية أم أجنبية)، ويتأثر هذا الاختيار كذلك حسب نظرة تلك الجهة العسكرية إلى كل من هؤلاء كحليف أو منافس اجتماعي واقتصادي وسياسي.

هذا، وتختلف القوة التفاوضية لكل طرف في كل حالة، مثلما تختلف درجة المراقبة من قبل الهيئات الحكومية (أو الدولية). غير أن القدرة على استخدام النفوذ للتأثير هامة في جميع الحالات. فالمؤسسة العسكرية تستخدم سيطرتها على الترخيص باستخدام أراضي الدولة وقدرتها على تسهيل واستعجال (أو تأخير) الأذونات البيروقراطية ومنح (أو حجب) العقود، في الحاضر وفي المستقبل، لإقناع أو إرغام المقاولين المدنيين ليس على القبول بشروطها فحسب، بل وعلى الدخول بعمل مشترك معها أصلًا. إن جدلية القوة هذه تكمن في جوهر التفاعلات المتعددة الأوجه بين المؤسسة العسكرية والقطاع الخاص، فتقدم المنافع ولكنها تشوِّه الحوافز وتقوِّض منطق السوق في الوقت نفسه.

إن التوسع المتعدد الأوجه للدور العسكري في إدارة الاستثمار العام والمشتريات الحكومية للسلع والخدمات منذ عام 2013، زاد من حجم الفرص والشهية العسكرية في آن لإعادة تحديد العلاقات بالقطاع الخاص بشكل جذري أكثر. ثمة تفكير استراتيجي يوجه المقاربة العسكرية، ولكنها تُظهر في الوقت نفسه بلبلة في التفكير الاقتصادي وضعف في فهم واستيعاب ديناميات السوق، وغياب الاتساق والترابط في توحيد الأطر القانونية والتنظيمية والتنموية. فالحصيلة الصافية هي تمديد منطق الحفاظ على النظام الذي حكم الاقتصاد السياسي لمصر منذ عقود، وإعادة إنتاج الأنماط الأساسية لكيفية التعامل الاقتصادي بين القطاعيْن العام والخاص. والفارق الرئيس هو أن فرضيات المؤسسة العسكرية عن ماذا يخدم المصلحة الوطنية ومصلحتها في آن، باتت تشكل بوضوح أكبر الميدان الذي ينشط فيه القطاع الخاص، حتى لو كانت المؤسسة العسكرية ما زالت لا ترسم السياسات الاقتصادية العامة.

جاء الجزء الأكبر من الانخراط العسكري المباشر في القطاع الخاص حتى عام 2013 من خلال الضباط المتقاعدين، الذين تموضعوا كمدبّرين في المفاصل البيروقراطية بين القطاعين العام والخاص، وكوسطاء في قطاعات اقتصادية تتمتع بمستويات عالية من الحماية الجمركية كقطاع السيارات، أم كمؤسسي ومديري الشركات الأمنية الخاصة. وفُرض متقاعدون آخرون فرضًا من قبل الهيئات العسكرية كأعضاء في مجالس إدارة شركات تعمل في قطاعات لا وجود عسكريًّا فيها تقريبًا، وهو نمط أخذ بالنمو منذ عام 2013. وما لا يقلّ أهمية عن ذلك هو التغيير الذي طرأ على نمط التحالفات التجارية للمؤسسة العسكرية منذ عام 2013، وتوسعها في عدة قطاعات كانت الشركات الخاصة تهيمن عليها منذ زمن طويل، وخصوصاَ في مجالات الإعلام والإسمنت والصلب، ما يقوٍّض الشركات الخاصة ويزعزع استقرار الأسواق. ويساعد هذا المناخ على توسيع الفرص أمام الهيئات العسكرية والضباط الأفراد (العاملين في الخدمة أو المتقاعدين) لتأسيس شركات الواجهة لتنتفع من المعلومات الداخلية ولتستولي على العقود العامة.

"المدبّرون" العسكريون

الشركات الخاصة، التي تضطر إلى التعاطي مع التعقيدات البيروقراطية كي تستطيع القيام بأعمالها، توظّف ضباطًا متقاعدين للتعامل مع الإدارات الحكومية، وتقوم مهمة من يسمّون غالبًا مدراء "العلاقات العامة" أو "الشؤون الحكومية" على إزالة العقبات البيروقراطية وزيادة الفرص في حصد العقود. وهؤلاء المدبّرون كثيرًا ما يتعاملون مع زملائهم من العسكريين المتقاعدين المنتشرين في إدارات الدولة التي يتعاملون معها.2  وقد عبر عن ذلك أحد الخبراء الإقتصاديين المصريين في قوله "الشركات والهيئات توظف الضباط في مواقع نواب رؤساء مجالس الإدارة من أجل توفير ’خط ساخن‘ إلى الضباط في الهيئات الأخرى أو في القيادة العسكرية، وتسهيل الحصول على التراخيص".3

ارتفعت أعداد المدبّرين والوسطاء العسكريين بشكل واضح في حقبة السادات، حين تنامت التفاعلات بين قطاعات الشركات العامة، والخاصة، والأجنبية.4  فقد لعبوا دورًا هامًّا كلما نشأت الحاجة إلى ترخيص من وزارة الدفاع لاستخدامات الأراضي، حتى للمشروعات الكبيرة المُموّلة من الحكومة. وأثبت الباحث في الشؤون المصرية و.ج. دورمان أنه حين طلبت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة الإذن لإطلاق مشروع مدينة العبور الصحراوية الجديدة في 1983 -1982، اضطرت وكالة التنمية الألمانية جي.ت.ز (GTZ) والهيئة الحكومية المصرية النظيرة إلى توظيف ضابط متقاعد للتفاوض على حل.5  حتى المنظمات غير الحكومية أو غير الربحية - وكذلك عدد كبير من شركات قطاع الأعمال العام – وظفت ضباطاً متقاعدين كشركاء أو "كي تليّن وتزيّت مروحة من المعاملات الاقتصادية، حيث تحتاج الشركات غالبًا إلى الأذونات أو المصادقات العسكرية".6 لا تتوفر دراسات إحصائية، إلا أن العديد من المحللين المصريين يؤكدون أن "معظم الشركات الخاصة كانت توظف ضباطًا، وربما كان 10 إلى 15 في المئة من موظفيها من أصحاب خلفيات عسكرية، إما من المتقاعدين أو ’قيد الاستدعاء‘.7

بالنسبة إلى العديد من الضباط، فإن هذا النوع من التوظيف يوفّر ببساطة وسيلة لتكملة الرواتب التقاعدية المتواضعة. وفي غالب الأحيان، أصبح توظيف المتقاعدين أو تنصيبهم في مجالس الإدارة أو جعلهم شركاء، وسيلةً تستخدمها الشركات لتأمين العقود - التي قد يتلقى عليها المدبّرون عمولة بنسبة مئوية - أو للوصول إلى حيازة أراضٍ.8 ولاحظ محلل أعمال مصري أن "المقاولين العقاريين الذين يودّون شراء أرض، غالبًا ما يجدون من الأسهل لهم استئجار شركة إنشاء يملكها ضابط سابق، أو لديه حصة فيها على الأقل، وسيلةً للحصول عليها".9  بل إن الشركات قد تطلب أحيانًا من وزير الدفاع طنطاوي استعارة ضباط عاملين في الخدمة، سواء للفوز بوضع تنافسي خاص أو كسب علاقات عمل، وهي ممارسة استمرت مذّاك..10 وفي حالات أخرى، كما بيّن الباحث أيمن إمام، تقوم الشركات بتوظيف أولاد أو أقارب الضباط المسؤولين عن منح عقود المشتريات (أو بيعهم المنازل في المنتجعات السياحية) بغية تأمين العقود11.

إن إتساع المجال المتوسّع لجني الأرباح، يعنى أن هذا النوع من الترتيب ليس طوعياً على الدوام. ففي العقد الأخير من عهد مبارك، بدأت الشركات تتعرّض لضغوط لتعيين ضباط متقاعدين كأعضاء منتدبين في مجالس إداراتها.12 وفي بعض الحالات، كانت الشركات التي لها ارتباطات عسكرية أو شركات الواجهة التابعة لمديرية المخابرات العامة تفرض مندوبيها على الشركات الخاصة التي نجحت في منافستها في الحصول على عقود، ولربما كان ذلك أيضًا تكيفًا إزاء مرحلة كانت الشركات تسعى فيها للحصول على تفضيلات من مبارك لا من العسكر. وتفيد تقارير أن هذه الممارسة اكتسبت بُعدًا جديدًا بحلول عام 2019 عندما صارت الهيئات العسكرية تجبر الشركات المبتدئة على التخلي لها عن حصة أو تعيين ضباط عسكريين في مجالس إداراتها.13

وكثيرًا ما يكون مسؤولو ومدراء المشتريات في الشركات الخاصة هم ضباط متقاعدون يستطيعون توجيه العقود باتجاه الهيئات الاقتصادية العسكرية أو الحصول على العقود من الباطن للشركات التي يعملون فيها لتشارك في المشروعات الكبيرة التي تديرها الهيئات العسكرية.14 وتتضح حقيقة كون هذه العلاقة طفيلية بالكامل في أحيان كثيرة من مقال رأي كتبه السياسي الليبرالي محمد نصير في نيسان/أبريل 2015، روى فيه أنه التقى مدير أحد المستشفيات الخاصة، وهو لواء عسكري متقاعد كان يحتفظ بسلاحه الفردي على مكتبه ويصدر التوجيهات لرعاية المرضى بالرغم من افتقاره إلى التكوين الطبي.15

إن توظيف المتقاعدين العسكريين أمر شائع في جميع البلدان، ولا يؤدي بالضرورة إلى المحسوبية أو الممارسات الفاسدة. والمصريون ليسوا الوحيدين الذين ينظرون إلى البيروقراطية الحكومية كعائق، وبالبحث عن السبل لاختصارها أو تجاوزها من أجل تسريع الأعمال. إلا أن لجوء إدارة السيسي إلى المؤسسة العسكرية لإنجاز الأمور قد ترافق مع تفويضها سلطة الالتفاف على متطلبات الإجراءات القانونية والتنظيمية وغض النظر عنها كليًّا، وليس فقط اختصارها، ما زاد من شأن الضباط المتقاعدين أو جعل لا غنى عنهم بالنسبة إلى الشركات المدنية. بل إن هذه الأخيرة قد تضم الضباط إلى مجالس إدارتها، كما فعلت الشركة الدولية للمطارات (المملوكة لمجموعة كاتو للاستثمار، المصرية ومتعددة الجنسيات) حين عيّنت اللواء هاني رشاد عقاب رئيسًا لمجلس إدارتها؛ التحق عقاب لاحقًا بمجلس شركة "إيماك القابضة للاستثمار"، وهي فرع لشركة الخرافي الكويتية، التي حصلت على عقد مدته أربعون سنة لبناء وتشغيل وتسليم مطار مرسى علم الدولي في ساحل البحر الأحمر.16

إن توظیف المتقاعدین العسكریین أمر شائع في جمیع البلدان، ولا یؤدي بالضرورة إلى الممارسات الفاسدة. إلا أن لجوء إدارة السیسي إلى المؤسسة العسكریة قد ترافق مع الالتفاف على متطلبات الإجراءات القانونیة والتنظیمیة.

فتح الأبواب

تضمن جمهورية الضباط أنواعًا أخرى من مواطئ القدم في القطاع الخاص. وهذا يتحقّق جزئيًّا عبر عضوية الشركات ذات الارتباطات العسكرية في غرف التجارة المعنية. بيد أن الضباط المتقاعدين يعززون علاقات إضافية ذات منافع متبادلة بين الشركات العسكرية المسجّلة رسميًّا، والشركات المخصخصة أو المملوكة للدولة، والشركات الخاصة.إنَّ صناعة السيارات خير دليل، نظرًا إلى "التركيز البالغ جدًّا للمحسوبين" الذين احتلوا 95 في المئة القطاعات الفرعية المتصلة (المصنّفة حسب التصنيف الدولي الموحّد لجميع اﻷﻧﺸﻄﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ، اﻟﺘﻨﻘﻴﺢ 4 ISIC4) في عام 2016، حسب تقييم عالميْ الاقتصاد السياسي فرديناند آيبل وعديل مالك.17 فسياسات الإنتاج والاستيراد والترخيص الرسمية والممارسات غير الرسمية توفّر ركائز لِما هو في الواقع سوق أسير يتميّز بالفرص الريعية لكل المشاركين من كلا القطاعين العام والخاص. وبالتالي، إن المحصلة العامة هي التبادل النفعي بين هؤلاء، بدلًا من التآزر والتضافر الاقتصادي المفيد.

أول إطباق للاقتصاد العسكري على قطاع السيارات كان بزعامة الشركة العربية الأميركية للسيارات، وهي مشروع مشترك للهيئة العربية للتصنيع مع شركة دايملر- كرايسلر الأميركية في عام 1977.18 إلا أن عملها اقتصر أساسًا على تجميع حزم المكوِّنات من الولايات المتحدة، وعلى سيارات كورية وفرنسية ويابانية، وبأعداد صغيرة.19 بيد أن وزير الدفاع آنذاك، عبد الحليم أبو غزالة، سعى إلى الحصول على حصة عسكرية أكبر في هذا القطاع في الثمانينيات من القرن الماضي. وكانت النتيجة السماح لمصر ببناء خط إنتاج لتجميع آليات التشييد للبيع في السوق المحلي بعد عام 1992، وذلك في مصنع 200 لتجميع الدبابة القتالية م1 (M1) الذي كان قد أُنشئ مع شركة جنرال دايناميك. 20

غيّرت الخصخصة هيكلية قطاع صناعة السيارات على نحو عميق بعد عام 2011، لكن توسّع جمهورية الضباط ضَمُن حضورًا عسكريًا دائبًا ومهمًّا. مثلًا، أصبح الرئيس السابق للشركة العربية الأميركية للسيارات، اللواء حسين مصطفى، المدير التنفيذي لرابطة مصنّعي السيارات المصرية، التي تضم شركات خاصة لتجميع أو استيراد العربات، وشركات المغذية، وهو منصب احتفظ به حتى شباط/فبراير 2018.21 ورأس هذه الرابطة متقاعد آخر من القوات المسلحة هو اللواء حسين سليمان حتى وفاته في تشرين الأول/أكتوبر 2018. وكان سليمان أيضًا عضوًا منذ أمد طويل في مجلس إدارة الاتحاد العام لغرف التجارة ورئيس فرعه الخاص بتجار وموزعي السيارات. كما رأس سليمان شركة الأمل لصناعة وتجميع السيارات التي كانت الموزّع لشركة نصر للسيارات العملاقة المملوكة للدولة في 1970-2001، والتي تدّعي الآن أنها (أي شركة الأمل) أكبر مستورد وتاجر لللسيارات في مصر، ولديها وكالات حصرية للعديد من أصناف السيارات الأجنبية.22 وذكر هنا أن مصطفى وسليمان كانا كذلك عضوين مؤسسين في المجلس المصري للسيارات الذي تأسس في حزيران/يونيو 2015 كمظلة لجماعة الضغط لصالح صانعي وتجار ومغذّي القطاع وشركات الخدمات والصيانة.23

تبيّن صناعة السيارات وجود ما يشبه حزام ناقل يأخذ الضباط من الهيئات المرتبطة بالقوات المسلحة إلى القطاع التجاري. فيظهر المتقاعدون في مجالس الإدارة أو في مواقع وظيفية مهمة.، وخاصة في شركات قطاع الأعمال العام كالشركة الهندسية لصناعة السيارات، وشركة مصر لتجارة السيارات، وشركة النيل لإنتاج وإصلاح السيارات. وكما تدل هذه النماذج، فإن سوق السيارات ما زال يتأثر بالهيئات الحكومية، رغم مرور قرابة ثلاثة عقود من الزمن منذ بدء عملية الخصخصة. تُعيّن على نحو دائب رؤساء لها من كبار الضباط المتقاعدين، تمامًا كما تفعل الشركة القابضة للنقل البحري والبري. والحال أن قبضة المتقاعدين على شركات قطاع الأعمال العام كبيرة إلى درجة أنه حين توفّي اللواء الذي رأس شركة مصر لتجارة السيارات في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، خلفه فورًا لواء آخر.24 ولعل هذه المزاوجة النفعية بين إدارة الشركات وجمهورية الضباط توضح أيضًا لماذا تبقى شركتا مصر والنيل للسيارات منفصلتين على رغم قرار صدر في عام 2010 من الشركة القابضة للنقل البحري والبري (التي تملكهما) بدمجهما، ما يشي بأن جماعات مصالح نافذة قد رأت في الدمج تهديدًا لمصدر دخل ميسَّر، فقاومته. والشركة القابضة يرأسها متقاعد من القوات المسلحة في حين ترأس ضباط آخرون فروع السيارات في غرف التجارة المختلفة أو احتلوا مقاعد في مجالس إداراتها، الأمر الذي عزز نفوذهم.25

إن حضور الضباط السابقين للقوات المسلحة في كل المواقع، أوجد حلقة نفوذ تستطيع من خلالها الجهات العسكرية ليس فقط الانخراط في صناعة وبيع السيارات، بل وأيضا في التخطيط الاستراتيجي وإقرار السياسات للقطاع. واتضح هذا جليًا حين أعلنت الرابطة المصرية للصناعات المغذية للسيارات في تموز/يوليو 2016 عن مبادرة لرفع الإنتاج الوطني إلى مليون سيارة سنويًّا.26 بدا هذا طموحًا مجنّحًا ويفوق بكثير الإنتاج الفعلي أو السعة الإنتاجية الراهنة والتي قُدرت عمومًا بما يراوح بين 93 ألف سيارة سنويًّا و325 ألفا، حيث تم في عام 2018 تجميع 24 ألف سيارة فقط. هذا الطموح كان سيتطلّب زيادة الصادرات بين 700 ألف و900 ألف سيارة سنويًّا، لأن الطلب المحلي لم يزد قط عن 300 ألف سيارة في عام 2017، وربما كان 100 ألف فقط.27 على أي حال، يعكس هذا الطموح ذهنية قادة الصناعة الذين يرغبون في أن يبدوا متجاوبين مع توجيهات الرئيس السيسي، الذي يسعى إلى خفض الطلب على العملات الأجنبية وإلى زيادة موازية في المحتوى المحلي في السلع المصنّعة.

انخرط كبار ضباط القوات المسلحة، أكانوا عاملين في الخدمة أم متقاعدين، بعمق في كلا جانبي الصراعات الناشبة حول التشكيل الاستراتيجي لصناعة السيارات، وحول قضايا شائكة مثل مدى صوابية إحياء شركة النصر للسيارات. وقد نقلت هذه الصراعات إلى العلن التباينات الكامنة حيال الأهداف التجارية والاستراتيجية بين مختلف القطاعات أو جماعات المصالح داخل الاقتصاد العسكري، من جهة، وداخل القطاعيْن العام والخاص المدنيين، من جهة أخرى. وحين شكّل البنك المركزي ووزارة الاستثمار لجنة في كانون الأول/ديسمبر للتوفيق بين هذه الآراء المتباينة حول كيفية تطوير قطاع السيارات، عيّنا لواءً لرئاستها وضمّا لواء آخر لعضويتها.28

الأمن الخاص

تقاعد مبكرًا عدد كبير من ضباط القوات المسلحة غداة حرب 1973 ومعاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979، ما ولّد حشدًا كبيرًا من الخبرات للنوع الجديد من شركات الأمن الخاصة، التي توسّعت بفضل التحرير الاقتصادي في السنوات التالية.29 لكن، في حين أن الشركات الخاصة الحقيقية مثل المجموعة متعددة الجنسيات "جي فور أس" (Group 4 Securicor) حصلت على معظم عقودها من القطاع الخاص المصري، إلا أن الشركات المرتبطة بالقوات المسلحة أو تلك المدعومة منها (ومن وزارة الداخلية)، تُسيطر على عقود القطاع العام.30 ثم إن التصوّر بأن هذه الشركات الأخيرة متنفّذة سياسيًّا، يزيد من فرص حصولها على حصة كبيرة من عقود القطاع الخاص.

تقاعد مبكرًا عدد كبیر من ضباط القوات المسلحة مبكراً غداة حرب 1973 ومعاھدة السلام مع إسرائیل في عام 1979 ، ما ولّد حشدًا كبيرًا من الخبرات للنوع الجدید من شركات الأمن الخاصة.

إن استنساخ الأنماط الريعية واضح للعيان في حالة شركة كير سيرفيس (Care Service) التي تأسست عام 1970 لتقديم خدمات تراوح ما بين الأمن، والحماية، ونقل الأموال وتنظيف المكاتب. وهي احتفظت بموقعها المتفوّق منذ ذلك الحين: ففي عام 2014، كانت من بين أعلى ثلاث شركات في السوق بحصة بلغت 30 في المئة، وفاخرت بزبائن لديها مثل مصرف هـ.س.ب.سي. (HSBC)، والخطوط الجوية البريطانية، والخطوط الجوية الملكية الهولندية (KLM)، علاوة على عدد كبير من الهيئات الحكومية.31 يعمل في الشركة، وفقًا لموقعها الإلكتروني، 35 ألفًا - بمن في ذلك "العديد من اللواءات"، وتمتعت بمدخول سنوي قدره 500 مليون جنيه مصري (84 مليون دولار) في عام 2011.32 لكن رئيسها، اللواء عادل عمارة، قال بتحفظ أكبر في عام 2015 إن لدى الشركة 25 ألف موظف (منقسمون بالتساوي بين خدمات الأمن وبين التنظيف والخدمات البيئية)، علمًا أن هذا الرقم المخفّض ربما استثنى نشاطات الشركة في الكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وتوقع في الوقت نفسه تحقيق حجمٍ من النشاط قد يصل إلى 350 مليون جنيه (أي 32 - 49 مليون دولار فقط بسبب انخفاض قيمة الجنيه) بحلول نهاية السنة (وذلك رغم مزاعم أن قطاع الأمن الخاص قد نما بنسبة 100 في المئة منذ عام 2011).33

يعكس هذا التباين في المداخيل المعلنة وأعداد الموظفين عدم شفافية شركات خاصة مثل كير سيرفيس، التي ليست ملزمة بنشر بياناتها المالية. والواقع أن الصفحة الأولى على موقع هذه الشركة والتي تقدم ناتج الشركة الإجمالي في عام 2011 لم يتم تحديثه منذ ذلك الحين، وهو مؤشر واضح على شركة مرتبطة بهيئات سيادية في مصر مثل وزارتي الدفاع والداخلية. والأهم أن رئيس الشركة اللواء عادل عمارة هو ضابط مخابرات حربية سابق وكان مساعدًا لوزير الدفاع وعضوًا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة في العام 2011.34 إضافة إلى ذلك، يرأس عمارة فرع شركة الأمن الخاص للغرفة التجارية للقاهرة، وهذا مدخل آخر لضباط القوات المسلحة المتقاعدين إلى القطاع الخاص.

حصلت كير سيرفيس كذلك على عقود بالأمر المباشر، أي من دون مناقصات تنافسية، وهو الأمر المعتاد بالنسبة إلى الهيئات الاقتصادية المرتبطة بالمؤسسة العسكرية أو بمديرية المخابرات العامة. وشملت هذه العقود، مثلًا، عقدًا في نيسان/أبريل 2013 لخدمة ثلاثة مستشفيات حكومية في سيناء، حيث الاستثمارات الاقتصادية والأعمال تحت الرقابة المشددة وغالبًا ما تديرها القوات المسلحة. وربما لهذا السبب تعرضت منشآت كير سيرفيس إلى هجوم مسلح من قبل متمردين إسلاميين في كانون الثاني/يناير 2016.35 ثم إن التآزر بين هذين الطرفين كان واضحًا في اهتمام الشركة في تأمين عقود الخدمات للمشاريع العملاقة في مصر التي تديرها وزارة الدفاع. وفي مثل على ذلك، ذكرت الشركة أنها تلقت عقدًا بقيمة 43 مليون جنيه لبناء إسكان لذوي الدخل المحدود تموّله الإمارات العربية المتحدة.

وفي عام 2015، أدلى المدير العام لشركة الأمن التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التي لاتزال تعرف باسمها القديم "كوين سيرفيس" (بدلًا من شركة النصر للخدمات والصيانة) بادعاء مألوف بأن الشركة تقدّم العديد من الخدمات بـ"ثلث أكلاف الشركات المنافسة في القطاع الخاص".36 ولا ريب أن قدرة الشركة على استخدام عمل مجنّدي القوات المسلحة المجاني قد جعل كلفتها أقل كثيرًا، لكنها على الرغم من ذلك واجهت تنافسًا متناميًا من شركات أمن أصيلة في هذا القطاع. فأشارت التقديرات إلى أن مابين 200 و500 شركة كانت قد انضمت إلى قطاع الأمن الخاص حتى ذلك الحين، على الرغم من أن نحو خمسين منها فقط سُجّلت لدى وزارة الداخلية على نحو صحيح، وقد بلغت القوة العاملة الإجمالية لهذه الشركات ما بين 70 ألفًا و120 ألفًا.37

بديهي أن بعض هذه الشركات أسّسها متقاعدون عسكريون، على غرار "فايروول للأمن والحراسة" (Firewall Security Consultants) التي أسسها ضابط سابق في القوات الخاصة في عام 2012.38 وفي أواسط عام 2015، توقع نائب رئيس فرع الحماية والأمن في وزارة الداخلية أن غالبية شركات الأمن الخاصة المستقلة ستغلِق، فيما تدخل شركات جديدة يديرها ضباط من القوات المسلحة والشرطة إلى السوق.39 وفي مؤشر على تنامي سطوة هذه الهيئات، حلّت شركات مرتبطة بالقوات المسلحة مكان المقاولين المدنيين في خدمات الصيانة العامة والتنظيف في الجامعة الأميركية في القاهرة في تموز/يوليو 2017.40

 أما المستفيد الأكبر من توسّع سوق قطاع الأمن الخاص، فهو مجموعة فالكون الدولية (Falcon Group International)، التي تأسست في عام 2006. تزعم مصادر مختلفة أن قوة العمل فيها ازدادت إلى 4 آلاف في عام 2011، وإلى ما بين 6 آلاف و12 ألفًا في 2014. أفادت التقارير حينها أن حجم أعمالها بلغ ملياري جنيه مصري (زهاء 283 مليون دولار، لأن قيمة الجنيه كانت خُفضت آنذاك)، أي ما يمثّل 45 في المئة من السوق؛ لا يمكن تأكيد هذه الأرقام، ولكن ادعت الشركة أنها قد استحوذت على 54 في المئة من سوق الأمن الخاص إبان عام 2015.41 ما هو مؤكّد أنها حصلت على العديد من العقود الجديدة التي تولدت عن إضفاء الطابع الأمني بكثافة على الفضاءات العامة منذ استيلاء القوات المسلحة على السلطة في تموز/يوليو 2013 وما تلاها من انتخاب السيسي رئيسًا في أيار/مايو 2014. هذا المنحى زاد إلى حدٍ كبيرٍ الطلب على شركات الأمن الخاص، التي تدافعت حينذاك لقطف ثماره. وقد وفّرت مجموعة فالكون الأمن في المقر العام للحملة الانتخابية للسيسي، وحصدت لاحقًا مروحة واسعة من العقود الأمنية في مشروع تفريعة قناة السويس وفي 15 جامعة عامة. وفي تحوّل عكس السياسات النيوليبرالية، تعاقدت الشركة حتى مع وزارتي الداخلية والدفاع لتوفير الأمن خلال المناسبات الرياضية.42

كانت "مجموعة فالكون" ثمرة توليفة غير مألوفة بين القطاعين العام والخاص. فقد أسّسها البنك التجاري الدولي، وهو نفسه مشروع مشترك تأسّس عام 1975 بين البنك الأهلي المصري المملوك للدولة وبنك "تشِيس مانهاتان" الأميركي.43 وقد انضم نجيب ساويرس، أحد كبار رجال الأعمال، إلى مجلس إدارتها في عام 2008. وبالرغم أن مديرها التنفيذي مدني، يُنظر إلى الشركة على أنها واجهة للمخابرات الحربية.44 وفي خطوة عكست مكانتها المتميّزة، أبرمت المجموعة مشروعًا مشتركًا مع وزارة الطيران المدني وإدارات حكومية أخرى في آب/أغسطس 2016 لاستكمال نطاق الأمن في مطاري القاهرة الدولي وشرم الشيخ، وفي عام 2018 أصبحت الوكيل المحلي المعتمد للشركة الألمانية التي كانت تزوّد المطاريْن بالبوّابات الأمنية الإلكترونية.45 وأكدت التقارير أن هذه الشركة الجديدة، التي أطلق عليها اسم الشركة "فالكون الوطنية"، تعاقدت مع شركة بريطانية لتدريب 7 آلاف عنصر، ما كان سيزيد عديد القوة العاملة في الشركة الأم إلى 20 ألفًا، كما أنها خططت لبيع خدمات التدريب إلى قطاع الأمن الخاص عمومًا.46 وكانت شركة فالكون قد حظيت أيضًا بوكالة "مجموعة وستمِنِستير" في عام 2015، وهي شركة عالمية مقرها المملكة المتحدة متخصصة بالأمن والخدمات المتصلة، والتي أعلنت أن فالكون توفر الأمن "لأكثر من 26 بنكًا علاوة على بعثات دبلوماسية عديدة مثل الأمم المتحدة والسفارات العربية... ولديها أكثر من 1250 منشأة".47 وبعلامة إضافية على نجاحها التجاري وعلى نفوذ شبكاتها من الضباط، فازت فالكون بعقد التفتيش على العدادات الكهربائية في آب/أغسطس 2017 وأزاحت شركة كوين سرفيس التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية من عقد مراقبة الحواجز الإلكترونية في مترو أنفاق القاهرة في كانون الأول/ديسمبر 2018.48

في ما يرجح أن يكون استجابةً للضغوط من جانب هيئات أخرى، أصدر السيسي مرسومًا في تموز/يوليو 2015 يسمح بموجبه لوزارتي الدفاع والداخلية بتأسيس شركات أمن خاصة بهما.49 وأفادت التقارير أن البنك المركزي كان يحاور عددًا من البنوك الكبرى في أواخر عام 2018 لتأسيس شركة لنقل الأموال بالشراكة مع "جهة سيادية"، وهي عبارة تشير إلى وزارة الدفاع أو الداخلية، وقد أسّس بنك القاهرة بالفعل شركة أمن خاصة بالشراكة مع هكذا جهة بعد بضعة شهور.50 ولعل هذا الانتشار يفسّر منح عقد توفير الحماية لألعاب كأس الأمم الإفريقية إلى الشركة الإفريقية للتأمين والحراسة، المجهولة سابقًا، بدلًا من مجموعة فالكون الدولية التي سبق لها أن قدمت هذه الخدمات لنوادي كرة القدم الرئيسة في البلاد كنادي الزمالك، والأهلي، والاتحاد.51 كما تناولت "جهة سيادية" مبيعات التذاكر لكأس الأمم الإفريقية، بينما قامت مجموعة إعلام المصريين، وهي واجهة لمديرية المخابرات العامة، بدور جزئي في تنظيم الألعاب نفسها.52

بيد أن هذا القطاع لايزال حتى الآن إقطاعية ميسّرة للمخبارات الحربية، كما تؤكد ذلك خلفية الشركات الأخرى. والأهم بينها هو فرع المجموعة متعددة الجنسيات "جي فور أس" التي لديها 6 آلاف عنصر. كان يرأس هذه الشركة الضابط السابق في المخابرات الحربية اللواء سامح سيف اليزل، ما ضمن له عضوية غرفة التجارة الأميركية في مصر.53 كما ترأس اليزل الكتلة البرلمانية المؤيدة بقوة للسيسي، "في حب مصر"، حتى وفاته في نيسان/أبريل 2016. وقد وسّعت المخابرات الحربية حضورها في أوائل 2018 بتشكيل مجموعة فالكون شركة جديدة تابعة لها هي شركة "تواصل للعلاقات العامة"، التي استحوذت كليًا، على ما تبقى من منافذ الإعلام الخاص (غالباً بالإكراه)، وباتت مستعدة لإعادة تنظيم إدارة الإذاعة والتلفزيون التابعة للدولة.54

ولوج القطاع الخاص

< كما يدل مثل قطاع الإعلام، فقد أسفر تطور العلاقات بين المؤسسة العسكرية والقطاع الخاص وتنشيط الاقتصاد العسكري عن توسيع متسارع في الفرص المتاحة لضباط القوات المسلحة لإطلاق نشاطاتهم التجارية الخاصة. وفي الكثير من الحالات، كانت هذه شركات شرعية أسسها ضباط متقاعدون مستفيدين من مهاراتهم واتصالاتهم الخاصة، لكن برز أيضًا مجال أكثر رماديةً مؤلف من شركات الواجهة التي يشكّلها ضباطٌ متقاعدون وزملاؤهم قيد الخدمة بهدف اقتناص العقود. ومرة أخرى، ينبثق هذا التطور من نمط تجذّر في حقبة سابقة حين كانت تسجّل شركات خاصة وهمية للحصول على مخصصات السلع أو المستوردات المدعومة، والتي تباع بعدها إلى شركات قانونية، وأيضًا حين سارت الشركات العامة على نفس المنوال من الإغواء عبر شراء السلع والخدمات من الشركات الوهمية بكامل علمها.55

تقدم "ماريديف" (Maridive)، وهي شركة عالمية لها أربعة فروع في قطاعي النفط والملاحة أسسها ضابط بحرية سابق، نموذجًا ناجحًا لتمدّد بعض المتقاعدين. غير أنَّ شركة الإسكندرية للشحن والتفريغ تمثّل النوع الأكثر شيوعًا من هذه القصص الناجحة: أسسها ضباط سابقون في القوات المسلحة ومسؤولون في إدارة الموانئ في عام 1984، وقد اتهمتها نقابة عمال تحميل وتفريغ السفن باحتكار المرافق والمستودعات بشكل غير قانوني.56 ووفقًا لإداري سابق في شركة أجنبية للتنقيب عن النفط والغاز عملت في مصر، كانت شركة الإسكندرية للشحن والتفريغ هي واحدة من هيئات عدة، بما في ذلك هيئة الموانئ وإدارة الجمارك، تعيّن رشوتهما للتخليص الجمركي للآلات والإمدادات المستوردة، حتى بعد استيفاء الرسوم النظامية عليها؛ وكان ضباط القوات المسلحة يقومون بجميع المعاملات، الرسمية منها وغير الرسمية، مقابل رسمٍ إضافي.57

يلف الارتباطات العسكرية غموض أكبر في حالات أخرى. فيقول عالم اقتصاد سياسي مصري إن الضباط يستفيدون من "الشركات الخاصة التي لا يملكونها هم. وتقدم خدمات البريد مثلًا على ذلك، حيث إن الربح على الوحدة طفيف، ولكن حجم المعاملات البريدية كبير، لأن كل شخص في المجال العسكري يمكنه استخدام هذه الخدمات: أفراد القوات المسلحة، وأقاربهم، وأصدقاؤهم. كل هذه روابط غير رسمية وليست مؤسسية، لكنها تخلق بالطبع وظائف، وتساعد الناس على توظيف أبنائهم وبناتهم".58 ولاحظ محلل آخر أنه في مدينة نصر، وهي الحي السكني المملوك أصلًا للقوات المسلحة والذي شُيّد في القاهرة في عام 1958، يتم تخصيص عقود الأعمال الصغيرة مثل السباكة أو الأشغال الكهربائية بالأمر المباشر لمقاولين من الباطن مختارين.59

توفّر مديرية المخابرات العامة لمحة إضافية عن كيفية عمل شركات الواجهة، لأنها (أي المديرية) متداخلة على نحو وثيق مع القوات المسلحة التي تزودها بغالبية ضباطها. ويشدّد هنا المحلل عبد الفتاح برايز، على سبيل المثال، على أن "الشركة الحائزة على حوالي 70 في المئة من سعة خدمة الإنترنت في مصر مملوكة بشكل ما [للمخابرات العامة]"، التي هي نافذة أيضًا في الهيئة القومية لتنظيم الاتصالات، وتملك شركة وسيطة لتصدير الغاز.60 كما يورد شهادة أمام المحكمة لرئيس سابق للهيئة العامة للبترول جاء فيها أن المخابرات العامة تملك شركة الشرق التي تصدّر الغاز إلى الأردن.61 هذا، ويُعتقد أن بعض شركات القطاع العام هي شركات واجهة، مثل تلك التي تقع تحت علامة "جنوب الوادي" القابضة. علاوة على ذلك، زعم أحمد عزت، الضابط السابق في المخابرات العامة الذي تحوّل إلى كاشف للأسرار غداة إطاحة مبارك، في أيلول/سبتمبر 2011، أن أرباح هذه الشركات تذهب إلى ضباط رفيعي الرتبة لا يزالون في الخدمة.62

لكن، الأمر الذي لا يزال غير واضح هو ما إذا كانت الشركات الخاصة التي تفوز بالعقود من الباطن هي مجرد هيئات أسسها ضباط القوات المسلحة بصفتهم الشخصية ولمنفعتهم الفردية، أم انهم يعملون واجهاتٍ لوزارة الدفاع أو الهيئات العسكرية الأخرى، مستخدمين تمويلها ليردوا العائدات إليها، بنفس طريقة تأسيس المخابرات العامة لشركات الواجهة التابعة لها. وعلى العموم، توحي الأدلة المتوفرة إلى أن وزارة الدفاع لا تدير رأس المال الاستثماري بهذا النمط، ربما لأن لديها فرصة ونفوذًا أكبر بكثير لولوج القطاعات والأسواق الاقتصادية الرئيسة، إن بطرق رسمية أم غير رسمية، ما يعفيها من الحاجة إلى خطة استثمارية أكثر نجاعةً. وحين نضع في الاعتبار تعويضات نهاية الخدمة المتواضعة التي يتلقاها حتى كبار الضباط عند التقاعد، فمن غير المحتمل أن يكونوا قادرين على تمويل الشركات كليًّا، حتى ولو التمّوا مع زملائهم المتقاعدين أو مع ضباط لا يزالون في الخدمة.

بالطبع، فإن ضباط القوات المسلحة الذين يعملون كوسطاء أو مخلّصي معاملات لحساب الشركات الخاصة - المصرية والاجنبية - يتلقون أتعابًا لا تقيَّد في الدفاتر حين يتعاطون مع الهيئات العامة أو حين يوفّرون المداخل إليها للشركات الخاصة. غير أنه من الممكن أن يقوم الضباط العاملون في الخدمة كذلك بتأسيس الشركات الصغيرة التي يتم تسجيلها بأسماء أفراد عائلاتهم، ويستخدمون علاقاتهم المباشرة والمعلومات الداخلية للفوز بالعقود (ربما لبيعها لاحقا لمقاولين آخرين من الباطن)، وبالتالي يضمنون دفقًا متواصلًا من الدخل المُجزي. ويلاحظ أن قادة كتائب إنشاء المشروعات المدنية و"الفصائل" التابعة لها، ومهندسي المواقع العاملين في المشاريع الإنشائية التي تديرها وزارة الدفاع يتمتعون بصلاحية منح عقود الأشغال الصغيرة (أو أجزاء من العقود الكبيرة) بالأمر المباشر، فقد يمنحونها على أساس المعرفة الشخصية أو مقابل تلقي الرشاوى إلى شركات صغيرة إلى درجة أن ليس لديها عنوان رسمي أو موظفين دائمين أو المهارات والمعدات المطلوبة (حتى لو كانت مسجَّلة رسميًا)، بنتيجة تضخيم التكاليف المعلنة واستخدام مواد البناء المتدنية. 63

السباحة مع "حيتان النيل": العلاقات العسكرية مع القطاع الخاص

لقد أشار العديد من الخبراء الاقتصاديين والمؤسسات المالية، كصندوق النقد الدولي، إلى معضلة الوصول إلى أراضي الدولة للاستخدام التجاري، كونها أحد أهم المعوّقات أمام تطور القطاع الخاص في مصر.64 وبما أن ذلك يقع تحت سيطرة وزارة الدفاع، بطريقة مباشرة من خلال سلطتها منح أو حجب التراخيص لطلبات الاستخدام وبطريقة غير مباشرة من خلال دورها في المركز القومي لتخطيط استخدامات أراضي الدولة، فهو يشكِّل المثال الأوضح والأهم لآلية النفوذ العسكري على الجهات المدنية (الخاصة والعامة). لقد استفادت المؤسسة العسكرية استفادة كاملة من الأطر القانونية والتنظيمية الاستنسابية والممارسات الفعلية التي توفر لها النفوذ على الجهات الاقتصادية الأخرى، حتى لو لم تكن المؤسسة العسكرية هي التي خلقت تلك الأطر والممارسات. بل وصل الحد بصندوق النقد الدولي إلى التخلّي لوهلة عن تحفظه المعتاد لينذر علنًا في أيلول/سبتمبر 2017 أن "انخراط الهيئات التابعة لوزارة الدفاع [بالنشاط الاقتصادي] قد يعيق تطور القطاع وتوليده للوظائف".65 لقد ساهمت هذه العوامل، مجتمعة، بالتشويه الشديد للحوافز السوقية وبنية القطاع الخاص.

أما على صعيد الشركات الخاصة الفردية، فقد اتسمت العلاقات بالمؤسسة العسكرية بالمنفعة المتبادلة أكثر بكثير منها بالتنافس أو الخصومة، فولّدت التفضيل والمحسوبية. ويفسّر ذلك إلى حد كبير، استمرار اتكال الشركات الخاصة على عقود المشتريات والأشغال العامة، والتي بلغت حصتها من إجمالي الناتج المحلي 27 في المئة تقريبًا في عام 2003 و31 في المئة في 2006، وعلى أجهزة الدولة لتأمين الموارد المفتاحية كالوصول إلى الأرض وترخيص استيراد البضائع الوسيطة.66 ويضاف إلى ذلك، حسب ما يؤكد خالد إكرام،

إن تدخلات الحكومة عبر القوانين والنظم بقيت شائعة في العديد من القطاعات إلى درجة أنها حددت تقريبًا مستوى وتركيبة الإنتاج، رغم أن تلك القطاعات ظلّت رسمياَ في يد صانعي القرار في القطاع الخاص. فإن رقعة تأثير الحكومة في الاقتصاد المصري هو أوسع بكثير مما يمكن استخلاصه من المقاييس التقليدية كنسبة الإنفاق الحكومي إلى إجمالي الناتج المحلي.67

وبالتالي، فإن طبيعة العلاقات العسكرية بالقطاع الخاص توقّفت على الصعود أو الهبوط النسبي لجهاز الدولة في كل فترة معينة. إنما ثمة انتقال هام آخذ في النمو منذ عام 2013، حيث إن الاستقلالية الاقتصادية والبيروقراطية والسياسية للمؤسسة العسكرية، تتيح لها إعادة تشكيل إطار عمل القطاع الخاص إلى حد كبير. فتسارُع تمدّدها إلى عدد من القطاعات الاقتصادية التي كان القطاع الخاص يهيمن عليها لوقت طويل، يحوّلها ليس إلى منافسٍ مباشر فحسب، بل وأيضًا إلى جهة فاعلة تزعزع الأسواق لأن سلوكها غير مضبوط بحسابات الربح والخسارة التجارية المعتادة. هذا، ولقد أعادت المؤسسة العسكرية اصطفاف علاقاتها الاستراتيجية بالشركات الكبرى، المتوسطة، والصغيرة.

علاقة ثابتة باقية

وضعت حقبة التأميم في أوائل الستينيات في القرن العشرين نمطًا من العلاقات بين المؤسسة العسكرية والقطاع الخاص لا يزال حتى يومنا هذا. ومن المفارقات أن جوهرها كان، لعقود، الترتيب النفعي المتبادل عموماً الذي شهد شرائح عسكرية بيروقراطية صاعدة وقطاعًا خاصًّا يستخرجان المداخيل الشرعية وغير الشرعية على حد سواء من القطاع العام ومن تجارة الاستيراد. فمن سخرية الأمور أن القرارات الاشتراكية لم تؤدِ سوى إلى نتيجة عكسية، وهي نقل العديد من عاملي القطاع الخاص إلى الشركات المؤممة حديثًا ومدّ الفساد من داخل المؤسسة العسكرية إلى الجهاز البيروقراطي المدني الذي اتسع بسرعة في حينه.68 وجاء تشويه سمعة القوات المسلحة في حرب 1967 على يد إسرائيل، ثم بدء عملية التحرير الاقتصادي المحدود والاستثمار الأجنبي في ظل سياسة الانفتاح التي أطلقها السادات عام 1974 فصاعدًا، ليغيّر الثقل النسبي لكل من الطرفين: فاتسع المجال لازدهار الجهات الاقتصادية الخاصة في قطاعات مختارة، فيما أتيح للمؤسسة العسكرية لتلحق انتهازيًّا في ركبها.

وضعت حقبة التأمیم في أوائل الستینات في القرن العشرین نمطاً من العلاقات بین المؤسسة العسكریة والقطاع الخاص لا یزال حتى یومنا ھذا.

يؤكد المسار التاريخي أن التفاعلات بين المؤسسة العسكرية والقطاع الخاص حددتها علاقة هذا الأخير بالدولة المصرية عمومًا. وقد لاحظ عالم السياسة جون ووتربيري حيال حقبة السادات أنه "أينما يمّم المرء وجهه نحو أي شطر من القطاع الخاص، يجد أن اختراقاته مع القطاع العام ملفتة".69 وأضاف أن كلاّ من مجاليْ المقولات والتشييد "كانا معتمدين على وجه الخصوص على حجم الأعمال الكبير مع الدولة". كما لاحظ أيضًا أن مدراء القطاع العام، من جهتهم، كانوا "أكثر من مستعدين للعمل مع القطاع العام، خصوصاً من خلال ترتيبات التعاقد من الباطن، مع الضمانة المُطمئنة بأن القطاع الخاص سيكون خاضعًا قانونيًا للقطاع العام ومحظورًا عليه التنافس معه".70 واستنتج روبرت سبرينغبورغ أنه مع بدء شق الاقتصاد العسكري طريقه نحو النمو في عهد مبارك في الثمانينيات من القرن الماضي، "فإن تحالفه مع القطاعين العام والخاص وانتشار وتمدد الصناعات الحربية، يخلق طبقة عسكرية، مع فئة من ’المنفتحين‘ [أي الوسطاء التجاريين] المتّكلين عليها".71 فصار شطر مميّز من رجال الأعمال "يتلقى العقود المربحة من المؤسسة العسكرية لمختلف السلع والخدمات" بحلول عام 1990، وفقًا لدليل مناطقي أصدرته مكتبة الكونغرس الأميركي.72

كان لبرنامج الخصخصة الذي أُطلق عام 1991 أثر أكبر، إذ كسر احتكار القطاع العام لقيادة الاقتصاد ومكَّن القطاع الخاص للظهور (أو العودة) كطرف اقتصادي رئيس. فاستقوى رجال الأعمال المتحالفين مع نظام مبارك أكثر خلال العقديْن التالييْن بموازاة تعزيزه لسلطته الشخصية، ما أدى إلى إطلاق لقب "حيتان النيل" عليهم. وبالمقابل، تم تهميش المؤسسة العسكرية سياسيًا، فيما استدار مبارك نحو وزارة الداخلية لتكون الأدارة الرئيسة في القمع الداخلي. فقد نمت ميزانية الوزارة وعديدها كذلك بوتيرة أسرع من النمو لدى وزارة الدفاع.73 وتم تعويض المؤسسة العسكرية بتوسيع جمهورية الضباط وزيادة سلطتها القانونية على استخدامات أراضي الدولة، التي استعملتها لاستخراج الدخل من القطاع الخاص. إلا أن السيطرة على الحصة الأكبر من الأموال والأصول العامة قد انتقلت إلى أيدٍ أخرى، ما حدّ من الحصة العسكرية من المداخيل وولَّد استياءها من رجال الأعمال المحاسيب الملتفين حوله وابنه جمال والحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، فقد تأثرت المقاربة العسكرية إلى التعامل مع مقاولي القطاع الخاص بهذا الإرثُ منذ قفز القوات المسلحة إلى موقع الصدارة السياسية بفعل ثورة عام 2011 وانقلاب عام 2013.

الروابط السياسية والتأثير العسكري

اتسم العقدان من الزمن بين انطلاق الخصخصة ونهاية عهد مبارك بظهور العديد من الشركات المرتبطة سياسيًا.74 تكثّفت المحسوبية بموازاة التركيز المتزايد للسلطة القانونية على الموارد العامة كالأرض ضمن صلاحيات وزارة الدفاع، من جهة، والاختراق المتزايد للأجهزة الرسمية التنظيمية والاقتصادية من قِبل جمهورية الضباط، من الجهة الأخرى. ووضع بين الاقتصاد العسكري وأجزاء من القطاع الخاص، ولكنه أدى أيضًا إلى نشوب التوترات المتنامية. فقد تركز جزء كبير من السلوك الريعي على جهات سياسية قوية: مبارك وابنه جمال ولجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم الذي ترأسه جمال، وشبكات الحزب المنتشرة في البرلمان وغرف التجارة وغيرها، وكانت الشركات الخاصة الأكثر نجاحًا في فترة 1991-2011 هي تلك التي استمدت فرصها بكثافة من هذه المجموعة (وليس من المؤسسة العسكرية) لعضوية مجالس إدارتها. ومنح اختراق القطاع العام التأثير والفرص للمؤسسة العسكرية لتأمين الدخل من علاقتها بالقطاع الخاص، من دون أن يمنحها السيطرة عليه.

إن حجر الأساس للارتباط السياسي، والذي يجعله ضروريًّا ومُربحًا في إطار الاقتصاد المصري، هو ما اسماه الخبراء الاقتصاديون اسحق ديوان وفيليب كيفر ومارك شيفباور "آليات الامتياز". وشملت هذه الحماية التجارية (الجمركية وغيرها)، ودعم أسعار الطاقة، والوصول إلى أراضي الدولة، والتطبيق التفضيلي للوائح التنظيمية، علاوة الوصول التفضيلي إلى التمويل والعقود الحكومية، والأفضليات الضريبية، وتسهيل الترخيص.75 وتمتعت الشركات الخاصة والعامة المرتبطة سياسيًّا على حد سواء بأفضليات تنظيمية ومالية متعددة مقارنةً بمنافسيها المحتملين. كما تتمتع المؤسسة العسكرية بجميع الامتيازات هذه، مع إضافة هامة هي قدرتها على منح تلك الامتيازات أيضًا على الشركاء والمقاولين الخاصين الذين تفضَّلهم.

وكنتيجة لذلك، فإن السعي وراء الريع شكّل طريقة رئيسة لتوليد الدخل العسكري طيلة هذه الفترة. وبالمقابل، فقد نما عدد الشركات العسكرية المسجَّلة رسميًّا وحجم إنتاجها نموًّا متواضعًا. بل إن الجزء الكبير من نشاطها كان ريعيًّا أيضًا: إذ منحت الشركات الخاصة المفضّلة الوصول إلى مدخلات المصانع العسكرية لتجميع السلع (الإلكترونية، مثلًا) ووفَّرت لها الحماية من منافسيها المحتملين. 76

وكان منح الأراضي والإسكان حجر الزاوية في عمليات المحسوبيات السياسية في خضم المضاربات الواسعة الانتشار التي اتسمت بها هذه الحقبة. فبات من الشائع بين رجال الأعمال شراء مساحات شاسعة من العقارات المرغوبة في القاهرة وحولها وفي مدن رئيسة أخرى، بهدف منحها هدايا لقادة القوات المسلحة أو عبر بيعها لهم بأقل من كلفة السوق، وأيضًا للمحافظين وغيرهم من كبار مسؤولي الدولة.77 عملت هذه "المُحلِّيات" لضمان شراء الأراضي بأسعار رخيصة أو لكسب العقود الحكومية. وقد يحظى المتلقّون بالعديد من هذا النوع من الهدايا التي يبيعونها بعد ذلك بالتسعيرة السوقية الكاملة. وقد حصل رجال الأعمال المرتبطون سياسيًّا على ضمانات أيضًا بأن أراضيهم سيتم إمدادها بالكهرباء، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والبنى التحتية للمواصلات على حساب المال العام، ما يزيد إلى حد كبير من القيمة السوقية لهذه الأراضي ويمكّن رجال الأعمال من استخدامها كفالةً للحصول على قروض مصرفية78. فضلًا عن ذلك، استغلت وزارة الدفاع سيطرتها على استخدام الأراضي وقدرتها على توفير البنى التحتية لتوليد التآزر التجاري الكبير لاقتصادها العسكري.

 مثل هذه النقلة كانت مهمة على وجه الخصوص، لأنه على الرغم من أن القطاع الخاص ولّد 75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2009 (وفقًا للبنك الدولي)، إلا أن نشاطًا اقتصاديًّا وازنًا تركّز في نحو 20,000 فقط من بين مليوني شركة (غير الزراعية)، كما أظهر الخبراء الاقتصاديون إسحق ديوان وفيليب كيفر ومارك شيفباور.79 وهم يعتقدون أن الهيئات العسكرية الرسمية أصبحت عمليًا ما وصفوه بـأنه "زعيمة كبيرة لسوق المحسوبية" بالنسبة إلى فئة الواحد في المئة من الشركات الخاصة هذه (إذ أن الـ99 في المئة الباقية صغيرة للغاية ولا تستطيع بالتالي المشاركة)، على الأقل في ما يتعلق بالمشاريع التي تستطيع فيها هذه الهيئات منح أو توجيه العقود. 80 وتكشف مراجعة هذه العقود خلال السنوات الست الأخيرة خاصة، أن شركات قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص التي لها ارتباطات سياسية - هذه المرة مع جمهورية الضباط - تتلقى حصة أكبر بكثير من سوق العقود من الباطن، فيما عدد أكبر بكثير من الشركات الصغيرة الأقل إنتاجية، التي تستخدم تكنولوجيات قديمة لخدمة أسواق محلية متخصصة، تأخذ الحصة المتبقية. 81

الشراكة مع الشركات الكبيرة: علاقة غامضة

عززت عودة القوات المسلحة إلى مركز الصدارة السياسية في عام 2011 أهميةَ الارتباطات السياسية أكثر، إذ وجدت الشركات الخاصة التي لديها روابط عسكرية أن طلباتها للحصول على العقود والتراخيص أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يستعجلها وأن ربحيتها تزداد.82 غير أن نمط العلاقات العسكرية بالقطاع الخاص أخذ يتغيّر بشكل ملحوظ.

عززت عودة القوات المسلحة إلى مركز الصدارة السیاسیة في عام 2011 أھمیة الارتباطات السیاسیة أكثر، إذ وجدت الشركات الخاصة التي لدیھا روابط عسكریة أن طلباتھا للحصول على العقود والتراخیص تم استعجالھا.

اشتدت ازدواجية النظرة العسكرية تجاه الشركات الكبرى بعد تشكيل حكومة أحمد نظيف المؤيدة لرجال الأعمال في عام 2004، ما دفع بوزير الدفاع آنذاك الطنطاوي إلى تصعيد معارضته لخصخصة شركات وبنوك معينة مملوكة للدولة. وفي حديث علني بعد خلع مبارك بثلاثة شهور، أشار عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة اللواء محمود نصر إلى "تدخل كبار رجال الأعمال في الحياة السياسية" على أنها أحد أسباب اندلاع "ثورة 25 يناير".83 وأحد الأمثلة على مَن استهدفتهم المؤسسة العسكرية هو محمد أبو العينين، أحد محاسيب مبارك، الذي كانت "مجموعة كليوباترا" التي يملكها تمددت من صناعات السيراميك إلى أن تكون شريكًا لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في خطة استصلاح الأراضي في شرق العوينات في أواخر التسعينات.84 فكان أبو العينين من بين عدة رجال أعمال كبار ولّوا الإدبار عقب الثورة، مثل قطب الصلب أحمد عز وسمسار السلاح والغاز السابق حسين سالم، والذين تمت ملاحقتهم قضائيًا. وقد رحّبوا جميعهم باستيلاء القوات المسلحة على السلطة في تموز/يوليو عام 2013 وتوصّلوا إلى تسويات مالية مرضية مقابل إسقاط دعاوى الفساد ضدهم والسماح لهم بالعودة إلى مصر، بيد أن أحدًا منهم لم يحصل على رد اعتبار سياسي واقتصادي كامل. وهذا ربما يفسّر لماذا صدح أبو العينين بانتقادات علنية للدور الاقتصادي المتنامي للمؤسسة العسكرية، مجادلًا بأنه "من غير المقبول أن يحصل الجيش على شيء أكثر من المستثمرين الطبيعيين بفعل مزايا خاصة له".85

استمر بعض العلاقات العسكرية رغم ذلك، علمًا أنها تكشف عن ازدواجية النظرة العسكرية أيضًا. ومن بين أبرز الشخصيات التي صمدت خلال مرحلة الانتقال من عهد مبارك كان أحمد هيكل، الابن الثاني لرئيس تحرير صحيفة الأهرام السابق الشهير، محمد حسنين هيكل. كانت شركة أحمد، القلعة القابضة (سابقًا سيتادل كابيتال) وهي واحدة من الصنف الجديد من الشركات المصرية التي تعتمد أساسًا على الأسواق التجارية والشركاء الدوليين للحصول على رأس المال والتي ازدهرت بعد الإصلاحات الاقتصادية في العقد الأول من هذا القرن، على عكس اعتماد الشركات الساعية إلى اقتناص الريع من خلال مداخل العقود والموارد العامة، كمجموعة كليوباترا. أصبحت شراكة القلعة مع المؤسسة العسكرية واضحة للعيان في عام 2009، حين اشترت الشركة الوطنية لإدارة الموانئ النهرية من وزارة الدفاع، ما جعلها شركة النقل الخاصة الوحيدة التي تعمل على طول نهر النيل. وكان رئيس الشركة لواء قد أتمّ آخر دورة من خدمته العسكرية كرئيس مجلس إدارة شركة نفط وغاز تملكها الدولة قبل أن يتقاعد.86 ولعل روابطها السياسية هي التي سمحت للقلعة القابضة أن تحصل على قرض كبير بضمانة مؤسسة الاستثمار الخارجي التابعة للحكومة الأميركية في ذروة التقلبات التي عصفت بمصر في عام 2011.87

ولكن القلعة القابضة اصطدمت أيضًا بالمعوٍّقات. فقد أعلنت في عام 2010 خططًا لبناء "شبكة للنقل النهري ليس لها مثيل" لشحن القمح، لكن التقارير أفادت بعد سنة من ذلك أنها كانت تعاني صعوبات في تشغيل أسطولها من الصنادل.88 سبق للقلعة القابضة أن تعاقدت مع ترسانة الإسكندرية التابعة لوزارة الدفاع في عام 2009 لتصنيع 30 صندلًا، ولكن 19 فقط منها تم إنتاجه حتى عام 2019، وربما أقل من ذلك بكثير، أو حتى لا شيء.89 ورغم توسع أسطول الشركة إلى 45 في عام 2012، فقد ووجهت بالمنافسة من قبل الشركة الوطنية للملاحة النهرية التابعة لوزارة الدفاع، التي ادعت أنها نقلت 2,5 مليوني طن من البضائع في عام 2018. 90 كما قامت هيئة وادي النيل للنقل النهري، وهي كيان حكومي مشترك بين مصر والسودان اُقيم في عام 1975 وترأسها ضابط متقاعد، بالمنافسة أيضًا لكسب حصة من التجارة بين البلدين.91 إنما كان المُعيق الأهم هو إخفاق الحكومات المتعاقبة على المدى العقديْن المنصرفيْن من الزمن بتنفيذ الخطط الطموحة لحل العوائق الجسدية والتنظيمية ولتطوير الممرات المائية لمصر، على عكس الحال في ما يخص الاستثمارات الضخمة في بناء الطرق السريعة تحت الإشراف العسكري.92 فلم تزد حصة النقل النهري عن واحد في المئة فقط من إجمالي حجم الشحن الداخلي في مصر عام 2012، بالنتيجة، فيما اكتشفت دراسة أعِدَّت بطلب من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في عام 2014، أن مستثمري القطاع الخاص يعتقدون أنهم مطالَبون بأكثر من حصتهم المعقولة من المجازفة.93

ولكن شركة القلعة متموضعة رغم الصعوبات في قطاعات تشكّل محط اهتمامٍ رئيس للاقتصاد العسكري، حيث حصلت على حصصٍ في شركات "لها مواقع أمامية في قطاعات الطاقة، والإسمنت، والنقل وغيرها في عام 2015.94 كما أنها استثمرت بكثافة في تطوير الأراضي الزراعية، وتصدير المواد الغذائية، والنقل النهري في السودان المجاور، وذلك جزئيًا من خلال شركتها التابعة "أسيك للهندسة والإدارة" (ASEC)، ما جعلها تتداخل بشكل وثيق مع الهيئات العسكرية (ومديرية المخابرات العامة) في استيراد المحاصيل والمواشي السودانية إلى الأسواق المصرية. وأعلنت القلعة القابضة كذلك عن توسيع البنى التحتية للنقل على طول النيل وغرب خليج السويس في عام 2015، الأمر الذي تطابق ثانية مع استثمارات مماثلة كانت تقوم بها المؤسسة العسكرية سابقًا.95

ولاحقًا، اختارت وزارة الدفاع فرع القلعة القابضة، شركة المشرق للبترول، للاشتراك في المشروع العملاق لتنمية شرق بورسعيد، بينما تعاقدت القلعة من الباطن مع الشركة الوطنية لخدمات النقل وأعالي البحار ("نوسكو") التي يرأسها لواء متقاعد، وذلك لتوفير النقل الثقيل لمصفاة النفط الكبيرة التي تبنيها إلى جانب مجمع مسطرد (قيد العمل منذ عام 1973) في محافظة القليوبية.96 وحقيقة أن مشروع مسطرد الجديد هو جزء من خطة بقيمة 18 مليار دولار لبناء مصافٍ جديدة وتعديل المصانع القائمة، وأنها الثانية فقط من المصافي الـ11 في مصر التي تعود غالبية ملكيتها إلى القطاع الخاص، تشير إلى الموقع الخاص والمميّز الذي يتمتع به هيكل، أو إلى أهمية رأس المال والخبرة والسعة الإنتاجية التي تستطيع القلعة القابضة أن توفّرها.97 ثم إن انخراط شركة نوسكو المملوكة للدولة يؤكد مجددًا التشابك والتداخل بين المشاريع الممولة من الحكومة وبين جمهورية الضباط.98

لكن، لا تكمن الأهمية الأساسية للعلاقة بالقلعة القابضة في جانب المحسوبية، بل في تحوّل المؤسسة العسكرية نحو الشراكة مع شركات تمتلك كلاًّ من الخبرة الفنية والرساميل الضرورية لتحسين معدلات نجاح وتسليم المشاريع. في بعض الحالات، تشاركت القوات المسلحة مع عمالقة اقتصاديين متجذرين، وبينهم: الشركة متعددة الجنسيات أوراسكوم للإنشاء والصناعة التي فازت بعقود من الباطن للعمل في تطوير محور تنمية قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة في عامي 2014 و2015؛ والسويدي للكابلات، وهي أكبر منتج للكابلات الكهربائية في مصر والشرق الأوسط؛ والمقاولون العرب، التي هي الآن شركة متعولمة ومشتركة في مشروع ميناء البرلس في محافظة كفر الشيخ بقيمة ملياري جنيه مصري (حيث شركة نوسكو هي مجددًا متعاقدة من الباطن).99 وقد اعتمدت وزارة الدفاع أيضًا على شركات عربية متعددة الجنسيات مثل دار الهندسة التي تم التعاقد مع فرعها المصري في عام 2014 لتصميم خطة رئيسة لتطوير محور قناة السويس برمته، ووضع مسودة كراسة الشروط والمواصفات لتوسيع القناة وقيادة تطوير شرق بورسعيد.100

وكما توضح هذه الأمثلة، لم تهمّش المؤسسة العسكرية الشركات الكبرى كليًّا. ولكنها تتحاشى التحالف مع أولئك الذين تعتبرهم منافسين سياسيين أو تجاريين.101 وبشكل خاص فإن العلاقات كانت غير مريحة مع الشركات المتعَولمة التي سعت إلى النأي بنفسها بعيدًا عن السيطرة من خلال نقلّ جلّ أعمالها ورساميلها إلى الخارج كضمانة ضد تذبذبات السوق والضغوط السياسية في مصر. فعلى الرغم من فوزها بحصة من العقود العامة التي وفّرتها المؤسسة العسكرية، تدرك هذه الشركات تمامًا أنها مهُمّشة للغاية في مجال صنع القرار الاقتصادي،102 وأعرب الرئيس التنفيذي لشركة أوراسكوم، نجيب ساويرس، مرارًا عبر شاشة التلفاز في عام 2014، عن معارضته انخراط المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المدني، ومطالبته بأن تركّز هذه الأخيرة "على حماية البلاد وبذل الاهتمام بالكوارث التي تحل بالعراق وليبيا".103 كما تعهّد باستثمار 500 مليون دولار في مشاريع البنية التحتية والطاقة، وذلك في أثناء مؤتمر الاستثمار في شرم الشيخ في آذار/مارس 2015، الذي أدى إلى مروحة من المشاريع العملاقة بإدارة وزارة الدفاع، لكنه أقرّ لاحقًا بأنه لم يُنفق أيًّا من هذه الأموال.104

لم تھمّش المؤسسة العسكریة الشركات الخاصة الكبرى كلیا. ولكنھا تتحاشى التحالف مع مَن تعتبرھم منافسین سیاسیین أو تجاریین.

يبدو أن المؤسسة العسكرية قد سعت إلى الالتفاف على التعقيدات السياسية المتصلة بالعمل مع الشركات الكبرى هذه، من خلال الالتفاف نحو المستثمرين الأجانب وإلى صنف جديد من الشركات التي تجمع بين رأس المال المصري والدولي. وقد ظهر تركيز واضح على جذب الاستثمارات الرئيسة من أوروبا والصين والهند التي تستطيع تقديم التكنولوجيا ورأس المال للمجمعات الصناعية والتجارية الجديدة التي يتم إنشاؤها تحت الإدارة العسكرية في المنطقة الاقتصادية للسويس، على سبيل المثال. ويوفّر هذا للهيئات العسكرية ولجمهورية الضباط التأثير التجاري بفضل سيطرتها على استخدامات الأراضي والأذونات اللازمة لذلك، كما يسهِّل وصولهم إلى الائتمانات الخاصة، التي كانت تُوَجَّه بشكل أضيق باتجاه الشركات المرتبطة سياسيًّا في حقبة مبارك.105

مثال آخر هو شركة "كاربون القابضة"، التي تقوم بحجم كبير من الأعمال في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، التي حوَّلتها المؤسسة العسكرية منذ عام 2004 إلى محور تركيز رئيس للاستثمارات في السياحة والتجارة والصناعة والبنية التحتية المتصلة. مؤسس رئيس الشركة هو باسل الباز، نجل أحد مستشاري مبارك الأهم للسياسة الخارجية وعضو مجلس إدارة صندوق تحيا مصر (تتم مناقشتها أدناه). فتوِّظف كاربون القابضة علاقاتها في الإمارات العربية المتحدة وأوروبا والولايات المتحدة، وبمؤسسات الاقتراض الدولية، للوصول إلى الاستثمارات والتكنولوجيا. ويضم مجلس إدارتها المؤسس المشارك والمدير التنفيذي لشركة القلعة القابضة، ووزير سابق للبترول والموارد المعدنية، ورؤساء عدة شركات خليجية، ما يكشف محورًا جديدًا لرأس المال المحلي والأجنبي المرتبط سياسيًّا والذي تفضّل المؤسسة العسكرية التعامل معه.106 لا يعني كل ذلك أن الشركات الكبيرة من نموذج كاربون القابضة هي حليفة أو متداخلة مع المؤسسة العسكرية أو أنها لا تواجه صعوبات جمّة في التعامل معها، رغم الالتقاء بينهما في مجالات محددة؛ فقد صارعت كاربون القابضة لمدة عشر سنوات تقريبًا قبل أن يُسمح لها بإطلاق مشروع مجمع البتروكيماويات.

التزامل مع السمكات الصغيرة: دائرة المؤسسة العسكرية من الشركات المتوسطة والصغيرة

يكشف نمط العلاقات العسكرية بالشركات الكبيرة الدوافع الاستراتيجية تمامًا، الاقتصادية والسياسية. والأمر ذاته بالنسبة إلى الجهد العسكري لبناء دائرة جديدة من الشركات المتوسطة والصغيرة، علمًا أن الأهداف والحسابات تختلف في هذه الحالة. بيد أن وزارة الدفاع والهيئات التابعة لها قد وجّهت العقود إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة لمشاريع لا تتطلب خبرات متقدّمة وتكون كثيفة العمالة لا الرساميل.107 واشتد هذا الاتجاه بقوة مع التزايد المفرط في حجم المشاريع الإنشائية التي تولّتها المؤسسة العسكرية منذ عام 2013. هذا التوجّه الذي يستهدف ظاهريًّا توليد فرص العمل وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، أدى أيضًا إلى إعادة هيكلة شبكات المحسوبية الساعية إلى قطف الريع.108 أما بالنسبة إلى الشركات الخاصة التي هي أصغر من أن تحظى بالعقود بفضل ارتباطاتها السياسية، فربط مصائرها بالعربة العسكرية يشكّل بوضوح استراتيجية تجارية ناجعة.

هذه هي الخلفية وراء تصريحات المسؤولين العسكريين، مثل تلك التي أدلى بها رئيس إدارة المشاريع الكبرى في القوات المسلحة اللواء كرم سالم محمد، الذي زعم في كانون الأول/ديسمبر 2015 أن إدارته أعطت أعمالًا إلى 198 شركة كبيرة وصغيرة ومتوسطة في مشروع مدينة الإسماعيلية الجديدة، ووفّرت من خلالها عمالة مباشرة لـ80 ألف شخص ولمليونين آخرين بشكل غير مباشر.109 وبعدها بشهرين، قال رئيس الهيئة الهندسية في القوات المسلحة، اللواء كامل الوزير، إن إدارته وفّرت الأعمال "لألف شركة مدنية، و300 مكتب استشاري، وأكثر من مليون عامل وفني، في 1377 مشروعًا.110

هنا، تستجيب الهيئات العسكرية مجددًا إلى أحد توجيهات السيسي، هذه المرة لتشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة. وهذا يُشبه جهودها لزيادة الدخل وأيضًا لمساهمتها التي تحظى بتغطية إعلامية واسعة في صندوق تحيا مصر، بعد أن فشل رجال أعمال بارزون في الوصول إلى هدفها، ألا وهو تجميع 100 مليار جنيه مصري (5,4 مليارات دولار آنذاك) في عام 2014.111 لكن، على الرغم من أن المؤسسة العسكرية لم تنحِّ شبكات المحسوبية المتمحورة حول الرئاسة ومؤسسات الدولة الأخرى، إلا أن إدارتها للمشاريع العملاقة والانتفاع الاقتصادي الكثيف - وأحيانًا الحصري - الذي تتمتع به في مناطق استراتيجية مُحددة كقناة السويس، عمّقا علاقتها التعاضدية مع شركات صغيرة ومتوسطة مفضّلة لديها، فيما كانت تقوم بزيادة العراقيل أمام باقي فئات القطاع الخاص.

يؤكد المقاولون العاملون في مصر أنه في معظم المشاريع الكبرى التي تديرها الهيئات العسكرية، يقوم بالعمل عشرات من صغار المقاولين من الباطن، قد يتولى كلٌ منهم تشييد مبنى واحدٍ أو مبنيين أو بضعة كيلومترات من الطرق السريعة.112 مثلًا، قامت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة بمنح عقود من الباطن لمشروع مدينة الإسماعيلية الجديدة إلى 90 شركة صغيرة، في حزيران/يونيو 2015.113 لكن المثل الأهم هنا حول هذا المنحى كان العقود التي أعطيت لتوسيع قناة السويس: إذ إن التحالفات التجارية التي تقودها الشركات في حقبة مبارك أو حتى شركاء وزارة الدفاع السابقين على غرار شركة المقاولون العرب أو الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري لم تفشل في الفوز بالعطاءات الرئيسة وحسب، بل كان أيضًا ثلثا الـثمانين شركة التي حازت على عقود من الباطن إما متعاقدة سابقًا من الباطن مع وزارة الدفاع أو، في أغلب الحالات، شركات غير معروفة نسبيًّا أو غير معروفة على الإطلاق.114 شددت المؤسسة العسكرية على منح التراخيص إلى الشركات الصغيرة أو الناشئة ذات القدرة التكنولوجية المنخفضة في منطقة السويس الاقتصادية.

ولا غرابة بعد ذلك، كما لاحظ المحلل ماجد عطية في عام 2015، بأن هنالك قلقًا شائعًا في مصر "بأن تتحوّل كل الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى مقاولين من الباطن للجيش".115 وعلى الرغم من أن ثمة مبالغة في ملاحظته هذه، إلا أنها تعكس المنحى المطّرد الذي يكمن خلف هيكلية واضحة للحوافز لدى كلا الطرفين: ففي سبيل الفوز بعقد أو مدخل ما، يدفع المقاولون من الباطن الرشى عادةً.116 لكن هناك أيضًا مقايضات أخرى. فمجندو القوات المسلحة الذين يتمتعون بمهارات خاصة، يقولون إنهم يرسَلون إلى العمل لدى شركات مثل صندوق التأمين التكميلي أو شركة الدلتا للسكر، فيما توظّف الشركات الخاصة متخرجين من الكليات العسكرية التقنية أو تنتج سلعًا يمكن للشركات العسكرية بعد ذلك تسويقها على أنها من إنتاجها.117

تستفيد الهيئات العسكرية وشركاؤها من القطاع الخاص من التدوير الدائم للمال من خلال التعاقد من الباطن وكسب رسوم الإدارة. مثلًا، بعد الفوز بعقود حكومية ضخمة لتشييد مساكن مدنية في أواخر عام 2013، قامت وزارة الدفاع بالتعاقد من الباطن مع الشركة العقارية للبنوك الوطنية في كانون الثاني/يناير 2014 لبناء الإسكان العسكري. وكانت قد جاءت 10 عقود من أصل 12 عقدًا لهذه الشركة آنذاك من وزارة الدفاع (بقيمة إجمالية قدرها 209 ملايين جنيه، أي 30 مليون دولار)؛ وفي نيسان/أبريل 2016، كشفت الشركة النقاب عن أنها تلقت استثمارًا عقاريًا كبيرًا بقيمة 250 مليون جنيه من وزارة الدفاع، وأنها تعمل على مشروع آخر لهذه الأخيرة قيمته 100 مليون جنيه في مدينة نصر (على أرض كانت عسكرية في السابق)، كما توقّعت أن تخوَّل العمل في مشروع ضخم تديره وزارة الدفاع.118 وبالمثل، شيّدت الشركة الاستشارية للتصميم الهندسي 1000 وحدة سكنية لضباط القوات المسلحة في مدينة السلام لحساب شركة النيل للمقاولات العامة، التي كانت قد حصلت على العقد، وكذلك "بانوراما" 6 أكتوبر، لكن هذه المرة مباشرة لحساب دائرة الأعمال العسكرية في وزارة الدفاع.

شهيّة عسكرية مُتَفَتِّحة؟

حتى عام 2015، تجنّبت الهيئات العسكرية غالبًا القطاعات الاقتصادية التي تركّزت فيها مساهمة الشركات الخاصة إلى الناتج المحلي الإجمالي وتوليد الوظائف. فظل بإمكان المحلل الاقتصادي عبدالفتاح برايز أن يؤكد، في مطلع 2016، أن المؤسسة العسكرية "غائبة تقريبًا أو حائزة على حصة صغيرة للغاية في عدد من القطاعات الاقتصادية المفصلية التي نمت بشكل كبير منذ التسعينيات في القرن العشرين"، بما فيها "مروحة واسعة من الصناعات التحويلية كالإسمنت والأسمدة والزجاج والسيراميك والألومنيوم والحديد والصلب، علاوة على القطاعات الخدمية المفتاحية كالاتصالات السلكية واللاسلكية والاستضافة والسياحة". 119 أي بقيت الهيئات العسكرية متركّزة في القطاعات غير السلعية أو الخدمية التجارية.

إلا أن الاستحواذ القسري على شركات الإعلام المصرية منذ عام 2016 والاستثمارات العسكرية في إنتاج السلع القابلة للمبادلة التجارية في قطاعات كانت تسيطر عليها الشركات الخاصة في السابق، ما دلّ على انعطاف هام بعيدًا عن الممارسة الماضية. وسرعان ما لاحظت وزارة الخارجية الأميركية في "تقرير المناخ الاستثماري في مصر" الذي نشرته في عام 2017 أن الشركات العسكرية (بإلاضافة إلى الشركات المملوكة للدولة عمومًا) تنافس الشركات الخاصة مباشرة في العديد من القطاعات الاقتصادية.120 والواقع أن خليطًا من الاعتبارات السياسية والاقتصادية يشكّل السلوك، حيث تهدف هذه التطورات إلى خدمة محاولات إدارة للسيطرة على الفضاء العام (كما في حالة الإعلام)، وتوفير المنافع العامة كالإسكان والغذاء بأسعار معقولة لتأمين التأييد الاجتماعي، وتحقيق الإدخار من خلال المشروعات العملاقة (كما في حالتيْ الصلب والإسمنت)، وزيادة جباية الدولة والصادرات. ولكن ثبتت عيوب الاستراتيجيات العسكرية المتبعة لإنجاز كل مسعى من هذه المساعي، ما أوقع الأكلاف المالية التي كان بالإمكان تجنّبها على الطرفين والأضرار السياسية نتيجة استعداء الشركات الخاصة الأكثر تأثرًا.

الإعلام: الاستحواذ القسري

لقد احتلت وزارة الدفاع والهيئات الحليفة موقعًا مسيطرًا في وسائل الإعلام العامة والخاصة في مصر منذ عام 2015، ولكن نتائج ذلك جاءت متباينة. يعود الانخراط العسكري في القطاع إلى عهد عبد الناصر عندما كان لضباط القوات المسلحة دور رئيس في المجالس الإعلامية الحكومية وغيرها من الهيئات المشكِّلة للرأي العام.121 ثم أدى نزع الطابع العسكري في عهد السادات إلى تقليصٍ أدوارهم وتأثيرهم المباشريْن، لاسيما في وسائل الإعلام المطبوعة، وكذلك فعل ظهور القنوات الفضائية التلفزيونية الخاصة بدءًا من عام 2001 فصاعدًا. ولكن استغلت الهيئات العسكرية والأمنية احتواء إدارة السيسي لوسائل الإعلام الخاصة المنتشرة، من أجل تحقيق مكاسب تجارية لها. وقد تيسر ذلك بفضل استمرار احتكار البث التلفزيوني الإذاعي والأرضي من قبل اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري المملوك للدولة، فضلًا عن القبضة المحكمة على شركات البث عبر الأقمار الصناعية الخاصة التي يُسمح لها بالعمل فقط في "مناطق حرة" محددة.122

وقد أبدت وزارة الدفاع اهتمامها بالإعلام بعد فترة وجيزة من تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة صلاحيات مبارك في عام 2011، حيث تبرعت بمبلغ 58 مليون دولار كمساعدة لميزانية اتحاد الإذاعة والتلفزيون الذي كان يعاني عجزًا بقيمة 19 مليار جنيه مصري (3,2 مليارات دولار) في عام 2012.123 ويرأس لواءٌ متقاعد من القوات المسلحة شركة الأقمار الصناعية الرئيسة (نايل سات، التي تملك فيها الهيئة العربية للتصنيع حصة تبلغ 1 في المئة) التابعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون.124 وعندما حولت الحكومة اتحاد الإذاعة والتلفزيون إلى هيئة عامة في كانون الأول/ديسمبر 2016، ضمّ مجلس إدارتها الجديد ممثلين عن العديد من الهيئات التي تتمثّل فيها أيضًا وزارة الدفاع.125 والأهم من ذلك هو الاستحواذ على عددٍ من أبرز شركات الإعلام الخاصة في مصر من خلال الاستيلاء القسري الصريح. وأُرغمت شركات أخرى على الخروج من السوق بسبب سيطرة الهيئات العسكرية والأمنية على شركات الإنتاج الإعلامي وإعادة توجيه عقودها إلى الشركات المستحوذَة مؤخرًا.

تصدرت مديرية المخابرات العامة العملية بداية، إذ تملَّكت مجموعة من الشركات الكبرى للأخبار والترفيه والإعلانات والإنتاج في عام 2015. وكانت الأداة الاستثمارية للمديرية هي شركة "إيجل كابيتال للاستثمارات المالية"، وهي صندوق اسثمار مباشر يدير كافة شركات المديرية وفقًا للصحافي الاستقصائي حسام بهجت، بما في ذلك شركة "بلاك أند وايت" التي كلفها اتحاد الإذاعة والتلفزيون إنتاج برنامج تعبوي حواري تلفزيوني يومي.126 ودخلت المخابرات الحربية أيضًا وبقوة إلى القطاع، بالتنسيق مع المستشارين العسكريين في الرئاسة. وفي كانون الثاني/يناير 2017، جاءت شبكة "العاصمة" التلفزيونية تحت إدارة شركة "شيري ميديا" التي يشغل منصب نائب رئيسها الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السابق.127 وفي آب/أغسطس، جرى الاستحواذ على "العاصمة" وشركاتها التابعة من قبل مجموعة فالكون انترناشونال، الواجهة للمخابرات الحربية، والتي أسست شركة "تواصل" للعلاقات العامة لتولي محفظتها الإعلامية المتنامية.128 واشترت "تواصل" فورًا قناة "الحياة" التلفزيونية الخاصة بأكملها، ما جعلها تكسب إذاعة "د.ر.ن.(DRN) وشركة "هوم مِيديا" للإدارة.129

ليس واضحًا ما إذا كان اندفاع المخابرات الحربية يشير إلى المنافسة مع مديرية المخابرات العامة للحصول على الإيرادات أو إلى توطيد سيطرة النظام على وسائل الإعلام. ففي عام 2016، انضم ضابط مخابرات حربية إلى مجلس إدارة صحيفة "اليوم السابع" التي كانت مملوكة لرجل الأعمال الموالي للسيسي، أحمد أبو هشيمة. لكن شركته، "إعلام المصريين" للإنتاج والتسويق، تم شراؤها قسرًا من قبل شركة "إيجل كابيتال" التابعة للمخابرات العامة في أواخر عام 2017، كما شرح حسام بهجت بالتفصيل.130 وبالإضافة إلى الصحيفة، استحوذت إيجل كابيتال على موقعه الإلكتروني الإخباري "دوت مصر" وقناة "أون تي في" (OnTV) التي كان قد جرى شراؤها من رجل الأعمال المستقل نجيب سويرس في عام 2016. وفي عام 2018، قامت شركةُ "إعلام المصريين" بإدارتها الجديدة بشراء شبكةَ الحياة أيضًا، وعلى الأرجح من شركة تواصل ذات الصلات العسكرية. ومن بين الشركات التابعة لها الأخرى هي جريدة "صوت الأمة" (المكتسبة قبل أن تستحوذ عليها المخابرات).131

على أي حال، فإن الاستحواذ على وسائل الإعلام الخاصة مكّن المؤسسة العسكرية في آن من استثمار رأس المال وتوفير العمالة والأجور الإضافية لكل من الضباط العاملين والمتقاعدين الذين يجري دمجهم في وسائل الإعلام والذين يراقبون محتواها. وقد خدم ذلك أيضًا أجندة سياسية: فقد أعلنت إدارة الشؤون المعنوية في القوات المسلحة في تشرين الأول/أكتوبر 2017، باعتزاز أنها أنتجت ثلاثة أفلام روائية "لأول مرة منذ حرب 1973".132 وعكس ذلك أيضًا سعي الهيئات العسكرية أو المرتبطة بها لإنجاز توجيهات الرئيس في توليد مصادر جديدة للدخل، واندفاع الضباط (والمسؤولين المدنيين) المتلهّفين للتنافس على ولوج قطاع مُربِح؛ وبلغ هذا أشكالًا مثيرة للسخرية، كما يتضح من قيام شركة النيل الوطنية للملاحة بإنتاج الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والمقاطع الموسيقية.133 غير أن التركيز على الدعاية وضعف جودة الكثير من وسائل الإنتاج الإعلامي التجاري التي تسيطر عليها الهيئات العسكرية أثّرا بشدة على جدواها؛ فبحلول أواخر عام 2018، كانت تلك الهيئات تخفض عدد الموظفين من أجل خفض التكاليف وتبحث عن مشترين من أجل الخروج من القطاع.

تحقيق استقرار السوق أم افتراسه؟

ساق رئيس الهيئة الهندسية في القوات المسلحة اللواء كامل الوزير مجموعة من المبررات للتدخل العسكري في قطاعيْ الصلب والحديد في حديث له في نيسان/أبريل 2016، قائلًا إن ذلك يهدف إلى ضمان استقرار العرض (الإمداد) والأسعار، ومنع الاحتكارات في القطاعات والسلع "الاستراتيجية"، ودعم عمل المؤسسة العسكرية في المشاريع العملاقة.134 كان المبرر الأخير صحيحًا بوضوح، نظرًا إلى أن قضبان حديد التسليح تمثل 30 في المئة من تكاليف الإنشاءات و10-25 في المئة من تكاليف البناء في مصر.135 ولكن ناقضت بقية ادعاءات كامل الوزير حقائق السوق. فالشركات الخاصة تهيمن على قطاعي الصلب والإسمنت، ولا تتمتع أي منها بمكانة احتكارية، بل إن كلًّا من القطاعين عانى من معدلات عالية من السعة غير المستغلة حتى قبل أن تزيد الهيئات العسكرية من سعتها الخاصة ابتداءً من عام 2016. وجاء عدم استقرار الأسعار والعرض، في ذلك الوقت بالتحديد، بسبب تزامن النقص الحاد في إمدادات الطاقة في مصر وندرة الدولار نظرًا للانخفاض الحاد في قيمة الجنيه المصري، وليس بسبب التلاعب بالأسعار من قبل القطاع الخاص أو العوامل الهيكلية في تلك الأسواق.

إن ما فعلته الهيئات العسكرية هو تأمين العرض والأسعار للمشروعات العملاقة التي تديرها، مع عزل المرافق الإنتاجية التي تملكها عن التحديات التي تؤثر على القطاع الخاص. علاوةً على ذلك، فهي قادرة على تخفيض أهم تكاليف الإنتاج مقارنة بكلِّ من الشركات الخاصة وشركات القطاع العام القليلة المتبقية التي لا تزال تعمل في هذه المجالات. وتشمل هذه التكاليف المواد الخام (لاسيما تلك المستوردة) والطاقة والوقود على الأرجح، وهي تمثل مجتمعةً  60 في المئة من إجمالي تكلفة الإنتاج، بما أن المؤسسة العسكرية تستفيد من الإعفاءات الجمركية، وأسعار صرف العملة التفضيلية، والتخفيضات غير المعلنة؛ ومن العمالة بما أن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية يمكن أن يلجأ إلى المجندين؛ ومن النقل الذي يسهم بشكل كبير في تكاليف الوقود، نظرًا إلى قدرة المؤسسة العسكرية على استخدام عربات القوات المسلحة مجانًا، وإدراج استهلاك الوقود ضمن ميزانية الدفاع، وتجنب دفع الرسوم على الطرق السريعة التي تديرها وزارة الدفاع أو الهيئات التابعة لها. إلى ذلك، تُعفى الهيئات العسكرية من ضريبة القيمة المضافة المطبقة في عام  2017، ولم تكن ستتأثر كثيرًا عندما زاد البنك المركزي المصري أسعار الفائدة بنسبة 7 نقاط مئوية بين تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وتموز/يوليو 2017، ما رفع تكلفة الاقتراض على الشركات الخاصة، بينما يمكن لتلك الهيئات أن تسحب على الأموال الخاصة التي تحتفظ بها.136

وهذه المزايا مكّنت الهيئات العسكرية من منافسة الأسعار في بقية السوق، وبالتالي فإن توسعها في قطاعي الصلب والإسمنت يبدو افتراسًا. إذ بدلًا من كسر الاحتكارات الإنتاجية ،فقد ولّدت احتكارًا شرائيًا: أي أنه بوصفها مشتريًا كبيرًا للسلعتين، يمكنها أن تفرض أسعارهما، فيما تُنتجهما أيضًا. إلا أن الهيئات العسكرية لم تكن لديها قدرة تنافسية لولا تمتعها بمزايا تجعل السوق غير متكافئ، بل إن التخفيض القسري في أسعار السلع في ظل هكذا ظروف يضر بالقطاع الخاص، رغم سعي السيسي إلى تمتين العلاقات معه على أمل زيادة الاستثمار وتوسيع القاعدة السياسية لنظامه. كما ويثبط ذلك عزيمة المستثمرين الجدد، الذين تبحث عنهم الحكومة منذ عام 2016.

وبالأهمية نفسها، فإن الاستثمار العسكري في قطاعي الصلب والإسمنت ليس بوسعه أن يكون مجديًا إلا إذا ضمن العائدات بفضل الطلب الضخم على منتجات الشركات العسكرية الذي تولّده المشروعات العملاقة. وحين تتباطأ وتيرتها، سوف تجد المؤسسة العسكرية نفسها تملك رأس مالٍ عقيم وتتحمّل استنزافًا ماليًّا دائمًا للاحتفاظ بمنشآتها الكبيرة لإنتاج الصلب والإسمنت. أو أنها سوف تضطر إلى تغطية تكاليفها التأسيسية من خلال التنافس بشراسة على حصة سوقية أكبر في بقية الاقتصاد المدني، ما يؤدي إلى مزيد من الضرر والنفور لدى القطاع الخاص. إن وفرة الإسمنت الذي تتنجه المصانع العسكرية في الأسواق المدنية (بدلًا من بيعه بشكل مباشر وحصري لمشاريع الإنشاء التي تديرها الهيئات العسكرية) تشير إلى أن هذا النوع من المنافسة بدأ يحدث بالفعل.

إن الاستثمار العسكري في قطاعي الصلب والأسمنت لیس بوسعه أن یكون مجدیًا إلا إذا ضمن العائدات بفضل الطلب الضخم على تلك المنتجات الذي تولّده المشروعات العملاقة.

الصلب

يؤكد قطاع الصلب هذه الديناميات. فقد تجاوزت السعة الإنتاجية المحلية الاستهلاك باستمرار منذ عام 2000؛ إذ بلغ الإنتاج السنوي من قضبان حديد التسليح للبناء حوالي 6,5 ملايين طن بحلول عام2017، تاركًا ما يصل إلى 35 في المئة من السعة غير مستغلة، حسب التقديرات المتحفظة.137 وحتى بعد الزيادة على الطلب الذي أحدثته المشروعات العملاقة، فقد تمت تلبيتها بسهولة من خلال السعة الموجودة، إذ بلغت الإنتاجية8 ملايين طن في عام 2018، فيما ارتفعت تقديرات السعة الإجمالية إلى ما بين 12,8 و13,5 مليون طن.138 وارتفع معدل نقص استخدام السعة إلى ما بين 38 و59 في المئة (حسب المرجع). وعندما ادعى رئيس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، اللواء مصطفى أمين، في آب/أغسطس 2018، أن الجهاز قد دخل قطاع الصلب لزيادة الإنتاج الوطني لأن العرض الإجمالي لم يكن كافيًا، كان هذاالإدعاء زائفاً، زيفاً جليًّا وكبيرًا.139

منذ عقود والمصنع الضخم للصلب الذي دشّنه عبدالناصر في عام 1954 هو الذي يغذّي الصناعة الحربية المصرية. واقتصر الإنتاج العسكري منه غالبًا على مصنع كبير للدرفلة تملكه شركة أبو زعبل للصناعات الهندسية التابعة لوزارة الإنتاج الحربي، والتي بدأت العمل في عام 2010.140 ولكن كان هذا مصنعًا نصف متكامل، لا ينتج سوى المنتجات الوسطية، فكان حصول جهاز مشروعات الخدمة الوطنية على شركة "السويس للصلب" المتعثرة في عام 2016 هو الذي مكّنها في النهاية من إنتاج منتجات الصلب الكاملة اللازمة للبناء.141 شركة السويس للصلب هي ثاني أكبر منتج للصلب في البلاد، وقد تكبدت خسائر بلغت 1,48 مليار جنيه بحلول حزيران/يونيو 2015.142 فاشترى جهاز المشروعات نسبة 40 في المئة من الأسهم وهي حصة المالك السابق جمال الجارحي بمبلغ 3,8 مليارات جنيه في صفقة تم الانتهاء منها في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، وسدد أكثر من 5 مليارات جنيه في شكل قروض مستحقة للبنوك المحلية، ورفع إجمالي رأس مال الشركة إلى 13,9 مليار جنيه (ما كان يعادل مبلغ 1,138 مليار دولار).143 وقد شمل ذلك ملياريْ جنيه من الاستثمارات الجديدة، جاء جزء منه من البنوك؛ وليس من الواضح ما إذا كان الجهاز قد وفر المبلغ المتبقي من أمواله الخاصة، لكن انتهى الأمر بحصوله على  82 في المئة من الشركة بعد إعادة هيكلتها.

وبعد أن حصل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية على حصة مهمّة في هذا القطاع، ورد أنّه يخطط لرفع إنتاج شركة السويس للصلب إلى 1.4 مليون طن من حديد التسليح.144 وقد تكون شركة السويس للصلب قد سعت للحصول على قرض مصرفي إضافي بقيمة مليار جنيه في حزيران/يونيو 2017 من أجل تمويل هذا التوسع.145 ظاهريًّا، كان الهدف هو استبدال 800 ألف طن من شركة "مصر الوطنية للصلب" (عتاقة)، وهي شركة شقيقة لشركة السويس للصلب التي بقيت في ملكية الجارحي، لكن هذا يعني ببساطة إضافة المزيد من السعة الإنتاجية لقطاع مُشبع أصلًا، بدلًا من استخدام سعة القطاع الخاص الموجودة بشكل أكمل.

وقد تصرفت وزارة الدفاع بنفس الطريقة تقريبًا عندما استحوذت على حصة غالبة في شركة "مصر للصلب" في تشرين الثاني/نوفمبر 2018. وكان قد سبق بسنة واحدة فقط للرئيس التنفيذي للشركة والمؤسس المشارك أحمد أبو هشيمة، أن توقّع بثقة أنها ستحصل على حصة بنسبة ما بين 20 و25 في المئة من السوق المصري، ببلوغ إنتاجها مليونيْ طن.146 لكن النقص في الغاز والكهرباء الذي أصاب القطاعات الصناعية بشدة في عام 2016 تسبب في أزمة شركة مصر للصلب، وكما شركة السويس للصلب، فقد تعرضت مصر للصلب لضغوط لتسديد أكثر من 3 مليارات جنيه في شكل قروض مصرفية. (كان أبو هشيمة قد عمل سابقًا واجهةً لمديرية المخابرات العامة في شراء مجموعة من وسائل الإعلام الخاصة اعتبارًا من عام  2014، لكنه اضطر إلى الخروج بعد تكبده خسائر كبيرة، وبالتالي فقد يكون استحواذه على شركة مصر للصلب عكس ديناميية مماثلة خفية). وجرى تسديد مليار جنيه من ديون الشركة في صفقة إعادة الهيكلة التي تم التوصل إليها في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، كما تم شراء حصة المؤسس الشريك القطري الشيخ محمد بن سحيم آل ثاني (يُعتقد أن حصته بلغت 70 في المئة)، فيما تم رفع إجمالي رأس مال الشركة.147 وجرى تعيين مساعد وزير الدفاع لشؤون التسليح، اللواء هشام الخطيب، رئيسًا لشركة مصر للصلب، وأبو هشيمة نائبًا له.

في حالتي شركتي السويس للصلب ومصر للصلب، كان يمكن للمؤسسة العسكرية أن تزعم بأنها تنقذ شركات متعثرة. إلا أن هذا لم يكن له علاقة تُذكر بكسر الاحتكارات، أو تثبيت أسعار الصلب، أو المساعدة في تطوير قطاع الصلب الأوسع. بل إن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية ووزارة الدفاع عزلا نفسيهما عن التعرض لكل الأمورالتي تجعل إنتاج الصلب مشروعًا عالي التكلفة وعالي المجازفة بالنسبة للشركات الخاصة في مصر: المنافسة من قِبَل حديد التسليح المستورد، ونقص الدولار والطاقة، وتقلب أسعار الصرف وأسعار السوق العالمية (بما في ذلك للمواد الخام التي يجب استيرادها)، وارتفاع استهلاك الوقود. والنتيجة هي خلق انفصام في قطاع الصلب، حيث تختلف المجازفة والفرص اختلافًا كبيرًا لكل من المنتجين العسكريين والمدنيين (ولاسيما مَن هم في القطاع الخاص. فالفئة الأولى توفّر منتجاتها بحرية للمستهلكين المدنيين، فيما تخلق ظروفًا في السوق تحول دون تدفق معاكس (أي للمنتجات المدنية في السوق العسكري). وجدير بالذكر أن الملكية العسكرية في هذا القطاع بلغت 12-16 في المئة على الأقل، بسعة إنتاجية وصلت إلى 1,55-2,3 مليوني طن، علمًا أن النسبة قد تبلغ 27 في المئة في حال إتمام التوسعات المخطط لها في شركتي السويس للصلب ومصر للصلب، والتي سيكون من شأنها زيادة السعة الإنتاجية المشتركة إلى 3,52 ملايين طن.

من جهة، حقق جهاز مشروعات الخدمة الوطنية ووزارة الدفاع هذه النتيجة من خلال الحصول على سبل إنتاج ليس حديد التسليح فحسب، بل أيضًا المنتجات الوسيطة التي يُصنع منها حديد التسليح: البليت (الحديد الخام)، الذي يتوجب على الشركات الأصغر استيرادها من الخارج ما يجعلها عرضة لتقلبات أسعار الصرف، والحديد الإسفنجي، وهو بديل أرخص من خردة الصلب (المُكلِفة في مصر).148 وفي إشارة إلى ضعف وضعها، أوقفت الشركات الأصغر العاملة في مجال إعادة درفلة البليت الإنتاج والمبيعات ردًا على الزيادة في الرسوم الجمركية في نيسان/أبريل.2019 149 ومن جهة أخرى، فإن الشركات العسكرية تنعم بالطلب المضمون على منتجاتها من المشاريع العملاقة، ما يسمح لها باستخدام نسبة أعلى من سعتها الإنتاجية حتى لو كان هذا يعني تخزين المخرجات، لأنه يمكنها السحب من المخزون لتلبية الطلبات المستقبلية المضمونة. ويمكن لهذه الشركات أيضًا خفض أسعار السلع قسرًا عن طريق استخدام فائض السعة لديها لمنافسة القطاع الخاص في سوقه هو. ويُفترض نظريًا أن يكون ذلك في صالح المستهلكين، ولكن فقط على حساب إرغام الشركات الخاصة على البيع بأقل من التكلفة (ما يعني امتصاص الخسائر الكبيرة)، أو تقليص المبيعات (ما يعني تكبد تكاليف التخزين)، أو خفض الإنتاج (ما يعني زيادة نسبة السعة الخاملة).

الإسمنت

شهد قطاع الإسمنت نمطًا مطابقًا، فيهيمن عليه أيضًا القطاع الخاص، ويعاني من زيادة مُفرطة بحجم العرض مقابل الطلب. وكما هي العادة في بيانات مصر الاقتصادية، تتنوع تقديرات السعة الإنتاجية الإجمالية، حيث تراوح ما بين 68,5 مليون طن سنويًّا في الفترة 2017-2015 وفقًا للأرقام الرسمية المقدمة من وزارة الخارجية المصرية إلى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في أيار/مايو 2018، و79 مليون طن حسب تقدير مصادر صناعية، و83,5 مليون طن وفقًا لجمعية الإسمنت التابعة للاتحاد المصري للصناعات.150 لقد كان الاستهلاك ثابتًا نسبيًّا، حتى بعد إطلاق المشروعات العملاقة: 50 مليون طن سنويًّا في عامي 2013 و2014، ليرتفع إلى 55-54 مليون طن سنويًّا في الفترة 2015-2018.151 وحتى وقت قريب، استحوذت الشركات الأجنبية على 52في المئة من السوق (أحيانًا من خلال فروع محلية)، والشركات الخاصة المصرية على حوالي 40 في المئة، حيث امتلكت شركة الإسمنت الوطنية، وهي ملكية عامة، وشركة العريش للإسمنت التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية.، الحصة المتبقية

وكما في حال الصلب، قدم المسؤولون العسكريون صورة مشوهة عن السعة الإنتاجية عند تبرير الاستثمارات العسكرية الجديدة في قطاع الإسمنت. فقد دشّن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية أول خطيْ إنتاج له بطاقة إجمالية تبلغ 3,2 ملايين طن في نيسان/أبريل 2012، وهو ما مثّل 6 في المئة من الإنتاج الوطني في عام 2015. 152 لكن في عام 2016، أقرّ الجهاز مضاعفة طاقة مصنع العريش إلى 6,5 ملايين طن سنويًّا بحلول عام 2018، وزيادة حوالي 13 مليون طن من السعة الإضافية بحلول عام 2019 من خلال بناء مصنع جديد تمامًا في بني سويف بتكلفة 1,12 مليار دولار (وهو أيضًا ملك لشركة العريش للإسمنت).153 وأوضح اللواء مصطفى أمين، رئيس جهاز المشروعات، أن هناك حاجة إلى التوسع من أجل تلبية الطلب المتوقع البالغ 86 مليون طن بحلول عام 2022، متجاهلًا حقيقة أن هذا الهدف يمكن تحقيقه بالكامل تقريبًا من خلال السعة الحالية.154 بالفعل، حتى مع إنتاج مصانع الجهاز بكامل طاقتها، من المتوقع أن تصل السعة غير المستغلة في القطاع ككل إلى 19 في المئة بحلول عام 2020.155

مرة أخرى، أغفلت التوقعات المتفائلة العواقب الضارة للقطاع الخاص ولمخططات الحكومة المتعلقة بتطوير قطاع الإسمنت، فضلًا عن المخاطر المالية المستقبلية على المؤسسة العسكرية. فقد شهد معظم شركات الإسمنت الخسائر المتزايدة في عامي 2017 و2018 بسبب تعرّضها إلى النواقص في الطاقة والدولار في عام 2016، ما أدى إلى تباطؤ الطلب على مواد البناء، بالإضافة إلى منافسة شديدة في أسواق التصدير من قِبل المنتجين الإقليميين المستفيدين من انخفاض تكاليف المدخَلات لديهم.156 ووفقًا لتقرير صادر عن شركة الخدمات المالية "سِي آي كابيتال"، فقد ارتفعت أسعار الإسمنت بنسبة 20 في المئة في عام 2017 فيما زادت كلفة الإنتاج بنحو 37 في المئة، لكن منتجي القطاع الخاص لم يتمكنوا من نقل الزيادة إلى المستهلكين. فسعى العديد منهم إلى التوفير عبر تخزين الكلنكر (الخَبَث)، وهو المنتَج الوسيط في صناعة الإسمنت، بدلًا من تحويله إلى منتج نهائي، مع أن في ذلك خسارة إضافية. فبلغ المخزون الوطني من الكِلنكر ما بين 5 و7,1 ملايين طن بحلول الربع الأول من عام 2018، وقد يصل إلى 15,7 مليون طن بحلول عام 2022 .157

وفي مواجهة أوجه عدم الكفاءة العميقة فيها، علّقت الشركة الوطنية للإسمنت المملوكة للدولة الإنتاج في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، وفي النهاية أقفلت بعد أقل من عام.158 وكما لاحظ تقرير خاص صادر عن وكالة رويترز، فإن خسائر شركتي السويس للإسمنت والإسكندرية للإسمنت، اللتين تملك غالبية أسهمهما شركة ألمانية وأخرى يونانية على التوالي، ارتفعتا بنسبة 100 و1000 في المئة مقارنةً بعام 2017، بينما اضطرت شركة النهضة للإسمنت المملوكة للدولة، التي كانت قد أعلنت تحقيق ربحٍ في عام 2017، إلى تقليص الإنتاج في مطلع عام 2018 والبدء بتخزين الكِلنكر.159 وفي آب/أغسطس من السنة ذاتها، توقع تقرير صادر عن شركة "فاروس للاستثمار المصرفي" المصرية أن حجم الطلب في السوق ليس كافيًا لإنقاذ الشركات الأصغر، وأنها سوف تضطر إلى الإغلاق في غضون السنة التالية.160

هكذا، فقد استغل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية عزله النسبي عن العوامل الخارجية السلبية لتوسيع شركته الخاصة، بدلًا من تأمين توريد الإسمنت وتثبيت الأسعار من خلال مساعدة القطاع الخاص على التغلب على التقلبات الملحوظة في الفترة 2017-2016، أو عن طريق الاستحواذ على الشركة الوطنية للإسمنت المتعثرة وإعادة تأهيلها كما فعل تقريبًا مع شركتي السويس للصلب ومصر للصلب. وبذلك، تجاهل تمامًا جهود الحكومة الموازية لتوسيع قطاع الإسمنت، وقام فعليًا بتقويضها. فكانت الهيئة العامة للتنمية الصناعية قد عرضت أربعة عشر ترخيصًا لإنشاء مصانع إسمنت أو توسيعها، في عام 2016، إلإ أنها لم تتمكن من بيع سوى ثلاثة حتى عام 2018 (ما أضاف 6 ملايين طن من السعة الإنتاجية سنويًّا في نهاية المطاف).161 فترددت الشركات المحلية والأجنبية في الاستثمار في قطاع تُقدّر سعته الفائضة بنحو 30 مليون طن في السنة.162 هذا، وبعد تعرّضها إلى الضغوط من الشركات الخاصة، التي ادعت أن مبيعاتها قد انخفضت بنسبة 50 في المئة في غضون السنوات القليلة السابقة، تعهّدت الحكومة في تموز/يوليو 2019 دعم إنتاجها، ما يعني أن الخزانة العامة ستتحمّل تكاليف الولوج العسكري إلى القطاع.163

وقد يكون بدا مغريًا من وجهة نظر تجارية رفعُ حصة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية من السعة الإجمالية إلى حوالي  23 في المئة في قطاع صناعي يُقدر أنه يمثل 10 في المئة من الصناعات التحويلية المصرية و1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.164 لكن تحقيق الجدوى السوقية له متطلبات أخرى أظهرت المؤسسة العسكرية أنها لا تُمسك ولا تتحكم بها. من الناحية النظرية، يمكن للإنتاج الحربي أن يساعد في تصحيح مسار الأسواق والأسعار، كما تفعل الحكومات، ولكن فقط إذا كان مصحوبًا بالتشاور المكثّف وبالتنسيق الوثيق مع أدوات السياسة الأخرى، ومحسوبًا بدقة. بدلًا من ذلك، جاءت التدخلات العسكرية في قطاعي الصلب والإسمنت لتشوّه السوق وتوقع نتائج عكسية، ماليًّا وسياسًّا. وحسب تأكيد موظف سابق في شركة إسمنت العريش تكلم مع الصحافية أميمة إسماعيل في أيلول/سبتمبر 2019، فإن مصنعها الجديد في بني سويف كان يعمل بنسبة 40 في المئة من سعته فحسب. 165 ولعل الإدراك الجزئي لهذين الوضع هو ما يفسر عدم تنفيذ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية لمقترح صادر عن مديره العام والسيسي في آب/أغسطس 2018 بأن الجهاز سيطرح أسهمه في شركتي العريش للإسمنت والسويس للصلب للبيع في البورصة.166

انعدام الثقة، والمزاحمة، والتحويل

لقد ساهمت الشراكة العسكرية مع الشركات الخاصة في إنتاج السلع والخدمات العامة تحت الإدارة العسكرية بإضافة القيمة الاقتصادية من حيث استثمار رأس المال. ولكنها أدّت أيضًا إلى نتائج عدة أضرَّت بتنمية القطاع الخاص حين تضافرت وانسجمت مع بعضها البعض، تقريبًا بقدر الضرر حين تعارضت مع بعضها الآخر. إذ إن الارتباطات السياسية التي ضمنت الحصول على العقود للعديد من الشركات قد ساهمت عمومًا إلى خنق التنافس والإبداع المعتاديْن في الأسواق. حيث أغلقت الهيئات العسكرية الأسواق في وجه منافسيها، وقلّصت فرص التوظيف (رغم ادعاءاتها بأنها تقوم بعكس ذلك)، وحوَّلت رأس المال الاستثماري، ولجأت إلى الوسائل اللاتنافسية لخفض الأسعار، بغض النظر هل حصل كل ذلك بسبب التفضيل العسكري للمحسوبين أم بسبب مقاربة اقتصادية مضلَّلَة. 167 ومن اللافت أنه حتى في منطقة مصالح خاصة عسكرية كمنطقة السويس الاقتصادية، التي بإمكانها فعلًا دفع النمو الاقتصادي والناتج الصناعي الوطنييْن، لم تتمكن المؤسسة العسكرية من حل الجدال الداخلي أو إظهار الكفاءة المهنية لتطوير الأطر القانونية والتنظيمية للاستثمار الخاص (وخصوصاً الأجنبي) ، رغم مرور ست سنوات من الاستثمارات الضخمة المالية والسياسية من قبل رئيسي الجمهورية والحكومة على حدٍّ سواء.

تتمثّل إحدى المشاكل بالنسبة للمؤسسة العسكرية في أن لديها أهدافًا متعارضة من تعاملها مع القطاع الخاص. فمن جهة أولى، تبحث عن رأس المال والخبرة الفنية والمعدات التي تفتقر إليها، أكان ذلك للموظفين في المشروعات العملاقة الحكومية التي تديرها، أم في المنطقة الاستثمارية والمجمعات الصناعية ذات الأهمية الاقتصادية الخاصة بالنسبة إليها، مثل محور عين السخنة. أما من الجهة الثانية، فتسعى المؤسسة العسكرية ظاهريًا إلى مساندة تنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة، بالتلاقي مع الأولويات المعلنة للرئيس واستجابة لحث الهيئات المالية الدولية. ولكن في كلتا الحالتين، كان الهدف العسكري الرئيس هو توليد الدخل والنمو لخدمة الاحتياجات السياسية للائتلاف الحاكم، والهدف الثانوي هو القبض على الريع لخدمة الشبكات الزبائنية، فيما تواصل المؤسسة العسكرية بناء قاعدتها الخاصة من رأس المال والأصول. اتفق ذلك ولو هامشيًا مع مصالح القطاع الخاص حتى عام 2013، ولكن التحوّل الجذري في النشاط الاقتصاد العسكري مذاك وضع العلاقة على مسار مختلف. ولا تكمن المشكلة أساسًا في مسألة الحجم الأعمال، لأن الإدارة العسكرية لمشروعات الأشغال العامة الضخمة هي في مصلحة الشركات الخاصة أيضًا وبقدر ما تكمن في نطاق النشاط العسكري، تفرض الهيئات العسكرية على تلك الشركات المشاركة بنصيب من التكاليف وتدخل بقوة وهجومية إلى القطاعات السلعية التجارية كذلك.

تتمثّل إحدى المشاكل بالنسبة للمؤسسة العسكریة في أن لدیھا أهدافًا متعارضة من تعاملھا مع القطاع الخاص.

علَّقت على ذلك نُهى بكر، مساعدة وزير التعاون الدولي آنذاك، بالمحاججة مجددًا إن التدخلات العسكرية لا تهدف سوى إلى حماية الاقتصاد من نواقص السلع في الأسواق وتقلّباتها، وإن فائض الإنتاج العسكري وحده هو الذي يتم بيعه لسد الثغرات التموينية في الأسواق المدنية. وأضافت أن "منتجات المصانع العسكرية لم تعكّر صفو السوق ولم تؤثر على قواعد السوق الحر".168 وشدد وزير الدولة للإنتاج الحربي اللواء محمد العصّار لاحقًا، على أن 70 في المئة من مشاريع وزارته تتم بالشراكة مع الشركات الخاصة؛ وثم سعى مجددًا في آذار/مارس إلى طمأنة القطاع الخاص بأن وزارته لا تريد استحواذ أو احتكار أي قطاع صناعي.169

إن مصداقية هذه المزاعم كانت مثار شك في عام 2015، في وقت كانت الهيئات العسكرية المتنوعة تشحذ الهمّة لتوسيع دورها الاقتصادي، ولكنها باتت لاغية تمامًا الآن. وكما تدل غزواتها في قطاع الإعلام والصلب والإسمنت، فإن المؤسسة العسكرية تسير على مسار توسّعي للاستحواذ على حصصٍ فيها، وثم الدفاع عن تلك الحصص، ما يجعلها في تنافسٍ مباشر مع القطاع الخاص. وللمزيد من الدلالة على ذلك، قام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بتوسيع ضخم لسعته لإنتاج الرخام والغرانيت المشغول (تمت مناقشته سابقاً)، وبتدشين بناء مجمع صناعي للفوسفات والأسمدة تملكه شركة الناصر للكيماويات الوسيطة ذات الملكية العسكرية، في آب/أغسطس 2019. وتتميز هذه الشركة بسعة إنتاجية تبلغ 3,45 ملايين طن، ما يزيد عن مجمل سعة الإنتاج السنوي المتوقعة لمصر، البالغ ثلاثة ملايين طن من المنتجات الكيماوية بحلول عام 2020.170

إن ما يزيد من تعقيد العلاقات العسكرية بالقطاع الخاص هو التغيير الملحوظ في النظرة والنبرة منذ أن قامت إدارة رئاسية جديدة في تموز/يوليو 2013. فقد ووجهت الشركات الكبيرة، التي كانت ستنظر عادةً بعين الرضا إلى الحكم السلطوي بمثابته مربحاً وستسعى إلى علاقة خاصة معه، بسلوك مُتقلّب وتصريحات متضاربة من السيسي وكبار المسؤولين العسكريين. وجاءت حالة مُبكّرة لذلك في إطلاق الرئيس لصندوق "تحيا مصر في عام 2014.171 كان يأمل السيسي تحويل ذلك إلى "صندوق سيادي للأجيال" برأس مال يبلغ 100 مليار جنيه مصري من خلال الاستثمار في المشاريع المُولِّدة للصادرات والمُتَطَلّبة للكثافة العمالية والشراكات التجارية وتبرعات القطاع الخاص.172 ولكن، حسب إقراره، لم يجمع الصندوق سوى 4-5 مليارات جنيه حتى كانون الثاني/يناير 2015، رغم قدوم التبرعات من بعض نظائر المؤسسة العسكرية المألوفين مثل شركة المقاولون العرب، ومدينة نصر للإسكان والتنمية، والاتصالات، وأوراسكوم للإنشاء والصناعة. ولم يصل إجمالي التبرعات سوى إلى 7,7 مليارات جنيه بحلول آذار/مارس 2018، إلا أن تخفيض قيمة الجنيه قلَّص قيمة الصندوق بالدولار إلى أقل من نصف مستواها الأصلي.173

وفي نيسان/ابريل 2015، قام رئيس الوزراء آنذاك إبراهيم محلب بتعيين رئيس الهيئة المالية لوزارة الدفاع أميناً لصندوق تحيا مصر، وعميدٍ من القوات المسلحة مديرًا ماليًا له أيضًا.174 ليس واضحًا ما إذا كان هذا هو السبب أم لا، إلا أن رجال الأعمال باتوا يتعرضون للضغوط المباشرة للتبرع إلى الصندوق، في ممارسة يستاؤون منها وتستمر حتى الآن، كما تؤكد المقابلات التي جرت في إعداد التقرير. بل حتى الشركات الصغيرة، كالفنادق في المنتجعات السياحية المعروفة، تتعرّض أيضًا إلى التبرع شهريًا بالإكراه إلى الصندوق. 175 إن إحساس السيسي بوجوب طمأنة رجال الأعمال في كانون الأول/ديسمبر 2015 بأن التبرع إلى تحيا مصر أمر اختياري، وإنهم لن يجازفوا بمخاطر تأميم أو مصادرة شركاتهم لو امتنعوا عنه، يدل بشكل ساطع على المخاوف التي تثيرها إدارته، وعلى حاجتها لرأس مالهم، وتواضع استثماراتهم الفعلية. 176 غير أن مسؤولًا رفيعًا هو محافظ شمال سيناء (وهو لواء متقاعد، كالعادة) عكر قيمة مثل هذه التطمينات حين ألقى بالمسؤولية عن إخفاق التنمية في المحافظة على كاهل القطاع الخاص الذي اتهمه بتسليم مجرد 1 في المئة من المشاريع بدلًا من نسبة 60 في المئة المُناطة به.177

والجديد أيضًا هو التغيير في كيفية عمل الارتباطات السياسية. ففي حقبة مبارك، حسب ما اثبت الخبيران الاقتصاديان فرديناند آبيل وعديل مالك، استفاد المحسوبون وغير المحسوبين العاملين في نفس القطاع الاقتصادي من الحماية التجارية لذلك القطاع على حد سواء، وكان بإمكان الشركات المدنية أن تلقى المعاملة التفضيلية إياها عند الدخول إلى القطاعات التي تحضر فيها أيضًا الشركات العسكرية. ولكن التطورات في قطاعات الصلب والإسمنت والكيماويات الصناعية منذ عام 2016 تُظهر انقلاب هذا النمط إلى عكسه، حيث للتعرفات الجمركية الحمائية وقع ٌ متباينٌ تمامًا على كل طرف، إذ تضرّ بمنتجي القطاع الخاص فيما تفيد نظراءهم العسكريين.

لم تغب النواحي البراغماتية والانتهازية التي حكمت غالبًا العلاقات بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية والقطاع الخاص حتى عام 2011، ولم يتم استبدالها كليًا، ولكنها تتآكل. وفي رأي الخبراء الاقتصاديين اسحق ديوان وفيليب كير ومارك شيفباور، فإن السيسي قد سلك طريق العودة إلى حكم سلطوي قاسٍ، بما في ذلك من خلال إعادة بناء غلبة الدولة [في الاقتصاد]. وفي هكذا وضع، من غير المرجح أن تثق الدولة بالقطاع الخاص. وفي الوقت عينه، ابتعد السيسي عن عددٍ من محسوبي مبارك القدامى ليبني شبكته الشخصية الخاصة التي غالبًا ما يديرها الجيش مباشرة. ولكن طالما بقيت المخاطر السياسية كبيرة، وهي مخاطر متأصّلة في جهود "لإستعادة" [أي إعادة بناء النظام السلطوي السابق] المبنية على أساس استراتيجية "فرق تسد" العنيفة، فإن مجموعة المحاسيب الجدد ستظل ضيقة والنمو متدنيًا.178

هذا، وإلى جانب إعادة إنتاج التشويه المُزمن للحوافز السوقية، فإن تركيز السيسي على المشروعات العملاقة والتمدد العسكري في قطاعات اقتصادية مستقرة يكثفان المقاربة الماضية المتكلة على توفير رأس المال، بدلًا من تشجيع توسّع وتنوّع الأسواق واللذين تحتاج إليها الشركات الخاصة من أجل النمو، وذلك يفترض أن تكون هي المدخل الرئيسي إليهما. وبدلًا من ذلك، فإن تلك المشروعات تحول الموارد التي يحتاج إليها القطاع الخاص بطريقة تُذكر بحقبة عبد الناصر. ففي حينها، أثر مشروع السد العالي بشدة على الاستثمار العام والخاص معًا، فأدى إلى الانكماش في القطاعات الأخرى وحرمانها من مواد البناء التي تحتاج إليها.179 ومن المفارقات انه بالرغم من زيادة السعة الإنتاجية للإسمنت كثيرًا منذ 2016 على أيدي المؤسسة العسكرية، يشكو العديد من مستثمري القطاع الخاص من شفط المشاريع الإنشائية التي تديرها تلك المؤسسة للصلب والبلاط والأسلاك وغيرها من المواد من الأسواق، ما يؤدي إلى تباطؤ وتوقف مشاريع القطاع الخاص.180

خاتمة: هل يبني رأس المال الخاص أم العسكري مصر؟

ليس كل ما تقوم به المؤسسة العسكرية في المجال الاقتصادي هدفه الافتراس، ولا حتى القسم الأكبر منه، إلى الآن. بل إنه يدل على واقع أن جزءًا كبيرًا من النشاط الاقتصادي في مصر ما زال تدفعه الدولة والقرارات الفوقية للجهات الفاعلة السياسية القوية، التي تتسم معاييرها الاستثمارية وأساليبها لتقييم الجدوى الاقتصادية بالبساطة الشديدة. 181وحسب وصف أحد المتخصصين بالمشاريع التجارية المشتركة، تتسم المقاربة الرسمية بالتشديد على الأهداف الكمية: "سوف ننتج عدد كذا من الأطنان في الشهور الستة المقبلة"، دون التأكد من الاحتياجات الفعلية للأسواق أو قدرتها على الاستيعاب. وحين تتجه الدولة لمعاونة الشركات، تلقي تركيزها على واحدة منها وتشجعها عبر منحها عقدًا كبيرًا، وثم تنتقل إلى الشركة التالية وتعيد فعل الشيء نفسه. إلا أن ذلك يتسبّب بطفرات من الإنتاج التي لا تتلاءم واحتياجات السوق أو قدرته الاستيعابية.182

لاحظ خالد إكرام في عام 2006 أن الأداء والسياسات الاقتصادية المصرية شكّلتها "مقاربة ضيقة في اختيار المشاريع، حيث تُعتبر القدرة على إنتاج سلعة معينة مسألة بالغة الأهمية، فيما لا تلقى التكاليف الاقتصادية لإنتاجها سوى اهتمام ضئيل. ولاتزال ملاحظته صحيحة في يومنا هذا، بالنسبة إلى رئاسة تعتقد أن الاقتصاد ما هو إلا تجميع للمشروعات والاستثمارات، وكذلك بالنسبة الى مؤسسة عسكرية تم إختيارها لتكون واحدة من الأدوات الرئيسة في يد تلك الرئاسة.183

ويشكل ذلك الإطار الذي تسعى من خلاله إدارة السيسي والمؤسسة العسكرية وراء التحالفات الاستراتيجية مع المستثمرين الأجانب، بدلًا من الشركات المصرية التي قد تتطور لتصبح أطرافًا سياسية منافسة. غير أن هناك نمطًا آخذًا بالظهور في العلاقة مع الشركات الأجنبية، كما مع الشركات المصرية. فالشركات الصينية والروسية والخليجية، وبعضها الغربية، التي تشعر بالأمان سياسيًا ولا تخشى المجازفة (منها الإيطالية على سبيل المثال)، قد استثمرت في المناطق التنموية الاقتصادية وبالمشروعات الإنشائية والصناعية التي تفضّلها المؤسسة العسكرية. ولكن كما أكد تقرير خاص أصدرته وكالة رويترز في عام 2018، فإن المستثمرين الآخرين استمروا بتجنب مصر (بالرغم من منح قرض يبلغ 12 مليار دولار من قبل صندوق النقد الدولي، يفترض منه التمهيد للتوسع الاقتصادي)، وذلك بسبب القلق حيال الامتيازات الضريبية وغيرها التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية.184 وكانت النتيجة الاستثمار المباشر "البطيء" حسب وصف البنك الدولي في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وجلّه في قطاع النفط والغاز، تاركًا القطاعات المنتجة الأخرى في مصر تعاني مستويات متضائلة من إستثمارات القطاع الخاص.185

في كثير من الأحيان، لا تعدو المؤسسة العسكرية أكثر من مجرد أداة السياسات الرئاسية أو الحكومية، ولكن يزداد احتمال أن تستخدم أفضلياتها لمضاهاة أسعار القطاع الخاص وللسعي وراء زيادة حصتها من الأسواق بهدف حماية استثماراتها وتكاليفها التأسيسية، بعد أن أخذت بالتوسع في مجال إنتاج السلع القابلة للتسويق وبكميات ملحوظة. كما يمكن أن تُفرِط المؤسسة العسكرية بالاستثمار في نشاطات تؤمن الدخل السريع، كلما تتوغل أكثر في الاقتصاد المدني، ومن شأن ذلك أن يعزِّز نمط المضاربة الظاهر منذ أوائل عقد التسعينيات في القرن العشرين على الأقل، علمًا أن مثل هذه التحولات لن تشجع على تطور القطاع الخاص بالطريقة التي تحتاج إليها مصر. وفي أقل تقدير، ستتراجع المؤسسة العسكرية إلى الجيب الاقتصادي الذي قامت بتوسيعه بشكل كبير منذ عام 2013، كما يظهر من المجمع التجاري والسياحي والصناعي الذي تقوم بتكوينه على ساحل البحر الأحمر. تتسم الشركات مع الشركات الخاصة المختارة بالأهمية العضوية في هذا المسار، وكذلك الدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية بفتح الأبواب أمام الشركات الأجنبية والوكالات المدعومة من حكوماتها التي تملك موارد مالية وتكنولوجية أكبر للاستثمار في المناطق الاستراتيجية الواقعة تحت السيطرة العسكرية بالكامل تقريبًا. وتساهم الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية في هذا الاتجاه من خلال ادعاء الحياد السياسي فيما تغض الطرف عن الآثار الحقيقية لسياسات إدارة السيسي تجاه تطور القطاع الخاص والذي يزعمون تأييده رسميًا تأييده بوصفه المفتاح لحل مشكلات مصر الاجتماعية والاقتصادية.

تساھم الحكومات الغربیة والمؤسسات المالیة الدولیة في ھذا الاتجاه من خلال ادعاء الحیاد السیاسي فیما تغض الطرف عن الآثار الحقیقیة لسیاسات إدارة السیسي تجاه تطور القطاع الخاص.

وأخيرًا، حتى لو امتنعت المؤسسة العسكرية عن الإفراط بالتوسع الاقتصادي، فإن العواقب المحتملة للمضي بمسار السياسة الحالية ستكون وخيمة. فقد قدّر البنك الدولي أن السياسة الحالية ستكون وخيمة. فقد قدّر البنك الدولي في كانون الأول/ديسمبر 2018 أن مصر بحاجة إلى 675 مليار دولار لتغطية احتياجاتها من البنية التحتية والنواقص في التمويل خلال السنوات العشرين المقبلة، ولكنها تواجه عجزًا قدره 230 مليار دولار لن تتمكن من تأمينه سوى من الاستثمار الخاص والتمويل التجاري (أي الاقتراض).186 يتوقف ذلك كليًا على خلق مناخ مُمكن، إلا أنه صعب المنال اذا استمرت الاتجاهات الحالية وجاء منح السيسي لوزارة الدفاع السيطرة على عقارات سياحية مرغوبة في 47 جزيرة في البحر الأحمر وفي موقعيْن ساحلييْن في آب/أغسطس 2019 ليؤكد رسالة مفادها أن مستثمري القطاع الخاص لن يتمكنوا من النشاط في أحد القطاعات الأكثر ربحيةً في الاقتصاد المصري إلا إذا عملوا مع، أم من خلال، المؤسسة العسكرية. 187

المؤسسة العسكرية، فلا تزال متعلقة بقوة بالاعتقاد أن الانتفاع من أصول الدولة، بل ومن الموارد القومية عمومًا، هو استحقاق لها. فبدلًا من أن تقبل بالتخلي عما تعتبره حقًا لها، ستضاعف جهودها للتمسك به وتوسيعه على الأرجح.

أما المؤسسة العسكرية، فلا تزال متعلقة بقوة بالاعتقاد أن الانتفاع من أصول الدولة، بل ومن الموارد القومية عمومًا، هو استحقاق لها. فبدلًا من أن تقبل بالتخلي عما تعتبره حقًا لها، ستضاعف جهودها للتمسك به وتوسيعه على الأرجح. 188 يبدو أن السيسي والمؤسسة العسكرية يراهنان، عن وعي أو غير وعي، على أن رأس المال الخاص سوف يخضع لهذه المعادلة، وأن زحم توليد رأس المال من قبل المؤسسة العسكرية كافٍ للتعويض عن أي قصور في استثمار القطاع الخاص.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

عسكر بلا قيود: التحول في عهد السيسي

إنّ أبعاد استيلاء القوات العسكرية المصرية على السلطة في تموز/يوليو 2013 تمتد إلى أكثر من مجرد إزالة أي قيود متبقية على الاقتصاد العسكري. والسيسي هو الذي يمنح التشجيع السياسي النشِط والتشريع المُمَكِّن لذلك أكان عن طريق القصد أم الخطأ، فإن المؤسسة العسكرية تعمل كرأس حربة الجيش لانتقال مصر نحو مرحلة جديدة من الرأسمالية التي تقودها الدولة، والتي تعيد تشكيل نواحٍ أساسية من الملكية العامة أو السيطرة على الاقتصاد، حتى وهي تنسج الشراكات مع رأس المال المحلي والأجنبي وتدّعي الإخلاص لاقتصاديات السوق الحرّة التي تنادي بها الحكومات الغربية والمُقرضون الدوليون. إنّ كبار ضباط القوات المسلحة ما فتئوا يؤمنون بأن مهاراتهم الإدارية وتفوقهم الظاهر على المدنيين، يُفرِد لهم تولي قيادة النمو الاقتصادي والتحديث. إلا أنه وخلافًا لما تقدم، فإنّ سجلّ السنوات الستّ الماضية يشير إلى أن النتيجة المرجّحة ستكون تزايد اختلال الأسواق وتأثيرات معاكسة على القطاع الخاص، وتنامي تكاليف الفرص الضائعة في الاقتصاد عموماً (وإنّ ما تزال هذه مستترة إلى حدّ كبير) ، وتفتُّح متزايد لشهية العسكر لتحقيق الأرباح ووضع السياسات.

2013 تمتد إلى أكثر من مجرد إزالة أي قيود متبقية على الاقتصاد العسكري. والسيسي هو الذي يمنح التشجيع السياسي النشِط والتشريع المُمكن لذلك أكان عن طريق القصد أم الخطأ

في الوقت الراهن، أدت وفرة الفرص الاقتصادية التي أتيحت بعد عام 2013 إلى تعزيز حاد للدور العسكري بالقبض على المداخل الاقتصادية، فضلًا عن زيادة الأنشطة الريعية. إنّ النتيجة الأكثر أهمية تجلت في الدور المركزي المتزايد الذي أسنده السيسي إلى المؤسسة العسكرية لإدارة الطفرة الهائلة في المشروعات الضخمة التي تموّلها الحكومة، مع التركيز على تشييد البنية التحتية العامة والإسكان. لكن الهيئات العسكرية كانت قد توسعت أيضًا بقوة في مجموعة واسعة من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية الأخرى، مثل التدخل في نظم التموين المحلية وسوق الاستيراد، وغزو قطاعات مربحة مثل الهواتف المحمولة وخدمة الإنترنت، والبث والإنتاج الإعلامي، والمحاجر والتعدين. وإنه ليس مرجّحًا أن تتنازل المؤسسة العسكرية عن مواطئ أقدامها الاقتصادية الوطيدة التي اكتسبتها، حتى إذا استمر الزخم الأول الذي تفتقت عنه المشروعات الإنشائية العملاقة ما بعد عام 2013 بالخمود. والأكثر احتمالًا، في أقل تقدير، هو أن تعزز المؤسسة العسكرية قبضتها على المناطق ذات المصالح الاقتصادية الخاصّة التي قامت بإنشائها، ما سيُصاعد من البناء المجتزأ والتفتيت في الاقتصاد الأعم.

من الناحية الرسمية، يبحث العسكر عن زيادة الفعالية، أكان ذلك عبر توليد دخل أعلى وتخفيض الكلفة من خلال تحسين الكفاءة والدقة، أو عن طريق الحد من الخسائر الناجمة عن الفساد والإهدار. وفي الواقع، لربما ساهم التنسيق الجديد بين الهيئات العسكرية وهيئة الرقابة الإدارية منذ نهاية عام 2015 في تحقيق هذه الأهداف في ما يتعلق بالأشغال العامة التي تقوم بها أو تديرها لصالح الحكومة، ولكن ربما دون أن تقلل من المحسوبية والتربّح في الحيّز الأوسع للعقود الصغيرة التي تتشكل منها المشاريع الكبيرة في الكثير من الأحيان. إلى ذلك، فإن إناطة عدد متزايد من المهمات بوزارة الدفاع وهيئات عسكرية أخرى صارت بمثابة نقطة ارتكاز للتكامل المتزايد بين أجزاء مختلفة من الاقتصاد العسكري. لكنه أثار أيضًا مخاوف متنامية من التنافس المباشر مع القطاع الخاص، في الوقت الذي أدى فيه إلى اشتداد التنافس على الريعي وإعادة التحالفات بين جماعات المصالح العسكرية المتباينة ونظرائها في الأجهزة الأمنية والإدارات الحكومية والقطاع الخاص. بالتالي، أصبح الاقتصاد العسكري راسخًا من دون زيادة الإنتاجية أو إنماء بقية الاقتصاد.

السياسة والربح والافتراس

منذ عام 2013، تباينت تقييمات دوافع وتبعات النشاط الاقتصادي العسكري المتسارع وحتى مدى ذاك النشاط. على سبيل المثال، ترى الخبيرة في العلوم السياسية زينب أبو المجد، فضلًا عن الصحافييْن محمد حسني وأسامة الصياد، هدفًا افتراسيًّا مهيمناً وراء ما يبدو أنه قبض منسق على الموارد والفرص. 1 في المقابل، يقول المحلل عبد الفتاح برايز إن المؤسسة العسكرية تفعل أكثر من مجرد "استخدام نفوذها السياسي المتزايد لجني المزيد من المكاسب والمزايا الاقتصادية"، إذ يرى المحلل أن المؤسسة تسعى إلى إضفاء الشرعية على إدارة السيسي وتوطيد الوضع السياسي الراهن من خلال الاستثمار بكثافة في "خطط الانتعاش الاقتصادي الوطنية (مهما كانت هذه الخطط مصاغة بشكل سيئ)". ويضيف برايز أن ما يدفع هذه الأمور هو الحاجة إلى اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية واسترضاء المجموعات متوسطة الدخل، وهي دائرة ذات أهمية سياسية بالنسبة إلى السيسي. 2

فيلا تخلو في وجهتا النظر من الصحة، إذ إنّ التطورات في الاقتصاد العسكري تبدو مدفوعة بأكثر من منطق. إن رغبة الرئيس الشاملة في إظهار مصداقية إدارته للحكومات الأجنبية والأسواق الدولية، تفسر استعجاله في إطلاق المشاريع الضخمة البارزة للعيان. ويعدّ توليد النمو وفرص العمل هدفًا مهمًّا أيضًا، وكذلك كبح جماح ارتفاع الأسعار في السلع والخدمات الرئيسية للتخفيف من آثار خفض دعم الغذاء والطاقة على الفئات ذات الدخل المحدود. لكن هذا كله يتطلب رأس المال، وهو ما يفسّر اندفاع السيسي إلى زيادة الإيرادات وتحقيق مدّخرات من خلال احتواء الفساد الذي يسود الكثير من القطاعين العام والخاص. وأسفرت النتيجة المتناقضة عن "تسخين" الاقتصاد العسكري، إما بسبب التنافس وازدواجية الجهود المبذولة من قبل الهيئات العسكرية، وإما بسبب ازدياد البحث عن الريع واحتدام التنافس في صفوف جماعات المصالح الخاصة، بما فيها شبكات الضباط غير الرسمية، استجابة منها للفرص التي يوفرها التركيز على المبادرات التي تقودها الدولة وتمولها الحكومة.

إن رغبة الرئيس الشاملة في إظهار مصداقية إدارته للحكومات الأجنبية والأسواق الدولية تفسر استعجاله بإطلاق المشاريع الضخمة البارزة للعيان.

تقدم تصريحات السيسي العلنية منطقًا واضحًا مفاده أن القوات المسلحة وحدها قادرة أن تكون الطليعة في هذا الجهد. وهو يعتمد عليها لدعم ما وصفه بصراحة بأنه "دولة زائفة" تفتقر إلى احترام المؤسسات والقانون، ولتعويض العجز الواضح للحكومة ووزاراتها والهيئات المدنية الأخرى عن تقديم الأشغال والخدمات العامة الحيوية بتكلفة معقولة. 3 هذا، ويوجد أساس موضوعي لهذا التصور: إذ إنه استنادًا إلى أحد المصادر، فقد انخفضت "القدرات الأساسية" للدولة المصرية بمقدار النصف بين عامي 2011 و2014. 4 إلى ذلك، من الواضح أنه بمجرد أن يثق السيسي في هيئة عسكرية أو جهة أخرى مرتبطة بها لإنجاز المهمة، فإنه يعتمد عليها لكي تقدم مهام إضافية تتجاوز صلاحيتها العادية. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2018 على سبيل المثال، أصدر تعليماته لهيئة قناة السويس، للمشاركة في تطويرِ ميناء العريش في شمال سيناء وتطهيرِ كامل طول قناة الملاحة لنهر النيل من أسوان إلى الدلتا. 5

ولكن، مع أن هذا المنطق الجامع يتمتع ببعض الاتساق، إلا أنّه يولد ديناميات ونتائج متناقضة على مستويات أدنى. وأهمها أنّ المشروعات العملاقة والمخططات التجارية الجديدة أدت إلى تعجيل الريعية التنافسية، وذلك بسبب سحب رأس المال الشحيح بعيداً عن أجزاء أخرى من الاقتصاد، بدلاً من زيادة الموارد المالية العامة في مصر. يمكن استنتاج ذلك من العمليات الظاهرة في إعادة الاصطفافات في ما بين جهات اقتصادية عسكرية فاعلة محددة وبين الشركات الخاصة أو جماعات مصالح أخرى (ممثلة في أجهزة الأمن الداخلي ووسائل الإعلام والبرلمان). كما أن المتنافسين العسكريين الذين تم تمكينهم حديثًا أبعدوا المنافسين السابقين، وأزاحوا الشركاء من رجال الأعمال المفضلين سابقًا أو حلّوا محل متقاعدين آخرين من القوات المسلحة في قطاعات معينة. أما الجهات الفاعلة بالمستويات الأدنى التي تنفذ النهج الشامل الذي يتبعه السيسي والمؤسسة العسكرية، فقد تكيّفت مع ذلك بطريقة دينامية بطبيعة الحال، لتغتنم الفرص للتربّح والافتراس. ومن وجهة نظر السيسي، قد تخدم منافستهم أيضًا وظيفة منع الانقلاب ضده، وهو يستكمل ذلك بتغيير مستمر في قيادات القوات المسلحة.

أنّ المشروعات الكبرى والمخططات التجارية الجديدة أدت إلى تعجيل الريعية التنافسية، وذلك بسبب سحب رأس المال الشحيح بعيداً عن أجزاء أخرى من الاقتصاد، بدلاً من زيادة الموارد المالية العامة في مصر.

إنّ هذه المقاربات المتنوعة مستمدة من التعايش النفعي وليس من التآزر، فتتغذى الواحدة من الأخرى بدلاً من التضافر في مجموع اقتصادي يتعدى عناصره المكّونة. ويبدو أن هذه المقاربات هي التي تشكل وتوجِّه الاقتصاد العسكري، فلا توجد قيادة استراتيجية تقوم بذلك كما يعتقد البعض. بالتأكيد، تشير الأدلة إلى وجود تنسيق ومشاورات مكثفة بين مختلف المسؤولين والهيئات، وهو ما ينعكس، مثلًا، في تناوب ضباط القوات المسلحة على المهام البيروقراطية والاقتصادية. ولا يمكن لجهود وزارة الدفاع الرامية إلى دخول القطاعات الاقتصادية ذات القيمة العالية أن تحصل من دون التزام على المستوى القيادي باستثمار الأموال العسكرية وتأمين التشريعات التمكينية. لكن في حين أن أفرادًا مثل وزير الدولة للإنتاج العسكري اللواء محمود العصّار، ورئيس الهيئة المالية في وزارة الدفاع اللواء محمد أمين نصر، ومدير الهيئة الهندسية في القوات المسلحة اللواء كامل الوزير (الذي جرى تعيينه وزيرًا للنقل في آذار/مارس 2019) يتمتعون بنفوذ بالغ، إلاّ أنهم لا ينسقون الاقتصاد العسكري بمجمله. 6 بل إنّهم من بين العديد من مسؤولي الدفاع والهيئات العسكرية وشبكات الضباط والشلل التي تستجيب لتوجيهات رئيس الجمهورية. ولكن لأن هذا الاقتصاد ذو بناء مجتزأ في خطوط موازية للاتصال والولاء، فهو يتشكّل من الحصيلة الإجمالية للاستجابات المختلفة والمتباينة في الكثير من الأحيان، ويفتقر إلى اتساق السياسات ويولد النتائج المتناقضة بل والعكسية.

الاندفاع الكبير

يعتبَر توالي المشروعات الضخمة منذ أن تولّى السيسي الرئاسة في عام 2014 رمزًا للحملة الرامية إلى إظهار مصداقية نظام ما بعد عام 2013. أضفى السيسي فكرة عن حجم الاستثمار بقوله في حزيران/يونيو 2016 إن تكلفة "المشاريع القومية" في السنتين السابقتين تجاوزت تريليون جنيه مصري؛ وقد صرح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في كانون الأول/ديسمبر 2018 أن هذا الرقم ارتفع إلى 1,56 تريليون جنيه أنفقت على استكمال 8278 مشروعًا بين العامين 2014 و2018 (حوالي 87 مليار دولار بسعر صرف عام 2018). 7 يوحي الكشف الأكثر تفصيلًا الذي قدمه كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين بزيادة كبيرة في متوسط الاستثمار السنوي في البنية التحتية العامة مقارنةً بالعقد الأخير من عهد مبارك (انظر الجدول 1). ولكن هذه الأرقام تبين أيضًا أن البنية التحتية، في الواقع، لم تستهلك الجزء الأكبر من الاستثمارات العامة التي بلغ متوسطها حوالي 312 مليار جنيه سنويًّا في هذه الفترة، ما يشير إلى أن الإسكان ربما كان يحوز على حصة الأسد. ومع ذلك، فقد استحوذت المشاريع العملاقة الاستعراضية على مكان الصدارة، ما يدل على "عقدة الصرح" الذي يتشاركها السيسي مع العديد من أسلافه. 8

إنّ المشروع العملاق الأكثر إفراطًا بالعظمة هو خطة السيسي لبناء عاصمة إدارية جديدة بالكامل تديرها الهيئات العسكرية. وتشمل مشاريع "الصرح" الأخرى توسيع قناة السويس، وإعادة إطلاق المجتمع العمراني الجديد الشيخ محمد بن زايد وبناء ثلاث مدن "ذكية" جديدة (سُميت كذلك نسبة لاستخدامها التكنولوجيا الرقمية لتحسين كفاءتها باستخدام الطاقة) وأربع مدن صحراوية تقليدية على الأقل. وكما توضح هذه الأمثلة، فإن إدارة السيسي تظل متمسكة بنفس إصرار سابقاتها منذ عام 1952 بنموذج تنموي تقوده الدولة يتم تطويره من الأعلى إلى الأسفل، مقاوِم للمقاربات البديلة التي يقترحها القطاع الخاص والخبراء المستقلون والوكالات الدولية. إن العجلة التي نفضت بها الإدارة الغبار عن خطط توسعة قناة السويس وقامت بتنفيذها تُظهر هذا الارتباط بشكل لافت، علمًا أن هذه الخطط كانت إدارة الرئيس مبارك قد وضعتها جانبًا على الأقل مرتين.

قناة السويس الثانية

في آب/أغسطس 2014، أي بعد ثلاثة أشهر من انتخابه رئيسا، كلف السيسي وزارة الدفاع العمل على إدارة مشروع لإنشاء ممر جانبي بطول 37 كيلومترًا موازٍ لقناة السويس وتوسيع القناة الحالية بنفس الطول تقريبًا للسماح بمرور السفن باتجاهيْن. وكان القائد السابق لسلاح البحرية الفريق مهاب مَميش قد روج لتوسيع القناة بشدة منذ أن أصبح رئيسًا لهيئة قناة السويس في آب/أغسطس 2012. وقد أفاد المشروع وزارة الدفاع والشركات الخاصة المفضَّلة، مع أنّ فائدته للاقتصاد الوطني كانت ملتبسة. وبسبب طلبِ السيسي إكمال المشروع في غضون عام واحد بدلاً من السنوات الثلاث المقدرة لإنجازها، اضطرت وزارة الدفاع إلى توظيف ائتلافيْن من الشركات الأجنبية للقيام بالحفر بتكلفة تزيد على ملياريْ دولار أميركي، ما ساهم بمضاعفة التكلفة المبدئية للمشروع البالغة 4 مليارات دولار، لتصبح 8,5 مليارات دولار. 10

ولكن، وكما كان السيسي والقادة العسكريون يذكّرون المواطنين بانتظام، فإن التكلفة بأكملها كان تأمينها سيتم من المصادر المصرية: جرى بيع سندات حكومية بقيمة 64 مليار جنيه مصري في غضون أسبوعين فقط، لحوالي 1,1 مليون مشترٍ. 11 ولكن تبين أنّ استغلال الشعور القومي يهذه الطريقة أمر مكلف. إذ جرى إطلاق مشروع التوسيع على افتراض أن قناة السويس ستضاعف أرباحها من رسوم العبور إلى 13,5 مليار دولار بحلول عام 2023، ولكن هذه الرسوم انخفضت في الواقع بسبب الاتجاه التنازلي طويل الأجل في التجارة العالمية وتوافر طرق بديلة أرخص. 12 أما هيئة القناة، التي اقترضت من البنوك المصرية ما مجموعه 1,4 مليار دولار من أجل تغطية نففات حفر التفريعة، فقد تحملت المسؤولية المالية بدلاً من خزينة الدولة، فتكبّدت مبلغ 7,7 مليارات جنيه قيمة الفوائد السنوية المترتبة عليها. 13 تخلفت الهيئة عن تسديد ديونها منذ نهاية عام 2017، ما اضطر وزارة المالية التدخل ودفع 600 مليون دولار لسداد القروض المتأخرة في آذار/ مارس 2019، تاركة لهيئة القناة أمر سداد 300 مليون دولار من الديون المتراكمة عليها بحق بنوك أجنبية عاملة في مصر. 14 والأهم من ذلك أن غياب العائدات على الاستثمار أبرز حقيقة أنّ توسيع القناة قد امتص حوالي 32 مليار جنيه من رأس المال المحلي المودع في البنوك، والتي كان من الممكن استثمارها في قطاعات أخرى من الاقتصاد. 15

مع ذلك، زاد مشروع قناة السويس من أرباح وزارة الدفاع من رسوم الإدارة. فلقد جرى التعاقُد على الجزء الأكبر من العمل مع 112 شركة مصرية كان الكثير منها قد عمل سابقًا مع الوزارة أو كانت لها صلات عسكرية أخرى، مثل شركة "دار الهندسة، مصر" التي يُعتقد أن وزارة الدفاع شريك "صامت" فيها. 16 بعض المقاولين كان غير معروف تمامًا، فلا يظهرون في السجل التجاري أو حتى يفتقرون إلى مواقع إلكترونية، ناهيك عن امتلاك الآلات الثقيلة والتجربة السابقة اللازمة للقيام بأعمال الحفر، ما يوحي بأنهم كانوا يشكّلون شركات واجهة تم تأسيسها بمعرفة وزارة الدفاع، ربما من قبل بعض ضباط القوات المسلحة أو أقاربهم، كما يدّعي المحققان الصحافيان محمد حسني وأسامة الصياد، وذلك لمجرد كسب العقود الفرعية المربحة أو الاستفادة من إعادة بيعها. 17 وكان رئيس هيئة قناة السويس، مَميش، صرّح أن ائتلافًا من المقاولين اختارته "شركة فرنسية محايدة" على حد قوله قد فاز بعقد التوسيع الذي تمت الموافقة على شروطه من قبل خبراء البنك الدولي، لكن هذا حجب حقيقة أن وزارة الدفاع منحت عقود العمل بعد ذلك بالأمر المباشر. 18

"المشروع الاقتصادي الأهم في مصر"

إلى ذلك، لم يكن توسيع القناة سوى المرحلة الأولى من خطة أوسع لتحويل مساحة تبلغ 76 ألف كيلومتر مربع - تشمل ثلاث محافظات على حدود القناة بما في ذلك مدن بورسعيد والسويس والإسماعيلية- إلى محور دولي للصناعة والخدمات الوجستية والنقل. 19 ومن المفارقات أن هذا الاقتراح كرر مخطط إدارة مُرسي لمنطقة القناة (التي تمت مناقشتها في الفصل الثالث)، وهو تطور غير مفاجئ بما أنّ الاقتراحين كانا مستمدّيْن من التصوّر نفسه الذي جرى وضعه في عام 2002. وقد استؤنف التخطيط لتنمية المنطقة مباشرة في أعقاب الاستيلاء العسكري على السلطة في تموز/يوليو 2013، إذ بات مَميش يعتبرها "قلعة صناعية كبرى علاوة على أنها ممر ملاحي". 20 وفي انعكاس لهذه الرؤية، بدأت الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة العمل في آب/أغسطس 2015 على طريق سريع بين الشمال والجنوب يربط بين طول محور التنمية الاقتصادية لمنطقة قناة السويس الاقصادية بتكلفة تقديرية تبلغ 4 مليارات جنيه. 21

أطلق السيسي المرحلة التالية من المشروع العملاق الجديد في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وقد امتثل مخطط هذه المرحلة بدقّة مرة أخرى لخطة التطوير التي كانت وزارة الدفاع قد فرضتها على إدارة مرسي في أيار/مايو 2013. فركز المشروع على المنطقة الواقعة شرق بور سعيد في الطرف الشمالي للقناة، حيث تصور ميناءً بحريًّا جديدًا، ومنطقة صناعية ومجمع خدمات لوجستية وعشرة آلاف وحدة سكنية، فضلًا عن مزرعة أسماك وإنفاق تحت قناة السويس. 22 كان المتوخّى أن تتحول المنطقة محورًا صناعيًّا ولوجستيًّا يستقطب نحو 40 مليار دولار من الاستثمارات الدولية، وتوقُّع وزير الاستثمار آنذاك أشرف سلمان أن يمثل المحور في نهاية المطاف ثلث الاقتصاد المصري. 23 وبحلول كانون الأول/ديسمبر 2018، ادعى مميش أنه تمّ استثمار 30 مليار دولار منذ عام 2015 في ما وصفه مفتخرًا بأنه "موقع عبقري على خريطة الاستثمار العالمي"، وأن ما نسبته 75 في المئة من المبلغ قد جاء من مستثمرين أجانب وعلى رأسهم الصين. 24 (قد تكون اتفاقية التجارة الحرّة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية ما يجذب الشركات الصينية، إذ تتيح لها توريد سلعها من "المناطق الصناعية المؤهلة" إلى الولايات المتحدة الأمريكية تحت وسم "صُنع في مصر" 25).

وكما هو الحال دائماً، فإن التصريحات الرسمية المتعلقة بالقيمة المالية للمشاريع والاستثمارات، غالبًا ما تخلط بين قيمة العقد والإنفاق الفعلي أو الإنتاج. إذ بعد مضيّ سبعة أشهر فحسب على تفاخر مميش، قام رئيس الوزراء مدبولي بالضغط على رؤساء مجالس إدارة الشركات السبع التابعة لهيئة قناة السويس من أجل "تحقيق أرباح، وعدم تحميل موازنة الهيئة أو الدولة أعباء جديدة." 26 وكان قد تبيّن أن الخطط الضخمة السابقة للمنطقة واجهت مشكلات. ففي عام 2011، اتُهم العديد من الوزراء وضباط القوات المسلحة المتقاعدين في عهد مبارك، منهم اثنان ترأسا الإدارة البحرية في وزارة النقل، بسوء إدارة فادح للمشاريع السابقة التي بدأت في عام 2001 في بور سعيد، ما أسفر عن خسائر تراكمية بلغت 1,75 مليار جنيه مصري (295 مليون دولار). هذا، وتقدّر تكاليف البنية التحتية للمرحلة الأولى من مشروع تطوير محور تنمية قناة السويس، المقرر أن تنتهي في عام 2030، بنحو 15 مليار دولار، ومن المفترض أن تستمر المرحلة الثانية حتى عام 2050. 27 ومع توقُّع أن تصل التكلفة إلى ما بين 50 و60 مليار دولار، فإن مشروع بور سعيد العملاق الذي جرى إطلاقه في عام 2015 قد يولّد مخططات جديدة جوفاء على نطاق أوسع. 28

فإن التصريحات الرسّمية المتعلقة بالقيمة المالية للمشاريع والاستثمارات غالباً ما تخلط ما بين قيمة العقد والانفاق الانتاج أو الفعلي

من المفترض أن يؤدي تكليف وزارة الدفاع بدور إداري أساسي إلى التخفيف من هذه المخاطر. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2015، خطا السيسي خطوة إلى الأمام من خلال إصدار تعليمات إلى هيئة الرقابة الإدارية لتتعاون مع الهيئة الهندسية في القوات المسلحة والكلية الفنية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع من أجل مراجعة الشروط المرجعية للمشروعات والموافقة على العطاءات وإزالة العقبات الإدارية ومراقبة النفقات. 29 أعلن اللواء محمد عرفان رئيس هيئة الرقابة الإدارية في أيار/مايو 2017 أن لجنة مكونة من 312 مهندسًا من القوات المسلحة و221 ضابطًا من هيئة الرقابة الإدارية قد استعرضت 1705 مشاريع "قومية وعملاقة" بتكلفة 285 مليار جنيه جرى تنفيذها في الأشهر الخمسة عشر السابقة. 30 وذكر اللواء لاحقًا أن اللجنة المشتركة قد نمت إلى 800 عضو، منهم 468 من القوات المسلحة و332 من هيئة الرقابة الإدارية، مقسمين إلى 198 لجنة فرعية راجعت 2542 مشروعًا بحلول كانون الثاني/يناير 2018. 31 كما وتكمن أهمية هذه الأرقام في النسبة التي تمثلها من موظفي هيئة الرقابة الإدارية. ففي عام 2012، قال اللواء محمد عمر هيبه الذي كان رئيس الهيئة عندها، إنها كانت تضم 420 ضابطًا ولكنها كانت بحاجة إلى 1500. وبعد عام، قال إن لديه ميزانية للوصول إلى 800 موظف، مع أن القوة الفعلية بلغت عندها 430. 32

كان في وسع هذا التعاون بين الهيئتين أن يشكّل تحولًا كبيرًا. فإذا ما ثبت نجاحه، فإن من شأنه أن يساعد الهيئات العسكرية على الاضطلاع بحجم العمل الضخم وتحقيق اقتصادات الحجم، مع الحد من نطاق الاستغلال والتلاعب في الأسعار والفساد التام على أيدي الضباط والمقاولين من القطاع الخاص، على حد سواء. لكنه من غير المرجح أن يؤدي التركيز على الشروط المرجعية والإجراءات الإدارية بالتأثير على التنفيذ في الميدان، حيث يحصل أغلب الفساد من قِبَل مديري أو مهندسي ورشات العمل. مع ذلك، فإن التعتيم المستمر على العقود، ومنحها بالأمر المباشر، والموقع "الاستراتيجي لللمنطقة التنموية" لا تزال تترك لدى وزارة الدفاع سلطة إستنسابية شبه كاملة. كان أحد مسؤولي العلاقات العامة في مشروع التطوير قد أنكر، في آب/أغسطس 2013، أنّ القوات المسلحة سوف تشارك في المشروع على الإطلاق، ولكن تذرّع مميش بعد بضعة أشهر بحجة "الأمن القومي" كعامل في منح عقود العمل في المنطقة. 33 وظلّت الشركات المفضلة تتلقّى عقود المشاريع التي تنفذها القوات المسلحة.

تبين استمرار المخاطر من خلال الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتي كانت قد أُنشئت من أجل إدارة خطة التنمية الشاملة. قام أحمد درويش، وهو مدني مختص، بقيادة الهيئة في البداية، ثم جرى عزله في نيسان/أبريل 2017 بعد اتهامه بإنهاء العقود والتراخيص الصادرة لبعض شركات منطقة القناة العديدة التي يرأسها ويعمل فيها عدد كبير من متقاعدي القوات المسلحة، من دون الرجوع إلى نائبه، اللواء عبد القادر درويش (لا قرابة بينهما). 34 تولى مميش رئاسة الهيئة بعد ذلك فيما بقي رئيسًا لهيئة قناة السويس. كما كان مجلس إدارة هيئة المنطقة الاقتصادية لقناة السويس يضم ممثلًا عن وزارة الدفاع وضابطيْن متقاعدين (محافظ بورسعيد ومحافظ السويس)، وأضيف رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في كانون الأول/ديسمبر 2018. 35 ويُستكمل تأثير وزارة الدفاع من خلال قبضتها غير الرسمية على الهيئات الحكومية الأصغر العاملة في المنطقة، مثل هيئة موانئ البحر الأحمر التي يرأسها أيضًا لواء بحري متقاعد.

لقد حققت وزارة الدفاع انقلابًا اقتصادياً منذ أن هدد اقتراح مرسي حصتها الاقتصادية في منطقة قناة السويس في عام 2013. وبدلًا من من أن تقبع في الظلال هيئة التنمية الجديدة التي كان قد اقترحها مُرسي، قامت هيئة قناة السويس، وهي الأداة الاقتصادية الرئيسية لوزارة الدفاع في المنطقة، بتمديد سلطانها الفعلي على مجمل التنمية وعلى جميع الأشغال العامة المتصلة في منطقة النمو الاقتصادي الأكثر أهمية في البلاد. هذا يضيف إلى إحكام قبضة وزارة الدفاع، بحكم الأمر الواقع، على حيز كبير من قطاع الطاقة في مصر، لأن غالبية موارد النفط والغاز وبنيتها التحتية تقع في محور قناة السويس أو تمر عبره. وتعززت إلى حدّ كبير المكاسب المحتملة بفضل بدء الإنتاج في حقل الغاز البحري الضخم "ظهر" في نهاية عام 2017. وحتى لو تم الانتهاء من جميع الأشغال العامة المنفذة كجزء من مختلف هذه المخططات العملاقة بأقل قدر من الفساد أو الهدر، فإنها تضمن لوزارة الدفاع تحصيل دخل من رسوم إدارة المشروع على مدى عقود مقبلة.

لمعان العاصمة الإدارية الجديدة

في حديثه في مؤتمر التنمية الاقتصادية المصرية، المنعقد في شرم الشيخ والذي حظي بتغطية إعلامية واسعة في آذار/مارس 2015، أعلن وزير الإسكان آنذاك، مصطفى مدبولي عن إطلاق ما وصفه "مشروعًا عملاقًا"، وهو بناء عاصمة إدارية جديدة شرق القاهرة. جرى تقديم المشروع باعتباره "مدينة ذكية ستستفيد من تقنيات اليوم المستدامة، فضلًا عن كونها قابلة للتكيف مع التقنيات المستقبلية"، كما يَعد المشروع بتوفير 1,1 مليون وحدة سكنية لخمسة ملايين نسمة، والسماح بنقل "كامل الجهاز الإداري للدولة" (باستثناء بعض الوزارات) والسفارات الأجنبية من القاهرة، وتخفيف الازدحام والاكتظاظ السكاني في العاصمة القديمة على مدى الأربعين سنة المقبلة. 36

علاوة على ذلك، ادّعى مدبولي أن العاصمة الجديدة، التي تفاخر بأنها تقارن بمدينتي نيويورك الأميركية وبرشلونةالإسبانية، لن تكلّف الدولة المصرية "ملّيمًا واحدًا"، حيث سيتم البناء بتمويل تجاري بالشراكة مع القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب. ومع ذلك، اضطرت الحكومة على الفور تقريبًا إلى تخصيص 5 مليارات جنيه مصري للمشروع (639 مليون دولارًا)، واضطرت إلى اقتراض مليار جنيه إضافي في أيلول/سبتمبر. 37 تقلبت تقديرات التكلفة الإجمالية بشكل كبير: فقد حددها وزير الإسكان في البداية بمبلغ 45 مليار دولار على مدى خمس إلى سبع سنوات، في حين أن محمد العبّار، الرئيس التنفيذي للشركة المقاولة الخاصة الرئيسة المشارِكة، ضاعف التقديرات إلى ما يراوح بين 80 و90 مليار دولار (ما كان يعادل عندها 500 مليار جنيه)، ومدد وزير الاستثمار أشرف سلمان الجدول الزمني المتوقع لأكثر من اثني عشر عاماً. 38 ولقد بلغ الإنفاق الفعلي على البنية التحتية الجديدة للعاصمة 140 مليار جنيه بحلول آذار/ مارس 2019، وفقًا للمتحدث الرسمي للمشروع. 39

جاءت التقلبات في تقديرات الكلفة والتأخر عن المواعيد في وقت مبكر من المشروع، جزئيًّا بسبب إصرار السيسي على إكمال المرحلة الأولى من العاصمة الجديدة في غضون عامين، أي بنهاية عام 2018. 40 أثّر الإلحاح مرة أخرى على اختياره القوات المسلحة لإدارة المشروع، ما يضمن حصولها على دخل طويل الأجل من الرسوم الإدارية، وشراكات مع الشركات الأجنبية الكبرى، ونطاقًا جديدًا هائلًا لتعزيز العلاقات مع المقاولين من الباطن المفضلين. ومن بين هؤلاء زعماء العشائر من جنوب سيناء الذين يتم تعويضهم عن فقدان دخلهم من السياحة بسبب حملة مكافحة التمرد المستمرة التي تقوم بها القوات المسلحة، بعد أن أيدوا الحكومة. 41

وقد انخرطت أيضًا شركات معروفة من القطاعين العام والخاص مثل المقاولون العرب وحسن علام، ومجموعة طلعت مصطفى، و"بالم هيلز"، و"بتروجِت"، والشركة القابضة للتشييد والتعمير. 42 وراء الكواليس، رفض العديد من الشركات الخاصة الكبرى الاستثمار في العاصمة، لكن جرى الضغط عليها بشدة للقيام بذلك. 43 مع ذلك، استجاب المضاربون والمقاولون العقاريون للأهمية السياسية البالغة المعلَّقة على العاصمة الجديدة من خلال التوجه إليها، في الوقت الذي قللوا فيه استثماراتهم في مناطق جذابة سابقًا حول القاهرة، ما أدّى إلى ارتفاع حاد في القيمة السوقية لأملاك وزارة الدفاع الواسعة بين العاصمة الحالية والبحر الأحمر. في الوقت نفسه، حصلت الشركة المظلة التي جرى إنشاؤها لإدارة مشروع العاصمة الإدارية الجديدة (والتي تملك وزارة الدفاع 51 في المائة منها) على ملكية المباني الحكومية في القاهرة التي سيتم إخلاؤها بعد نقل الوزارات والهيئات الأخرى، ما منحها عقارات مرغوبة في أنحاء مركزية من العاصمة القديمة. 44

تُظهر العاصمة الإدارية الجديدة أنّ وزارة الدفاع أصبحت تشغل موقعًا شغله سابقًا رجل الأعمال الكبير عثمان أحمد عثمان في عهد ناصر والسادات، حيث كان يُسمح له بإدارة شركة المقاولون العرب التابعة للقطاع العام وكأنها شركة شبه خاصة. فضمتت وزارة الدفاع لنفسها بالمثل عقدًا طويلًا جدًّا لجني رسوم الإدارة وعقود الصيانة والمتابعة، كما أن لديها معرفة مسبقة بالمشروعات العملاقة الجديدة، ما يسمح لها بتوجيه أنشطتها واستثماراتها وفقًا لذلك. وبالتالي، لم تكن وزارة الدفاع مستعدة فحسب لبدء العمل في العاصمة الإدارية الجديدة بمجرد موافقة السيسي على الخطة في منتصف حزيران/يونيو 2015، بل ولقد بدأت فعليًّا في بناء شبكة الطرق قبل ذلك. 45

ومن التطورات المهمة الأخرى ظهور جهة اقتصادية عسكرية جديدة. ففي 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أصدر السيسي المرسوم الرئاسي 446 الذي يعدل صلاحيات جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة (الذي جرى إنشاؤه بموجب مرسوم رئاسي في عام 1981) لإدارة بيع العقارات التي لم تعد تستخدمها القوات المسلحة. فقد جرى حينها التصريح للجهاز بالمشاركة في النشاط التجاري و"تنمية موارده، وله في سبيل ذلك تأسيس شركات بكافة صورها، سواء بمفرده أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي". 46 استتبع السيسي ذلك في 8 شباط/فبراير 2016 بقرار رئاسي رقم 57 يكلّف جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة ولهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بتشكيل شركة مساهمة عامة محدودة للقيام بالتخطيط والبناء ولاحقًا تطوير العاصمة الإدارية ومدينة الشيخ محمد بن زايد.

جرى بالفعل إنشاء شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية بموجب القانون رقم 8 لعام 1997 بشأن ضمانات وحوافز الاستثمار الذي كان صُمّم لجذب المستثمرين الأجانب إلى مصر عبر عرض الإعفاءات الضريبية والجمركية والحوافز غير الضريبية مثل أسعار الطاقة المخفضة والدعم الحكومي لرسوم التأمين الاجتماعي للعمالة. تشاركت وزارة الدفاع وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة رأس مال شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية عند بدء التشغيل بقيمة 6 مليارات جنيه، مع أنّ المتحدث باسم شركة العاصمة الإدارية اللواء خالد الحسيني كشف في أيار/مايو 2018 أن وزارة الدفاع ووزارة الإسكان قد ضخّتا 204 مليارات جنيه (أي حوالي 11,4 مليار دولار في ذلك الوقت) في المشروع، تاركة لوزارة الدفاع بنسبة 51 في المئة من الملكية وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة (تمثّل وزارة الإسكان اسمياً) بنسبة 49 في المئة. 47 شغلت وزارة الدفاع خمسة مقاعد وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة ثلاثة في مجلس إدارة الشركة المكون من ثلاثة عشر عضوًا. 48 ، تولَّى مدنيٌّ منصب رئيس غير تنفيذي، في البداية، لكن اللواء أحمد زكي عابدين المتقاعد من القوات المسلحة حل مكانه بصلاحيات تنفيذية كاملة في آب/أغسطس2017. إلى ذلك، خصص المرسوم الرئاسي رقم 57 ما مجموعه 16645 فدّانًا حول القاهرة إلى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية من أجل بناء العاصمة الإدارية، بحيث تشكّل قيمة الأرض حصة الجهاز من الأسهم في المشروع. 49

وكما أظهر إنشاء شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية، فإن السماح لوزارة الدفاع باستخدام أراضي الدولة كحصة من رأس المال في المشاريع المشتركة، يعني أنَّ المرسوم الرئاسي رقم 57 قد وضع هذه الأراضي فعليًّا تحت السيطرة العسكرية بدرجة غير مسبوقة. فكانت وزارة الدفاع تتحكم أصلًا باستخدام أراضي الدولة بموجب القوانين القائمة، وهو الأمر الذي كانت تذكّر الجمهور به مرارًا وتكرارًا، مثل ما فعلت عند تهدئة المخاوف من أن الشركات الأجنبية ستستحوذ على الأراضي المصرية تحت ستار المشاريع المشتركة في محور التنمية الاقتصادية لقناة السويس وأماكن أخرى. والجدير بالذكر أنه لم يتم بعد وضع إطار قانوني لتنظيم العلاقات بين المستثمرين العسكريين والمدنيين، لكن القدرة على استخدام الأرض كحصة تجارية أعطت الهيئات العسكرية ورقة ضغط دائمة على شركاء القطاع الخاص، سواء كانوا محليين أم أجانب. ويشمل ذلك الحد من اللجوء إلى المحاكم المدنية في حالة حدوث خلافات، لأن الشركاء العسكريين يخضعون فقط لقضاء المحاكم العسكرية. ومن المفترض أن تنطبق السلطة القضائية نفسها على قاعدتي القطامية وغرب القاهرة الجويتين اللتين تم فتحهما للطيران المدني في أيار/مايو 2015 من أجل خدمة العاصمة الإدارية الجديدة واستقبال فائض حركة المرور من مطار القاهرة الدولي. 50

لم يتم بعد وضع اطار قانوني لتنظيم العلاقات ما بين المستثمرين العسكريين والمدنيين، لكن القدرة على استخدام الأرض كحصة تجارية أعطت الهيئات العسكرية ورقة ضغط دائمة على شركاء القطاع الخاص،

المدن الطوباوية "الذكية" للأثرياء، والمدن الصحراوية للعمال

بالإضافة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، تنطبق هذه الأنماط أيضًا على المدن الذكية الثلاث الأخرى التي كانت أيضًا قيد الإنشاء في أوائل عام 2019 من قِبل الهيئة الهندسية وإدارة المشروعات الكبرى في القوات المسلحة: الجلالة الدولية، والعلمين الجديدة، والإسكندرية الجديدة. تدل تسمية "الذكية" على نهج تسويقي جديد بعد الإخفاقات المتسلسلة للأجيال الثلاثة الأولى من المدن الصحراوية، مع تركيز الآن على مشاريع حضرية راقية تقدم مساكن ومرافق فاخرة ومزايا طبيعية مثل واجهات على الشاطئ أو مناظر مرتفعة تهدف إلى جذب زبائن ومستثمرين من الطبقة المتوسطة العليا. وكما هو متوقع، يعكس ذلك أيضًا الدور المركزي لتكنولوجيا المعلومات، سواء في إدارة البنية التحتية في المدن الجديدة أو في التمكين من مراقبة سكانها. على سبيل المثال، ستشمل العاصمة الإدارية الجديدة "مدينة ذكية" منفصلة صممتها إدارة تكنولوجيا المعلومات في وزارة الدفاع لصالح وزارة الداخلية، والتي ستتيح للشرطة مراقبة بقية العاصمة. 51

ووفقًا لمدبولي، فإن هدف كل من العلمين الجديدة والإسكندرية الجديدة هو "تحويل مناطق الساحل الشمالي لمدن سكنية بدلًا من كونها مصايف تعمل لمدة شهر أو اثنين فقط طوال العام". 52 ويُخطط للعلمين الجديدة استيعاب أربعة ملايين نسمة، ولأن تصبح عاصمة صيفية. 53 ولتحقيق هذا الهدف، تقوم الهيئة الهندسية في القوات المسلحة ببناء طرق رئيسة إضافية (يطلق عليها رسميًّا اسم "الطرق القومية" لتمييزها عن غيرها من الطرق)، وهي تربط القاهرة بالساحل الشمالي في العلمين والضبعة، حيث تشارك وزارة الدفاع في بناء مدينة حول مشروع محطة مصر النووية. 54 والجدير بالذكر أن مشروع العلمين الجديدة تلقّى مساعدة فنية من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (هابيتات) وتمويلًا لإزالة الألغام (دُفع إلى وزارة الدفاع) من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والاتحاد الأوروبي. 55

في المقابل، فإن مدينة شرق بورسعيد الجديدة هي مدينة "مليونية" أخرى مصممة لجذب الصناعة والخدمات وموظفي مكاتب وعمال ماهرين وأصحاب مشاريع ريادية من الشباب. 56 إنّ مدينة المنصورة الجديدة التي تعمل هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة أيضًا على إنشائها على دلتا النيل، تعكس مرة أخرى المنظور الإجتماعي الخاص للبيروقراطيين الحكوميين والعسكريين، إذ يتم تخصيص حارات أو مدن بكاملها لطبقات اجتماعية محددة. إن التباهي بواجهة بحرية اصطناعية على طراز سعفة نخيل كتلك التي في دبي، غايته جذب عائلات الطبقة الوسطى على وجه التحديد التي ليس بمقدورها السكن في المدن الذكية الفاخرة، بالإضافة إلى الإسكان الاجتماعي للمجموعات السكانية ذات الدخل المحدود، رامية لاستيعاب مليون ونصف نسمة. 57

تجمع مدينة الجلالة الدولية بين كل هذه الوظائف. ويتم تقديم هذه المدينة، التي تقع في قلب منطقة مصالح عسكرية خاصة صاعدة، على أنها "مدينة متكاملة شاملة كل المنشآت والمرافق الحكومية والخدمية كالمستشفيات . . . وكذلك جار إنشاء مناطق سكنية متعددة المستويات تناسب كل الطبقات"، ستفتخر المدينة في نهاية المطاف بجامعة الملك عبد الله، وبقرية أولمبية، وبمجمع سياحي ضخم. 58 تحتوي المنطقة أيضًا على مناجم ومحاجر رخام، وتشكل رابطًا بين العاصمة الإدارية الجديدة وعين السخنة التي برزت منذ عام 1998 كركيزة أساسية للمصالح العسكرية المتعددة، حيث الميناء البحري العميق والمجمعات السياحية والمطار، والمنطقة الصناعية، وأحواض استزراع الأسماك التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية. علاوة على ذلك، توصَف المنطقة الصناعية على أنها جزء من مخطط كبير، إلى جانب "وادي تكنولوجي" في الإسماعيلية، لتوليد مليون فرصة عمل مباشرة. 59 وفي أواخر عام 2015، بدأت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة أيضًا ببناء ما وصفته بأنه طريق سريع مصري - أفريقي يوازي الطريق السريع الحالي من بورسعيد إلى الحدود مع السودان، وسيمر عبر جلالة وعين السخنة، إلى جانب طرق الوصل والطرق الجانبية، بما مجموعه ثلاثة آلاف كيلومتر.

تحسبًا لهذه الطفرة الهائلة في الإنشاءات، وافقت الحكومة على زيادة بنسبة 100 في المئة في ميزانية هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في شباط/فبراير2015، لتصل إلى 28 مليار جنيه مصري (3,68 مليارات دولار). وفي تناقض صارخ، جرى تخصيص صندوق تنمية الأحياء الفقيرة مبلغ 500 مليون جنيه فقط، أو أقل من 2 في المئة من حصة المدن الجديدة. 60 أعلنت القوات المسلحة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة عن التخطيط لبناء أربع مدن جديدة في شمال سيناء، بهدف معلن هو توليد التنمية في المنطقة وتجاهلة السجل السيئ للمدن الصحراوية والمدن الملحقة. 61 كما بدأ العمل في بناء مدينة الإسماعيلية الجديدة على الضفة الشرقية لقناة السويس التي وصفتها الهيئة العامة للاستعلامات بأنها "مدينة سكنية متكاملة الخدمات" تهدف إلى إسكان القوى العاملة في ممر التطوير الاقتصادي لقناة السويس و"تحقيق أحد أهداف الأمن القومي بتعمير سيناء". 62

ولكن هدف توفير الإسكان للطبقة المتوسطة العليا والمجمّعات السكنية المغلقة يحرّك بوضوح جزءًا كبيرًا من التطوير العمراني الجديد. والمجمّع الذي افتتحته إدارة النوادي والفنادق للقوات المسلحة في وزارة الدفاع في الإسكندرية في شباط/فبراير 2017، والذي شمل مرسى لليخوت ومطاعم فاخرة ومدرسة لتدريب القباطنة، يشكّل مثالاً على الاستثمار المتزايد في مشاريع الترفيه الفاخرة. 63 ويضاف إلى ذلك أنه يتم التسويق لمساكن المدن الذكية من خلال معرض "عقارات مصر" المتنقل، والذي صبّ تركيزه لغاية الآن على مجموعة المغتربين المصريين في أبو ظبي ودبي ولندن، يكشف مجددًا الجمهور الحقيقي الذي تستهدفه. وقامت شركة تواصل بتنظيم المعرض، وهي شركة إعلام كانت قد أقامتها شركة مجموعة فالكون الدولية التي استحوذت على عدة شركات واجهة لصالح المخابرات الحربية. 64 وكان السيسي قد صرّح خلال حملته الانتخابية الأولى للرئاسة في عام 2014 عن أمله بشكل خاص بأن يقدم المصريون المغتربون 120 مليار دولار من أصل 140 مليار دولار هي تكلفة مخططه العملاق الملقّب "خريطة المستقبل" لإحلال "قفزة هائلة في الاقتصاد المصري". 65

يؤكد الانخراط المتزايد لهيئات وزارة الدفاع في المشاريع التعليمية رفيعة المستوى مع شركاء دوليين سعي كبار ضباط القوات المسلحة لتحقيق الصعود الطبقي. ففي كانون الثاني/يناير 2018، قال رئيس إدارة المشروعات الكبرى في القوات المسلحة، اللواء عصام الخولي، إنها تشرف على بناء ست "جامعات دولية" جديدة في العاصمة الإدارية الجديدة. 66 وأضاف أن الإدارة سوف توفّر أربع جامعات جديدة في مناطق أخرى وهي الملك سلمان في جنوب سيناء، والجلالة في مدينة الجلالة الدولية، وجامعة مصر اليابانية للعلوم والتكنولوجيا في برج العرب (الإسكندرية)، ومشروع مصر القومي لمدينة النهضة العلمية في مدينة 6 أكتوبر، فضلًا عن مرافق في تسع جامعات أخرى. 67

إن كون العسكر يضعون نفسهم عن وعي جزءًا من الطبقة الوسطى الجديدة المعولمة في مصر يَظهر جليا أيضًا في مدرسة بدر الدولية في مدينة السلام، التي بنتها وزارة الدفاع والتي تدرّس ما يوصف بالمنهاج الأميركي. يُشرف على هذه المدرسة الجيش الثالث، الذي يدعم بشكل شبه مؤكّد التحاق أطفال ضباطه الذين لم يكن لديهم لولا ذلك بطريقة أخرى على تحمّل الرسوم السنوية التي تراوح بين 20 و40 ألف جنيه مصري. 68 يتماشى هذا التحيز الطبقي مع إجراءات التدقيق الاجتماعي لاستبعاد المتقدمين من خلفيات تعتبر متدنية من دخول الأكاديميات العسكرية (والقضائية أو الشرطة)، وهي ممارسة تمييزية تُعرف باسم "كشف الهيئة" ظهرت في عهد مبارك وتُستخدم الآن في جميع المجالات.

وانعكس التركيز على إنشاء العقارات التجارية المرغوبة في تعديل صلاحية هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في أوائل عام 2018 لتشمل بناء "مجتمعات جديدة" في مناطق إعادة التخطيط ضمن المدن والقرى القائمة، وليس في الأراضي الصحراوية. 69 ومن الأمثلة البارزة، جزيرة الورّاق على نهر النيل وسط القاهرة التي وُضعت تحت سلطة هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في كانون الأول/ديسمبر2018 بهدف إنشاء حي راقٍ من المباني الشاهقة ومرسى يخوت. ويتبع هذا النهج إياه الذي أُرسي منذ عام 2001 على الأقل، عندما أهدى مبارك جزيرة القرصاية (وهي إحدى الجزر التي تتوسط القاهرة) إلى وزارة الدفاع، والتي قامت بدورها بالمصادقة على تطويرها سياحياً في عام 2007، وثم حاولت إخلاء السكان عنوة إثر انقلاب تموز/ يوليو 2013. 70 وكما هو الحال في عمليات التطوير العمراني الفاخرة الأخرى في القاهرة، كمثلث ماسبيرو الذي كان يضم في السابق 41 ألفًا من سكان الطبقة العاملة، جرى تبليغ سكان الورّاق البالغ عددهم تسعين ألف نسمة أنه يمكنهم الحصول على سكن بديل في المدن الصحراوية. 71

تشير الأدلة المروية إلى أن الأبراج الفاخرة الجديدة بقيت فارغة، بما أنها تستهدف طبقة اجتماعية لم يعد لديها رأس المال للاستثمار. إن الدافع لتوليد الإيرادات من خلال أحد أهم الأصول وأكثرها وفرة في الدولة، أي الأرض، يثبت أنه أتى بنتائج عكسية، حتى فيما هو يثير التنافس بين الجهات الاقتصادية الفاعلة العسكرية والمدنية على الاستثمار أكثر في المشاريع العقارية. لكن السيسي والحكومة، وبدعم وتشجيع نشِط من قبل المؤسسة العسكرية، قد أقاموا أو قررّوا إقامة سبع عشرة مدينة وبلدة جديدة منذ عام 2016 وفق أحد التقديرات، على الرغم من أن سكان المجمعات العمرانية الجديدة القائمة لا تتعدى نسبتهم الـ 3،8 في المئة من مجمل النمو السكاني السنوي في مصر. 72

الأبوية العسكرية والإحسان الاجتماعي

أثنت وسائل الإعلام الحكومية على هذه المدن الجديدة بسبب "شمولها واتساعها، وانتشارها في مختلف أرجاء الوطن". وأضاف مسحٌ متحمس للمشاريع الجديدة قامت به الهيئة العامة للاستعلامات أنّها ستسهم "بصورة أو بأخرى في تحقيق التوازن الاقتصادي، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية بمفهومها الشامل ومن ثم تقليص نسبة البطالة والفقر"، فضلًا عن "إعادة توزيع السكان على امتداد سلسلة من المدن الجديدة في كافة مناطق الجمهورية، وفي سيناء والساحل الشمالي وما حولهما". 73

ومع ذلك، فإن الجماعات السكانية ذات الدخل المحدود، كما في حالة السكان السابقين في مثلث ماسبيرو وجزيرة الورّاق، فإنهم لم يقوموا بالانتقال إلى المدن الصحراوية التي تشيدها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة والهيئات العسكرية، بل إلى مساكن متدنية المستوى غير موصولة بالخدمات العامة في أنحاء أخرى من القاهرة. وكما أشار المختص بشؤون التطوير الحضري، ديفيد سيمز، فإن جميع المناطق تقريبًا التي تم تخصيصها لانتقال الصناعات الصغيرة إليها، تقع في مناطق نائية أو في البلدات الجديدة، ما يفرض تكلفة باهظة للمواصلات سواء على المالكين أو العاملين فيها، ويهَّمش السياسات الصناعية البديلة الناجعة أكثر لتعزيز التوظيف والإنتاج.74

وكأنها تتجاهل فشل هذه المقاربات الفوقية نحو تخصيص التوزيع الجغرافي للإسكان الاجتماعي وأماكن العمل، أعلنت إدارة المشروعات الكبرى في القوات المسلحة في كانون الثاني/يناير 2018 أنّها تعمل على 124 مشروعًا لبناء منشآت من أجل 424 ألف وحدة سكنية اجتماعية للمجتمعات الريفية والبدوية، وعلى "قريتين نموذجيتين" على الأقل لخريجي الجامعات شرق وغرب قناة السويس. 75 قدّر مدبولي إجمالي الاستثمارات المخطط لها في المشروعات العملاقة في سيناء بقيمة 150 مليار جنيه مصري بحلول أواخر عام 2017، إلى جانب المشاريع التي قدمتها هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لبناء 340532 "وحدة سكنية اجتماعية" (شقق للسكان ذوي الدخل المحدود) في 22 مدينة جديدة بتكلفة 37 مليار جنيه. 76 لم يكن الجدول الزمني لتحقيق هذه الأهداف واضحًا: فقد زعم رئيس هيئة الرقابة الإدارية، اللواء محمد عرفان، بأن معدل التسليم الإجمالي ارتفع من 48 ألف وحدة سكنية سنويًّا قبل عام 2014 إلى 81 ألف وحدة في عام 2017، وبالتالي فمن غير المرجح أن تكتمل لمدة عشر سنوات على الأقل. لكن مشاريع الإسكان الأحدث كانت مضافةً إلى مشاريع جارية بالفعل، وبالتالي كان من المؤكد أن تواجه تأخيرات بالغة. 77

لا شك بوجود حاجة لبناء الإسكان الاجتماعي، إلا أنه مستمد من منظور عام تجاه التطوير الحضر يخفق في إحداث أي تغيير يُذكر في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الصعب: إذ أنَّ 5 في المئة من ملاكي الأراضي، ممن هم في الطبقات العليا، كانوا يملكون ما نسبته 57 في المئة من الأراضي الزراعية، في حين يمتلك 43 في المئة ممن هم في الطبقات السفلى أقلّ من 1 في المئة من الأراضي الزراعية في عام 2015. وحتى حين تؤخذ المناطق المستصلحة بالاعتبار، فإن عدد المصريين الذين يعيشون في فقر مدقع قد ارتفع إلى 32،5 في المئة بحلول عام 2019، كما وبلغت نسبة الأمية 25،8 في المئة. 78 إن التوجه العسكري نحو التطوير الاجتماعي والاقتصادي يعكس أيضًا التزعة الأبوية التي ميزت إدارة السيسي، كما يبدو جلياً من الانخراط العسكري في صندوق "تحيا مصر" التابع له. فقد وضعت وزارة الدفاع في حزيران/يونيو 2014 مبلغ مليار جنيه مصري (أي ما يعادل 141 مليون دولار آنذاك) من أموال جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في تصرف الصندوق. فيما كشف مسؤول كبير في الصندوق في وقت لاحق بأنه انطلق بـمبلغ 4،7 مليارات جنيه كان قد تلقّاه من المؤسسة العسكرية. 79

لا شك بوجود حاجة لبناء الإساكن الاجتماعي، إلا أنه مستمد من منظور عام تجاه التطوير الحضري خفق في إحداث أي تغيير يُذكر في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الصعب.

منذ ذلك الحين والمؤسسة العسكرية ما انفكت تساهم في مشاريع مدعومة من صندوق "تحيا مصر"، كما في حالة توفير الوقاية والعلاج للعيون في المشافي العسكرية، عبر تقديمه منحة بقيمة مليار جنيه مصري للجمعية الخيرية "نور الحياة". 80 وفي حالة أخرى عكست هذا التوجه أيضاً، قدّم رئيس أركان القوات المسلحة ووزير الإنتاج الحربي في كانون الثاني/يناير 2019، 600 ألف رزمة غذائية بمثابة صدقة للسكان المزمعين في 18 "مجتمعًا تنمويًّا" يقع قيد إنشاء الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في شمال وجنوب سيناء. كما سيتم تأثيث البيوت الجديدة وتجهيزها بالأدوات الكهربائية والتي سيتم التبرع بها بمساعدة الجمعية الخيرية "مصر الخير"؛ وهي واحدة من بين جمعيات عدة حثّ السيسي على إقامتها. 81 إلا أنّ الهدف الأساسي الكامن خلف هذا التوجه هو عرقلة الاحتجاج الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي، كما ظهر جلياً حين عرضت القوات المسلحة تخفيض الأسعار في حافلات الركاب التي تملكها، وذلك عقب الارتفاع الحاد في أسعار الوقود في تموز/يوليو 2014. وكذلك الأمر حين زودت الأسواق بـ8 ملايين عبوة غذائية بأسعار بخسة إثر انخفاض قيمة الجنيه المصري بنسبة 48 في المئة في تشرين الثاني/نوفمبر 2016. 82

التآزر على صعيد البنية التحتية

الهيئات العسكرية منخرطة حتمًا بشكل كبير في بناء مرافق البنية التحتية والخدمات للمدن الجديدة، ما يؤدّي إلى توسيع نطاق ومجال نشاطها الاقتصادي بشكل ملحوظ. وقد شمل ذلك ثلاثة مطارات جديدة: مطار العاصمة الدولي الذي يخدم العاصمة الإدارية الجديدة، وسفنكس الدولي الذي يخدم مدينتيْ 6 أكتوبر والشيخ محمد بن زايد والمحافظات المحيطة بهما، ومطار الملّيز الدولي في بير الجفجافة في سيناء الذي يُزعم أن لديه طاقة 1,7 مليون مسافر سنويًّا. 83 وقد أعلنت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة عن المليز باعتباره يحسّن الوصول إلى مصنع الإسمنت الرئيس التابع لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية وإلى محاجر الرخام المحلية ومناطق الزراعة والصيد. 84 كما ادّعت الهيئة أن عملها على الطريق السريع 6 في سيناء خدم "نقطة ساخنة" للنشاط التكنولوجي فضلًا عن مصنع الإسمنت التابع لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في العريش الذي يُفترض "أن يتضاعف حجم الإنتاج الخاص فيه خلال الفترة المقبلة، ليصل إلى 7 ملايين طن سنويًّا، لتخفيف الاحتكارات ودعم خفض الأسعار في السوق". 85

الهيئات العسكرية منخرطة حتما بشكل كبير في بناء مرافق البنية التحتية والخدمات للمدن الجديدة، ما يؤدّي إلى توسيع نطاق ومجال نشاطها الاقتصادي بشكل ملحوظ.

في الواقع، كان مطار الملّيز واحدًا من مطارين يجري بناؤهما من قبل القوات المسلحة في سيناء، وهو بمثابة فنائها الاقتصادي الخاص. فكانت وزارة الدفاع ووزارات وهيئات حكومية أخرى قد بدأت بالتخطيط لإنشاء مطار في رأس سدر في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2015، بناءً على اقتراح لإقامة مشروع مشترك بين القوات المسلحة ومستثمرين من القطاع الخاص على أساس البناء - التشغيل - إعادة الملكية، مع امتياز لمدة سبعين عامًا. 86 وكالمعتاد، احتشد المتقاعدون العسكريون تأييدًا لمشروع المطار: محافظ جنوب سيناء، والأمين العام المساعد لمجلس المحافظة، ورئيس مدينة رأس سدر، ومساعد مدير إدارة مشاريع جنوب سيناء، وهم جميعًا من لواءات القوات المسلحة. 87 ولكن الدليل الأهم على الضلوع العسكري هو أن قائد شرق قوات القناة لمكافحة الإرهاب، الفريق أسامة عسكر هو الذي أصدر الشروط المرجعية لعقد المطار. 88

تشكّل البنية التحتية للمياه والصرف الصحي جزءًا مهمًّا آخر متأثرًا بالاندفاع الكبير للأشغال العامة التي تديرها الهيئات العسكرية. فقد التزمت الحكومة زيادة الطاقة بنسبة تصل إلى 50 في المئة بحلول أوائل عام 2018 ومنحت الدور القيادي للهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي التي يرأسها لواء متقاعد من القوات المسلحة منذ عام 2011. وكانت هذه الهيئة "اشتهرت سابقًا بالتأخير وتجاوز التكاليف المقررة وتسليم متدني الجودة وشفافية محدودة، وكانت غير فاعلة نسبيًّا". ولكن في منتصف عام 2016، ادّعت الحصول على حوالي مليار دولار في شكل قروض من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي لمشاريع جديدة مخططة. 89 جاءت بعد ذلك توكيلات رئيسة أخرى، بما فيها تطوير البنية التحتية للعاصمة الإدارية الجديدة، وارتفعت ميزانية الهيئة من 562 مليون دولار في العام 2015-2016 إلى 999 مليون دولار (8.87 مليارات جنيه مصري) في العام التالي. 90

استفادت المؤسسة العسكرية كذلك من هذه المشاريع بشكل ملحوظ ومباشر. فبحسب ما أشارت إليه دراسة استشارية أجريت في عام 2011، فإن وزارتي الدفاع والإنتاج الحربي تُعَدّان مستهلكتين كبيرتين لمياه وتعملان بنشاط في بناء وتشغيل محطات معالجة المياه ومياه الصرف الصحي، سواء لاستخدامها الخاص أو كمقاول عام للقطاع المدني. 91 وازداد دورهما بشكل كبير مع الزيادة الهائلة في الإنشاءات منذ عام 2013. وقد اضطلعت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة بمشروعات لبناء القنوات والأنفاق لنقل مياه الري ومياه الشرب تحت قناة السويس وتفريعتها، وإلى المزارع على الضفة الشرقية وإلى 100 ألف فدان من مخطط استصلاح الأراضي الذي تبلغ مساحته 420 ألف فدان في سيناء. 92 وطرحت الهيئة مناقصةً لمحطات تحلية المياه التي ستوفر 150 ألف متر مكعب في اليوم لمدينة الجلالة الدولية التي تقوم ببنائها على ارتفاع 700 إلى 1200 متر فوق خليج السويس، بتكلفة إجمالية قدرها 500 مليون دولار. كما تعهدت الهيئة العمل على تزويد أحواض الاستزراع للأسماك الضخمة الجديدة التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في شمال سيناء بكمّ هائل من المياه العذبة التي ستتطلبها. 93

إلا أنه يمكن القول إنّ المثال الأبرز على التآزر هو المجمّع العملاق الذي يتوسط ميناء البحر الأحمر في العين السخنة، والذي تكوّن على مدى العقدين السابقين. إن الميناء الذي تم إطلاقه في أواسط عام 1999 بامتياز ممنوح من الحكومة لمدة 25 عاماً والذي يعمل منذ عام 2002، هو الأول من نوعه بملكية خاصة خالصة في مصر (وما يزال أحد ميناءين اثنين فحسب من هذا القبيل). وفي عام 2004، أنجزت وزارة الدفاع طريقًا سريعًا حديثًا يربط القاهرة بالعين السخنة وباشرت بتأجير أراضٍ كانت تقوم عليها ثكنات ومنشآت أخرى تابعة للقوات المسلحة لمتعهدين في المجال السياحي. جعلت وزارة الدفاع المنطقة نقطة تقاطع مجالات البنية التحتية والصناعة والتجارة والسياحة والمساكن المخصصة لعلية الطبقة الوسطى منذ عام 2013. كما حولتها لمغناطيس جاذب للاستثمارات الأجنبية وللشراكات الحكومية والخاصة. كما ويخدم الميناء العميق العاصمة الإدارية الجديدة، إلى جانب القاهرة، علاوة على مشاريع استصلاح الأراضي والزراعة والتعدين، التي تملكها أو تديرها الهيئات العسكرية في المحافظات الداخلية مثل الوادي الجديد، والتي أوصلتها تلك الهيئات أيضًا بالطرق السريعة الممولة من الحكومة. ثمّة تآزر مماثل بين مجمّع التعدين أبو طرطور، والذي يتم الآن العمل على توسيعه بشكل كبير، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية الذي يملك مصنع نصر للفوسفات في عين السخنة ويملك 20 في المئة من الأسهم في الشركة المساهمة المصرية لتسويق الفوسفات والسماد، والتي أقيمت في تشرين الأول/أكتوبر 2018 لتكون الوكيل التجاري الحصري لكافة منتجي الفوسفات في مصر.94

تعكس العين السخنة جزئياً التوجّه الذي تبنته الحكومة بجمع وتركيز الصناعات والخدمات ذات الصلّة في تكتلات جغرافية لتحسين التآزر بينها وزيادة صافي القيمة. كانت وزارة الدفاع منخرطة في إقامة التكتل الأول في الروبيكي، فقامت بنقل مدابغ الجلود من مركز القاهرة وأقامت منشأة إنتاج وصيانة (التي يُفترض أن تبنيها وزارة الإنتاج الحربي). 95

باتت العين السخنة تتطور كعصب رئيس لقطاع البنية التحتية والقطاعات الاقتصادية التي يوجد للمؤسسة العسكرية مصالح فيها على طول ساحل البحر الأحمر الممتد لنحو ألف كيلومتر من المدخل الجنوبي لقناة السويس ولغاية الحدود مع السودان. ليس من المستغرب إذاً أن متقاعدي القوات المسلحة يترأسون كافة المحافظات والهيئات الحكومية ذات الصلة في المنطقة، مثل هيئات الموانئ والتنمية. إن قُرب العين السخنة من منطقة جنوب السويس الاقتصادية يربطها بالشحن والخدمات عبر كل الموانئ، وصولاً حتى بور سعيد في أقصى شمال قناة السويس والعريش على ساحل سيناء الشمالي. وتتضمن هذه مرافق استقبال وإنتاج وتخزين وتصدير البترول والغاز الطبيعي ومشتقاتهما، وفي عام 2018 لوحده أُبرمت عقود بقيمة 10،9 مليارات دولار مقابل إقامة ما يُتوخى له أن يكون المنشأة الأكبر في العالم لتكسير النافتا، والمدعوة بمجمّع التحرير البتروكيماويات. 96 كما تستثمر الهيئات العسكرية في هذه الأثناء في توسيع الموانئ الجنوبية، كما في سفاجا، بعضها على أراضٍ قامت وزارة الدفاع بتأجيرها لذلك الغرض والتي ستتيح التصدير من مشاريع في الوادي الجديد. 97 إنّ هذه المشاريع التنموية وغيرها تعدّ جزءًا من مخطط حكومي تم تبنيه في عام 2016 بخصوص "المثلث الذهبي" في جنوب مصر، وهو محطّ اهتمام مركزي آخر للهيئات العسكرية، التي ترمي إلى زيادة مصالحها التعدينية والسياحية الاقتصادية الأخرى على ساحل البحر الأحمر.98

كما تعكس العين السخنة ومنطقتها التحالفات الاجتماعية والسياسية لإدارة السيسي. فما انفكت مدينة الجلالة الدولية تتطور كامتداد بإدارة عسكرية لمنتجعات ومساكن الطبقة الوسطى العليا في العين السخنة، إلى جانب الاستثمارات الكبيرة في الصناعات التحويلية والاستخراجية. وفي آب/أغسطس 2019 قام السيسي بتحويل 75 ألف فدان تقع في نواحي الغردقة المعروفة كوجهة سياحية إلى وزارة الدفاع، ومعها تفويض بالسيطرة على 47 جزيرة في البحر الأحمر تستخدم من قبل منظمي الرحلات السياحية للغوص و"السفاري"، معلناً عن "أنها مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية". 99 العين السخنة تجسد أيضًا التحالف مع الإمارات العربية المتحدة، حيث اكتسبت هيئة موانئ دبي العالمية حصة في الميناء بنسبة 90 في المئة في عام 2008، كما وتم استثمار رأس مال إماراتي في مجمع التحرير للبتروكيماويات. 100

"في العجلة الندامة"

إن استخدام السيسي للهيئات العسكرية من أجل تنفيذ المشاريع العملاقة قد منح شعورًا ملموسًا بالإلحاح كان مدعومًا بوعود متكررة للتسليم وفق جداول زمنية متسارعة. على سبيل المثال، بدأت إدارة المشروعات الكبرى التابعة للقوات المسلحة بتصميم مدينة الإسماعيلية الجديدة في كانون الثاني/يناير 2014 بهدف تسليم مدينة تضم 314 ألف شخص بحلول نهاية عام 2016، فيما وعد السيسي في أيار/مايو 2015 باستصلاح مليون فدان من الأراضي في "أقل من سنتين"، وهو هدف تضاءلت احتمالات تحقيقه مع اقتراب عام 2020. وقد رافقت هذه التصريحات ادعاءات مبالغ فيها عن عدد الوظائف التي يمكن توليدها، كالافتراض بأن توظف الإسماعيلية الجديدة 89 ألف شخص بشكل دائم ومليونين آخريْن بشكل غير مباشر، وعن أوقات تسليم قياسية، مثل التفاخر بأن "ثلاثة مطارات دولية جديدة تم الانتهاء منها في زمن قياسي لم يتجاوز العام"، بدلًا من السنتين بحسب جدول التنفيذ الأصلي. 101

ومن أجل تقديم نتائج سريعة، تعيّن على وزارة الدفاع توظيف شركات وهيئات تفتقر إلى الخبرة. على سبيل المثال، وجدت شركة الخدمات البترولية المملوكة للدولة "بتروجيت" نفسها تقوم ببناء المساكن والطرق في مشروع مدينة شرق بورسعيد الجديدة، وكذلك حفر أنفاق تحت قناة السويس. 102 كانت الشركة تفتقر إلى نوعية العمال والخبرة ذات الصلة، ولكنّها تعاقدت من الباطن مع شركات أصغر حجماً، مخصِّصة حصصاً من الوحدات السكنية أو أطوالاً مختلفة من الطرق لكل منها، لتبنيها بإشراف عسكري. 103 فعلت إدارة المشاريع الكبرى في القوات المسلحة الشيء نفسه، حيث وظّفت ثلاثين من شركات القطاع الخاص للعمل على 219 كيلومترًا من الطريق السريع رقم 6 في سيناء. 104

مع ذلك، فإنّ الاندفاع ذا الحافز السياسي لإظهار النتائج السريعة قد رفع التكاليف أيضًا: فمن أجل جذب عدد كاف من العمال إلى موقع الجلالة، مثلًا، قدمت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة أجورًا أعلى من المتوسط. وكانت تعوض الزيادات بالتخفيف من التكاليف الأخرى من طريق إقناع بعض الشركات بالقيام بالعمل مجانًا، مثل حفر الإنفاق تحت قناة السويس، والتي وافقوا عليها، على أمل تأمين عقود مستقبلية. 105 وحتى عندما كان يُدفع لهذه الشركات فإنه من المحتمل أنها تلقت أسعارًا أقل من السوق، على عكس المتعاقدين الأجانب، وتكون هذه الشركات قد أُجبرت على إمتصاص الخسائر. إلا أن وزارة الدفاع كانت نفسها أيضًا على استعداد لتحمل تكاليف التسليم السريع، إذا ما كان ذلك يوفي بالغرض. فعلى سبيل المثال، قامت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة بتمويل الشركة الأميركية "جنرال إلكتريك" لتسريع عملية تركيب اثني عشر توربينًا لتوليد الطاقة الكهربائية في أسيوط ودمياط الغربية بدلًا من انتظار التمويل الحكومي. 106

وبنفس الفظاعة نجد السحب الاستثنائي لموارد مصر المائية من قبل كافّة المشروعات العملاقة تقريبًا التي تديرها الهيئات العسكرية. وهذه الموارد تعاني أصلًا من الشحّ، حيث إن البلد تحت عتبة الفقر المائي ويتّجه نحو ندرة المياه المطلقة بحلول عام 2025. ومع ذلك، فمن المتوقع أن تستهلك العاصمة الإدارية الجديدة أكثر من 500 مليون متر مكعب من المياه سنويًّا عند انتهائها. إلى ذلك، فإن الخطط لسحب حوالي 200 ألف متر مكعب من المياه يوميًّا من المدن الملحقة المجاورة تعكس مرة أخرى كيف أن الاعتبارات السياسية تتفوق على تحليلات الربح والخسارة وشحّ الموارد. 107

كما تُظهر هذه الحالة، تميل المؤسسة العسكرية إلى التصدي لمختلف التحديات بحلولٍ هندسية بسيطة لا تحل المشكلة الرئيسة. بل لعلها تؤدي إلى تفاقمها: فإن الاستثمار في تحلية مياه البحر لتزويد المدن الجديدة والمشروعات العملاقة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالي أو حول عين السخنة على البحر الأحمر، يستهلك الوقود بشكل مكثف. وكذلك بالنسبة إلى ضخ المياه من نهر النيل أو الأحواض الجوفية إلى التضاريس المرتفعة أو عبر القنوات العابرة للبلد أو الأنفاق تحت قناة السويس إلى مشاريع استصلاح الأراضي والمشاريع الزراعية التي تتوق إلى المياه. كما وتحمل قنوات مياه الصرف فضلات صناعية وزراعية سامة، ما يؤثّر على مناطق المصب مثل كفر الشيخ، موطن جزء كبير من ثروة مصر السمكية. 108 لكن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية يوسّع بسرعة استزراع الأسماك هناك وفي شمال سيناء لزيادة الإمدادات الغذائية (الموضحة أدناه)، ما يضخّم كلاً من الطلب على المياه العذبة وتوليد النفايات التي تعود إلى القنوات والبحر. كما وتتركز هذه المشاريع في مناطق هي الأكثر عرضة للخطر بسبب الارتفاع المحتمل لمستويات البحر بسبب الاحتباس الحراري العالمي.

من نافل القول أنه يستحيل بشكل عام التأكد من أو تقييم الآثار البيئية المترتبة على المشاريع العسكرية، وذلك لبقاء الدراسات أو الوثائق الفنية المتعلقة بها طيّ الكتمان. فعلى سبيل المثال، إنّ مشاريع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الزراعية الكبيرة في شرق العوينات تعتمد على مياه جوفية يُعتقد أنها غير متجددة. 109 وبالأهمية نفسها، أطلق جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مزارع أسماك كبيرة في بحيرة البرلس، وهي واحدة من عدة بحيرات تابعة لدلتا النيل، كانت تحتوي في عام 2008 على تركيز للمعادن الثقيلة بمعدلات تتجاوز الحدّ المسموح به عالمياً، مثل الحديد والزنك والنحاس والمنغنيز والكادميوم والرصاص. كما وتقلصت مساحة هذه البحيرات بسبب استصلاح الأراضي وتحويلها إلى مزارع سمكية وأيضًا بسبب النمو المفرط للنباتات المائية، وعلاوة على ذلك فقد باتت تعاني من المخلفات الصناعية والزراعية علاوة على احتراق وقود القوارب والسيارات؛ ومحصلة كل هذا تقلص إجمالي لحصة البحيرات من الإنتاج القومي للأسماك من 40 إلى 12 في المئة. 110 كما أن الحكومة قد حذرت من ارتفاع الملوحة في الدلتا، حيث يُزرع غالبية أرز البلاد، وعليه فقد قامت بالحدّ من زراعة الأرز، ومع ذلك فإن مصائد الأسماك الجديدة التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية تعدّ من أكبر مستهلكي المياة العذبة. 111

من المحتمل نظرياً أن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئات العسكرية الأخرى تقوم فعلاً بتطبيق المعايير العالمية وأفضل الإجراءات التي يدّعون (ومعهم نظراؤهم من المدنيين) أنهم يلتزمون بها في كل ما يقومون به تقريباً. ولكن لم تأتِ أي من التصريحات الكثيرة التي تمت مراجعتها في إعداد هذا التقريرعلى ذكر أي مبادرات أو إجراءات أمان بيئية، مما يشير إلى أنه يتم تخصيص القسط الأكبر من الاهتمام لزيادة الإنتاج مقابل الحدّ من التكلفة. كما أن الهيئات العسكرية تُدرِج التصدي للأضرار البيئية ضمن أولوياتها في المجال المدني؛ ففي حزيران/يونيو 2019 بيّن أنَّ مصر هي المساهم الأكبر في النفايات البلاستيكية النابعة عن سوء الإدارة بين جميع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، فهي مسؤولة عن نسبة 42،5 في المئة من مجمل 6،6 ملايين طن وتسيء إدارة 93 في المئة من تدفقات نفاياتها البلاستيكية إجمالاً؛ وكل هذا للتدليل على قطاع واحد على سبيل المثال لا الحصر من بين قطاعات أخرى تنشط فيها مصانع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والمصانع العسكرية الأخرى. 112

أسوة بذلك، وفقًا لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري، فقد تم تصريف حوالي 80 في المئة من مجمل النفايات الصناعية السنوية في النيل وقنواته دون معالجتها في عام 2007. 113 ومع ذلك، فقد تدخلت القوات المسلحة لقمع احتجاجات السكان المحليين ضد العواقب البيئية المحتملة على إثر توسيع مصنع بيتروكيماوي (مدني) في دمياط في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، في حين أُعلم محتجون قاموا بحملة ضد ثلاثة مصانع شبيهة افتُتحت بعد شهر في الفيوم، أنه ليس بالإمكان فعل أي شيء لأن تلك المصانع كانت مملوكة لوزارة الإنتاج الحربي. 114

وكان المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية قد أشار في دراسة نشرها في عام 2018 أن المشاريع العملاقة التي أُقيمت في مصر على مدى العقود السابقة، قد كانت "واسعة النطاق، ذات رؤى طموحة (عادةً ما تكون لها أبعاد سياسية) وأهداف متعددة وذات تكاليف باهظة للغاية. وغالبًا ما يكون تأثيرها كبيرًا لدرجة تتعذّر معها إعادة الوضع إلى سابقه". 115 إن التوسع المستمر للمشاريع العمرانية والصناعية التي تديرها الهيئات العسكرية ولمشاريعها الجديدة لاستخراج المعادن الثقيلة (مثل مصانع الرمال السوداء التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية والتي سيتم التطرق إليها أدناه) في مناطق زراعية وسكانية مكتظة، من شأنه أن يرفع التكاليف البيئية إلى حدّ كبير، تحديداً لكون تلك الهيئات تفلت من المراقبة والسيطرة الخارجيتين، رغم أن نشاطاتها تتصل بالأهداف المدنية.

التهافت الاستراتيجي على المشروعات

لقد تجلّى جزء كبير من الدور العسكري الاقتصادي المتوسع منذ عام 2013 في مناطق جغرافية معتبَرة استراتيجية منذ زمن طويل، مثل قناة السويس ومحورها التنموي، وسيناء وبقية ساحل البحر الأحمر، وغيرها من المناطق الحدودية، كما في قطاعات تُعتبر ذات قيمة استراتيجية بالنسبة إلى الرفاه والمصلحة القومية، مثل الإسكان الاجتماعي واستصلاح الأراضي. وتُعد المؤسسة العسكرية نفسها (ويعدها كذلك الآخرون) المؤسسة الحكومية الوحيدة القادرة على قيادة المشاريع القومية على هذا النطاق وعلى توفير رأس المال اللازم، لاسيما البشري، وفي بعض الأحيان المالي. لكن استغلت المؤسسة العسكرية سلطانها الفعلي على المناطق الاستراتيجية لتكثيف الاستغلال التجاري ومتابعة الأنشطة الجانبية التي تقع في هذه المناطق أو تمر عبرها. وفي قيامها بكل ذلك، أزاحت المؤسسة العسكرية الجهات الاقتصادية المدنية الفاعلة، أكانت من القطاع العام أو الخاص، في قطاعات مثل الإنتاج السمكي والبنية التحتية للنقل وعملياته، والتصنيع الغذائي والتجارة الزراعية والواردات.

ترسيم المناطق نفعيًّا

كما ذُكر في الفصل 3، قدّم السيسي عرضًا مبكرًا عن المنفعة التجارية الناجمة عن التقسيم الاستراتيجي للمناطق من خلال تحديد منطقة شلاتين الحدودية الجنوبية كمنطقة عسكرية في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، ما مكّن وزارة الدفاع وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية من تطوير أنشطة المناجم بشكل كبير وتنمية اهتماماتها في المحاجر (بما في ذلك التنقيب عن الذهب). 116 وقد عزز السيسي مرة أخرى المنفعة عبر إصدار المرسوم الرئاسي 233 لعام 2016 الذي حدد 21 طريقًا قوميًّا على أنها "مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية". 117 بعض هذه الطرق كان يربط مناطقَ النشاط الاقتصادي العسكري، مثل مشروع استصلاح الأراضي في الفرافرة في الوادي الجديد ومنطقة تطوير شرق بورسعيد الجديد. ولكن العديد ربط منتجعات سياحية مرغوبة ومحطات الشحن والركاب الرئيسة في سيناء (من بورسعيد إلى شرم الشيخ ونويبع وطابا)، والصحراء الغربية (سيوة وواحات الصحراء الغربية)، ومحور القاهرة - البحر الأحمر (في عين السخنة). تقوم القوات المسلحة بدوريات في هذه الطرق السريعة، وتتعامل مع حوادث المرور، وتفرض الغرامات، وتحيل قضايا إلى المحاكم العسكرية. 118 في أيار/مايو 2017، كشف وكيل وزارة الصحة للشؤون المالية، اللواء سيد الشاهد، عن أن السيسي قد عهد إلى القوات المسلحة بإنشاء مراكز طوارئ على الطرق السريعة. 119

كما جعل القرار الرئاسي رقم 233 الأراضي التي تقع على عمق كيلومترين على جانبي الطرق القومية خاضعةً لسيطرة وزارة الدفاع، ما يمنحها فعليًّا امتيازًا تجاريًّا مهمًّا. من المؤكد أن هذه الأراضي ستشهد مدّ كابلات للإنترنت والاتصالات، وهو قطاع سعت وزارة الدفاع إلى الدخول فيه بقوة. وبالفعل، كانت شركة المصرية للاتصالات التي تمتلك البنية التحتية لهذا القطاع وتحتكره بحكم الواقع، قد أعلنت سابقًا أنها ستستبدل شبكة الكابلات النحاسية القديمة بكابلات الألياف البصرية بهدف الوصول إلى 4 ملايين عميل بحلول نهاية عام 2015. 120 علاوة على ذلك، وضمن صلاحياتها الحالية، يجوز لوزارة الدفاع منح إعفاءاتها المعتادة من ضريبتي الدخل والعقارات والرسوم الجمركية إلى الشركات االفائزة بالامتيازات التجارية في جوار الطرق السريعة هذه. ويعني هذا تحويلاً مرتقبًا للعائدات من الخزينة العامة، يضاف إلى تحويل الرسوم المستوفاة من مستخدمي الطرق السريعة المدنيين لصالح وزارة الدفاع. هذا، وفي احتوائه على تعليمات إلى القوات المسلحة بإزالة التعديات على أراضي الدولة المشمولة على جميع الطرق التي جرى تحديدها على أنها "قومية"، وليس على الطرق "استراتيجية" فحسب، ضمن المرسوم الرئاسي رقم 233 السيطرة العسكرية الفعلية على الشبكة الرابطة بين المدن ككل. 121

كان عضو البرلمان محمد أنور عصمت السادات من بين القلائل الذين اعترضوا بصراحة على القرار الرئاسي رقم 233، مجادلًا في بيان علني أنّ أي دخل من الطرق السريعة يجب أن يعود إلى الخزينة لأنها بُنيت بأموال حكومية للمساعدة في التنمية الاقتصادية. 122 أمّا الآخرون، فكانوا أكثر امتثالًا. فأستاذ المالية والاستثمار في جامعة القاهرة، هشام إبراهيم، ردّ يقول إنه يحق للقوات المسلحة الاستفادة تجاريًّاً "لأن الطرق التي شملها القرار تمّ إنشاؤها على أراضٍ كانت تابعة في الأصل للقوات المسلحة، وبالتالي فمن حقها أن تستفيد من التعويض على ذلك ". 123 لكن المراسيم اللاحقة عززت امتياز وزارة الدفاع. ففي 28 شباط/فبراير 2017، قضى المرسوم الرئاسي 77 بتحويل 60 ألف فدان من الأراضي الصالحة للزراعة في "الحزام الأخضر" الخاص بمدينة 6 أكتوبر إلى مدينة الشيخ محمد بن زايد. وقد حول ذلك الأراضي الزراعية إلى عقارات سكنية عالية القيمة في المناطق المجاورة لمحور روض الفرج الذي يربط وسط القاهرة بالضواحي النائية والمدن الملحقة، والطرق السريعة القريبة التي باتت تخضع الآن لرقابة وزارة الدفاع. 124 وبالمثل، منح القرار الرئاسي 101 الصادر في اليوم نفسه وزارة الدفاع 14596 فدانًا في محيط مجمع الضبعة النووي على الساحل الشمالي، ما يصل مرة أخرى في نهاية المطاف إلى محور روض الفرج، والذي ما لبث أن تحول إلى مغناطيس لزيادة مفرطة باستثمارات الأموال العامة. 125

وفي موازاة ذلك، خططت وزارة الدفاع لتوسعات في مجالات أكثر تقليدية للنشاط الاقتصادي. مثلٌ رئيسٌ على ذلك هو إطلاق مشروع لبناء "مدينة المطار" بالقرب من مطار القاهرة الدولي في آب/أغسطس 2014، بعد فترة وجيزة من الإعلان عن مخطط قناة السويس الثانية. فهو مصَمَّم كمجّمع مختلط للخدمات والسياحة والترفيه والرياضة بتكلفة مبدئية تراوح بين 60 و100 مليار جنيه مصري، وقد ادّعى المسؤولون أنه سيولد ما بين 100 و120 ألف وظيفة وسيحقق 422 مليار جنيه من الدخل بين تاريخ الانتهاء المتوقع منه في عام 2020 وبين عام 2040. 126 في هذه الحالة، كان المحركُ الرئيس للمشروع لواءات عسكريين متقاعدين، بمن فيهم اثنان ممن تعاقبوا على رئاسة مطار القاهرة الدولي، ورئيس هيئة الطيران المدني، ومحافظ الجيزة.

الإزاحة 1: إطعام مصر من السمك

عمدت وزارة الدفاع أيضًا إلى توحيد مصالحها في شبه جزيرة سيناء، وفي منطقة قناة السويس المجاورة، وفي دلتا النيل، وعلى الأخص من خلال غزو إنتاج الأسماك. ففي كانون الثاني/يناير2015، أعلن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية عن إنشاء مشروع جديد هو الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية بتكلفة مبدئية معلنة قدرها مليار جنيه مصري (100 مليون دولار عندها)، ثم وصلت إلى 1,7 مليار جنيه عند افتتاحها في تشرين الثاني/نوفمبر 2017. 127 كان يرأس الشركة اللواء حمدي بدين، الرئيس السابق للشرطة العسكرية الذي كان متهماً بأنه أمر باستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين وإجراء اختبارات العذرية بالإكراه على محتجزات في عام 2011. 128

وقد كشف تأسيس الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية عن اتجاهين مهمين. أولاً، على عكس قطاعات أخرى تشمل التمويل العام والإنتاج الاقتصادي التي تتشارك فيها هيئات مرتبطة بالمؤسسة العسكرية مع نظراء حكوميين مدنيين أو تتقاسم معهم القطاعات، قامت الشركة الجديدة بإزاحة شبه تامة للهيئة العامة لتنمية الموارد السمكية (وهي جزء من وزارة الزراعة)، حيث شهدت هذه الهيئة انخفاضًا في ميزانيتها بنسبة بلغت 75 في المئة تراكمية في الفترة ما بين عامي 2014 و2016. 129 وبحلول خريف عام 2015، كانت الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية التابعة لجهاز المشروعات قد تولت إدارة مزارع الأسماك في بحيرات البردويل والبرلس وناصر وفي أحواض التغذية على طول 120 كيلومترًا من قناة السويس وتفرّعاتها. 130 كانت هذه المناطق تخضع سابقًا للهيئة العامة، وقد فقدت السيطرة على 123500 فدان إضافي من الأراضي لاستزراع الأسماك في شرق بورسعيد الجديد، وبركة غليون (وهي تنتج 200 ألف طن من الأسماك سنويًّا)، وعين السخنة بحلول آب/أغسطس 2016، بناءً على أوامر السيسي. 131 وفي شباط/فبراير 7201، قام السيسي بتكليف بَدين بالإشراف على جميع الهيئات الحكومية المعنية بزيادة إنتاج الأسماك من بحيرة ناصر وبإنشاء أربعة مصانع جديدة لمعالجة منتجات التماسيح. 132 وفي تشرين الثاني/نوفمبر، افتتح الرئيس "مدينة سمكية صناعية" في بحيرة غليون تضم مصانع لتغذية الأسماك ("الأكبر في الشرق الأوسط") وإنتاج الثلج وعبوات "الفوم"، كما وافق على خطط لبناء منشآت مماثلة لها في بحيرة بردويل. 133

ثانيا، أصبحت الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية وسيلة إضافية لإدخال وزارة الدفاع في الروابط التجارية الخارجية للبلد. في الواقع، اتُّهمت الجهات العسكرية المصرية بالصيد عبر شباك الجر غير القانوني في قاع البحر في المياه الإقليمية اليمنية في البحر الأحمر منذ عام 2003، مستخدمة السفن المدنية. لكنها سعت مؤخرًا لدخول هذا السوق بشكل رسمي. ووفقًا لمحافظ البنك المركزي، طارق عامر، استوردت مصر سمكًا بقيمة 800 مليون دولار في عام 2016؛ وقد أكدت باستمرار التقارير الصحافية عن أنشطة الشركة بهدف زيادة الإنتاج المحلي لتلبية الطلب المحلي. 134 وللتأكيد على الأهمية المعلّقة على المشروع، قام محافظا كفر الشيخ وبورسعيد، وكلاهما لواء متقاعد، بجولة على مزارع الأسماك الجديدة مع بَدين في نيسان/أبريل وأيلول/سبتمبر2016.135

لكن إعلان بدين في آب/أغسطس عن حصول الشركة على أول رخصة تصدير لها لمشروع مشترك لتربية الأسماك مع شركة صينية كشف أيضًا عن دافع واضح للربح (بدلاً من إطعام مصر). 136وقد أعقب ذلك في تشرين الثاني/نوفمبر مشروعٌ مشترك مع شركة قبرصية تهدف إلى إنتاج 50 ألف طن من الأسماك سنويًّا للتصدير إلى الأسواق الروسية والفرنسية والبريطانية. ومن الأهمية بمكان، أنّ الشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية كانت تأمل في الحصول على قروض أجنبية بقيمة 400 مليون يورو من خلال شريكها القبرصي، ما يؤكد نمط استخدام المشاريع المشتركة كوسيلة لتأمين التمويل والتكنولوجيا. 137 ومن المفارقة أن بدين زار موريتانيا لتأمين حقوق الصيد للسفن المصرية في آذار/مارس 2017، وزار إريتريا في الشهر التالي للتوقيع على صفقات لاستيراد الأسماك، سواء في محاولة لتأمين احتياجات مصر حتى يتراكم الإنتاج المحلي، أو لالتقاط فرق السعر بين السمك المستورد من البحر الأحمر والمحيط الأطلسي من جهة والسمك المصري من الجهة الأخرى. 138 في الحالتين، كان هذا مثالًا آخر على قيام وزارة الدفاع بإدخال نفسها في منظومة التموين والإمداد في مصر.

الإزاحة 2: مدن الرخام والملح والرمل الأسود

شاء القدر أن يكمن معظم الثروة المعدنية في مصر في المناطق الاستراتيجية الواسعة التي تسيطر عليها وزارة الدفاع. تمت الإشارة إلى توغل الوزارة في التنقيب عن الذهب في منطقة شلاتين الحدودية مع السودان في الفصل 3، ولكن منذ عام 2013، أنشأت الوزارة أيضًا شبه احتكار على محاجر الرخام وإنتاج الملح والاستغلال التجاري للرمال. ويشكِّل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الأداة الرئيسة لهذه المشاريع التي تتركز بشكل أساسي في شبه جزيرة سيناء وبحيرة برلس في دلتا النيل.

في منتصف عام 2014، أطلق قطاع التعدين في جهاز مشروعات الخدمة الوطنية شركة مصر سيناء للتنمية الصناعية والاستثمار التي وافقت بعد ذلك على التعاون مع الجهاز في بناء مصنع للإسمنت ومرافق لإنتاج الرخام والزجاج في وسط سيناء. 139 وقد ورد أنّ وزارة الدفاع تملك حصة قدرها 51 في المئة في الشركة الجديدة التي أعلنت عن رأس مال لبداية التشغيل قدره 3 مليارات جنيه مصري. أما النسبة المتبقية البالغة 49 في المئة، فكان من المفترض أن يمتلكها ستة وثلاثون من شيوخ عشائر سيناء. 140 في كانون الثاني/يناير 2016، أعلن كل من جهاز مشروعات الخدمة الوطنية ومصر سيناء أنهما سيشيدان "مدينة للرخام والملح" تضم عشرة مصانع رخام وخمسة مصانع ملح مقابل استثمار بقيمة 1,2 مليار جنيه، وقد زعما أن "المدينة" ستوظف 13 ألف شخص خلال عام. 141 لكن في شهر أيار/مايو، حوّل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية شركة مصر سيناء إلى شركة فرعية جديدة هي الشركة الوطنية للرخام والغرانيت التي أعلنت عن خطط لبناء "أكبر" مجمع رخام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بتكلفة 800 مليون جنيه. 142

كانت مصر تصدّر 68 في المئة من إنتاجها من الرخام بشكله الخام وتفْقد فرصة تحقيق القيمة المضافة، وفقًا لما ذكره المدير العام لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية اللواء مصطفى أمين. لتصحيح ذلك، كان جهاز مشروعات الخدمة الوطنية على استعداد لإزاحة النظراء والمنافسين المدنيين جانبًا، أكانوا من القطاع العام أو الخاص. وحقيقة أنّه أصبح لدى الجهاز الآن سلطة منْح الشركات تراخيص الاستكشاف والاستغلال في قطاع التعدين كشفت مدى تهميش الجهاز للهيئات الحكومية في ما يتعلق بالسيطرة على الموارد الطبيعية في المناطق الاستراتيجية. 143 لكن الجهاز ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير في نيسان/أبريل 2017 عندما صدم أعضاء غرفة صناعة الرخام والمحاجر في اتحاد الصناعات المصرية بإبلاغهم أن الجهاز يقوم بتوسيع طاقته من ثلاث إلى سبع منشآت لتجهيز الرخام بهدف تزويد 80 في المئة من إجمالي إنتاج مصر. 144 وبحلول 1 آب/غسطس 2018، كان لدى مجمع الجهاز للرخام والغرانيت في بني سويف سبعة مصانع، مع خمسة مصانع أخرى مخطط لها في مناطق محاجر غنية أخرى تحت سيطرة وزارة الدفاع في سيناء وعين السخنة وأسوان بحلول منتصف 2019. 145

أما الاستثمار الموازي لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في استخراج المعادن الثقيلة والعناصر الأرضية النادرة من رواسب الرمال الغرينية في بحيرة البرلس على ساحل دلتا النيل، فمن المحتمل أن يكون أكثر ربحية. في منتصف عام 2016، أسس الجهاز الشركة المصرية للرمال السوداء كشركة عامة محدودة يملك فيها الجهاز حصة 61 في المئة، بهدف معلن هو تلبية الاحتياجات المحلية والحصول على حصة 30 في المئة من أسواق التصدير. 146 الرهان كبير: فالجهاز يسيطر على موقع الرمال السوداء الوحيد في مصر، حيث يقدر الاحتياطي بحوالي 250-285 مليون طن، ويتوقع أن ينتج بين 3 و5 في المئة من إجمالي إمدادات العالم من التيتانيوم والزركونيوم خلال العقد المقبل. 147

ووفقًا لمحافظ كفر الشيخ، حيث المحافظة لها حصة في شركة الرمال السوداء، من المتوقع أن يحقق المشروع 176 مليون دولار من العائدات السنوية لخزينة الدولة ما إنْ يكتمل الإنتاج. 148 ليس من المستغرب أن الشركة جذبت استثمارات أجنبية: فبعد صفقة مع إحدى شركات الاستخراج الأسترالية في أيار/مايو2018، جرى فورًا تأسيس شركة مصرية صينية مشتركة لبناء مصنع ثانٍ للاستخراج. 149 في كانون الثاني/يناير 2019، وافق البرلمان على قانون اتفاقية شركة الرمال السوداء المصرية الذي يجيز لها (إلى جانب هيئة المواد النووية) استكشاف واستخراج ومعالجة معادن الرمال السوداء ومشتقاتها في جميع أنحاء مصر، ما يؤدي فعليًّا إلى منح شركة تملكها المؤسسة العسكرية، إلى حد كبير، احتكارًا تجاريًّا. 150

منظومة الاستيراد والأزمات التنموينية

يُظهِر الكثير مما سبق الانخراط المتزايد للهيئات العسكرية والمؤسسات المرتبطة بها في منظومة التجارة الخارجية لمصر. إن التقلبات في المعروض من السلع الأساسية في الأسواق المحلية بعد عام 2013، التي تأثرت بالانخفاض الحاد في قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية وما تلاه من نقص كبير في سيولة الدولار في السوق المحلي وتضخم الأسعار في عام 2015، قدمت للاقتصاد العسكري التحفيز والذريعة، على حد سواء، للتوسع أكثر في التجارة.

إن التقلبات في المعروض من السلع الأساسية في الأسواق المحلية بعد عام 2013، قدمت للاقتصاد العسكري التحفيز والذريعة، على حد سواء، للتوسع أكثر في التجارة.

اللحوم والدواجن

كما هو مذكور في الفصول السابقة، يتركّز الكثير من الأنشطة العسكرية في مجال التجارة الخارجية على استيراد ونقل وبيع الماشية واللحوم من السودان المجاور. إن هذا قطاع تجاري رئيس، وذلك بسبب حجم السوق المصري فضلًا عن ارتفاع نسبة اللحوم في النظام الغذائي الوطني منذ تحرير الواردات في عهد السادات في سبعينات القرن العشرين، فضلًا عن وجود عدد كبير من العملاء المضمونين مثل القوات المسلحة والجهاز البيروقراطي الهائل للدولة. ولأن التجارة مع السودان تشمل نهر النيل وساحل البحر الأحمر وتخص حكومة أجنبية تربطها بمصر علاقات سياسية معقدة، وهذه جميعها تُعتبر مؤثرة على الأمن القومي، فتنخرط وزارة الدفاع ومديرية المخابرات العامة بقوة وراء الكواليس في تسهيل الوصول إلى السوق والصفقات.

تقوم شركات القطاع الخاص بالكثير من الاستثمارات التجارية الحقيقية، إن لم تكن جميعها، مثل بناء المسالخ وزراعة الأعلاف في السودان، في حين أن وزارة الدفاع والهيئات التابعة لها تعمل بشكل رئيس في مجال المشتريات والمبيعات بالتجزئة. لكن كلاهما متشابكين. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، الشريك الخاص المألوف لوزارة الدفاع، أي شركة "القلعة القابضة"، التي استثمرت بكثافة في النقل المتعلق بالتجارة. وتملك شركة "كير مارين" (التابعة للقلعة) اثنين من الموانئ النهرية في السودان، اللذين تصدّر منهما المنتجات الصناعية والزراعية إلى مصر. 151 وفي عام 2010، قام اللواء المتقاعد في سلاح الجو الذي يترأس الشركة الوطنية القابضة لوسائل النقل (التابعة لشركة القلعة) والتي تمتلك أربع شركات تابعة موجهة نحو التجارة مع جنوب مصر والسودان، بالتفاوض على شراء ثلاثة موانئ في جنوب نهر النيل من الهيئة العامة للنقل النهري التي يرأسها زميل متقاعد من القوات المسلحة. 152

وقد ساعدت الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة على تبرير هذا التوجه. ففي آب/أغسطس 2016، أثنى السيسي على وزارة الدفاع "لخفض الأسعار من خلال الإدارات ذات الصلة التي تستورد الماشية واللحوم المجمدة والدواجن دون وسطاء وبأسعار منخفضة". 153 وقد كان جهاز مشروعات الخدمة الوطنية أصلًا مشتركًا بشكل علني في استيراد اللحوم للسوق المحلي، في حين أن هيئة الإمداد والتموين في وزارة الدفاع ربما فعلت الشيء نفسه تحت ستار المشتريات للقوات المسلحة. 154 بالفعل، تدفقت إيرادات ثانوية إلى وزارة الدفاع من بناء شبكة من المسالخ التي تقدم اللحوم بأسعار مخفضة للمواطنين، في حين أن مديرية المخابرات العامة قد أقامت شركات واجهة تتاجر باللحوم. 155 من المحتمل أن يكون تعيين الرئيس السابق لهيئة الإمداد والتموين التابعة في أيلول/سبتمبر2016، اللواء علي المصيلحي، وزيرًا للتموين والتجارة الداخلية قد ساعد في انخراط الهيئات العسكرية ومديرية المخابرات العامة في منظومة الإمداد المدني بدرجة أكبر.

أما التبعات بالنسبة للأسواق المحلية، فكانت مختلطة في أحسن الأحوال. في وقت سابق من عام 2016، قام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية وهيئات عسكرية أخرى باستغلال الإزالة المفاجئة لجميع التعرفات الجمركية على استيراد الدجاج وقطع الدجاج لإغراق الأسواق المحلية بكميات كبيرة من الدجاج المستورد، ما أدى إلى تقويض الشركات الخاصة. 156 رداً على احتجاجاتها، أعلنت وزارة التموين والتجارة الداخلية أنها كانت قد طلبت في وقت سابق من "هيئات سيادية"، حدّدتها لاحقًا على أنها هيئات استيراد تابعة لوزارة الدفاع، استيراد الدجاج لتلبية الطلب المحلي قبل شهر رمضان في حزيران/يونيو2017. 157 لكن الواردات أسفرت عن تخمة أدت إلى انخفاض الأسعار لبقية العام، ما أثار المزيد من الاحتجاجات من جانب جمعية منتجي الدواجن المصرية. 158

كشفت الطريقة التي هرعت بها الهيئات العسكرية لإنقاذ البلاد عن التفاعل المعقد بين السياسة والأعمال والاعتبارات المتناقضة التي تشكل السياسة التجارية والاقتصادية. كما أنها خلقت فرصًا مربحة لضباط القوات المسلحة والوسطاء للانتفاع. ففي مطلع عام 2017، كتب الصحافيان الاستقصائيان محمد حسني وأسامة الصياد زاعميْن أنّ مستوردي الدواجن واللحوم من القطاع الخاص وجدوا أن شحناتهم قد تتأخر في الموانئ لأسباب تتعلق ظاهريًّا بالصحة والسلامة ما لم يدفعوا رشاوى لضباط القوات المسلحة المعنيين، أو ما لم يقوموا بإحضار الشحنات إلى موانئ خاضعة للسيطرة العسكرية في سيناء من دون المرور بالجمارك. 159

دخول منظومة القمح

الأزمة التي حصلت في إمدادات القمح في عام 2016 قدمت أبرز دليل على الدور المتنامي للمؤسسة العسكرية في الإدارة الاقتصادية والديناميات الجديدة المتأتية عن ذلك. كان القطاع المحكوم من قبل العدد الكبير من الهيئات الحكومية والقواعد المعقدة يتّسم أصلًا باختراق واسع النطاق من قبل الضباط المتقاعدين، وفساد متعدد الأوجه، ومنافسة شبيهة بمنافسة المافيا بين العصابات المتخاصمة تدور حول الواردات والمشتريات والإمدادات المحلية والتخزين. 160 فكانت المكاسب المحتملة كبيرة للغاية. إذ تُعد مصر أكبر مستورد من القمح في العالم حيث استوردت ما وصل إلى 12 مليون طن في الاثني عشر شهرًا حتى تموز/يوليو 2018 و12,5مليون طن في العام التالي، ما يمثّل حوالي 4 في المئة من إجمالي واردات البلاد. 161 ولتشجيع المزارعين المصريين على زراعة القمح، كانت الحكومة دائمًا تقوم بشرائه بسعر ثابت أعلى بكثير من الأسعار الدولية: بفارق 84 دولارًا أكثر مقابل طن القمح المنتج محليًّا في عام 2014، و180 دولارًا في عام 2016. 162 كما أن الحكومة هي المشتري الرئيس الوحيد من القمح المحلي، فضلًا عن تشغيل جميع أشكال التخزين الداخلي على نطاق واسع والكثير من التخزين في الموانئ البحرية الرئيسة.

الأزمة التي حصلت في إمدادات القمح في عام 2016 قدمت أبرز دليل على الدور المتنامي للمؤسسة العسكرية في الإدارة الاقتصادية والديناميات الجديدة المتأتية عن ذلك

ليس من المستغرب الاعتقاد بأن كميات كبيرة من الطحين والقمح يُعاد بيعها في السوق السوداء، كما أشارت مراجعة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في عام 2015. 163 وقد أكّد تحقيق برلماني في عام 2016 أن المسؤولين الحكوميين وتجار القمح في القطاع الخاص خلطوا الحبوب المستوردة الرخيصة مع الحبوب المحلية المدعومة واستولوا على الفرق في السعر. 164 ربما تكون هذه الممارسة غير المشروعة قد أسهمت في التحول الكبير في نسبة القمح المستورد إلى القمح المنتج محليا، من 1 مقابل 1 في عام 2002 إلى 3 مقابل 1 بحلول عام 2017. 165 وأفاد مراسل رويترز إريك كْنِشت عن تقديرات تقول إن هذه الممارسة "تمثل حوالي مليونيْ طن من الإمدادات التي اشترتها الحكومة في العام الماضي [2015] أي ما يعادل خسارة ما يقارب ملياري جنيه مصري (ما كان يعادل عندها 225 مليون دولار)". 166 للتستر عن ذلك، قام المسؤولون بتزوير الكميات المخزنة وبالغوا في الخسائر بسبب التعفن والقوارض والسرقة. قالت لجنة تقصي الحقائق البرلمانية إنها اكتشفت عمليات احتيال تبلغ 119 مليون جنيه في أول اثنين من مرافق التخزين التي فتشتها، وادّعى تقرير صحافي منفصل أن "إكراميات" تصل إلى 700 ألف جنيه قدّمها رؤساء شركات التخزين لكبار المسؤولين في الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات وفي وزارات التموين والزراعة والصحة.167

بوجود كل هذا على المحك، لعبت وزارة الدفاع دورًا واضحًا وحازمًا بشكل متزايد في هذا القطاع منذ عام 2013. في البداية، كان الضباط المتقاعدون منخرطين بشكل أساسي. وفي شباط/فبراير 2014، قام وزير التموين والتجارة الداخلية الجديد اللواء (شرطة) محمد أبو شادي بحل مجلس إدارة الشركة القابضة للتخزين والصوامع (وهي ثاني أهم هيئة حكومية تتولى استيراد وتخزين القمح) لفشل المجلس في تحقيق الأهداف وللخسائر التي تكبدها والبالغة 89 مليون جنيه، وقام بتعيين لواء آخر رئيساً جديدًا للشركة. 168 وأُبعد أبو شادي نفسه في تعديل وزاري بعد ذلك بفترة وجيزة إثر إلقاء القبض على مدير مكتبه بتهمة فساد، كما أفيد. وأعيد رئيس الشركة المُقال إلى منصبه وعُين لواء آخر نائبًا له. 169 وقد ظهر ذلك على خلفية تعهد الإمارات العربية المتحدة بتمويل بناء 25 صومعة قمح بسعة تخزينية تبلغ 1,5 مليون طن. ففي آذار/مارس، اشتكت الإمارات من أن مناقصة لبناء أربع صوامع قد تضخمت كلفتها بنسبة 300 في المئة، فطالبت بإعادة إصدارها ومراقبتها من قبل وزارة الدفاع. 170 لم يكن واضحًا ما إذا كانت الشركة القابضة أو وزارة الاستثمار التي تملكها على خطأ. لكن في حزيران/يونيو، جرى التعاقد مع الهيئة العربية للتصنيع لبناء الصوامع المتبقية الممولة من الإمارات العربية المتحدة، واختيرت لتشغيلها الشركة العامة للصوامع والتخزين (إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة للصوامع والتخزين ويرأسها لواء سابق من القوات المسلحة). 171

وصلت الأمور إلى ذروتها في منتصف عام 2016 عندما أعلنت وزارة التموين والتجارة الداخلية أن مشترياتها من القمح المحلي قد قفزت إلى ما يقارب 5 ملايين طن، من متوسط سنوي يتراوح بين 3,0 و3,5 ملايين طن على مدار العقد الماضي. 172 ظاهريًّا، فإن الشك في أنه جرى تلاعب بالبيانات لارتكاب عمليات احتيال واسعة النطاق، هو ما دفع البرلمان إلى بدء التحقيق، وقد استشهدت وكالة رويترز بادعاءات تقول إن أكثر من مليوني طن من الإجمالي ربما كانت موجودة على الورق فقط. 173 لكن التدخل البرلماني أشار أيضًا إلى أن جماعات المصالح الأمنية والعسكرية المتنافسة والفصائل البرلمانية التي تمثلها نقلت تنافسها إلى العلن. في أي حال، تدخّلت وزارة الدفاع فورًا، على نحو غير معتاد، ورافق لجنة التقصي البرلمانية ضابط كبير، سواء بسبب تورط الضباط المتقاعدين أو للإشارة إلى رغبة وزارة الدفاع في دخول القطاع بصورة مباشرة. 174 كان اللواء شريف عادل باسيلي قد أشرف سابقًا على إنشاء صوامع تمولها الإمارات العربية المتحدة نيابة عن الهيئة الهندسية في القوات المسلحة، وجرى تعيينه عقب التحقيق لرئاسة الشركة القابضة للصوامع والتخزين، وهي جزء من وزارة التموين. 175

وما يتصف بنفس الأهمية هو أن وزارة الدفاع باتت منخرطة بشكل مباشر في إصلاح نظام التخزين المتقادم في مصر الذي يعتمد بشكل كبير على الشونات (عنابر للتخزين في الهواء الطلق معرضة للتلوث والرطوبة والطيور والقوارض)، ما يؤدي إلى فقدان ما بين 10 و50 في المئة من القمح المنتج محليًّا. 176 في الواقع، زعمت القوات المسلحة أنها قامت بالفعل ببناء 47 صومعة حديثة للحبوب بين عاميْ 2013 و2015 (بتمويل من الإمارات العربية المتحدة)، وفي آذار/مارس 2014، تولت إدارة بناء أربع صوامع إضافية. 177 وفي أواخر تموز/يوليو 2016، استحوذت على مفاوضات مع شركة الأمن الغذائي الأميركية "شركة بلومبرج لتخزين القمح" لبناء 300 مستودع قادر على تخزين 2,35 مليون طن من الحبوب، بتكلفة 250 مليون دولار (بتمويل من منحة حكومية أميركية). 178 دخلت الشركة الأميركية أصلًا في السوق المصري في منتصف عام 2014، وقد ورد أنها اتّفقت مع السيسي على إقامة 164 منشأة تخزين جديدة بحلول موسم الحصاد 2015، في صفقة تبلغ قيمتها 350 مليون دولار. 179 وكانت الشركة تتوقع أن تتولّى كامل محصول مصر بحلول عام 2018، عندما يكون المشروع قد قلّل قيمة الهدر بمقدار 550 مليون دولار في السنة وخفّض الواردات، ما يوفر ثمانية مليارات دولار أخرى بالعملة الصعبة على مدى خمس سنوات. 180

لكن هذه الآمال تلاشت بسبب مقاومة وزارة التموين التي كانت شركاتها تملك الصوامع والحظائر، حيث كان يتعين تخزين جميع القمح الذي تشتريه الدولة. 181 وقد قامت شركة بلومبرج أخيرًا بتركيب 93 سقيفة تخزين من الفولاذ تتسع لما مجموعه 744 ألف طن بحلول موسم حصاد عام 2016 (أي بعد عام من التأخير). ولكن حتى هذه لم يكن ممكنًا تشغيلُها لأن الشركة القابضة للصوامع والتخزين التابعة للوزارة فشلت في تزويد السقيفات بالكهرباء، وهذا مثال آخر على التعطيل البيروقراطي من قبل جماعات المصالح الأخرى في قطاع القمح. 182 أدى قرار وزارة الدفاع بالتعامل مباشرة مع الشركة الأميركية في أواخر تموز/يوليو إلى إظهار الصراع الذي كان يدور خلف الكواليس. عندما حذرت شركة بلومبرج من أنها ستخرج من السوق المصري ما لم يتم وضع المرحلة الثانية من البناء تحت إشراف الهيئة الهندسية في القوات المسلحة، رفضت وزارة التموين مواصلة المشروع. 183 ثم بعد بضعة أسابيع، استقال خالد حنفي وزير التموين آنذاك فجأة، واستُبدل في أيلول/سبتمبر باللواء مصيلحي. 184

إذن، ربحت القوات المسلحة، جزئيًّا. إذْ قامت الحكومة بجعل أسعار شراء القمح المحلي متماشية مع القمح المستورد في كانون الثاني/يناير 2017، ما قلل من نطاق الربح من فروق الأسعار، لكن الحل النهائي لمشكلة التخزين جرى تأجيله. 185 باتت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة الآن مسؤولة عن تحديد حلول التخزين، إلى جانب مركز البحوث الزراعية الحكومي ووزارة الإنتاج الحربي الذي تم التعاقد معها في تشرين الأول/أكتوبر 2017 على توريد وصيانة الآلات ومعدات المراقبة في مرافق التخزين. 186 أنهت شركة بلومبرج أخيرًا المرحلة الأولى من المشروع بتسليم 105 صوامع في آب/أغسطس، وأعلنت أنها تنتقل إلى المرحلة الثانية لبناء 300 شونة محدّثة بتكلفة 150 مليون دولار، في مشروع مشترك مع الهيئة الهندسية في القوات المسلحة، وقد جرى تمويل المشروع، جزئيًّا على الأقل، من صندوق تحيا مصر. 187 لكن عادت الشركة ومقاوليها من الباطن في الولايات المتحدة لتكشف في آب/أغسطس 2018 أن الحكومة المصرية قد تأخرت في سداد مدفوعات العقود خلال الأشهر الاثنين والعشرين الماضية وبقي عليها تسديد تكاليف مباني وأنظمة الشحن الجوي إلى مصر منذ عام 2015. الأسوأ من ذلك أنها ادّعت أنّ مسؤولي الحكومة المصرية "قدموا بشكل غير قانوني وثائق التصميم والهندسة الخاصة بهم لشركات من دول أخرى" بما في ذلك روسيا. 188

مضاعفة أزمات التزويد

كشفت أزمة القمح توكيد وزارة الدفاع المتزايد على الانخراط في الشؤون الاقتصادية، لكنها كشفت أيضًا أن الوزارة ظلت مقيدة بسبب جماعات المصالح البيروقراطية والخاصة الأخرى القوية. وسواء كان هدفها الرئيس هو التمسك بقطاع مربح أو حل خللٍ كبير في مجال التموين والتمويل العام، فقد أتاح التدخل لوزارة الدفاع أفضلية تجارية أيضًا. 189 خلافًا لذلك، فإن القطاع الصحي يعكس نتيجة التقارب بين الجهات العسكرية ونظيراتها المدنية، وإنّ تمّ مزج الهدف الرامي لحل مشكلة التموين وتحقيق التوفير مع ذلك الهادف لتسجيل الأرباح التجارية.

كشفت أزمة القمح توكيد وزارة الدفاع المتزايد على الانخراط في الشؤون الاقتصادية، لكنها كشفت أيضا أنها ظلت مقيدة بسبب المصالح البيروقراطية والخاصة الأخرى القوية.

وكما أسهب الباحث في الشؤون المصرية أيمن إمام فإن وزارة الدفاع حظيت بحق حصريّ من وزارة الصحة في عام 2016 لشراء اللوازم الطبية، بما في ذلك المستوردَة، بالنيابة عن الحكومة، بما أصبح يُعرف بـ"صفقات برلين". 190 وقد يكون هذا قد تمّ بموجب المرسوم الرئاسي رقم 82 الصادر عام 2013 والذي أعفى وزارة الصحة بالكامل من الامتثال للعتبة المالية السابقة التي كانت تحد إصدار العقود بالأمر المباشر عند شراء المعدات الطبية ذات "طبيعة استراتيجية"، والتي اعتُبر أنها تشمل اللقاحات والمحاليل الوريدية والأدوية وحتى حليب (لبن) الأطفال. انبثقت "صفقات برلين" عن مفاوضات تجارية في العاصمة الألمانية في 2015 بين مُوَردّين تجاريين مختلفين أجانب، أسفرت عن تكوين لجنة الشراء الموحدة برئاسة وعضوية عدة لواءات من القوات المسلحة. وقامت هذه اللجنة بتوسيع نطاق مسؤولياتها حيث تحولت في غضون عام من خدمة المنشآت العسكرية إلى تزويد قطاع الصحة الحكومي عامة. لقد بات دور وزارة الدفاع كوسيطة، جذابًا على نحو خاص نظرًا لإعفاء مستورَداتها من الرسوم الجمركية ولقدرتها على تخليص أو تجاوز القيود البيروقراطية. إنّ سلطتها التي تتيح لها منح العقود بالأمر المباشر تُكسبها ميزة إضافية، إذ تسمح لهيئات الصحة أن تعجّل من إنفاق ميزانيتها المتبقية في نهاية السنة المالية؛ وهي بمثابة عقود لا يعود بإمكان أطراف ثالثة الطعن فيها بموجب قانون تم تشريعه في عام 2014.

كان انخراط المؤسسة العسكرية رسميًّا في القطاع الصحي المدني قد تأتّى من استجابتها لأزمة تموين أخرى، وهذه المرة أزمة حليب (لبن) الأطفال، وهي خطوة كانت بمثابة رأس الحربة لدخول أوسع في قطاع الإمدادات الطبية. وفي 20 أيلول/سبتمبر2015، أصدرت الشركة المصرية لتجارة الأدوية التي تملكها الدولة إعلانًا مدفوعًا في إحدى الصحف لتشكو من أن وزارة الصحة نقلت ترخيصها لاستيراد الأدوية وتوزيعها إلى "هيئة سيادية"، وناشدت السيسي التحرك لحماية وظائف موظفيها الخمسة آلاف. أكدت وزارة الدفاع أنها قد حلّت محل الشركة بالفعل، استجابة لارتفاع الأسعار من قبل التجار من القطاع الخاص، وأعلنت عن استئناف بيع حليب (لبن) الأطفال بنصف السعر. 191بعد ذلك، صرح وزير الإنتاج الحربي، محمود العصّار، أن الوزارة ستنتج حليب (لبن) الأطفال محليًّا، غير أنها تولّت استيراده فحسب، بدلاً من ذلك. وقد لاحظ النقاد أنه لا يزال بإمكان الهيئات العسكرية جني الأرباح على الرغم من البيع بسعر مخفض لأنها لا تدفع الرسوم الجمركية على الواردات، وادعوا أن وزارة الصحة قد توقفت عن تقديم عطاءات مفتوحة لتراخيص استيراد حليب (لبن) الأطفال، ما منح وزارة الدفاع فعليًّا احتكارًا على السوق برمّته. وبغض النظر عن مصداقية هذه الادعاءات، تم بيع حليب (لبن) الأطفال بتكلفة إضافية بلغت 28 في المئة بحلول شباط/فبراير 2019، في وقت تم تسويقه تحت وسم صندوق تحيا مصر.192

وسّعت وزارة الدفاع مشاركتها في استيراد وإنتاج المستلزمات الطبية بسرعة خلال العام التالي، بموازاة تضخيم دعائي كبير من قبل وسائل الإعلام والمسؤولين للنقص المزعوم فيها وتصويرها كأزمات إضافية. جاءت أولى هذه الأزمات في أعقاب تقرير أصدره منبر إعلامي تابع للنظام في كانون الثاني/يناير 2016 اتهم فيه "مافيا" و"أباطرة" القطاع الخاص برفع سعر الدعامات المستخدمة في جراحة القلب بغير مبرر، و"تجار الشنطة" باستيراد دعامات منخفضة الجودة غالبًا ما تبين أنها مغشوشة. 193 كان هذا بمثابة مقدمة لإعلان المؤسسة العسكرية في شهر حزيران/يونيو أنها ستوحّد عمليات شراء الدعامات والصمامات والقسطرات في مزاد دولي واحد، ما أدى إلى إزاحة الشركات الثلاث التي يُزعم أنها تتحكم في السوق بأكمله، وإلى تزويد جميع المستشفيات العامة بتخفيض كبير للكلفة في السنة المالية الجديدة التي تبدأ في 1 تموز/يوليو. 194 وفي 26 آب/أغسطس، أكد مساعد وزير الصحة للشؤون المالية، وهو لواء متقاعد من القوات المسلحة أنّ استيراد جميع المستلزمات والأجهزة الطبية ستقوم به إدارة الخدمات الطبية وهيئة التسليح بالقوات المسلحة وحدها، وأنّ هذا من شأنه أن يوفر 50 في المئة على العملاء والمرضى المحليين. 195

استمر هذا الاتجاه بإعلان الشركة القابضة للحقن واللقاحات في شهر تشرين الأول/أكتوبر عن توقيعها عقدًا بقيمة 140 مليون جنيه مع وزارة الإنتاج الحربي والشركة العربية للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية لإنتاج المحاليل الطبية. ومع أن الوزارة ادعت أنها تهدف بذلك إلى سد العجز في العرض المحلي، فقد أعلنت أنها سوف تقوم بتصديرها أيضًا. 196 في نفس الوقت، أصدر السيسي تعليماته إلى القوات المسلحة لإنتاج أدوية مشتقات الدم تُستخدم لعلاج السرطان وأمراض الكبد عن طريق الحقن الوريدية نيابة عن الشركة المصرية لخدمات نقل الدم، متذرعًا مرة أخرى بسبب نقص مفترض في السوق المصرية. 197 ووفقًا لعضو في غرفة الصناعات الهندسية، لم يرغب في ذكر اسمه، فإن وزارة الدفاع تستورد حتّى القطن الطبي للمستشفيات. وسواء من أجل الاستجابة للأزمة المفترضة في المستلزمات الطبية أو من أجل الدخول في قطاع مربح، فإن الهيئة القومية للإنتاج الحربي طلبت الحصول على إذن من الحكومة لتأسيس الشركة المصرية الوطنية للمستحضرات الدوائية كشركة مساهمة محدودة في كانون الثاني/يناير 2017. 198

في غضون ذلك، حظيت دائرة الخدمات الطبية في وزارة الدفاع بعدد متزايد من العقود الحصرية من الجامعات التي تديرها الدولة لتلبية احتياجاتها، وبحلول أيلول/سبتمبر 2016، زاد عدد المستشفيات والعيادات العسكرية التي تخدم الجمهور العام بنسبة 50 في المئة، من 30 في عام 2013 إلى 45، ويقال إنها توفر الرعاية الصحية إلى 500 ألف شخص. 199 وقد زعمت الهيئة الهندسية في القوات المسلحة أيضًا أنه تم التعاقد معها على بناء ما يقارب 40 مستشفى ومركزًا طبيًّا مدنيًّا في جميع أنحاء مصر ما بين عامي 2013 و2015، وأنها قامت ببناء خمسة مستشفيات جديدة وتحسين مستوى ثلاثة، وأنها بدأت العمل في 54 منشأة طبية إضافية في صعيد مصر عام 2018. 200

تنافست الهيئات العسكرية على دخول هذا المجال المربح. فقد أمعن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالتسويق لخدمات طبية وخدمات صيانة، كما عرض ترتيبات تمويل للعمولات التي تراوح نسبتها بين 8 إلى 15 في المئة. 201 وفي تموز/يوليو2017، على سبيل المثال، فاز الجهاز بعقود لتوفير حزم خدمات شاملة للمستشفيات بقيمة 600 مليون دولار من اتحاد المستثمرين العرب، ولبناء مستشفى تخصصي من جامعة بَنْها. 202 كما انضمت وزارة الإنتاج الحربي، حيث حصلت على عقد للإشراف على بناء ثلاثة مستشفيات لنقابة المحامين في تشرين الأول/أكتوبر 2018. 203 وبعد شهرين، تعاقدت الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية مع إدارة الخدمات الطبية في وزارة الدفاع للسماح لأعضائها بتلقي الرعاية الصحية في أي مستشفى عسكري. 204 وفي شباط/فبراير 2019، قامت وزارة الإنتاج الحربي بمقاربة المستثمرين الإماراتيين بخطة من أجل إقامة مصنع للتخلص من النفايات الطبية. 205

الوصول إلى "الفواكه المتدلية"

أدت هذه التدخلات في منظومة الاستيراد والتموين المحلي حتماً إلى ظهور شكاوى بمنافسة المؤسسة العسكرية للقطاع الخاص. في بعض الحالات، بدا الاعتماد على الهيئات العسكرية أمرًا لا مفر منه نظرًا لتزايد تدهور مؤسسات الدولة وعدم الكفاءة أو الفساد (أو الاثنين معاً) في الجهاز البيروقراطي المدني. لكن سعْيَ وزارةِ الدفاع إلى الحصول على حصة كبيرة في قطاعات مربحة مثل الهواتف المحمولة وتوفير خدمات الإنترنت بعد عام 2013 يشير إلى أنها كانت تسعى بنشاط للوصول إلى "الفواكه المتدلية"، على حد تعبير أحد المطلعين على القطاع. 206 وكما هو متوقع، فإنه يتم تبرير هذا السلوك بحجة الأمن القومي، ولكنه إلى جانب يجمع بالمثْل الدافع لتوليد الإيرادات، بناءً على طلب السيسي، مع الانتهازية التجارية، مثلما هو الحال بالنسبة إلى الدور المتزايد للجهات الفاعلة العسكرية في القطاع الديني - أي الأوقاف العقارية وتنظيم الحج والسياحة ذات الصلة.

لكن سعْيَ وزارةِ الدفاع إلى الحصول على حصة كبيرة في قطاعات مربحة مثل الهواتف المحمولة وتوفير خدمات الإنترنت بعد عام 2013 يشير إلى أنها كانت تسعى بنشاط للوصول إلى "الفواكه المتدلية"،

سوق الهواتف المحمولة

لسنوات عديدة، كان انخراط وزارة الدفاع في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية يقتصر على عضوية مجلس إدارة الشركة المصرية للاتصالات التي جرى تحويلها إلى شركة مساهمة في عام 1998، لتحل محل المؤسسة الوطنية للاتصالات بجمهورية مصر العربية. احتفظت المصرية للاتصالات باحتكارها الهواتف الثابتة، لكن كانت هناك شركتان (ولاحقًا ثلاث) تابعتان للقطاع الخاص تسيطران على سوق الهواتف المحمولة. 207 ابتداءً من ذاك التاريخ، إن لم يكن في وقت أسبق، صار رئيس هيئة سلاح الإشارة في القوات المسلحة ينضم تلقائيًّا إلى مجلس إدارة المصرية للاتصالات. بالإضافة إلى ذلك، انضم متقاعدون من عسكريين آخرين إلى المجلس أو شغلوا مناصب عليا في الشركة. 208 ولكن مع هذا الاستثناء، كان الصحافيان في جريدة "فاينانشال تايمز"، تشارلز كلوفر ورولا خلف، محقّيْن في تصريحهما في عام 2011 بأن المؤسسة العسكرية "ليس لها وجود بالمرتفعات الحاكمة [أي أهم القطاعات المُدرّة للدخل الاقتصادي] للاقتصاد المصري، مثل الاتصالات أو النفط والغاز الطبيعي". 209

بقي ذلك التشخيص صحيحًا حتى الانقلاب العسكري في عام 2013، لكن سعت بعده وزارة الدفاع لتولي هذا الموقع القيادي. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2014، أكد وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات آنذاك عاطف حلمي أن وزارة الدفاع ستلعب دورًا رئيسًا في تشكيل شركة وطنية للبنية التحتية للاتصالات، إلى جانب هيئات أخرى في الدولة ومشغلي الاتصالات. وأنكر أن تكون لدى الوزارة حصة مسيطرة، لكن الرئيس التنفيذي لشركة اتصالات مصر للهواتف المحمولة، جمال السادات، نقض ذلك علنًا. 210 وقد حدد تقرير صحفي في ذلك الوقت حصة وزارة الدفاع بمبلغ 255 مليون جنيه مصري، أو 51 في المئة من إجمالي رأس مال بدء التشغيل البالغ 500 مليون جنيه (حوالي 70 مليون دولار في ذلك الوقت). وكان المفترض أن يترأس لواء من القوات المسلحة مجلس إدارة الشركة الذي سيضم، بالإضافة إلى ذلك ممثلين عن وزارة الداخلية، أجهزة أمنية مختلفة، وستقوم شركات عسكرية بمدّ كابلات الألياف البصرية في جميع أنحاء مصر، وستكون لدى وزارة الدفاع حقوق الإشراف والمراقبة عليها. 211 وبموجب الهيكلية الجديدة، ستُنهي شركات الهاتف المحمول الثلاث (أورانج وفودافون واتصالات) عقود الاستئجار مع المصرية للاتصالات التي تبلغ قيمتها مليار جنيه سنويًّا، وبدلاً من ذلك سوف تدفع كلٌّ من هذه الشركات 300 مليون جنيه لشركة البنية التحتية الجديدة. 212

في أيار/مايو 2015، جرى الإبلاغ عن أن وزارات الدفاع، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والمالية، والكهرباء، والنقل تضع اللمسات الأخيرة على خطط لاستثمار 3,8 مليارات جنيه مصري في المشروع الذي قدرت إحدى الدراسات أنه سيدرّ إيرادات إجمالية قدرها 30 مليار جنيه على مدى 15 عامًا. 213 كانت المصرية للاتصالات قد اعترضت أصلًا على الخطة في منتصف عام 2014، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى سعيها لدخول السوق كمشغّل للهاتف المحمول. 214 تنامت المعارضة من جهات متنوعة وسط تقارير غير مؤكدة بأن وزارة الدفاع كانت تطلب 60 في المئة من رأس مال الشركة المقترح. 215 وفي حزيران/يونيو 2015، انسحبت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، معلنةً أن المصرية للاتصالات ستؤجر بدلاً من ذلك بنيتها التحتية (بسعر مخفض) وستحصل على ترخيص خاص بها للهاتف المحمول من الجيل الرابع.

وقد أتاح ذلك فرصة تجارية لوزارة الدفاع: فمن أجل أن تصبح مشغّلة، كان يترتب على المصرية للاتصالات بيع حصتها البالغة 45 في المئة في شركة "فودافون مصر". ووفقًا لأحد المطلعين النافذين، فإن المشتري المقصود كان وزارة الدفاع، ما يجعلها شريكة لشركة "فودافون المملكة المتحدة" التي تمتلك 55 في المئة، أي الحصة المتبقية. 216 إلا أنّ المنافسين اعترضوا بقوة. وفي آب/أغسطس 2016، سمحت الحكومة لشركة المصرية للاتصالات بإنشاء شركة للهاتف المحمول خاصة بها من دون التخلي بدايةً عن شركة فودافون مصر، ووعدت بحل تضارب المصالح المحتمل في المستقبل. 217 من غير المعروف ما إذا كانت وزارة الدفاع اكتسبت أسهمًا، لكنها احتفظت بالسلطة على تحديد ترددات الجيل الرابع التي سيتم منحها لمشغلي الهواتف المحمولة. 218

جعل الدِّين يدفع

تتبع جمهورية الضباط حيثما تذهب الهيئات العسكرية الاقتصادية الرسمية. ولكن على النقيض من أسواق الاتصالات أو الإعلام التي تتطلب استثمارات مؤسساتية كبيرة، فقد سعى المتقاعدون العسكريون إلى الحصول على فرص تجارية في القطاع الديني الذي يوفّر عائدات أكثر تواضعًا ولكن يمكن الاعتماد عليها. ويصبح ذلك ممكنًا من خلال تغلغلها في هيئات ومحاور النقل، ولاسيما في المناطق الاستراتيجية التي تمر من خلالها طرق السياحة والحج، وفي هيئات وشركات السياحة الحكومية. يؤكد البحث الميداني أن الاستراحات الحكومية التي يستخدمها الحجاج المسلمون في طريقهم إلى مكة يديرها ضباط من القوات المسلحة. كما أن هناك موانئ مثل الغردقة، وهي نقطة الانطلاق للعديد من "حجاج العمل" في مصر الذين يحصلون على تأشيرة الحج والعمل لمدة ثلاثة أشهر إلى المملكة العربية السعودية. 219

كذلك أصبحت الهيئات العسكرية تشارك رسميًّا في القطاع الديني. فابتداءً من عام 2017، سيطرت الحكومة على جميع تأشيرات الحج الصادرة في مصر، ثم كلفت القوات المسلحة إدارة "القرعة" التي يتم من خلالها منح التأشيرات. دخلت الهيئة العربية للتصنيع أيضًا في سوق السياحة الدينية من خلال توفير خيام مجهزة للحجاج المسيحيين الذين يسلكون درب "الهرب إلى مصر" التابع لوزارة السياحة، وهو يتبع مسار العائلة المقدسة من سيناء إلى أسيوط في صعيد مصر. 220 وبما أنه يمكن فقط لوكالات السياحة المعتمدة تنظيم رحلات الحج، فذلك يتيح لمتقاعدي القوات المسلحة الذين يرأسون الهيئة العامة للسياحة والعديد من شركات السياحة في القطاع العام توجيه العقود في اتجاه الوكالات المفضَّلة.

لكن الفرصة المالية الأكبر تكمن في الأوقاف الدينية. إذ يرأس ضباط متقاعدون الهيئة العامة للأوقاف التي تدير العقارات الحضرية والأراضي الزراعية والمؤسسات التجارية التي قُدّرت قيمتها بمبلغ 70 مليار جنيه مصري (3,9-4,6 مليارات دولار) في عام 2016. 221 (تندرج الهيئة العامة اسميًّاً تحت إشراف وزارة الأوقاف الدينية، لكنها مستقلة فعليًّا بفضل تأثير المتقاعدين العسكريين الذين يرأسونها). وكجزء من اندفاع السيسي لزيادة إيرادات الدولة، التي ادعى أحد الخبراء بتفاؤل أنه يمكن نقلها إلى 10-15 مليار جنيه سنويًّا، فقد كلّف الهيئة الهندسية في القوات المسلحة الانضمام إلى لجنة جديدة مهمتها حصر واسترداد أصول الأوقاف وزيادة عائدها الاقتصادي. وفي ما أصبح نمطًا مألوفًا، تدخلت وزارة الإنتاج الحربي بعد ذلك، حيث أبرمت اتفاقًا رسميًّا مع وزارة الأوقاف الدينية في حزيران/يونيو 2018 لمساعدتها على ترقية أصولها واستثماراتها، وتحسين الكفاءة في مشاريعها، وتدريب موظفيها. 222

كذلك فإن الانخراط العسكري في قطاعي الثقافة والتعليم هو أيضًا طويل الأمد، وهما قطاعان مترابطان بشكل وثيق، ولاسيما في ما يتعلق بالمباني التاريخية والآثار. ويلحظ العالِم السياسي روبرت سبرينغبورغ الذي عمل في مصر في سبعينيات القرن الماضي أن المؤسستين العسكرية والأمنية والرئاسة، جميعها لديها "مصالح مادية غير مباشرة على الأقل في الحفاظ على التراث الثقافي للأمة، وعادة ما تكون هذه المصالح على شاكلة شركات منافسة يسيطر عليها زملاء أو أشخاص مفضلون". 223 بعد عقود من الزمن، لاحظ الباحثان جِيريمي هودج ونزار مانِك أن المجلس الأعلى للآثار الذي وظّف ما لا يقل عن 88 لواءً متقاعدًا في عهد مبارك عُرف بمنحه عقودًا بقيم مضخمة للشركات ذات الارتباطات العسكرية. 224 ويتكرر التركيز على قطاع العقارات المملوكة للحكومة في قطاع التعليم أيضًا، كما في حالتي السياحة والأوقاف الدينية، حيث يترأس المتقاعدون العسكريون باستمرار الهيئة العامة للمباني التعليمية. 225

جماعات المصالح العسكرية

إن منح الامتيازات التجارية للعديد من الهيئات العسكرية والأمنية يخدم أغراض السيسي الرئيسة المتمثلة في تأمين تأييدها السياسي له ومحاولة حل المشكلات الاقتصادية الهائلة في مصر. لكن مقاربته هذه تحمل عواقب متناقضة تتمثل في تمكين وإضفاء الشرعية على السعي الضيق لتحقيق الأرباح من جانب جماعات المصالح داخل هذه القطاعات، وتقويتها مع المزيد من عرقلة تطوير استجابات موحدة ومتسقة من جانب المؤسسات التي تنتمي إليها هذه الهيئات. تطورت هذه المصالح منذ عام 2013، لكنها غالبًا ما تتداخل أو على الأقل لا تتعارض بشكل مباشر طالما استمرت الفرص التجارية والاقتصادية في التوسع.

ويمتد اعتماد السيسي على شركاء في الائتلاف الحاكم حتى إلى العلاقات مع القوات المسلحة. وكما لاحظت المحللة مارينا أُوتاوي، على سبيل المثال، تأخر بدء تشييد العاصمة الإدارية الجديدة بسبب رفض وزارة الدفاع التخلي عن الأراضي مجانًا، لأن "اهتمامها بتحقيق أقصى قدرٍ من عائدات الأراضي التي تسيطر عليها تفوق مصلحة السيسي في إنجاز بناء العاصمة الجديدة، ما يشير إلى أن السيسي ليس له سيطرة كاملة على شؤون المؤسسة العسكرية". 226 إنّه يملك الأدوات للتلاعب بجماعات المصالح العسكرية المختلفة ولتأليب الواحدة على الأخرى، ولكن يتحتم عليه أيضًا منحها الموارد والفرص الاقتصادية بغية احتوائها. ويؤثر هذا المنطق بشكل مباشر على الهيئات العسكرية الرسمية بشكل خاص، ولكنه يمتد تأثيره أيضًا بشكل غير مباشر لصالح شبكات الضباط المتنافسة.

الازدواجية

حتى الآن اتخذت المنافسة بين الهيئات العسكرية غالبًا شكل الازدواجية غير الفعالة في أنشطة اقتصادية محددة. واتضح هذا بشكل خاص في أيار/مايو2015، عندما أنشأت وزارة الإنتاج الحربي مجموعة تجارية للمقاولات والإنشاءات خاصة بها هي "شركة الإنتاج الحربي للمشروعات والاستشارات الهندسية والتوريدات العامة". من المفترض أن تقوم الشركة الجديدة بتنفيذ المشاريع نيابة عن القوات المسلحة والعملاء المدنيين والتجاريين في مجموعة واسعة من المجالات: التنمية الحضرية والإسكان والاستثمار العقاري، والمَرافق الرياضية والمدارس والمستشفيات والمصانع والفنادق والمنتجعات السياحية والعلاقات العامة والإعلان. 227 أُطلقت الشركة برأس مال لبدء التشغيل بقيمة 100 مليون جنيه مصري (13،1 مليون دولار عندها) وتملكها بالكامل الهيئة القومية للإنتاج الحربي، كما جرى تفويضها الدخول في عمليات الدمج والاستحواذ وفي الشراكات مع الشركات المحلية والأجنبية. 228 كانت وزارة الإنتاج الحربي قد نفذت سابقًا مشاريع من نفس نوع تلك التي تقوم بها مختلف إدارات القوات المسلحة أو جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، كمثل عقودها في 2011-2012 لتطوير الصرف الصحي وسوق الجملة في الجيزة. 229 لكن شركة الإنتاج الحربي قامت بتكرار مروحة واسعة من الأنشطة تزيد عن تلك التي كانت وزارة الإنتاج الحربي قد قامت بها في السابق. بل ادعى العصّار بأنها حققت ما قيمته 15 مليار جنيه مصري من العقود بحلول حزيران/يونيو 2019. 230 ونظرًا إلى هذا التركيز على المقاولات، حتى جهاز الخدمات العامة التابع لوزارة الدفاع، والذي عادة ما يدير المنافذ العسكرية للمبيعات المدنية، قام بإبرام عقود بناء على الرغم من كونه لاعبًا اقتصاديًّا ثانويًّا ويفتقر إلى المهارات المطلوبة لذلك.

ظهرت ازدواجية مشابهة في مجالات أخرى. ففي عام 2016، على سبيل المثال، أنشأ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية "الشركة الوطنية للزراعات المحمية" للتوسع في الصوب الزراعية بالتعاون مع شركات إسبانية وصينية. لكن الهيئة العربية للتصنيع ووزارة الإنتاج الحربي أطلقتا أيضًا مشروعات مماثلة خاصة بهما، وعملتا مع شركاء من كوريا الجنوبية وهولندا وبيلاروسيا. ومنذ عام 2016، أنشأ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية أيضًا شركة فرعية جديدة لاستكشاف النفط وتطويره (هذا حقل تعمل فيه شركات حكومية عديدة أصلًا)، وشركة ثانية لاستخراج المعادن والتعدين (موازية لقطاع التعدين في وزارة الدفاع)، وشركة مصاعد (موازية لشركة المصاعد التي شكلتها وزارة الإنتاج الحربي بشراكة خاصة سعودية). وبالمثل، أبلغ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية أنه زود الصيدليات بـكمية 23 مليون وحدة من حليب (لبن) الأطفال استجابة للنقص المفاجئ في عام 2017، مع أن وزارة الإنتاج الحربي قد أعلنت سابقًا أنها تتخذ تدابير لتلبية الاحتياجات من خلال الاستيراد أو الإنتاج بنفسها. 231

تستجيب هذه الهيئات العسكرية بطرق متشابهة لظروف مشتركة: فهي تسعى جميعها إلى الدخول إلى القطاعات الاقتصادية التي توفر عوائد آمنة، وملاحقة الشراكات الأجنبية كمصدر للمعرفة الفنية ورأس المال. علاوة على ذلك، فهي تموضع سلوكها في الحالتين ضمن جدول أعمال السيسي المتمثل في زيادة الدخل وتعزيز التحالفات السياسية مع البلدان الأجنبية. لكنها تفعل ذلك بشكل منفصل عن بعضها البعض، كما تفعل الشركات الخاصة التي تتنافس في السوق المفتوحة، ما يوحي بأنها ترى مصالحها متمايزة وليست تبادلية، وما يكشف عن ضعفِ تكاملِ هذا القطاع في الاقتصاد العسكري. وقد ادعى الصحافيان الاستقصائيان محمد حسني وأسامة الصياد في مطلع عام 2017 أن وزارة الإنتاج الحربي كانت تزيح شركتين لمديرية المخابرات العامة كانتا تمتلكان في السابق عقودًا حصرية لتزويد المستشفيات العامة بمواد مثل حليب (لبن) الأطفال، لصالح شركة الأدوية الخاصة بها وغيرها من الشركات ذات الانتماءات العسكرية غير الرسمية، بما فيها شركة يديرها صهر الفريق المتقاعد مهاب مَميش، رئيس هيئة قناة السويس. 232

وينطبق الشيء نفسه على قطاعات أخرى مثل إمداد الأسواق المدنية بالسلع الغذائية، الأمر الذي ازداد في استجابةٍ مباشرة لتوجيهات السيسي السياسية. لقد تمّ التطرق سابقًا لبيع الخبز واللحوم والدواجن وغيرها من السلع الأساسية من خلال شبكة وزارة الدفاع من المخابز والمجازر والمسالخ ومحلات السوبرماركت "صَن". لكن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية وسّع أيضًا من قدرته على البيع بنسبة 400 في المئة في عام 2016، وأعلن أنه يقوم بواجبه في مكافحة التضخم من خلال توفير 250 طنًّا من اللحوم والسلع الأخرى يوميًّا بأسعار مخفضة عبر 700 منفذ بيع على مستوى البلاد. 233 وادّعى المدير العام لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية فيما بعد، أنه في عام 2017 وفّر للأسواق المحلية 300 ألف طن من اللحوم والدواجن وزيت الطهي وغيرها من المواد الاستهلاكية (بما في ذلك واردات ربما) من خلال منافذ البيع التابعة للجهاز ولوزارة التموين، فضلًا عن 210 آلاف طن من القمح المحلي. 234 وقد ورد أن مديرية دائرة المخابرات العامة استخدمت أيضًا شركاتها التجارية لزيادة إمدادات الأغذية للأسواق، كما فعلت وزارة الداخلية التي بدأت في أواخر عام 2015 بيع اللحوم والدواجن والبقول وما شابه ذلك، من خلال منافذ بيع منشأة حديثًا (باسم "أمان")، بدءًا من 120 وصولًا إلى ألف منفذ بحلول منتصف عام 2018. 235

تَكمن شركات أو وكالات مشتريات منفصلة تابعة لكل هيئة أو وزارة وراء كل حلقة من هذه الحلقات التموينية، ما يزيد من احتمال تنافس كل منها على حصتها في السوق بموازاة سعيها لتحقيق الهدف السياسي للرئيس. لكن حتى لو لم تكن المنافسة عاملاً أساسيًّا، فإن حقيقة أن جزءًا كبيرًا من المواد الغذائية التي تبيعها هذه الهيئات المختلفة يتكون من واردات رخيصة تثير شكوكا كبيرة بشأن المنطق الاقتصادي والاستدامة المالية لنهجها. وكما لاحظ أحد المعلقين ساخرًا في مقال رأي بعنوان "بطاطس هيئات الأمن"، لا يمكن أنْ يضمن ذلك أنّ الأسعار ستبقى منخفضة ولا أنّ ذلك سيوفّر أكثر من مجرد إغاثة عابرة للأسر ذات الدخل المحدود في غياب نظام شامل لمراقبة السوق وتنسيق الإنتاج. 236

تصادم الشبكات

إن غياب القواعد الصارمة يعني أن تضارب المصالح يجري حلّه غالبًا من خلال التنازع المباشر. كان هذا واضحًا بشكل خاص في ردود شبكات المتقاعدين العسكريين وجماعات الضغط المدنية المتنفذة والمتمركزة في الجهاز البيروقراطي للدولة، التي قاومت حين توغلت الهيئات العسكرية بقوة في أسواق الاستيراد والتموين، مهددة بإزاحة الفئات الأولى. في الوقت ذاته، فقد كانت المؤسسة العسكرية هي المنتفع الرئيس من حلّ شبكات المحسوبيات التي ارتبطت بمبارك لغاية عام 2011. حيث أدت عملية إعادة التشكيل العامة لشبكات الامتياز داخل الإدارات البيروقراطية المدنية إلى تمكين المؤسسة العسكرية من تنحية منافسين أقوياء إنّ لم يكن تغييبهم بالكامل، مثل مديرية المخابرات العامة، التي اضطرت للتراجع في مختلف المجالات، بما في ذلك في قطاعيّ النفط والغاز المهميّن واللذين كانا سابقًا مجالاً حصريّاً تقريبًا للمديرية.

إن غياب القواعد الصارمة يعني أن تضارب المصالح يجري حلّه غالبا من خلال التنازع المباشر.

تتوضح هذه الدينامية عبر خلافٍ شديد على إمدادات القمح نشب في أواخر عام 2015. إذ قام مشتري القمح المركزي في الدولة والمتمثل في الهيئة العامة للسلع التموينية، بتغيير المستوى المسموح به للفطر "أرجوت" الشائع في القمح المستورد إلى الصفر، بدلاً من المعيار العالمي للصحة النباتية وهو 0,05 في المئة. كانت هذه حالة نمطية لاستخدام معايير الجودة كحاجز غير تعرفي لتوجيه الأسواق نحو شركات مفضّلة أو إبعاد الشركات المنافسة. 237

هذا الإجراء عطّل الواردات من فرنسا وكندا، لكن الأمر الأكثر خطورة كان تعليق صفقة ضخمة لاستيراد 6 ملايين طن من القمح الروسي، ما أدى إلى توتر العلاقات الدبلوماسية وإلى حظر روسي (قصير الأجل) على استيراد الحمضيات المصرية في أيلول/سبتمبر2016. 238 جرت إعادة إحدى أكبر الشحنات إلى روسيا في نهاية المطاف بعد مكوثها في ميناء دمياط مدة شهرين، وفقًا للباحثة شانا مارشال. كانت الشحنة مملوكة لشركة "مِدسوفت"، وهي شركة خاصة نشطة، جعل توسعها في مجال النقل النهري منها منافِساً للمصالح العسكرية في ذاك القطاع. 239

ويُذكر أن مجلس الهيئة العامة للسلع التموينية تضمّن العديد من المتقاعدين العسكريين الذين ترأسوا كلًّا من الشركة العامة للصوامع والتخزين والشركة القابضة للصناعات الغذائية والمطاحن والمضارب والشركة القابضة للصناعات الغذائية الشركة القابضة للنقل البري والبحري. 240 وجاء عزل رئيس الهيئة العامة للسلع التموينية في آذار/مارس 2016 ثم عزل خلَفه في كانون الثاني/يناير 2017 ليعزّزا التصور السائد بأن التنافس بين التجار الأقوياء والبيروقراطيين الحكوميين كان يقود الدافع وراء أزمة القمح. 241

وفي كانون الثاني/يناير، نقلت الحكومة أيضًا معظم مسؤولية فحص القمح والواردات الزراعية الأخرى إلى "الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، التي تولى متقاعدو القوات المسلحة رئاستها بشكل دائم منذ عام 2005 على الأقل. 242 وانتقل النزاع بعد ذلك إلى المحكمة الإدارية العليا التي أعادت اختصاص الهيئة العامة للسلع التموينية في منتصف حزيران/يونيو2017. 243 وشهد المزيد من التعديلات في القطاع رحيل رؤساء مجالس إدارة عشر شركات تابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية بين آذار/مارس ونيسان/أبريل 2018، ويرتبط معظمها بالمطاحن والمخابز، وقد تلا ذلك فورًا اعتقال اللواء المتقاعد الذي ترأس الشركة والعديد من كبار المسؤولين بتهمة الفساد في أيار/مايو. 244

شرح الصحافيان الاستقصائيان محمد حسني وأسامة الصياد الحادثة بأكملها كمثال على المنافسة بين "مافيات" الاستيراد المتنافسة المرتبطة بالقوات المسلحة أو بمديرية المخابرات العامة بغطاء ثلاث شركات استيراد من ناحية، وبين مسؤولين مدنيين حكوميين من ناحية أخرى. علاوة على ذلك، ظهرت هذه المنافسات بوضوح في مجلس الشعب، كما اتضح عبر إطلاق التحقيق البرلماني في أزمة القمح في تموز/يوليو 2016. هذا، وكان جميع أعضاء البرلمان تقريبًا الذين تم انتخابهم في أواخر عام 2015 موالين للحكومة، ومع ذلك، كما أرّخ الصحافي الإستقصائي والناشط في مجال حقوق الإنسان حسام بهجت، فإن جماعات المصالح المختلفة التفت حول الفصائل المتنافسة المدعومة من قبَل قطاع الأمن الوطني (مباحث أمن الدولة سابقاً) الذي يندرج ضمن وزارة الداخلية، من جهة، ومن قبَل مديرية المخابرات العامة والمخابرات الحربية، من جهة أخرى. 245

ملخّص: تسخين الاقتصاد العسكري

إن التوسع المتسارع للاقتصاد العسكري منذ 2013 يكشف النقاب عن ارتقاء في مستوى التخطيط والتصويب والتنسيق الاستراتيجي. ويتجلى ذلك في اختيار القطاعات الاقتصادية والمناطق الجغرافية هدفًا للاستثمار، وكذلك، وإنّ بدرجة أقل، في التوجّه المتمايز نحو عقد الشراكات مع شركات القطاع الخاص، سواء الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة منها. ولكن لا تدل قرارات التوسع والاستثمار هذه على وجود منطق اقتصادي سليم أو أنها تتناغم في ما بينها. بنفس القدر، فقد ضاعف هذا التوسع السلوك الانتهازي والريعي، ما خلق أنماطًا جديدة من التنافس والإزاحة التي تعرقل الترتيبات والتفاهمات غير الرسمية التي كانت في السابق تنظّم توزيع النشاطات الاقتصادية المدرّة للدخل. إنّ هذه النهوج باتت تؤدي إلى "تسخين" الاقتصاد العسكري بشكل خطير، وإلى البدء بمزاحمة القطاع الخاص بشكل مباشر أكثر، ما زاد من الاحتكاك الضار ومن تكلفة المعاملات. وبذات القدر، فإنها (أي النهوج الصاعدة) تشير إلى تحوّلات استراتيجية أوليّة داخل الائتلاف الحاكم والاقتصاد السياسي الأعمّ في مصر.

إن التوسع المتسارع للاقتصاد العسكري منذ 2013 يكشف النقاب عن ارتقاء في مستوى التخطيط والتصويب والتنسيق الاستراتيجي.

يُظهر مسح النشاط الاقتصادي العسكري منذ عام 2013 أن مداه وأنماطه وعائداته المادية تختلف إلى حدّ كبير من قطاع إلى آخر. إذ أنَّ المؤسسة العسكرية تستمد إلى حدّ كبير وبشكل واضح حصّة الأسد من دخلها عبر سيطرتها على الأرض ومن العقود العامة، حيث تحظى بقدرعالٍ جدًّا من النفوذ، في حين تُبقي شركات القطاع الخاصّ رهنًا لها. إن التحكم العسكري بهذه السوق الأسيرة هو ما يعوض عن ضعف الهيئات العسكرية في أغلب قطاعات الصناعة التحويلية، حيث أُثبتت عدم قدرتها على تجاوز عجزها عن إضفاء القيمة أو التنافس مع القطاع الخاص في أي سوق منفتح إنفتاحاً حقيقياً. إلا أنّ قدرة الهيئات العسكرية على تثبيت دور علني في التجارة الخارجية، سواء كانت مُورّداً أو وسيطاً، تثقل كاهل منافسيها من القطاع الخاصّ بطرق أخرى لا تقل أهمية عن تلك المذكورة. وما فتئت تلك الهيئات تتوسع منذ عام 2016، متجاوزة تركيزها التقليدي على السلع غير القابلة للتداول إلى حدّ كبير، لتشمل سلعًا متداولة في قطاعات محميّة تغذي الأشغال العامة مثل الإسمنت والصلب، فيما يتحمل القطاع الخاصّ وطأة اضطراب السوق.

كما تتموضع المؤسسة العسكرية كذلك بشكل جليّ من أجل اكتساب حصّة كبيرة من إنتاج وبيع الموارد الطبيعية، على الرغم من أنه يتحتم عليها أيضًا تقاسم ذلك مع الشركات الخاصّة (محلية أو أجنبية على حدّ سواء) التي تحافظ على نفوذها وحصتها في السوق من خلال تحكُمها بالتكنولوجيا اللازمة ومنفذها إلى أسواق التصدير. إنّ حضور شركات أجنبية مهمة في القطاعات المربحة مثل الهواتف المحمولة، يفرض على المؤسسة العسكرية توخي الحذر، لكن يبدو أنها تقوم بالتعويض عن ذلك عبر استخراج دخل من الشركات المحلية التي تعمل على ولوج هذا القطاع وغيره من القطاعات.

تعكس هذه التمايزات اختلاف هيكلية التكاليف والفرص المتفاوتة، كما أنها تصوغ التنافس بين جماعات المصالح، سواء كانت عسكرية أو غيرها. إنّ نمط استجابة الجهات العسكرية الرسمية وغير رسمية للفرص منذ عام 2013 يعزز الميول نحو البناء المجتزأ والتفتيت في الاقتصاد، وتساهم في تباين النتائج المتزايد بالنسبة للمشاركين في السوق. إنّ ما يمكّن كل هذا هو مزيج ما بين "السلطوية التفويضية" التي أرسيت قواعدها في عهد إدارة السيسي، والتي تحرر المشاركين في الائتلاف الحاكم من جميع القيود على سلوكهم ما عدا التوازنات الداخلية في ما بينهم، مع حّد أدنى من الكوابح الدستورية أو القانونية، وبين الموقف المتساهل، إن لم يكن المؤيد، للحكومات الأجنبية والهيئات الدولية المتلهفة التقاط الرسالة التي كررتها إدارة السيسي مرارًا بأن مصر "مشرّعَة الأبواب" للفرص الاستثمارية".

إنّ المؤسسة العسكرية ماضية في طريق ستؤدي، إلى مأسسة انخراطها في الاقتصاد المدني وبتحويل شريحة كبار الضباط من جماعة مصالح ذات خاصّية إلى ضابطي السوق

إنّ المؤسسة العسكرية ماضية في طريق ستؤدي، إذا ما تُركت دون مراقبة، إلى مأسسة انخراطها في الاقتصاد المدني وبتحويل شريحة كبار الضباط من كونهم مجرد جماعة ذات مصالح خاصة، وإنّ كانت كبيرة ومتنفذّة، إلى ضابطي السوق، إن لم نقل صانعي السياسات. وفي مقابل ذلك، فإن التعلق العسكري بمزيج من المفاهيم الدولانية التقليدية عن الاقتصاد والشراكات المتسمّة بالمحسوبية ما بين القطاعين العام والخاص من جهة، ومن جهة أخرى الحظوة العسكرية بالسلطة التي تمكّن تجاهل ديناميات السوق وإشاراته (سوى عند الحاجة لاستيعاب المنافسين داخل الائتلاف الحاكم والجهاز البيروقراطي للدولة)، فإن تأثير المؤسسة العسكرية المرجح سيكون إسباغ مساق الاقتصاد المصري بقدر أكبر من التناقض والتقلّب.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

خلف القناع: إدارة الشؤون المالية

التركيبة التي تجمع السلطات الاستنسابية، والحصانة القانونية، وغموض المعلومات المتعلقة بالإيرادات والحسابات العسكرية قد ولّدت طريقة في الإدارة المالية تتمتع بقشرة شرعية، ولكن تسمح مع ذلك بالتلاعب بالأموال والأصول العامة من دون مساءلة فعلية أمام أي سلطة مدنية. بل إنه، حتى في صفوف المؤسسة العسكرية، يبدو أن الإدارة المالية تكاد تزيد عن كونها مجرد مسك الدفاتر (أي تسجيل الواردات والصادرات وإنتاج البيانات المالية في نهاية السنة). وهذا يجعل من المستحيل عمليًّا تقييم فعالية التكلفة الفردية لكل هيئة أو منشأة عسكرية أو تقديم حسابات شاملة للاقتصاد العسكري ككل. كما أن ذلك يحجب ما تعتبره المصادر الداخلية نظامًا ماليًّا يعج بالممارسات الفاسدة. وفي أحسن الأحوال، هناك نتيجة أخرى للغموض المالي وهي أنّ الهيئات العسكرية تجد صعوبة في تقييم الجدوى الاقتصادية، ما يؤدي إلى استثمارات عكسية للأموال الموجودة في الحوزة العسكرية.

وكما ورد في الفصل 1، فإن هذه البيئة الممكِّنة تفيد العديد من الهيئات المدنية والجهات الخاصة كذلك. وقد لخص "مشروع العدالة العالمية" التابع للبنك الدولي المشكلة المستمرة في أواخر عام 2014:

"إن أصحاب النفوذ في مصر نجحوا على مدى سنوات في بناء شبكات من أصحاب المصالح في القطاع الحكومي والقضاء والجيش والشرطة وبعض من القطاع الخاص الذي استفاد من العقود العامة. وقد استفاد هؤلاء ومعارفهم من السعي وراء الريع (أي تأمين المداخيل في غياب المنافسة). واستندت البيئة المؤسساتية التي اعتمدوا عليها، إلى القليل فحسب من إمكانية الوصول إلى المعلومات، إن لم ينعدم ذلك تمامًا، فسادت الاستنسابية (أي التقدير الفردي) حتى في ما يتعلق بالقرارات البيروقراطية الصغيرة".1

والنتيجة هي اقتصاد عسكري لا يشدّ بمجمله في اتجاه واحد. إذ إن دينامياته تتشكل إلى حد كبير من نفس المساومات داخل الهيئات وما بينها، والشبكات التي تحركها المصالح، وبناء التحالفات، والتنافسات المستمرة عبر الخطوط القطاعية والوظيفية التي تميز أيضًا بقية قطاعات الدولة والاقتصاد السيًّاسي في مصر. في حالة المؤسسة العسكرية، فإن عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية وتدفقات رأس المال تحددها بشدة ثلاثة عوامل:

1) الكلية العسكرية، وسنة التخرج، وصنف السلاح التابع للقوات المسلحة الذي يًّاتي منه الضباط القيًّاديون، مع شللهم وشبكاتهم التي غالبًا ما تكون متمايزة ومتنافسة.

2) التفاعلات من أسفل إلى أعلى مع جماعات المصالح في الجهاز البيروقراطي للدولة (بما في ذلك الحكم المحلي فضلًا عن المنافسين المحتملين في وزارة الداخلية وأجهزة الاستخبارات)، وشركات قطاع الأعمال العام، والقطاع الخاص، وذلك عبر قنوات من شبكات غير رسمية تقبع خلف واجهة المؤسسات والنظم الرسمية.

3) الردود على الضغط من أسفل إلى أعلى، الناتج عن التوجيهات والأهداف السيًّاساتية التي يصدرها الرئيس.

وبالتالي، لا توجد خطة شاملة اقتصادية أو مدرّة للدخل، حتى لو كانت الهيئات الاقتصادية العسكرية تعمل غالبًا جنبًا إلى جنب، فإنها تقوم بذلك سعيًّا وراء مصالح متسقة نسبيًّا، لكن الأدلة تشير إلى أنه يتم تحديد ومتابعة هذه المصالح بشكل مستقل عن بعضها البعض، وأن كل هيئة تدير وتتمسك، بغيرة،ٍ برأس ماله المنفصل. ولا يُقصد هنا دحض وجود سلوك استراتيجي، إنما تأكيد التبعات على رأس المال المالي الموجود في تصرف المؤسسة العسكرية. أولاً، ستنفق الهيئات العسكرية الأموال أو تستثمرها استجابة لتعليمات الرئيس، حتى عندما تكون تلك الاستثمارات غير سليمة اقتصاديًّا وتؤدي إلى خسائر مالية. ثانيًا، في المقابل، إن هذه الهيئات تتمتع بصلاحية استنسابية تامة في تخصيص الأموال التي تتحكم فيها، بمعنى أنها ليست مُلزَمة باستشارة أي هيئة حكومية أخرى مسبقًا، ناهيك عن الحصول على إذن منها، طالما أن أنشطتها تتماشى عمومًا مع التوجه السياسي للرئيس. وهذا هو ما يوفر مجالًا للشبكات غير الرسمية لالتقاط أو توليد مصادر دخل خاصة بها، غالبًا بطرق تقوّض هدف كل من الرئيس وقادة الاقتصاد العسكري الرسمي، على الرغم من أنّ هناك أدلة تشير إلى أن هذا السلوك الانتفاعي يحصل بمعرفتهم التامة. ثالثًا، تفتقر المؤسسة العسكرية إلى ما يعادل شركة "إيجل كابيتال" للاستثمارات المالية التي تعمل في الواقع كأداة خاصة لـمديرية المخابرات العامة، كما تفتقر إلى الدراية أو النية في توظيف أموالها في الأسواق المدنية كشكل من أشكال رأس المال الاستثماري للمساعدة في تطوير قطاعات اقتصادية مدنية.

يمكن ملاحظة هذه الأنماط والعلاقات من خلال تحديد كيفية توليد الدخل العسكري واستخداماته، وأين يتم إيداعه، وكيفية تجنب التدقيق المحاسبي الفاعل من قبَل أي هيئة مدنية، بما في ذلك البرلمان، بشكل كامل تقريبًا.

خارطة مصادر الإيرادات العسكرية: السعي لتحقيق مكاسب سياسية أم اقتصادية؟

من الواضح أنّ الأسلوب العسكري في الإدارة المالية ليس فريدًا من نوعه ضمن الهيئات الحكومية المصرية، التي يتعامل الكثير منها مع إيرادات وإيداعات من خارج الميزانية. لكن حجم وتنوع مصادر الإيرادات العسكرية يتجاوزان بالتأكيد أيًّا من نظرائها المدنية بهامش واسع. في الواقع، بحلول أيّار/مايو 2018 كان بوسع رئيس أحد مصانع وزارة الإنتاج الحربي أن يخبر مراسل وكالة رويترز بسعادة أنّه "حالما أتقدم بطلب للوزارة قائلًا إني بحاجة لـ60 مليون أو 40 مليون جنيه مصري.. يوافق [الوزير] اللواء العصّار على الطلب في اليوم التالي ".2

ويشير تشريح الاقتصاد العسكري المقدم في هذا التقرير إلى المصادر التالية من التمويل التي يقرها القانون:

  • ميزانية الدفاع.
  • الرسوم المكتسبة من الفنادق والمنتجعات والمرافق الاجتماعية والرياضية الأخرى التي تملكها وزارة الدفاع.
  • مبيعات السلع الغذائية الأساسية في الأسواق المحلية وتوفير الخدمات الطبية مدفوعة الرسوم.
  • رسوم إدارة الأشغال العامة، بما في ذلك استصلاح الأراضي والمشروعات العملاقة، وغيرها من مخططات الإسكان والبنية التحتية أو هوامش الربح المشمولة في ميزانيّات المشاريع المتّفق عليها مع المقاولين المنفذّين.
  • إيرادات الإيجار، أي الرسوم أو التبرعات التي يجري تلقّيها لمنح تراخيص استخدام الأراضي وتأجير المرافق كالموانئ وفرض رسوم على الطرق السريعة أو على المناجم والمحاجر.
  • رسوم تقديم خدمات متخصصة مثل تخليص البضائع المستوردة في موانئ الدخول إلى مصر، والتفريغ، ونقل المعدات الثقيلة، وإزالة الألغام من أراض تابعة للدولة مؤجرة لأطراف مدنية.
  • الإيرادات من مبيعات السلع أو الخدمات التي تقدمها الشركات العسكرية (مصانع ومزارع وشركات أخرى)، بما في ذلك المشاريع الجديدة في مجالات التعدين والتنقيب وقطاعات الاستخراج الأخرى.
  • إيداعات محفوظة في صناديق خاصة، والفوائد المستحقة عليها.
  • رسوم عن أنشطة متخصصة مؤقتة مثل مساهمة القوات في مهمات حفظ السلام أو نزع الألغام التابعة للأمم المتحدة، أو إجراء مناورات مشتركة مع قوات مسلحة أجنبية على الأراضي المصرية.
  • الدخل من الاستثمارات التجارية من خلال شركات واجهة (هذا غير مباشر، ولكن قد يجري إدراجه في الدفاتر الداخلية للهيئات العسكرية ذات الصلة).

قد تكون هوامش الربح مهمة في عدد قليل فحسب من هذه الأنشطة، ولكن ليس جميعها يستهدف الربح أساسًا، على أي حال. على سبيل المثال، يجري إنفاق 60 في المئة على الأقل من ميزانية الدفاع على الرواتب والتعويضات (البدلات والامتيازات غير معاشات التقاعد).3 الرصيد المتبقّي يُنفق على مصاريف متكررة أخرى غير الرواتب مثل المواد الغذائية، والأدوات (المهام) والرعاية الصحية، والوقود، وتجديد المواد الاستهلاكية القتالية (الذخائر وغيرها)، وصيانة المعدات، وصيانة العقارات، والاستثمار في منشآت أو معدات جديدة. إنه من غير المرجح أن تتبقّى الأموال غير منفقة، ولكن إذا كان الأمر كذلك فإنه من المؤكد أنّ وزارة الدفاع تحتفظ بها ويجري ترحيلها في دفاترها كفوائض مؤجلة من سنة إلى أخرى وتحويلها إلى أحد صناديقها الخاصة. لقد أدى انخفاض قيمة العملة إلى خفض التكلفة النسبية للرواتب والمواد الاستهلاكية والخدمات المحلية (نظرًا لكونها محسوبة بالجنيه المصري)، إلا أنّ هذا الانخفاض جعل من الصعب، عمومًا، القيام بأكثر من الحفاظ على قيمة ميزانية الدفاع الإجمالية بالدولار.

مع ذلك، فإن ميزانية الدفاع تسمح بالمكافآت والزيادات في الرواتب التي تساعد في الحفاظ على ولاء ضباط القوات المسلحة. إن الرواتب العسكرية متواضعة مقارنة بقطاع الأعمال العام والشركات الخاصة (على الأقل على مستوى الإدارة)، أما عاملو قطاع الدفاع (القوات المسلحة ووزارتا الدفاع والإنتاج الحربي والهيئات الفرعية) فيُعاملون باعتبارهم "كادر خاص" في لوائح الدولة، وهم يتمتعون بتفاوتات كبيرة في الأجور والمزايا مقارنة بالموظفين المدنيين.4 إلى ذلك، يتلقى ضباط القوات المسلحة خلال فترات الاضطرابات، مكافآت إضافية تصل إلى ضعف رواتبهم، التي يجري تحميلها لميزانية الدفاع.5 علاوة على ذلك، زادت الرواتب الأساسية ثلاث مرات على الأقل منذ عام 2011، على الرغم من أن هذا لم يعوض انخفاض قيمة الجنيه المصري. ولقد شهدت المعاشات العسكرية التقاعدية ارتفاعًا تراكميًّا أكبر بنسبة 140 في المئة بحلول تموز/يوليو 2016، ثم 15 في المئة أخرى في تموز/يوليو 2018، وكذلك النسبة نفسها اعتبارًا من تموز/يوليو 2019، لكن هذه الزيادات يجري تحميلها لميزانية الدولة العامة، وبالتالي لا تتأثر ميزانية الدفاع بها.6

من المفترض أن تكون الفنادق والمنتجعات والمرافق الاجتماعية والرياضية المملوكة لوزارة الدفاع توفّر لها دخلًا ثابتًا. فتمديد الإعفاءات الضريبية للمؤسسة العسكرية (بما في ذلك ضريبة القيمة المضافة) لتشمل مرافقها المدنية تمكّنها من تضخيم الأرباح حتى عندما تنافس القطاع الخاص بأسعار مخفضة، علمًا أن إيرادات وزارة الدفاع من هذه المرافق ستتقلص إذا تم تقاسم الأرباح مع الضباط الذين يديرونها.7 علاوةً على ذلك، سعت الوزارة إلى توسيع حصتها في السوق: فيدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية سلسلة فنادق ومنتجعات "توليب" (وقد تم إطلاقها في عام 2015، مع ما لا يقل عن خمسة عشر فندقًا)، في حين تدير هيئة الشؤون المالية في وزارة الدفاع سلسلة فنادق "ألماسة"، بما في ذلك "فندق ألماسة كابيتال" الذي جرى افتتاحه في العاصمة الإدارية الجديدة في أواخر عام 2017.8

يشير هذا التوسع بشدة إلى رغبة عسكرية في الاستفادة من السياحة التي تعتبر أحد القطاعات الاقتصادية الأكثر ربحية في مصر، وقد ساهم هذا القطاع بمبلغ إجمالي قدره 528,7 مليار جنيه مصري (29,6 مليار دولار) في الناتج المحلي الإجمالي (11,9 في المئة) في عام 2018.9 وإلى جانب المرافق الاجتماعية الأخرى مثل النوادي، يبدو أنّ الفنادق التي تملكها الهيئات العسكرية تلبي بشكل أساسي عملاء محليين مثّلوا 48 في المئة من إجمالي عدد السيًّاح في مصر في عام 2017، علمًا أن هذه النسبة كانت أعلى من المعتاد في أعقاب تراجع السياحة الأجنبية بسبب الهجمات الإرهابية. بالفعل، من الواضح أن سلسلتي فنادق ألماسة وتوليب تسعيان بشكل رئيس إلى العمل من خلال صفقات تفضيلية مع الوزارات الحكومية.10 قد يكون ذلك أمرًا مهمًّا لقدرتهما على البقاء في قطاع اقتصادي خدمي يهيمن عليه القطاعان العام والخاص: إن عدد وسعة الفنادق المملوكة للهيئات العسكرية ليستا سوى جزء بسيط مقارنةً بالمجموع الوطني البالغ 730 فندقًا مع أكثر من 108 آلاف غرفة بحلول عام 2017، بالإضافة إلى 1,4 مليون غرفة خططت الحكومة لإضافتها إلى السعة المملوكة للقطاع العام بحلول عام 2020.11 ومع ذلك، فقد يعني ارتفاع تكاليف الاستثمار والتشغيل، وعرض أسعار أقل من أسعار السوق، وتقاسم الأرباح بين المدراء العسكريين، أنّ الأرباح الصافية ستكون متواضعة نسبيًّا. ووفقًا للمقاول من القطاع الخاص الذي بنى فندق تريموف بالنيابة عن الهيئة الهندسية في القوات المسلحة (التي كُلّفت بالمشروع بالنيابة عن المخابرات الحربية)، فقد بلغت التكلفة ملياري جنيه مصري، على الرغم من أنّه تم بناء الفندق في منطقة غير مناسبة، ما يؤكد أن المصالح القائمة على المحسوبية قد تستغني عن الجدوى التجارية. 12ولكن تلبية توقعات شريحة كبار الضباط المتطلعين إلى الصعود الإجتماعي واحتياجات الطبقة الوسطى المدنية التي تشعر بشكل متزايد بالضائقة المالية، قد تكون هدفًا بنفس أهمية المكسب التجاري كحافز على إطلاق هذه المشروعات.

لا لبس في أن الأهداف السياسية هي التي تدفع إلى بيع المواد الغذائية وتقديم الخدمات الطبية للمواطنين، بالمقام الأول. ويؤكد السيسي والمسؤولون الاقتصاديون العسكريون ووزراء الحكومة مرارًا وتكرارًا على الحاجة إلى تزويد الجمهور بالسلع والخدمات الأساسية بأسعار معقولة، وبالتالي مواجهة ضغوط التضخم. من المحتمل أن تحقق وزارة الدفاع والهيئات ذات الصلة، مثل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، أرباحًا صافية على البضائع الرخيصة التي تستوردها بكميات كبيرة، مثل الدجاج وقطع الدجاج المجمّدة، لكن ذلك يتم استجابة للتوجيهات السياسية. ومن شبه المؤكد أن مخازن السوبرماركت العسكرية تستفيد من أي سلع مستوردة تبيعها، لأن هذه السلع معفاة من الرسوم الجمركية على الأرجح، إلا أن الحاجة إلى إبقاء الأسعار منخفضة لتلبية احتياجات أسر القوات المسلحة وذوي الدخل المحدود، من المحتمل أن تحد من الربح الإجمالي لتلك المخازن.

لا لبس في أن الأهداف السياسية هي التي تدفع بيع المواد الغذائية وتقديم الخدمات الطبية لعامة للمواطنين، بالمقام الأول

وبالمثل، تلعب الاعتبارات السياسية دوراً في تقديم الخدمات الطبية. يقدّر الباحث أيمن إمام أن إدارة الخدمات الطبية في وزارة الدفاع هي ثاني أكبر مقدّم للرعاية الصحية في مصر بعد وزارة الصحة والسكان، لكن خدماتها تقدم مجانًا إلى العسكريين وأفراد أسرهم المباشرة وإلى جميع المدنيين الآخرين بمعدلات أرخص بنسبة 50 في المئة من المرافق الخاصة.13 وبالتالي، ربما تنتهي من دون خسارة أو ربح، أو أنها تتكبد خسارة صافية في الخدمات التي تقدمها إلى ذوي الدخل المحدود. لا شك في أن استقبال مرضى الطبقة المتوسطة الذين يدفعون الرسوم في المستشفيات والعيادات العسكرية الأرقى، أمر مربح. ولكن لا يمكن تحديد ما إذا كان عدد المرضى كافياً لتعويض تكلفة تجهيز هذه المرافق وصيانتها وتوفير الخدمات المجانية لموظفي قطاع الدفاع ذوي الرتب العليا، من دون اكتمال الشفافية المالية. وكما في حالات أخرى، فإن مجرد خفض تكلفة تلبية توقعات الدوائر الاجتماعية الأساسية في الحصول على عناية طبية متقدمة ربما يكون الهدف الأساسي أكثر منه الحصول على حصة في السوق. إلى ذلك، فإن فشل مصر في أن تصبح مقصداً للسياحة الطبية من الدول العربية الأخرى يحدّ من الإمكانيات التجارية للمرافق الطبية العسكرية.

في جميع الحالات، لا تعتبر هذه النشاطات مصادر مالية كبرى، مع أن بعضها ينطوي على إمكانية ذلك. إن استثمار المؤسسة العسكرية فيها يستجيب جزئيًّا لمطالب دوائر اجتماعية وسياسية معينة تعتبر مهمة، وبالتالي فإن ذلك الاستثمار ليس دائمًا بدافع الجدوى التجارية أو الربح. إلى ذلك، تُستخدم الصناديق العسكرية الخاصة جزئيًّا لدفع المكافآت والبدلات للعاملين في القوات المسلحة، وفقًا لمحلل اقتصادي مصري، لكن يتم أيضًا توزيع بعض الأرباح على بضع عشرات من كبار الضباط.14 وكما تفيد عالمة السياسة دينا راشد في تقييمها لعمليات مشابهة في وزارة الداخلية، فهي في الغالب تفيد كبار المسؤولين والقادة.15 لا يمكن التحقق من نمط التوزيع الدقيق بشكل مستقل، ولكن في حالة الصناديق الخاصة التي تندرج ضمن ميزانية الدولة العامة، كان التوزيع يستند إلى نسبة مئوية من الراتب الأساسي حتى 30 حزيران/يونيو 2015، عندما جرى تحويل تقاسم الأرباح إلى مبالغ ثابتة.16 كما تتضمن قوانين تأسيس الهيئات العسكرية التي تنتج السلع والخدمات المدنية للمبيع التجاري، مثل الهيئة القومية للإنتاج الحربي التابعة لوزارة الإنتاج الحربي، قاعدة تقاسم الأرباح أيضًا. وليس واضحًا هل يتم تطبيق هذه القاعدة بصرامة فقط عند تحقيق أرباحٍ فعلية صافية، أم يتم اقتطاع حصة من إجمالي الواردات قبل خصم جميع النفقات، وهو الأمر الذي قد يتعرض إلى الإساءة.

ما يصعب تقديره هو إيرادات وزارة الدفاع من ترخيص استخدام الأراضي، وتأجير المرافق، وجباية الرسوم على الطرق السريعة والمحاجر، وتوفير خدمات الاستيراد أو النقل المتخصصة، وإزالة الألغام، وما شابه ذلك. 17 تنطوي هذه الأنشطة على تكاليف ثابتة أقل، ويمكنها ضمان دخل يُعتمد عليه، والذي يزداد في حالة الموافقة على استخدام أراضي الدولة. لكن قد تجري مقايضة بعض المصادر الأكثر ربحية للدخل المحتمل بأنواع أخرى من الأفضليّات. مثال على ذلك هو التخلي عن رسوم منح استخدام الأراضي أو المرافق، مقابل حقوق الملكية في مشاريع مشتركة جديدة، أو ببساطة كوسيلة لجذب المستثمرين إلى المشروعات ذات الأولوية العالية مثل محور تنمية قناة السويس. مثال آخر هو الموافقة على طلبات استخدام الأراضي مقابل منح الخدمات أو البنية التحتية أو عقود التوريد لشركات تفضِّلها الهيئات العسكرية أو يكون للضباط مصلحة تجارية فيها. إلى ذلك، يخلق عدد من هذه الأنشطة فرصًا لتأمين الدخل الجانبي غير المشروع.

من الواضح أن لدى وزارة الدفاع إمكانية الوصول إلى أموال كبيرة. إذ يشير قيام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بتأسيس عدة شركات جديدة، أو الاستحواذ عليها، منذ عام 2016، إلى أن الوزارة يمكنها الاعتماد على احتياطيات كبيرة لديها، أو الحصول على تمويلات كبرى من خزانة الدولة، أو الاستفادة من الائتمان (بفوائد بخسة) من البنوك العامة أو الخاصة، أو تشكيل حزم تمويلية مختلطة. وينطبق الشيء نفسه تقريبًا على تشييد البنية التحتية المدنية ذات الاستخدام المزدوج تحت إشراف وزارة الدفاع منذ عام 2013، مثل الطرق السريعة والجسور التي يجري تمويلها من خزانة الدولة أو الاقتراض الحكومي، حيث إنه من الممكن أن تقوم الوزارة بتمويل البنية التحتية العسكرية البحتة باستخدام صناديقها الخارجة عن الميزانية (بدلاً من ميزانية الدفاع). وبالمثل، فإن تكلفة توسيع بعض المنشآت العسكرية قد تم تعويضها، جزئيًّا على الأقل، من خلال استخدام الدخل من تزويد المشروعات المدنية بمنتجات مثل الإسمنت وحديد التسليح وعدادات المياه.

من الناحية النظرية على الأقل، يمكن لوزارة الدفاع أيضًا أن تضع احتياطياتها في عمليات شراء نظم الأسلحة الرئيسة التي لا يغطيها التمويل العسكري الخارجي الأميركي. ويشمل ذلك طلبيات مقدمة في الفترة ما بين العامين 2014 و2018 لمنظومات الأسلحة الفرنسية والروسية التي يبلغ مجموعها 8 مليارات دولار (7,15 مليارات يورو) وحوالي 7,5 مليارات دولار على التوالي.18 كان من المفترض أن تغطي عدة دول خليجية ما لا يقل عن نصف تكلفة شراء الطائرات المقاتلة الفرنسية البالغة 5,2 مليارات يورو، بينما يأتي النصف الآخر من القروض التجارية التي ستجمعها وستضمنها الحكومة الفرنسية، وورد أن دول الخليج تساهم في بعض مشتريات الأسلحة الروسية. كان لا يزال يتعين على وزارة الدفاع المصرية تمويل جزء كبير من هذه الصفقات، ولعل ذلك يفسِّر عدم ترجمة بعض الاتفاقيات الخاصة بالنظامين الفرنسي والروسي إلى طلبيات فعلية أو تمّ تأجيلها إلى جانب سحب التمويل السعودي الذي جرى لاحقًا.19 وفي جميع الحالات، سيتعين على وزارة الدفاع تخصيص أموال من ميزانية الدفاع أو من احتياطياتها الخاصة لتغطية التكاليف المستقبلية للصيانة والإصلاحات والتحسينات وقطع الغيار، والتدريب طوال فترة الحياة التشغيلية لجميع منظومات الأسلحة هذه، وهي تكاليف قد يصل مجموعها إلى ستة أضعاف تكلفة الشراء الأصلية. ليس من المؤكد أن هذه الاستثمارات تتم بالفعل، ما قد يقوض الفعالية العملياتية للقوات المسلحة المصرية.

وبالتالي، فإن الهيئات العسكرية الوحيدة التي لديها فرص واضحة لبناء فوائض مالية كبيرة هي وزارة الدفاع وبعض الهيئات التابعة لها: جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، والهيئة الهندسية في القوات المسلحة، وقطاع التعدين. قد تكون إدارة المشروعات القومية والعملاقة قد قفزت إلى رأس قائمة مُدِريِّ الدخل منذ أواخر 2013، بالنظر إلى الحجم الكبير للأشغال العامة التي أطلقتها إدارتا منصور والسيسي بشكل خاص. تشير الأرقام الصادرة عن هيئة الرقابة الإدارية، ربطًا بالمشاريع التي تديرها الهيئات العسكرية، إلى حجم بلغ 369 مليار جنيه مصري خلال عامين تقريبًا بين شباط/فبراير 2016 وكانون الثاني/يناير 2018 (22.5 مليار دولار، باستخدام متوسط سعر الصرف لتلك الفترة). نظريًّا، إذا اكتسبت الهيئات العسكرية رسوم إدارة متفقًا عليها مسبقًا لهذه المشاريع، فإن نسبة 5 في المئة ستترجم إلى 18.45 مليار جنيه من الدخل لوزارة الدفاع، أو ما يزيد عن 500 مليون دولار سنويًّا (حسب سعر الصرف المستخدم)، بينما 20 في المئة من رسوم الإدارة سوف تترجم إلى أكثر من ملياري دولار سنويًّا. هذا هو مدى الدخل الذي تدل عليه المؤشرات الجزئية المتوفرة. وقد ادّعى رجل الأعمال الفارّ محمد علي في آب/أغسطس 2019، وهو صاحب شركة "أملاك للمقاولات" التي كانت وزارة الدفاع تعدّ زبونها الأهم على مدى 15 عامًا، بأن الهيئات العسكرية تكسب بانتظام ما بين 25 و 30 في المئة من ميزانيات المشاريع. لا يمكن التحقق من النسبة بشكل مستقل، ولا يمكن الافتراض أنها تنطبق على كل مقاولي الباطن الآخرين في جميع المشاريع العامة، ولكن حتى لو كان ذلك صحيحاً فسوف يحقق دخلًا تصل ذروته إلى 3 مليار دولار سنويًّا لصالح المؤسسة العسكرية من الأشغال العامة.

ولكن لا تسير الشؤون المالية للمشروعات القومية والعملاقة على هذا النحو. فوزارة الدفاع وغيرها من الهيئات الاقتصادية العسكرية لا تتلقى نسبًا محددة من الميزانيًّات التي وافقت عليها الحكومة مقابل إدارة هذه المشروعات. بدلاً من ذلك، تُعيَّن لهذه الهيئات ميزانية ثابتة يتم تسليم المشروع في إطارها، ومن ثم تقوم الهيئات العسكرية بالتفاوض على صفقات مع المقاولين الذين سيتولون التنفيذ.20 حيث يعتمد تحقيق دخلٍ صافٍ على الهامش الذي ينجح المفاوضون العسكريون في استخراجه ما بين الميزانية الرسمية وتكاليف المشروع الفعلية. هذا، وقد تختلف الهوامش على نطاق واسع. إن الهيئات العسكرية هي في موقف قوي يجعل الشركات الأصغر تتحمل نصيبًا أكبر من التكاليف، بما في ذلك تلك الناشئة عن التقلبات في أسعار الصرف وأسعار المدخَلات، أو حتى يرغمها على القيام بالعمل على نفقتها الخاصة، وهو ما قد تقوم به على أمل الحصول على عقود مستقبلية.21 لكن تتخلى الهيئات العسكرية أحياناً عن جزء كبير من هامش ربحها أو كله من أجل إشراك الشركات الكبيرة التي تحتاج إليها نظرًا إلى خبرتها أو عدّتها الصناعية أو رأس مالها. وتلعب العوامل السياسية أيضًا دورًا: عندما يحدد الرئيس المواعيد النهائية التي تدفع التكاليف إلى أكثر من الميزانية المخصصة الأصلية، قد تستوعب وزارة الدفاع الخسائر الناتجة من صناديقها الخاصة. كان هذا هو الحال عند بناء الكاتدرائية في العاصمة الإدارية الجديدة حيث أراد السيسي الانتهاء منها في الوقت المناسب للاحتفال بعيد الميلاد القبطي في كانون الثاني/يناير 2019. إنَّ ما يعنيه كل هذا هو أن صافي دخل الهيئات العسكرية من مشاريع الأشغال العامة التي تديرها يعادل تقريبًا مجمل التقليص بهامش الربح لمقاولي القطاع الخاص.

بالتالي، يستحيل تقريبًا تقدير الدخل الصافي للمؤسسة العسكرية من المشاريع القومية والعملاقة. لكنه لن يستمر عند المستويات المتضخمة التي شوهدت منذ عام 2014، حيث إن وتيرة المشاريع الجديدة آخذة في التراجع. استفادت الهيئات العسكرية من الازدياد الهائل في إجمالي حجم مشاريع الإسكان والبنية التحتية، إذ أدارت حوالي 24 في المئة من المشاريع التي أعلنتها الحكومة، إذا ما كانت الإحصاءات الرسمية دقيقة. إلا أن المشاريع ربما بلغت حدها الأقصى ولم تعد تنمو، حيث تُظهر الأرقام الحكومية انخفاضًا في معدل المشاريع الجديدة من 500 مليار جنيه سنويًّا في الفترة 2014-2016 إلى 216 مليار جنيه مصري سنويًّا حتى نهاية عام 2018.22 لكن من غير المرجح كذلك أن تنخفض الإيرادات العسكرية إلى مستويات ما قبل 2013، عندما كانت وزارة الدفاع تكسب إيرادات أكثر تواضعًا من خلال إدارة المشاريع طويلة الأجل مثل مشروع توشكى لاستصلاح الأراضي. ويعود هذا التوقع إلى حقيقة أن وزارة الدفاع والهيئات التابعة لها قد أوكلت إليها إدارة مشاريع كبرى إلى أجل غير مسمى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع السيسي لاستصلاح 1,5 مليون فدان، ومنطقة تنمية شرق بورسعيد، ودون شكّ سيتم تكليفها بدور رئيس في بناء ما لا يقل عن 14 مدينة صحراوية جديدة في السنوات المقبلة. وبالتالي ستظل محفظة الإدارة الشاملة أكبر بعدة مرات مما كانت عليه قبل عام 2013.

لا توجد أدلة مقنعة بربحية وزارة الإنتاج الحربي، وشركات وزارة الدفاع، والهيئة العربية للتصنيع. ومع أن وزارة الإنتاج الحربي سجلت نموًّا ملحوظًا في المبيعات بنسبة 276 في المئة بالعملة الوطنية بين العامين الماليين 2014-2015 و2017-2018، من 4.2 مليار جنيه مصري إلى 11.6 مليار، إلا أنها ارتفعت بنسبة أكثر تواضعًا بكثير من حيث القيمة بالدولار، إذ ازدادت قيمتها من 552 مليون دولار إلى 649 مليون دولار، أو 18 في المئة. ووفقًا لوزير الإنتاج الحربي العصّار الذي قدم هذه الأرقام، فإن 14 من شركات الوزارة العشرين كانت لا تزال تسجل خسائر صافية في عام 2018.23 ولم يحدد أي شركات كانت مربحة، لكن من المحتمل أن تكون تلك التي أنتجت المواد الكيميائية الوسيطة والتي لها حصة مهمة في السوق المصرية وساهمت في الصادرات، أو تلك التي قدمت خدمات المقاولات والإدارة، وذلك بفضل استحواذها على سوق أسيرة للعقود الحكومية. أما شركات وزارة الدفاع مثل ترسانة الإسكندرية للشحن، فلم تحقق أرباحًا حتى الآن. وليس هناك دليل عام متوفر على أن الهيئة العربية للتصنيع تعمل بشكل أفضل، على الرغم من التفاخر من وقت إلى آخر بالعقود الجديدة والمبيعات الجيدة.

كان يُفترض أن تؤدي الزيادات في حجم الأعمال إلى تحسّن في كشوف الميزانيات بشكل عام، لكن المكاسب كانت ستقابلها إلى حدما زيادة مماثلة في التكلفة الإجمالية لعوامل الإنتاج، واستمرار الإنتاجية المنخفضة، وعدم كفاية البحث والتطوير، والحاجة إلى الاستثمار في تحديث العمليات والمنشآت الصناعية. وحتى في الشركات الخاسرة، لعل الضباط في المواقع الإدارية وغيرهم من العاملين يحصلون على حصة من الدخل بموجب بند تقاسم الأرباح المنصوص عليه في نظم الشركات العسكرية، قبل احتساب الأرباح الصافية، إن وجدت بالطبع. إلى ذلك، فإن الشركات العسكرية تتلاعب على ما يبدو بقواعد وقوانين الميزانية التي تسمح لها بترحيل الفوائض من سنة مالية إلى أخرى - حتى وهي تقوم بتحميل الخسائر التشغيلية على خزانة الدولة - وذلك من أجل تكديس الودائع في صناديقها الخاصة الاستنسابية (تجري مناقشة هذا الأمر أدناه).

من الواضح أن الشركات العسكرية قد واجهت صعوبات مستمرة في إضافة القيمة في معظم مجالات الصناعة التحويلية، لكنها قد تحقق نتائج أفضل في القطاعات الاستخراجية التي تتوسع فيها حاليًّا. إذ وفقًا لبياناتها، يجري تحضير قطاع التعدين في وزارة الدفاع وشركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية ذات الصلة من أجل إنتاج حصة كبيرة من إجمالي إنتاج البلاد من الرخام والغرانيت، والذهب، والمعادن، والمعادن الثقيلة، أو على الأقل السيطرة عليها، كما يتم توسيع حصتهم من انتاج الفوسفات. ويجري ذلك جزئيًّا بغرض زيادة إيرادات خزانة الدولة، لكن من المرجّح أن تحصل الهيئات العسكرية المعنية إما على رسوم إدارية أو حصة محددة من صافي الدخل، سواء تم تخصيصها رسميًّا أو تم التأكيد عليها كأمر واقع. لكن الهيئات العسكرية ليست الطرف الفاعل الوحيد في أيٍّ من هذه القطاعات، (ربما باستثناء للمعادن الثقيلة) وسيتعين عليها إخراج الشركات الخاصة المحلية والأجنبية التي تهيمن عليها حاليًّا بالقوة. لكن هذا قد يكون باهظ التكلفة، من الناحية السياسية طبعًا ومن الناحية المالية أيضًا، كما تشير الاستثمارات العسكرية في قطاعات الإعلام والصلب والإسمنت (التي تمّ التطرق إليها في الفصل 5).24

الودائع المصرفية والصناديق السوداء

خلافا لميزانية الدفاع المودعة لدى البنك المركزي المصري، فإن وزارة الدفاع تضع جزءًا على الأقل من دخلها في مجموعة متنوعة من البنوك المصرية، "مليار هنا ونصف مليار هناك"، وفقًا لمصدر في البنك المركزي طلب عدم ذكر اسمه.25 من المحتمل أن تدير الودائع هيئة الشؤون المالية في وزارة الدفاع، لكن حتى في هذه الحالة، فإن مدى سلطتها الفعلية على الأصول المالية العسكرية غير واضح: فهي غير ممثلة في مجلس إدارة جهة اقتصادية رئيسة مثل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، مثلًا، كما أنها لا تمتلك الأسهم التي تملكها وزارة الدفاع في شركات مثل "الثروة للبترول".26 بالفعل، فإن الهيئات التابعة لوزارة الدفاع مثل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مخولة بموجب القانون بفتح وإدارة حساباتها الخاصة في بنوك تجارية تملكها الدولة، وتديرها بشكل مستقل على الأرجح.

وبنفس الأهمية، تحتفظ وزارة الدفاع بجزء كبير من أموالها في ودائع بالدولار. ففي أواخر عام 2011، على سبيل المثال، أقرضت البنك المركزي مليار دولار للمساعدة في دعم الجنيه المصري.27 ويستند وصولها السهل إلى مبالغ كبيرة من الدولارات إلى قانون ساري المفعول منذ عام 1984 على الأقل، يسمح لها بشراء "عملة حرة" والاحتفاظ بها من أجل تمويل وارداتها واستثماراتها وتسوية مستحقات الموردين.28 إلى ذلك، فإن اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية في ذلك الوقت، برّر في أيار/مايو 2013 احتفاظ وزارة الدفاع بالودائع بالعملات الأجنبية لتكون وسيلة لمساعدة السلطات المدنية على معالجة "حالات الطوارئ". ووفقًا للمقال نفسه الذي زعم أنه يستشهد بنصر مباشرة، كشف نصر أيضًا أن وزارة الدفاع كانت قد رفضت طلبًا من الرئيس محمد مرسي آنذاك للحصول على قيمة ملياري دولار بالعملة االصعبة لمساعدة الحكومة في التعامل مع تفاقم النقص في الكهرباء والوقود وسلع أساسية أخرى.29 وكما اشتكى أحد كبار المصرفيين، فإن هذا الامتياز الخاص جعل المؤسسة العسكرية "دولة داخل الدولة، مع إمداداتها الخاصة من العملة الصعبة".30

تحتفظ أيضًا وزارة الدفاع وهيئات عسكرية أخرى بصناديق خاصة تودع فيها فوائض الميزانية مقومة بالجنيه المصري لأنها جزء من الميزانيات الرسمية، وهو ما تفعله هيئات حكومية مدنية كثيرة. وقد جرى إنشاء صناديق خاصة من خلال سلسلة من المراسيم الرئاسية التي صدرت ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، وهي معروفة باسم "الصناديق السوداء"، سيئة السمعة. وقد أتاح ذلك حافزا مفسِدًا للمؤسسات العامة لتحميل تكاليف استثمار رأس المال وخسائر التشغيل لخزانة الدولة، فيما تُظهر فوائض صافية في ميزانياتها (التي سُمح لها بوضعها في صناديق خاصة وترحيلها من سنة مالية إلى أخرى). وقد كشف النشر النادر للحسابات السنوية للهيئة القومية للإنتاج الحربي في وزارة الإنتاج الحربي وعدد قليل من هيئات القوات المسلحة الأخرى في عام 2011 أنها اتّبعت نفس الممارسة.

وكما كشف نزار مانِيك وجِريمي هودج في مقال مميز من الصحافة الاستقصائية، توضع الصناديق الخاصة في البنك المركزي، لكن لا يتمع البنك المركزي ولا وزارة المالية ولا الجهاز المركزي للمحاسبات بأي سلطة رقابية أو تنظيمية عليها.31 ووفقًا لعبد الخالق فاروق، ضابط الشرطة السابق في الإدارة المالية الذي انقلب إلى إفشاء المخالفات، كان هناك 600 صندوق خاص (تحتوي على 500 مليون جنيه مصري) بحلول 2000-2001، وارتفع العدد إلى 1045 بحلول عام 2003.32 في عام 2012، أعطى اللواء نصر رقم 7000 صندوق فيها 35,5 مليار جنيه (ما يقارب 6 مليارات دولار عندها) من الودائع، في حين قدّر مانيك وهودج أن الصناديق الخاصة كانت تحتفظ بعد عامين بما يعادل 9,4 مليارات دولار على الأقل.33 لا يمكن تحديد حصة المؤسسة العسكرية بثقة، لكن مانيك وهودج زعما أن صناديق خاصة تبلغ قيمتها حوالي 4,9 مليارات دولار في السنة المالية 2010-2011 تخص هيئات اقتصادية حكومية لها علاقات وثيقة بالمؤسسة العسكرية، مثل هيئة قناة السويس، وشركة البترول المصرية العامة، والهيئة العربية للتصنيع.34

في أيار/مايو 2017، أكّد اللواء صفوت النحاس، عضو لجنة الإصلاح الإداري التي جرى تشكيلها مؤخرًا، أن الصناديق الخاصة لا تزال تفتقر إلى الهياكل التنظيمية والقوانين، موضحًا أن "تلك الصناديق ليست سوى شركة تابعة للجهة [في الدولة] التي تمتلك الصندوق".35 بهذا الكلام، كان يردد عن غير قصد كلام العالم السياسي والعضو المؤسس للحزب الاشتراكي الديمقراطي المصري، الراحل سامر سليمان، الذي كان قد وصف في عام 2011 تحوُّل مؤسسات الدولة في عهد مبارك إلى "إقطاعيات مالية مستقلة ذاتيًّا".36 أما كيفية استخدام الصناديق الخاصة بالمؤسسة العسكرية، فهذا يبقى محل تكهنات، ولكن، كما أوضح تقرير أصدرته منظمة الشفافية الدولية لعام 2018 حول آليات تمويل الأمن في نيجيريا، فإن الأموال الاستنسابية من هذا النوع قد تتجاوز أجزاء كبيرة من ميزانية الدفاع الوطني العادية، إن لم تكن تزيد عنها بالكامل.37

إضافة إلى ذلك، قد تتحكم وزارة الدفاع بالأموال التي تتحصل خارج الصناديق السوداء. ففي شباط /فبراير 2015، أظهرت محادثة مسرّبة بين السيسي ومساعده اللواء عباس كامل أن الرئيس يعتزم إيداع 10 مليارات دولار من المساعدات من دول الخليج في حساب وزارة الدفاع.38 ليس من الواضح ما إذا كان التبرع الخليجي قد ذهب إلى حسابها العام أو إلى صندوق خاص منفضل، غير أن المؤكد هو أن وزارة الدفاع هي إحدى هيئات الدولة المرخص لها بتلقي التبرعات الأجنبية في صناديقها الخاصة.39

وبالقدر نفسه، يرجح أن يكون قد تم إعفاء الهيئات العسكرية من قرار حكومي صدر في عام 2013 بتحويل 6061 صندوقًا خاصًّا بقيمة 38,6 مليار جنيه (حوالي 5,7 مليارات دولار) إلى حساب موحد في البنك المركزي. كما يحتمل أن يكون قد جرى إعفاء الهيئات العسكرية مرة أخرى تلقائيًّا من المرسوم اللاحق الصادر عن السيسي في تموز/يوليو 2014 والذي اشترط على "الهيئات العامة والقومية والاقتصادية والخدمية" التي لديها صناديق خاصة أن تسهم بنسبة 10 في المئة من دخلها السنوي في ميزانية الدولة.40 وفي وقت لاحق جرى رفع المساهمة الإلزامية إلى 25 في المئة في قانون الموازنة لعام 2016، ولكونها كيانًا من قطاع الأعمال العام فإن الهيئة القومية للإنتاج الحربي من المفترض أن تكون خاضعة للقانون، ولكن تمّ إعفاؤها بشكل صريح.41 إن انخفاض قيمة الجنيه المصري في هذه الأثناء كان من شأنه أن يقلل بشكل كبير من قيمة الصناديق الخاصة بالدولار، وبالتالي فمن المرجَّح أن يكون إعفاء المؤسسة العسكرية من تقديم مساهمات مماثلة قد أدى فقط إلى تعويض جزء من الخسارة فحسب.

يسمح التشريع الساري منذ عام 1984 على الأقل بالاقتراض العسكري من البنوك والشركات والهيئات الأخرى، بما في ذلك هيئات أجنبية، وبإقراض الشركات. ويقدّر المحلل الاقتصادي عبد الفتاح برايز أن وزارة الدفاع لم تحصل في الواقع على قروض من هذا النوع حتى نهاية العام 2015، ولم تتنافس مع القطاع الخاص في الحصول على قروض.42 ولكن هذا بدأ يتغير، كما يُستدل من استملاك الهيئات العسكرية لشركات الصلب منذ ذلك الوقت. كما استثمرت وزارة الدفاع رأس المال من كيانات حكومية في مشاريع تديرها الوزارة، ومن الأمثلة المهمة على ذلك الاستثمار من قبل الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي والمعاشات التقاعدية في خطة توشكى لاستصلاح الأراضي التي تديرها وزارة الدفاع.43

ومن المعروف أيضًا أن الشركات التي تمتلك المؤسسة العسكرية حصة تجارية فيها استفادت من الوصول التفضيلي إلى القروض. وفي بحث لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تشير شانا مارشال إلى مثال شركة تابعة لشركة "ثروة للبترول" التي تملك فيها وزارة الدفاع حصة مباشرة والتي تمكَّنت من اقتراض 20 مليون دولار من البنك الوطني المصري في عام 2014: فبعد أن كانت الشركة تقوم بأعمال تجارية صغيرة فحسب مع الدولة سابقًا، فقد فازت بسرعة بامتيازيْن رئيسيْن.44ولعل الرغبة في الحفاظ على الدعم المصرفي لشركات تملكها الدولة وذات الأداء الضعيف، بما في ذلك الشركات ذات الروابط العسكرية، قد تساعد في توضيح معارضة وزير الدفاع عندها طنطاوي للخصخصة المقترحة لبنك القاهرة في عام 2004.45 ولا تزال هذه مشكلة، كما أظهرت حالة الشركة الوطنية للنقل البحري، وهي إحدى الشركات التابعة لوزارة الدفاع، والتي تم اكتشاف أنّها راكمت ديونًا كبيرة في السنوات التي امتدّت حتى عام 2016.46

محاسبة بدون تدقيق

يذكر المتحدثون الرسميون باسم القوات المسلحة وكبار مسؤولي الصناعة الحربية بانتظام أن الشركات العسكرية "سواء كانت زراعية أو خدمية أو صناعية أو غير ذلك، تخضع للضرائب والمراقبة من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات، مثل أي شركة أخرى في مصر".47 ولكن أحمد السيد النجار، الذي كان في حينه اقتصاديًّا كبيرًا في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية المملوك للدولة، أجاب بدون مواربة أن هذه المزاعم "تتعارض تمامًا مع الحقيقة". وأضاف إلى ذلك أيضًا أن النتيجة المنطقية لقيام كل وزارة حكومية بإدارة أنشطتها الاقتصادية الخاصة هو تفكيك الدولة وإيقاع ظلم بالشعب المصري. 48

كان ذلك في عام 2012، لكن لم يتغير الكثير منذ ذلك الحين. بشكل عام، يرتكب مسؤولو قطاع الدفاع خلط الحسابات (أي تتبّع التدفقات الداخلة والخارجة من الأموال وموازنة القوائم المالية في نهاية كل فترة محاسبية)، مع التدقيق (التحقق الأكثر تطلبًا من البيانات المالية لأغراض تحديد مجالات المخاطر المالية وتقييم الضوابط والعمليات وتدفقات المعلومات، وبالتالي الكفاءة الشاملة للإدارة وغيرها من النظم. فيتم إجراء الحسابات داخليًّا، في حين يتم بالعادة إجراء التدقيق بواسطة جهات خارج الهيئات قيد التحقيق ومستقلة عنها، ولكن ليس هذا هو الحال في المؤسسة العسكرية المصرية.

تمسك الهيئات العسكرية حسب الأصول دفاترها المالية - كما تفعل وزارة الدفاع مع القوات المسلحة وهيئات تابعة أخرى- لكن لا يبدو أنها تخضع لِما يمكن اعتباره تدقيقًا كاملًا. وإنه من المُستَبعد أكثر كذلك أن يقوم الجهاز المركزي للمحاسبات، أو أي هيئة حكومية أخرى متخصصة، بأي دور لجهة تقييم قدرة الهيئات العسكرية التي تقوم بنشاطات اقتصادية على تحقيق أهدافها الأدائية، وحل المشكلات، وتغيير العمليات أو إعادة تصميمها لتحسين النتائج. وما يخلق المزيد من العرقلة أمام إجراء تقييم أكثر فعالية للأداء هو غياب الشفافية ربطًا بما إذا كانت الشركات التي تم الاستحواذ عليها أو تأسيسها مؤخرًا تعتبر أصولًا أم نفقات في الكشوفات العسكرية، وما إذا كانت هذه الأخيرة تُظهر المستحقات على أنها ديون أو على أنها مستحقات متأخرة، والتي يمكن ترحيلها من سنة مالية إلى أخرى. يبدو أن هذه هي طريقة المحاسبة لدى شركات وزارة الإنتاج الحربي، على الأقل، ما يساعد على تفسير تكبدها الخسائر التراكمية الكبيرة. كما أن تأجيل الدفع للمقاولين المدنيين لأجل غير مسمى هو أيضًا وسيلة لإظهار المشاريع التي تديرها الهيئات العسكرية على أنها ناجعة ومربحة، كما أظهرت قضية شركة "أملاك للمقاولات" في أغسطس/آب 2019، والتي ادعى مالكها أنها تستحق 225 مليون جنيه مصري مقابل أعمال بناء قامت بها لصالح وزارة الدفاع.

تمسك الهيئات العسكرية حسب الأصول دفاترها المالية لكنه لا يبدو أنها تخضع لِما يمكن اعتباره تدقيق كامل.

يبدو أن وزارة الدفاع قد أدارت حسابات جميع الهيئات التابعة لها حتى مطلع القرن الحالي تقريبًا. ولكن مع تسارع المشاركة العسكرية في الاقتصاد المدني آنذاك، فقد جرى إنشاء مكتب خاص لوزارة المالية في وزارة الدفاع لمراجعة دفاتر الشركات والهيئات التابعة للوزارة وللقوات المسلحة المنخرطة في مجال الإنتاج غير الحربي والأشغال العامة.49 ولكن، وفقًا لمصدر مطّلع، فإن المكتب الخاص يبلّغ ببساطة عن إجمالي النفقات والإيرادات، ما يشير إلى أن مهمته الرئيسة هي بالأحرى موازنة الدفاتر وليس إجراء عمليات تدقيق تفصيلية.50 أيّد هذا التفسير سمير رضوان، وزير المالية المؤقت في عام 2011، الذي اشتكى من أن وزارته ليس في مستطاعها أكثر من تتبع مخصصات الأموال العامة للهيئات الحكومية والإبلاغ عن الإنفاق الفعلي، لكنها تفتقر إلى التفاصيل ولا يمكنها تقييم ذلك الإنفاق. والهيئات المتعلقة بالدفاع تخضع لرقابة أقل حتى من ذلك.51

وبالمثل، قد تقوم وزارة الإنتاج الحربي بمسك الدفاتر من خلال قسم المحاسبة الخاص بها، ولكن حقيقة أن رئيس هيئة الشؤون المالية في وزارة الدفاع يحتل مقعدًا في مجلس إدارة الهيئة القومية للإنتاج الحربي التي تتبع الوزارة، تشير إلى أن ميزانية الهيئة القومية وعملياتها المالية قد تخضع أيضًا للمراجعة من قبل نفس مكتب وزارة المالية في وزارة الدفاع.52 لكن رئيس "قطاع الموازنة العامة للدولة" في وزارة المالية، وهو لواء متقاعد من القوات المسلحة، هو أيضًا عضو في مجلس الإدارة، ما يشير إلى مستوى إضافي من الانخراط. وفي أي حال، هذا على ما يبدو، مكّن وزير الإنتاج الحربي اللواء محمد العصّار من الادّعاء أنّ ميزانية وزارته تخضع للتدقيق "تحت إشراف وزارة المالية".53 (وفي مقابل ذلك، فإن الهيئة العربية للتصنيع لا تأتي رسميًّا ضمن نطاق أي هيئة تدقيق، كونها تحتفظ بمكانة منظمة دولية وبالتالي لا تحكمها إلا لوائحها الداخلية، مع أنها قد تسمح بعمليات تفتيش من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات على أساس اختياري54).

مهما كانت مزايا أو عيوب نمط المحاسبة هذا، فإنه لا يرقى إلى مستوى التدقيق، ناهيك عن التدقيق المستقل. يدّعي مسؤولو الدفاع خلاف ذلك. على سبيل المثال، في آذار/مارس 2012، صرح مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية اللواء نصر "أننا نخضع للجهاز المركزي للمحاسبات... الذي يوفد مئات اللجان الرقابية سنويًّا".55 وقدّم مصدر عسكري لم يكشف عن اسمه وضوحًا أشمل في عام 2015 بقوله إن الجهاز المركزي للمحاسبات قد راجع الأنشطة الاقتصادية العسكرية المتعلقة بتوفير "الخدمات العامة" على وجه التحديد، وذلك ما أكّده العصّار لاحقًا، وأضاف أن شركات وزارة الإنتاج الحربي دفعت الضرائب، ورسوم الجمارك، ومساهمات التأمين الاجتماعي عن إنتاجها للأسواق المدنية.56 ليس واضحاً كيف يتم التحقق من التمايز بين مجالي الإنتاج العسكري والمدني في الوزارة أو الحفاظ عليه، على فرض أنه يتم الالتزام بالتمايز أصلاً. وبالمثل، فإنه من المرجح أن تستفيد المعدات والمواد التي تمّ الحصول عليها للإنتاج من الحيز الواسع من الإعفاءات الضريبية والجمركية التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية، بغض النظر عما إذا كان استعمالها النهائي عسكريًّا أو مدنيًّا.

يبدو أن هذا التمايز سمح للجهاز المركزي للمحاسبات، الذي لا يتمتع بسلطة على الجهات المرتبطة بالدفاع، بنافذة محدودة على الاقتصاد العسكري الرسمي. وفي حديث له في أوائل عام 2014، أعطى رئيس الجهاز هشام جنينة الشركات العسكرية "شهادة السلامة الصحية". لكن دعوته بعد ذلك بعامين إلى "ثورة تشريعية" لتمكين هيئات التدقيق الحكومية جعلته في صراع مع السيسي، فقامت لجنة عيّنها السيسي للتحقيق في أقوال جنينة باتهامه باستخدام "بيانات غير صحيحة وغير دقيقة، وتعريض السلام العام للخطر وإضعاف احترام الدولة والثقة في مؤسساتها"، وتم عزل جنينة من منصبه في آذار/ مارس 2016.57

توظيف التدقيق كسلاح

منذ ذلك الحين، جرى حجب الجهاز المركزي للمحاسبات بشكل كامل من قبل هيئة الرقابة الإدارية التي كان رئيسها الضابط السابق في القوات المسلحة اللواء محمد عرفان جمال الدين، الذي قاد التحقيق مع جنينة.58 إن صلاحية هيئة الرقابة الإدارية، التي أسسها الرئيس آنذاك جمال عبد الناصر في عام 1958 ورفع مستواها في القانون 54 لعام 1964، هي مكافحة الفساد في أي هيئة حكومية أو شركة خاصة تعمل في الأشغال العامة. ولعقود من الزمن، استبعد نطاق اختصاصها قطاع الدفاع بشكل فعلي، لكن في عام 2017، صدق السيسي على القانون المعدل 207 الذي جعل هذا الاستبعاد رسميًّا من خلال قصر نطاق الهيئة على وجه التحديد على الهيئات المدنية.59 أزال هذا الإجراء آخر ادعاء متبقٍّ بأن أي هيئة مرتبطة بالدفاع (فيما عدا شركاتها في القطاع العام) تخضع لمراجعة خارجية للحسابات من قبل أي هيئة حكومية.

وبفضل صلاحياتها في التحقيق القضائي، فإن هيئة الرقابة الإدارية هي أقوى هيئة تدقيق في مصر، وقد استخدمها الرؤساء المتعاقبون لمعاقبة المعارضين وضبط الموالين. وبالمثل، استخدم السيسي الهيئة لتكون، كما أسماه صحافي مصري، "ذراعه الضاربة"، تأكيدًا لالتزامه العلني بالقضاء على الفساد مع ضمان الطاعة.60 وفي نيسان/أبريل 2015، قام السيسي بإقالة اللواء محمد عمر وهبي هيبة بعد مرور عامين ونصف العام على ترؤسه الهيئة فقط (بدلاً من السنوات الأربع المعتادة)، ليحل مكانه عرفان، زميل السيسي خريج الكلية الحربية في عام 1977.61

ترأس هيئة الرقابة الإدارية ضباط مُعارين من القوات المسلحة على الدوام، وهم يقودون أيضًا العديد من أقسامها العملياتية وفروعها المناطقية وعددها 29.62 وكان القانون 112 لعام 1983 يعكس مدى هذا الاختراق من خلال إنشاء جدول لتحويل جميع الرتب العسكرية إلى الدرجات الإدارية المدنية المعادلة لها، وتحمّل رواتب وبدلات وأقدمية ضباط القوات المسلحة الذين تم نقلهم إلى الهيئة.63 وحسب وصف المحقق السابق في الهيئة، معتصم فتحي، في عام 2014، فإن هيئة الرقابة الإدارية "أقرب إلى جهاز مخابرات، حيث تأتي الغالبية الساحقة من ضباطها من الجيش والشرطة ويتمتعون بصلاحيات واسعة في إجراء التحقيقات والتفتيش والمراقبة".64 وهذا يجعل هيئة تفتيش القوات المسلحة هي الجهة الوحيدة المخولة بالتحقيق في الفساد في داخل القوات المسلحة، ويُنظر في القضايا على وجه الحصر من قبل المحكمة العسكرية، ما يضمن عدم دخولها إلى نظام العدالة المدنية حتى في تهم غير عسكرية.65

منذ توليه الرئاسة، رسّخ السيسي هيئة الرقابة الإدارية كأداة للسلطة الرئاسية. 66 وفي عام 2015، حددها المرسوم الصادر عن رئيس الوزراء باعتبارها "من الهيئات التي تقتضي اعتبارات الأمن القومي سرية تعاقداتها".67 وفي تشرين الأول/أكتوبر 2017، وافق البرلمان على إنهاء استقلالية الهيئة من خلال تمكين رئيس الجمهورية من تعيين وتسريح رئيسها، ومنح رئيس الهيئة رتبة ومزايا وزير، وأعفاها من أحكام قانون التأمين الاجتماعي الذي يقصر الأجر الداخل في حساب المعاش التقاعدي على 80 في المئة من الراتب الأساسي النهائي (وبالتالي رفع الحد الأقصى المسموح به إلى 100 في المئة).68

وبشكل مواز، علت صورة هيئة الرقابة الإدارية. فقام عرفان، الذي تم تجديد ولايته لمدة أربع سنوات أخرى في 31 آذار/مارس 2017، بتوسيع محفظة أعماله من خلال زيارة مشاريع البنية التحتية والتحدّث عن التنمية الاقتصادية الوطنية.69 في غضون ذلك، فاز المقدّم مصطفى السيسي، الابن الثاني للرئيس الذي تم نقله من القوات المسلحة إلى هيئة الرقابة الإدارية بعد أن تولى والده الرئاسة، بدعاية غير عادية لمسؤول من رتبة متوسطة إذ نُسب الفضل إليه في تقديم عدة قضايا بارزة.70 وقامت وسائل الإعلام الموالية للحكومة بتلميع صورته، واحتفلت به باعتباره "حامل الشعلة" و"الرجل القوي" الذي وجه "ضربة مؤلمة إلى مافيا الفساد في مصر"، ما يشير إلى أنه يجري إعداده لرئاسة السلطة في نهاية المطاف.71 بدا موقف عرفان آمنًا بعد أن كلف الرئيس هيئة الرقابة الإدارية بحل نزاعات ضريبية بقيمة 900 مليار جنيه في تموز/يوليو 2018، لكن عزله المفاجئ بعد شهر واحد فقط أعطى وزنا للتنبؤات بالصعود السريع لمصطفى السيسي.72

من الواضح أن الرئيس السيسي قد استخدم هيئة الرقابة الإدارية ليتبرّأ من شبكات فاسدة ويلمّع مصداقيته، لكنه يواصل استخدامها بشكل انتقائي، ولم يتعامل مع السلطات الاستنسابية والضبابية التي تُمكّن الفساد المنهجي المنظم في مصر. ربما أدى انخراط الهيئة في مراجعة المناقصات والمزايدات الخاصة بالأشغال العامة التي تديرها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة منذ نهاية عام 2015 إلى تدقيق أكثر صرامة في شروط مرجعية العقود الممنوحة للشركات الخاصة، لكنها لا تشكل تدقيقًا ذا معنى في التمويل والنشاطات الاقتصادية العسكرية. بل في الواقع، قد يشكل تزامل هيئة الرقابة الإدارية مع الهيئة الهندسية وسيلة للالتفاف على القواعد والنظم الحكومية، التي تشكل مصدر إزعاج للسيسي، وهو الذي وبّخ جهاز الدولة الإداري صراحة في 2015 واصفاً إياه "عقبة أمام تقدم مصر".73 أسوة بذلك، فقد انتقد بشدة دراسات الجدوى، إذ صرّح بعد مضيّ ثلاث سنوات على توبيخه إياه أنه "في تقديري، إذا كنت مشيت فيها [أيّ اتبعته] وأخذتها العامل الحاسم في حل المسائل في مصر، أنا أتصور أننا كنا سنحقق فقط 20-25 في المئة مما حققناه".74

وعلى حد تعبير مُفشي الخبايا عبد الخالق فاروق، يظل قطاع الأمن الأوسع في مصر (الدفاع والداخلية والعدالة) يتميز "بطابع الغموض وانعدام الشفافية "تحت ذرائع ودعاوى "اعتبارات الأمن القومي" ما سمح بتوسع "سرطاني" من الناحيتين التنظيمية الإدارية والمالية الاقتصادية، وهذا أدى إلى إضفاء طبيعة أخطبوطية وخرائط إدارية جينية غير مفهومة.75

تخلي البرلمان عن واجبه

إن عجز مجلس الشعب عن ممارسة الرقابة على ميزانية الدفاع أو أي جانب آخر من جوانب شؤون الدفاع (وعدم رغبته في ذلك) يؤكد غياب مساءلة المؤسسة العسكرية أمام السلطات المدنية، ليس إلا. لعقود من الزمن، كان يُسمح للبرلمانيين بالموافقة على ميزانية الدفاع كبند من سطر واحد، دون الحصول على بيان تفصيلي. بعد إطاحة مبارك سعى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى تقليص حتى هذا الحد الأدنى من الصلاحيات البرلمانية، من خلال إصدار إعلان دستوري في حزيران/يونيو 2012 يطالب بتقديم ميزانية الدفاع إلى مجلس الدفاع الوطني فقط (الميِّت سريريّاً منذ تأسيسه بموجب دستور عام 1971).76 جرى التأكيد على هذا التقييد في الدستوريْن المنقحيْن اللذين تم تمريرهما عن طريق الاستفتاء تحت إدارتي مرسي ومنصور في عامي 2012 و2014. وقام السيسي من حين إلى آخر بعقد اجتماع للمجلس منذ توليه الرئاسة وأنشأ أمانة عامة مقرها في وزارة الدفاع لجعل أعماله روتينية في تموز/يوليو 2014، ولكن ليس من الواضح أن المجلس قد راجع ميزانية الدفاع قط.77

إن عجز مجلس الشعب عن ممارسة الرقابة على ميزانية الدفاع أو أي جانب آخر من جوانب شؤون الدفاع (وعدم رغبته في ذلك) يؤكد غياب المساءلة للمؤسسة العسكرية أمام السلطات المدنية، ليس إلا.

على أي حال، كانت المعارضة نادرة في مجلس الشعب الخانع سياسيًّا. وحقيقة أن المحاولة التي قام بها النائب علوي حافظ لكشف الفساد في المشتريات الدفاعية في عام 1988 لا تزال تُذكر اليوم، توضح بحد ذاتها كم كانت محاولته استثنائية. وقد أدت جهوده أخيرًا إلى استجواب في عام 1990، ولكن حتى هذا الاستجواب جرى شطبه لاحقًا من السجل البرلماني.78 وبعد عشرين عامًا، فإن أيمن نور، العضو السابق في البرلمان الذي خاض الانتخابات الرئاسية عام 2005 ضد مبارك، دون نجاح استفاد من ثورة عام 2011 لمعارضة مسودة "وثيقة المبادئ" فوق الدستورية التي اقترحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم. فبحجة أن هذا يجعل "الوطن هبة للجيش"، رفض العودة "لزمن "المناطق السوداء" فى الموازنة العامة، حيث لا رقابة ولا مراجعة ولا حساب". كما طالب أيضًا بـأن "تختص لجنة برلمانية بعينها بمناقشة "الجزء العسكري"، فى موازنة القوات المسلحة"، بما في ذلك "النفقات الخاصة بالتسليح، والصناعات الحربية، وما يدور فى هذا الإطار من نفقات، بعيداً عن الشركات الربحية، ومصانع الإسمنت والسيارات والغسالات وشركات المياه المعدنية، ومشاريع الخدمة الوطنية، وغيرها مما ينبغى أن يخضع للقواعد العامة دون غيرها". وأضاف نور محذرًا من أن "يتحول الجيش إلى دولة داخل الدولة، ويصبح هناك وطن للجيش بدلاً من أن يكون لدينا جيش للوطن".79

تصدّت المؤسسة العسكرية لذلك. ففي آذار/مارس 2012، أصر مساعد وزير الدفاع وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة اللواء مختار الملا على أن ميزانية الدفاع ستظل معفية من الرقابة البرلمانية.80 وبعد شهر، قال مساعد وزير الدفاع للشؤون الدستورية والقانونية وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة اللواء ممدوح شاهين إن ميزانية الدفاع "في الفترة الماضية، كانت خاضعة لقوانين معينة ليست مذكورة في الدستور". وعلّق على اقتراح تعديلات دستورية تعفي مجال الدفاع من المنقاشة في البرلمان، بأنّ "هذا بكل بساطة تأكيد واقع كان قائمًا لفترة طويلة. ما هي المشكلة في ذلك..؟"81 كما قام زميلهما اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، بالتباهي علنًا بعد مرور عام على أنه عرقل الجهود التي بذلها الإخوان المسلمون والإسلاميون المتحالفون مع حزب النور لإخضاع ميزانية الدفاع (وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية) للتدقيق البرلماني.82

على الرغم من هذه الاعتراضات، جرى تقديم بعض التفصيل العام للغاية لميزانية الدفاع في مسابقة هي الأولى من نوعها إلى مجلس الشورى في نيسان/أبريل 2013. وكان هذا قبل ثلاثة أشهر من حل المجلس بأمر من المحكمة خلال الفترة الوجيزة من إدارة مرسي.83 لكن الاستثناء لم يفعل إلا تثبيت القاعدة. ففي نيسان/أبريل 2012، وافق البرلمان الذي تهيمن عليه جماعة الإخوان المسلمين على المرسوم الذي أصدره رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة طنطاوي في أيار/مايو 2011، والذي خوّل وزارة الدفاع أن تقرر في ما يتوجب لناحية مقاضاة ضباط القوات المسلحة المتهمين بالمكاسب غير المشروعة في المحاكم المدنية أو العسكرية.84 وفي تشرين الأول/أكتوبر2017، وافق البرلمان على مشروع القانون 207 الذي يقصر بشكل صريح التدقيق من قبل هيئة الرقابة الإدارية على الهيئات المدنية وحدها، ما وضع الهيئات العسكرية خارج صلاحيتها بشكل قانوني للمرة الأولى على الإطلاق.

أصبح مجلس الشعب الخنوع تاريخيًّا متواطئًا بشكل علني مع المؤسسة العسكرية. ولقد حصل ضباط متقاعدون من القوات المسلحة أو الشرطة أو الأمن على 84 مقعدًا برلمانيًّا في انتخابات عام 2015، انضم ما لا يقل عن 17 منهم إلى لجنة الدفاع والأمن القومي.85 وقد ضمن هذا الحضور تأييدًا معلنًا للهيئات الاقتصادية العسكرية في مجلس الشعب، علمًا أن هذا الدعم لم يكن موضع شك قط في يوم من الأيام. وعند سؤالهم في تشرين الأول/أكتوبر 2016، مثلًا، عن ولوج وزارة الإنتاج الحربي مجال التصنيع الطبي، أشاد العديد من النواب بهذا الأمر باعتباره "ضمانًا للجودة". ودعا نائب آخر وزارة الدفاع إلى الإشراف على القطاع الصحي في مصر بالكامل، بحجة أن "أي حاجة فيها الجيش أضمن نجاحها 100%"، مؤكّدًا أنّه "لو الجيش أشرف على قطاع الصحة هيطلع فساد بنسبة 90%" [في القطاع الحالي]. كما أضاف، للمزيد من التأكيد أنّه "لو الجيش مسك البلد هنبقى زي أوروبا خلال سنة من دلوقت [الآن]".86 ونائبٌ آخر كان قد أقرّ أن استخدام المجندين للعمل في الشركات العسكرية منحها ميزة تنافسية على القطاع الخاص قد أيّد، مع ذلك، أيّد توسّع الشركات العسكرية المستمر على أساس أنها تملأ "فراغًا اقتصاديًّا لتوفير السلع التي لا تستطيع الدولة توفيرها".87

أصبح مجلس الشعب الخنوع تاريخيا متواطئا بشكل علني مع المؤسسة العسكرية.

وقد أظهرت مشادة في أثناء نقاش في 25 تموز/يوليو 2016 علاقة البرلمان بالمؤسسة العسكرية بوضوح. المطروح كان اقتراح لزيادة المعاشات العسكرية التقاعدية التي يتم تحميلها للميزانية العامة. ففي كلمته أمام ممثل وزارة الدفاع الذي حضر الجلسة، اعترض رئيس اللجنة البرلمانية لحقوق الإنسان (وابن شقيق الرئيس الراحل) محمد أنور السادات معتبرًا "أننا مش مطلعين على المرتب الأساسى ولا نظام الأجور وده اللي مش مخلينا عارفين نطلب زيادة". وأضاف السادات أن المشكلة هي عدم معرفة الأجور ومعاشات التقاعد الممنوحة من الموازنة (العامة) إلى الضباط الذين "يتقلدون الآن مناصب مدنية سواء وزراء أو محافظين أو رؤساء مدن أو هيئات أو شركات".88 هنا أسكت رئيس مجلس النواب السادات بالقوة، وقد جُرّد هذا الأخير من مقعده البرلماني بعد بضعة أشهر من هذه الحادثة.89 وأثار رئيس مجلس النواب ذاته موجة استنكار عالمية وجيزة في تشرين الأول/أكتوبر 2019 بعدما شبّه طموح السيسي التنموي بطموح ألمانيا النازية، قائلاً بأن "هتلر كانت له أخطاؤه، ولكن ما سمح له بالتمدد شرقًا وغرباً، هو أنه وضع بنية تحتية قوية".90

إنّ التخلي البرلماني يمكّن الاقتصاد العسكري بطرق مهمة. على سبيل المثال، حكمت لجنة الخطة والموازنة بأنها لا تستطيع مراجعة ميزانيات مشاريع عملاقة تُديرها الهيئات العسكرية. وأخبر عضو مجلس النواب ياسر عمر الصحافية الاستقصائية بيسان كساب "أن ما ينطبق على موازنة القوات المسلحة من قواعد ينطبق على موازنة شركة العاصمة الإدارية".91 وقد برّر هذه الحالة تحديداً على أساس أنها "لا تأخذ مليمًا واحدًا من موازنة الدولة"، وهو أمر مغلوط لأن الحكومة قدمت بعض التمويل الأولي، كما أنه أمر مضلِّل لأن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة وهيئات مدنية أخرى ضالعة تتلقى في الواقع تمويلًا عامًّا رسميًّا، وإن كان ذلك بموجب ميزانية الهيئات العامة المنفصلة عن ميزانية الدولة. وكان مسؤولون آخرون، من ضمنهم السيسي والناطق بإسم الشركة التي تدير مشروع العاصمة الإدارية، قد أضافوا التبريرات الأخرى التي تفيد بأن تطويرها قد مُوِّل فقط من عائدات مبيعات الأراضي. وكان مجلس النواب قد سمح ضمنيًّا بهذا النقل الشامل لحقوق الانتفاع على أراضي الدولة وأصولها والعائدات منها إلى جهات مؤسساتية فاعلة تحظى بإمتيازات. كما أنها امتنعت عن طلب توضيحات حينما اعترف السيسي باستخدام المال العام لبناء قصور رئاسية متعددة في نواحي البلاد في أيلول/سبتمبر 2019 وتعهد ببناء أخرى، مدعيًا "بأن هذه ليست لي. لا شيء لأجلي.. هذه من أجل مصر".92

أجور الإفلات من العقاب

لقد غرست القوات المسلحة بدأب صورة من النزاهة والاستقامة المالية، وبنجاح غالبًا كما يؤكد تملّق أعضاء البرلمان المذكور أعلاه. يتناقض هذا مع التصور السائد بأن الفساد يتفشى لدى نظيراتها المدنية، سواء في القطاع الخاص أو العام، وهذا التصور يُروّج له العسكريون بشكل غير رسمي ولكن نشيط. كانت أمور مثل سوء إدارة أصول الدولة والموارد الوطنية، والفساد الصريح، هي من السمات البنيوية للاقتصاد المصري منذ قيام القوات المسلحة بتأسيس الجمهورية، ولم يكن شذوذًا. وبإعادة صياغة تقييم المحلل توم دي وال للفساد في أوكرانيا، فإن المشكلة ليست في أن الدولة التي تعمل بشكل جيد قد تعرضت لعَيب بسبب بعض الممارسات غير القانونية، بل هي في أن تلك الممارسات الفاسدة تشكّل القواعد التي تدار بها الدولة.93 لكن الفكرة القائلة إن المؤسسة العسكرية تمكَّنت من البقاء مَعقلًا للنزاهة وسط بحر من الفساد لعقود من الزمن ليست مقنعة ولا تؤكدها الحقائق. بل إن الأدلة السردية والروايات الداخلية وانكشاف الفضائح من الأنواع المذكورة أدناه تشير إلى فساد نمطي وواسع النطاق، على الأقل داخل تلك الأجزاء من قطاع الدفاع المعنية بالمشتريات والتموين، وترخيص الأعمال من جميع الأنواع والمقاولات والخدمات العامة.

لقد حدّد السيسي في العلن، مرارًا وتكرارًا، الفساد على أنه يشكل تحديًا كبيرًا، مشيرًا إلى أن مكافحته تتطلب وقتًا وجهدًا كبيريْن.94 وقد أدرك علاوةً على ذلك أن هذا يؤثر على مؤسسات الدولة الكبرى. على سبيل المثال، فهو اعترف لمسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية استشهد به الصحافي بيتر هِيسلر بأنه غير قادر على معالجة الفساد في الشرطة لأنها "مافيا من مليون رجل".95 لكن مسؤولًا أميركيًّا آخر رفيع المستوى، عمل سابقًا في إدارة العلاقة الرسمية الثنائية مع وزارة الدفاع المصرية، يقول إن هذا الأمر يعمل أيضًا لصالح السيسي، إذ إنه "كمدير سابق للمخابرات الحربية، على دراية تامة بالاقتصاد العسكري بكل أبعاده. . . [و] يعرف مكان دفن الجثث المجازية96 ". ووفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، فإن خطر الفساد ازداد سوءًا في الواقع منذ توليه الرئاسة: سجلت مصر باستمرار بين 32/100 و37/100 على مؤشر إدراك الفساد الشامل لعامي 2014 و2018، ما يضعها في حيز الأداء الضعيف من المؤشر.97

واللواء مايكل كولينغز، الذي شغل منصب كبير ممثلي الدفاع للولايات المتحدة لدى مصر ورئيس مكتب التعاون العسكري في القاهرة من عام 2006 إلى عام 2008، قال في وقت لاحق لصحيفة نيويورك تايمز إن الفساد أصبح مستوطنًا في هيئة كبار ضباط القوات المسلحة. وأكد أن "مَبلغًا لا بأس به" من دخل الأعمال العسكرية الرسمية "يعود إلى كبار الضباط المسؤولين عن هذه المصانع المعينة". وكشف كولينغز أيضًا أنه وفقًا لنظرائه في القوات المسلحة الذين التقى بهم عندما كان يعمل في مصر، كان مبارك يصرف دفعات نقدية لقادة صنوف القوات المسلحة الأربعة، وهو ادّعاء أكدّه بشكل منفصل لصحيفة نيويورك تايمز ضابط متقاعد رفيع المستوى من القوات المسلحة المصرية.98 يمتد النمط تنازليًّا من أعلى الهرم القيادي إلى أسفل، إذ يقال إن المجندين المقتدرين يدفعون رشاوى مقابل تعيينهم في الوحدات أو المواقع التي يفضلون، وقد وصلت الرشوة إلى 15000 جنيه مصري في عام 2015 (2000 دولار عندها).99

تتعزز الحصانة القانونية أكثر بفضل الحظر الرسمي المفروض على إفشاء المعلومات العسكرية، بدءًا بالقانون 313 لعام 1956 واستمرارًا في تشريعات أكثر عمومية مثل المرسوم الرئاسي 35 لعام 1960 بشأن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وقانون المحفوظات والمخابرات الوطني رقم 100 لعام 1971.100 واستنتج المؤشر الدولي لمكافحة الفساد في قطاع الدفاع الحكومي التابع لمنظمة الشفافية الدولية أن الإجراءات والآليات المعمول بها لمنع الفساد تضع مصر في المرتبة الأولى بين البلدان التي يكون فيها خطر الفساد في قطاع الدفاع "حرجًا" في كل فئة يجري قياسها.101

وتكشف روايات داخلية أن هذه المخاطر حقيقية، وليست عرضية. على سبيل المثال، يوجد نمط ثابت في الإدارة المالية لوزارة الدفاع حيث توافق على فواتير معروف بأنها مغشوشة، في حين أن مسؤولي المشتريات يطلبون رشاوى بشكل روتيني لمنح العقود. كما تبين أدلة متناقلة ازدياد مبالغ الرشوة بشكل حاد منذ استيلاء القوات المسلحة على السلطة عام 2013، ما يعكس وضعها السياسي المعزّز. بالفعل، إن الموانع المرتبطة بمفاهيم الشرعية قد ضعفت أكثر، ما أدى إلى ما يمكن أن يطلق عليه "ريادة الأعمال" الجشعة: أي زيادة الإدراك بفرص توليد الدخل الإضافي والجسارة في انتزاعه من الجهات المدنية. وأهم مثال على ذلك هو التدخل العسكري في تشغيل شركة الاستثمار الحكومية التي توفر رأس مال أوليًّا للشركات الناشئة، وإرغامها على انتداب الضباط الى عضوية مجالس إداراتها أو المطالبة بحصة من أسهمها (تصل إلى 20 في المئة) في مقابل الموافقة على التمويل.

هنالك أدلة تراكمية كبيرة عن هذه الممارسات، وهي تعود إلى عدة عقود مضت. وقد لاحظ العالم السياسي جون واتربري في أوائل ثمانينيات القرن الماضي أن "كبار ضباط القوات المسلحة المصرية يستغلون نفوذهم، ويتقاضون عمولات على كل شيء من صادرات الحمضيات إلى مشتريات الأسلحة، وقد استحوذوا على ممتلكات وإيرادات من خلال تخصيص أو إدارة الممتلكات المُصادرة".102 كما أكد زميله العالم السياسي والخبير في شؤون مصر روبرت سبرينغبورغ التقارير الواردة من المتعاقدين الأجانب العاملين في مصر والتي تفيد بأن ممارسات مربحة مماثلة تركزت في تلك الحقبة على الموانئ الرئيسة لجهة تأجير الأرصفة، وإصدار أذونات تفريغ البضائع، وتقديم طلبات تعويض زائفة عن تأمين سلع تالفة.103 وبعد ثلاثين عامًا كان ضباط القوات المسلحة لا يزالون يضيفون إلى دخلهم من خلال تحصيل الرسوم نقدًا مقابل تقديم الخدمات الروتينية التي يسيطرون عليها مثل المرور عبر قناة السويس، وذلك وفقًا لدبلوماسيين أجانب قابلهم الصحافي ماثيو أكسلرود في عام 2011.104 وفي آذار/مارس 2014، اشتكى علنًا تاجر خاص يستورد أجهزة استقبال الأقمار الصناعية، من اضطراره حديثاً إلى دفع آلاف الدولارات رشاوى للضباط العسكريين الذين يعملون مع هيئة قناة السويس نظير إطلاق شحناته.105 وكانت السفن التي تمر عبر قناة السويس مضطرة بشكل روتيني إلى استئجار طواقم محلية لتسهيل عبورها، بالإضافة إلى دفع رشاوى وإكراميات أصغر.106

يحصل استخراج الدخل غير المشروع حينما تتحكم الهيئات العسكرية بأدوات الوصول المادي أو التنظيمي إلى موارد أو قطاعات محددة. يؤكد رجال الأعمال أنه قد طُلب منهم بانتظام التبرع لصناديق وزارة الدفاع مقابل الحصول على رخص لتسجيل أراضٍ أو تغيير وجهات استخدامها منذ عام 2001، أو دفع رشاوى مباشرة. إلى ذلك، غالبًا ما يتم تقديم الطلبات المتعلقة باستخدام الأراضي إلى قادة القوات المسلحة المحليين بدلاً من إدارة وزارة الدفاع المفوضة بذلك، ناهيك عن وزارات التنمية المحلية أو التجارة والصناعة أو المالية، التي يشكّل كل منها المرجع الأكثر بديهية، الأمر الذي يخلق فرصًا لطلب الرشاوى، ولاسيما من الشركات الصغيرة. لكن القطاع العام والهيئات الحكومية ليست أقل تضرراً؛ فيؤكد مطّلعون من الداخل أن وزارة الإسكان، على سبيل المثال، دفعت رشاوى تصل إلى ملايين الجنيهات بشكل روتيني لموظفي وزارة الدفاع مقابل الموافقة على طلبات استخدام أراضٍ لمشروعات يمولها القطاع العام.

توفر السيطرة على الحدود فرصًا أخرى مربحة. ومنذ عام 2014 على وجه الخصوص، يقال إن محاصيل المَزارع العسكرية في واحات الفرافرة والبحرية التي كانت تُباع للجهات الحكومية أصبحت تُباع في الأسواق السوداء الليبية. تقوم العشائر المحلية بتسيير قوافل كبيرة من البضائع في الاتجاهين عبر الحدود بمعرفة القوات المسلحة، ويتبلغ الجنود الذين يخدمون في المنطقة من قبل قادتهم عن أي قافلة ينبغي اعتراضها وأيها يجب حمايتها.107

ينتشر الفساد في الاقتصاد والإدارة الأوسع نطاقًا إلى حد يجعل المسؤولين يصنفون، بشكل روتيني، محاربة الفساد كأولوية. في عام 2010، مثلًا، شدد اللواء محمد إبراهيم يوسف، رئيس الشركة القابضة للنقل البحري والبري، على هذه المعركة باعتبارها واحدة من المسؤوليات الاجتماعية الرئيسة للشركة، إلى جانب خدمة المجتمع، ضمان حقوق العمال، وحماية البيئة.108 لكن الكثير من عمليات الاحتيال أو سوء الإدارة المبلّغ عنها يحدث في القطاعات التي تصدّرت فيها وزارة الدفاع. على سبيل المثال، خلصت دراسة بتكليف من مجلس الوزراء في عام 2009 إلى أن خطة تنمية سيناء التي تقودها وزارة الدفاع في تحديد الأولويًّات والتنفيذ قد قصرت في تحقيق غاياتها بنسبة 70 في المئة في الزراعة، و66 في المئة في الصناعة والتعدين والنفط، و86 في المئة في المياه والصرف الصحي. عزا محافظ شمال سيناء اللواء منير شاش هذا الفشل إلى الفساد، دون انتباه إلى سخرية الموقف.109

ثمة تصور عام أنّ الحكم المحلي يشهد أعلى مستويات الفساد ضمن السلطة التنفيذية للدولة المصرية.110 إنه أيضًا مجال تم اختراقه بشكل كبير من قبل متقاعدي القوات المسلحة، وقد تجمّع معظم الفساد الذي جرى الكشف عنه على مدار العقد الماضي حول الموانئ والمطارات والبنية التحتية للنقل البري، وهي جميعها معاقل جمهورية الضباط. في عام 2011، وجدت هيئة الرقابة الإدارية أن هيئة ميناء بورسعيد وقطاع النقل البحري التابع لوزارة النقل كانا قد منحا سلسلة من العقود والتمديدات والشروط الحصرية لشركة قناة السويس لنقل الحاويات منذ عام 1999، ما كان سيؤدي إلى تكبّد خزينة الدولة خسائر بمبلغ 489 مليون دولار (بما في ذلك 350 مليون دولار من الأرباح المستقبلية). والمسؤولون كانوا ثلاثة لواءات متقاعدين ترأسوا هذه الهيئات في ذلك الوقت.111 كانت بورسعيد مرة أخرى محور تحقيق في الفساد في عام 2015، عندما اتُهم المحافظ، وهو لواء متقاعد آخر، بارتكاب صفقات استيراد مزورة.112

في العام نفسه، أعلن رئيس الشركة الوطنية للملاحة البحرية، اللواء (بحري) نبيل لطفي، أن 15 عامًا من تدهور الأداء قد تركت الشركة مدينة بمبلغ 100 مليون جنيه، مع بقاء وجود ثماني سفن فقط بحلول عام 2015 من أسطولها الأصلي الذي كان يبلغ سبعين سفينة. لم يفسّر ذلك، ولكن في سوريا، حصل استنزاف شديد مماثل لأسطول تجاري تملكه الدولة بسبب الاختلاس.113 وقد جرى استبدال لطفي بلواء (بحري) آخر في العام التالي، ونقلت الحكومة الشركة إلى قطاع الأعمال العام المُنشأ حديثًا.114 وفي شباط/فبراير 2016، حُكم على مساعد سابق لقائد سلاح البحرية ورئيس هيئة موانئ بورسعيد بالسجن لمدة خمس سنوات لقبوله رشاوى.115

بالمثل، تأثر الطيران المدني، وهو من معاقل سلاح الجو كما هي قناة السويس والموانئ للبحرية. اللواء المتقاعد من سلاح الجو عاطف عبد الحميد كان يرأس شركة الصيانة والخدمات الفنية لشركة مصر للطيران ثم ترأس مصر للطيران نفسها قبل أن يصبح وزيراً للنقل (من 2011 إلى 2013)، عندما اتهمه جهاز الكسب غير المشروع وأحد نواب البرلمان بتلقي أرباح بمبلغ 4 ملايين جنيه من شركة الطيران بطريقة غير قانونية.116 وفي نيسان/أبريل 2015، أعرب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة، علناً كيف هاله "كم الفساد المسشري في المطار"، وألقى باللوم فيه على "شلل الفسَدة والمنتفعين".117 وقد أمرت هيئة الرقابة الإدارية بإقالة الرئيس الجديد للشركة القابضة لمصر للطيران بسبب انتهاكات مالية، ثم أعلنت "تنظيف" الشركة القابضة للطيران المدني بناءً على تعليمات السيسي في نهاية آب/أغسطس.118

من غير المفاجئ أن يتعرض مجال التموين الغذائي المحلي للاحتيال. فقد زعمت وزارة الدفاع أنها أنتجت ما يصل إلى 60 في المئة من متطلبات القوات المسلحة من الأغذية والزي والسلع الاستهلاكية الأخرى بحلول أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وأنها كانت تبيع فائض إنتاجها في الأسواق المحلية (وأسواق التصدير كما كانت تدعي) ابتداءً من أوائل العقد الأول من هذا القرن. ومع ذلك، فهي تستمر في استيراد كميات كبيرة من نفس السلع أو في شرائها من موردين محليين. وكما هو الحال مع استيراد السلع الأساسية مثل القمح والسكر والأدوية، قد يستدر موظفو المشتريات في وزارة الدفاع ووكلاؤهم التجاريون المفضلون أرباحًا كبيرة من فروق الأسعار بين الأسواق المفتوحة والإنتاج العسكري المدعوم. وبشكل لافت، جرى توقيف عدة متقاعدين عسكريين كانوا يرأسون الشركة القابضة للصناعات الغذائية أو يعملون مستشارين لوزير التموين والتجارة الداخلية في أيار/مايو 2018 بتهمة قبول رشاوى بقيمة مليوني جنيه. كما عُلم أن هيئة الرقابة الإدارية كانت تحقق في الوقت نفسه في شركات فرعية عدة تابعة للشركة.119

يشكل تدوير المسؤولين سيئي السمعة من وظيفة إلى أخرى استجابة نمطية عندما لم يعد من الممكن إخفاء سوء الإدارة أو الاحتيال. لا يعكس "الباب الدوار" دائمًا الممارسات الفاسدة، لكنه يخفي بشكل روتيني الديون الناشئة عن الأداء الضعيف والاحتيال. مرة أخرى، لهذا تاريخ طويل. ففي عام 1986، على سبيل المثال، اتُهم رئيس مجلس إدارة المصنع 360 التابع لوزارة الإنتاج الحربي، باختلاس أموال وإجراء صفقات سرية مع شركات أجنبية وتقديم هدايا من ممتلكات الشركة "إلى كبار المسؤولين في مختلف قطاعات الدولة"، ما أدى إلى خسارة إجمالية قدرها 20 مليون جنيه ( 28,6 مليون دولار عندها) في غضون عامين.120 وزعمت شركة عسكرية أخرى، هي شركة قادر التابعة للهيئة العربية للتصنيع، أنها طردت ضباطًا فاسدين بين عامي 1998 و2004، إلا أن مديرها حوكم هو الآخر في عام 2011 لتلقي رشاوى من شركة "مرسيدس بنز" مقابل منح الشركة عقود توريد.121 في عام 2012، أحالت هيئة الرقابة الإدارية الرئيس السابق للهيئة العربية للتصنيع الفريق سيد مشعل نفسه إلى المحاكمة بتهمة منحه عقوداً بأسعار أعلى من التكلفة.122

يشكل تدوير المسؤولين سيئيي السمعة من وظيفة إلى أخرى استجابة نمطية عندما لم يعد من الممكن إخفاء سوء الإدارة أو الاحتيال.

المظلة القانونية التي تحمي ضباط القوات المسلحة من التدقيق، سواء مَن كان في الخدمة الفعلية أو المتقاعدين، تحميهم أيضًا عندما يواجهون المتاعب. على سبيل المثال، جرى اتهام رئيس الشركة القابضة للصوامع والتخزين، وهو لواء متقاعد من القوات المسلحة ، بتثبيت عقود احتيالية في عام 2011 ثم مرة أخرى في عام 2012، وبإثقال الشركة بنفقات قانونية زائفة، غير أنه ظل في منصبه حتى قامت الجمعية العامة للشركة أخيرًا بإحالته إلى النيابة في عام 2016.123 وبالمثل، عاد إلى مجلس إدارة الشركة لواء متقاعد من القوات المسلحة كان يترأس شركة بيع المنتجات المصرية والذي اتُهم أيضًا في نفس قضية احتيال الشركة القابضة عام 2011، وكانت عودته بعد دمج الشركة مع شركة صيدناوي العامة في عام 2018.124

إن واقع أن تكون الحالات المذكورة أعلاه تعكس نمطًا وليس استثناءً إنما يبرز في سجل هيئة الرقابة الإدارية نفسها. فدورها في حماية كبار المسؤولين من التحقيق أثناء عهد مبارك جعلها جزءاً لا يتجزأ من شبكات محسوبيات النظام، وكان من المحتم أن يُتهم العديد من رؤسائها بالفساد، في حين جرت معاقبة من لم يمتثلوا.125 ففي عام 1996، مثلًا، ورد أنه تم استبدال اللواء أحمد عبد الرحمن بعد إصراره على متابعة قضية فساد ضد وزير الإسكان آنذاك إبراهيم سليمان، وهي قضية كان رئيس الجمهورية يريد غض الطرف عنها.126 لكن عبد الرحمن، أيضًا، اتُهم بعد ذلك بترؤّس شركات إسكان عدة بالشراكة مع أمير سعودي ومن ثمَّ بيع أصولها لتحقيق مكاسب خاصة به.127

من الواضح أن خليفة عبد الرحمن كرئيس لهيئة الرقابة الإدارية، اللواء هتلر طنطاوي، أثبت أنه أكثر مرونة في خدمة رغبات مبارك، حيث حصل على ثلاثة تمديدات، كلّ منها لمدة عام، بعد انتهاء فترة ولايته المعتادة لأربع سنوات في المنصب. وبعد تقاعده في عام 2004 (متقلداً وسام الجمهورية من الدرجة الأولى الذي منحه إياه مبارك)، اتُهم بإساءة استخدام منصبه للحصول على أراض ومساكن مدعومة للضباط بشكل غير قانوني في مناطق تنموية ذات قيمة عالية، وبحسب ما ورد، فإنه سجّل بعض هذه الممتلكات باسماء أطفاله وأحفاده.128 وتلا طنطاوي اللواء محمد التهامي، وجرى تمديد فترة خدمته بالمثل أربع مرات بعد انتهائها في عام 2008. وقد أصدر التمديد النهائي قائد المجلس الأعلى للقوات المسلحة الفريق محمد حسين طنطاوي في كانون الأول/ديسمبر 2011، على الرغم من الاتهامات بأنّ التهامي قد أمر بإتلاف وثائق متعلقة بالفساد في عهد مبارك.129

في نهاية المطاف، أُقيل التهامي في أيلول/سبتمبر2012 من قبل الرئيس آنذاك محمد مرسي. جاء ذلك بعد توجيه اتهامات إليه من قبل الضابط المبلغ عن المخالفات في هيئة الرقابة الإدارية، المقدم معتصم فتحي، بأن التهامي منع تقصي أوضاع ضباط متقاعدين من القوات المسلحة، بمن فيهم محافظ شمال سيناء ووزير الإنتاج الحربي فضلًا عن أعضاء حاليين في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حيث ادّعى فتحي أنهم اكتسبوا ما يصل إلى 7 ملايين دولار من تهريب الوقود المدعوم.130 ويُزعم أن التهامي نفسه تلقى "ملايين الجنيهات" بشكل هدايا من شركات حكومية، واستخدم أموال هيئة الرقابة الإدارية لشراء هدايا لوزراء مبارك وعائلته.131 (كان التهامي أيضًا مرشدًا للسيسي في إدارة المخابرات الحربية، وجرت مكافأته في نهاية المطاف من خلال تعيينه رئيس مديرية المخابرات العامة مباشرة بعد استيلاء القوات المسلحة على السلطة في تموز/يوليو 2013.132)

وقد عرض رئيس هيئة الرقابة الإدارية الجديد الذي عينه مرسي، اللواء محمد عمر هيبة، صورة مختلفة من خلال الاعتراف صراحة بأن "زواج رأس المال والسلطة" في عهد مبارك قد أعاق هيئة الرقابة الإدارية من القيام بواجباتها بشكل صحيح.133 وكشف أيضًا أن مرسي قد اتخذ خطوة غير مسبوقة بجعل الرئاسة خاضعة لتدقيق هيئة الرقابة الإدارية، وتعاون مع الجهاز المركزي للمحاسبات تحت قيادة جنينة في تحقيق مشترك حول التعديات غير القانونية على أراضي الدولة التي تم الإبلاغ عنها في تشرين الأول /أكتوبر 2015 كونها كلّفت الخزينة العامة 440 مليون جنيه من خسائر في الإيرادات.134 لكن فترة رئاسة هيبه للهيئة كانت قصيرة إذ استبدله السيسي في منتصف مدته بعرفان.

انتقل ضباط هيئة الرقابة الإدارية ذوي الرتب الأدنى إلى استشارات مربحة في هيئات حكومية ومؤسسات تملكها الدولة عند التقاعد، بما في ذلك في شركات سبق أن دققوا فيها. على سبيل المثال، كشف تقرير صحفي في شباط/فبراير 2009 أن الضابط السابق في القوات المسلحة اللواء سمير يوسف قد انتقل من مدقّق الشركة القومية للتشييد إلى استشاري لها، وعينته لاحقً االشركة رئيسًا للجنة التي أعادت شركتها الفرعية المعروفة، عمر أفندي، إلى الملكية العامة في عام 2013.135 كما انضم إليه في الشركة القومية للتشييد، نائب رئيس هيئة الرقابة الإدارية سابقًا اللواء حمدي راشد. وبالمثل انتقل اللواء محمد أمين عبد الغني من منصب مساعد رئيس هيئة الرقابة الإدارية إلى رئاسة شركة مصر لتجارة السيارات.136

ومع وجود العديد من الهيئات العسكرية والهيئات القضائية التي تتداخل والتي يُحتمل أن تتنافس، فإن الضباط الأفراد يمكن أن يزعموا بسهولة أنهم السلطة الشرعية لترخيص نشاط ما أو حظر نشاط آخر.

قد يكون السيسي قد عمد إلى كبح إمكانيات سوء الإدارة والاحتيال في مشاريع الأشغال العامة التي تديرها الهيئات العسكرية عندما أمر هيئة الرقابة الإدارية بالتعاون مع الهيئة الهندسية في القوات المسلحة في أواخر عام 2015. لكن تأثير هذا يمكن أن يكون جزئيًّا فحسب لأن العلاقة بين هيئة الرقابة الإدارية والقوات المسلحة حميمة جدًّا، ولأن هيئة الرقابة تركّز فقط على الأوراق الرسمية للعطاءات والفواتير. هذا لا يعيق بالضرورة فرصة تحصيل أرباح غير مشروعة من تحويل العقود إلى المقاولين من الباطن من القطاع الخاص، لتنفيذ العمل الفعلي، أم من شراء أو توريد المواد والمعدات اللازمة للمشاريع، ما يوفر فرصًا أكبر للاحتيال، كما يشير أيمن إمام.137 وكما يوضح هذا التقرير بشكل أعم، هناك القليل فحسب من العوائق الأخرى التي قد تحُول دون انخراط ضباط القوات المسلحة في مجموعة من الممارسات الفاسدة نظرًا لتغلغلهم الواسع في هيئات القطاع العام والحكم المحلي، لوضعهم خارج نطاق التدقيق من قبل هيئة الرقابة الإدارية أو أي هيئة مدنية أخرى، ولحصانتهم شبه المضمونة من المقاضاة في المحاكم المدنية. ومع وجود العديد من الهيئات العسكرية والهيئات القضائية التي تتداخل والتي يُحتمل أن تتنافس، فإن الضباط الأفراد يمكن أن يزعموا بسهولة أنهم السلطة الشرعية لترخيص نشاط ما أو حظر نشاط آخر. ولكن كما أظهر مثال ابتزاز الأسهم من الشركات الناشئة مقابل الموافقة على طلباتها للحصول على رأس المال الاستثماري، حتى ورقة التين هذه آخذة بالزوال.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.

خاتمة: الرهان القادم

ما هو المسار المُحتمل للاقتصاد العسكري، وما المضاعفات السياسية لذلك؟ إن تطوّره كان يحذو دائمًا، وإلى حد كبير، حذو الاقتصاد السياسي الأوسع في مصر، ويستنسخ ممارسات المؤسسات المدنية والقوى الاجتماعية. بيد أنه الآن يقف على عتبة تغيير كبير نوعي، وحتى تحوّلي، يوازي ويضارع وضعيته السياسية والدستورية الجديدة المُعزّزة. لقد توسّع الاقتصاد العسكري على نطاق واسع خارج جيبه منذ عام 2013، وعلى الرغم من أن هذا لم يحدث وفق سابق تصوّر وتصميم من طرفه، إلا أن هذا القطاع لن يعود بعد الآن إلى حجمه ووضعيته السابقة. ويعود ذلك جزئياً إلى أن المسرح السياسي بات معداً لتمارس المؤسسة العسكرية تأثيراً أكثر مركزية على ترتيبات الحكم. بيد أن المضاعفات التراكمية للمشاكل الاقتصادية الحادة في مصر والعجز المتفاقم لمؤسسات الدولة، يولّدان أيضًا سياقات وفرصًا لاحتمال حدوث تشابك وتقاطع أكبر بين القطاعين العسكري والمدني، وكذلك لانخراط مباشر أوسع للهيئات العسكرية في تحديد الوجهة الاقتصادية.

في مقدمة هذا التقرير، جادل كاتب هذه السطور بأن جوهر المُشكل الاقتصادي في مصر يكمن في الطريقة التي تعمل بها الدولة، ما يعكس الكيفية التي تتولّد وتُستخدم بموجبها السلطة السياسية. وفي عام 2018، كتب خالد إكرام، الاقتصادي الكبير والمدير السابق لدائرة مصر في البنك الدولي، أنه منذ عام 1952 كان همُّ الحفاظ على بقاء النظام يتغلب دومًا على الاهتمام بنقاط الضعف الاقتصادية في اعتبارات صانعي السياسة المصريين. هذه كانت السمة الرئيسة التي حدّدت طبيعة الاقتصاد السياسي المصري، حيث سعت الأنظمة المتعاقبة إلى تعزيز شرعيتها الواهنة "من خلال زيادة الإنفاق على الاستهلاك العام.. وتقليص تعبئة الموارد من المصادر المحلية".1 ويعتقد إكرام أن المشاكل الاقتصادية في مصر نجمت "ليس عن نقص الموارد المالية، بقدر ما انبثقت من الفشل في مجال الحوكمة"، ما سمح لأطراف نافذة داخل الدولة والمجتمع "بالإفادة من الريع الاقتصادي الذي تخلقه حالات الكفاءة هذه في الاقتصاد".

كتب المدير السابق لدائرة مصر في البنك الدولي، أنه منذ عام 1952 كان همْ الحفاظ على بقاء النظام يتغلب دوماً على الاهتمام بنقاط الضعف الاقتصادية في اعتبارات صانعي السياسة المصريين.

يضيف إكرام أن فشل الحوكمة أفرز اقتصادًا سياسيًّا يتميّز:

بحقوق ملكية غير واضحة، وبيروقراطية بليدة، ونظام قضائي مُثقَل، ومنظومة ضرائبية ركيكة وغير متوازنة، وفساد، وتسعير غير إقتصادي للموارد الشحيحة (على غرار الكهرباء والماء)، ونظام تعليمي لا يوفّر المهارات، خاصة منها المهارات النوعية التي يتطلّبها اقتصاد سوق دولي تنافسي؛ هذا علاوة على شيوع رأسمالية المحسوبيات، والتكتلات الاحتكارية، وتراجع التنافس في العديد من قطاعات المجتمع، والتضخم الكبير في أعداد موظفي الشركات العامة، ونقص المساءلة على مستويات عديدة في الجهاز الحكومي. والحال أن اللائحة هنا تطول وتطول، وتخلق عوائق وعراقيل ترفع من كلفة قطاع الأعمال، ما يسفر عن إثباط الاستثمار وخفض مستوى الإنتاجية.

لخّص جورج عبد، المدير السابق لدائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، بإجادة المضاعفات على الاقتصاد الكلي، حين أظهر أن متوسط معدل النمو في مصر في العقود الثلاثة المنصرمة تخلّف وراء بلدان الأسواق الناشئة. فقد ازداد الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد بنسبة 50 في المئة من 1988 إلى 2018، بالمقارنة مع 600 في المئة لمجموعة الأسواق الناشئة التي رصدتها مؤسسة التمويل الدولية في صندوق النقد الدولي ، ومع 400، و600، و700 في المئة في تركيا وماليزيا وكوريا الجنوبية على التوالي.2 ويتدنى حجم الاستثمار الكلي (العام والخاص) منذ عام 1991 بنحو الثلث عن معدل الأسواق الناشئة عمومًا، فيما لم ترتفع القيمة المضافة الصناعية للفرد إلا بنسبة 105 في المئة بالمقارنة مع 273 في المئة للأسواق الناشئة ككل، فيما ركدت عملياً الصادرات السلعية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بالمقارنة مع زيادات قدرها 36، 100، و165 في كوريا الجنوبية وتايلاند والهند على التوالي.3 ولاحظ عبد، في معرض ردّه في عام شباط/فبراير 2019 على الخطاب البلاغي الحماسي حول الانتعاش الاقتصادي الذي أدلى به مسؤولون مصريون وغربيون على حد سواء، أنه لايزال يتعيّن على الاقتصاد أن "يُحقق معدلات زيادة في رأس المال، والتوفير، وفي نوعية الموارد البشرية" بنحو ضعف تلك التي حافظت عليها مصر في السنوات الخمسين الماضية"، إذا ما أرادت البلاد الاستجابة للتحديات التي تواجهها.

والحال أن المؤسسة العسكرية لم تسيطر رسميًّا البتة على أدوات السياسة العامة المالية أو الاقتصادية، مثل وضع الضرائب أو معدلات الفائدة، عدا خلال الفترة القصيرة التي أمسكت خلالها بزمام السلطة الحكومية في 1952-1956 وفي 2011 -2012. بيد أنها ساهمت في المحصلات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية التي لخصناها أعلاه، من خلال حماية ومناصرة التحالف السلطوي البيروقراطي استراتيجية الحفاظ على النظام، طيلة كل العقود السبعة الماضية، ولكن لم تكن المضاعفات والتأثيرات غير مباشرة فحسب. فادعاءات المؤسسة العسكرية بأن لديها الحق المعنوي في إدارة دفّة سفينة الدولة، بأنها تساهم على نحو وازن في خطط التنمية الاقتصادية القومية التي تضعها الحكومة، إمتلاك المهارات الإدارية التي تتيح لها تنفيذ الأعمال بطريقة "أفضل، وأسرع، وأرخص"، تؤكد الصورة النمطيةالتي تقدمها بأنها منخرطة بشكل مباشر في السجل الاقتصادي لمصر، والذي تصوره طبعاً على أنه سجل بأنه إيجابي. وكما هو متوقّع، تستنسخ المؤسسة العسكرية في جيبها الاقتصادي الخاص منطق الحفاظ على النظام، فتضع الأولوية للمكوّنات العسكرية، خاصة منها سلك كبار الضباط، سواء من هم في الخدمة أو بعدها. والأهم أنها ساعدت على إعادة إنتاج هذا المنطق، من خلال سلوكياتها اليومية وممارسة النفوذ التي يعمل وفق إيقاعها آلاف كبار الضباط العاملين في الخدمة والمتقاعدين المنغرسين في الإدارات البيروقراطية المدنية والهيئات للدولة والإدارات الاقتصادية، وقطاع الأعمال العامة، ودوائر الحكم المحلي.

لم ينجح الاقتصاد العسكري في حل أيٍ من مشاكله المزمنة وحالات قصوره. بيد أن الأولانية التي حققها في الميدان السياسي الذي تم تفريغه على نحو منهجي من كل المنافسين الجدّيين منذ عام 2013، تمكّنه من الدخول في مرحلة جديدة من التوسّع والتجذّر. نظريًّا، يمكنه استئناف الدور الذي كان يمارسه ما قبل عام 2013، حين تنتهي المشاريع العملاقة التي تُجسّد إلى حد كبير دوره المتوسّع، أو إذا ما نفد تمويل مشاريع جديدة. علاوة على ذلك، يمكن للتحسّن في الاقتصاد الوطني أن يقلّص أيضًا من الحوافز التي تحدو بالمؤسسة العسكرية إلى الانخراط في الإدارة الاقتصادية، والإنتاج، وتوفير العرض. وبالمثل، يمكن للرئيس أن يشجع لامركزية يُعتدّ بها في المجالات الإدارية والخاصة بالميزانية، وأن يجعل الحكم المحلي تشاركيًّا حقًا ويستجيب لحاجات المواطنين كوسيلة لتحقيق التنمية الاجتماعية والنمو والتنوّع الاقتصاديين. لكن الأرجح أن يحدث العكس في لواقع، حيث يضاعف كلٌ من السيسي والمؤسسة العسكرية تعزيز التدخلات المركزية، وسياسة التوجيه والقيادة، والاستثمار في المشاريع العملاقة التي تتجاهل الربحية الاجتماعية.

لم ينجح الاقتصاد العسكري في حل أيٍ من مشاكله المزمنة وحالات قصوره. بيد أن الأولانية التي حققها في الميدان السياسي تمكّنه من الدخول في مرحلة جديدة من التوسّع والتجذّر.

إن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الكامنة التي أدّت إلى ثورة 2011 وإعادة تموضع المؤسسة العسكرية منذ عام 2013 كمدير ومُنتج للأصول الاقتصادية على نطاق متوسّع، أدّت إلى إعداد المسرح لتحولات أكثر عمقًا في علاقتها بالاقتصاد الوطني وبالمالية العامة. فالأصول والفرص الاقتصادية التي تحظى بها توسّعت إلى درجة أن المؤسسة العسكرية قد تلقي بثقلها في هذا المجال بقوة أكبر. وهكذا، كانت المؤسسة العسكرية ترفض مرارًا وتكرارًا على مدى عقود عدة، التخلّي عن الأصول أو المداخل الاقتصادية التي استحوذت عليها. بل أن حجم التغييرات منذ عام 2013 تدفع بالمؤسسة العسكرية إلى تشديد قبضتها أكثر على حصصها. وفي المقابل، يتعيّن عليها التأثير، إن لم يكن السيطرة، على أدوات السياسة الإقتصادية والمالية العامة إذا ما أرادت الحفاظ على مصالحها وتنميتها. على أن ترويج الذات له ثمن: فالدور الكبير للمؤسسة العسكرية في خضم تفاقم الفقر واللامساواة، بدأ يولّد حالة سخط ويؤثِّر على صورتها في أذهان المواطنين الذين لطالما أسبغوا عليها أسمى مشاعر التقدير والإجلال.

بيد أن التعميق والتوسع ليسا قدرًا لا مناص منه. فالاقتصاد العسكري يمر في مرحلة انتقالية، وتتبدى فيه مؤشرات متباينة ومناحٍ متضاربة. ثم إن فشل الاستحواذات في قطاع الإعلام قد يكبح الشهية العسكرية، وكذا الأمر، مثلاً، حيال أعباء الاستثمار في قطاعي الإسمنت والصلب حالما يهبط الطلب على الإنتاج العسكري وتتصاعد ممانعة القطاع الخاص المحلي والشركات الأجنبية. إضافة إلى ذلك، ثمة مؤشرات على وجود رغبة لدى القوات المسلحة بالتركيز على تطورها المهني الخاص وتحسين قدراتها العملانية. وقد يمثّل دستور نيسان/ إبريل 2019، الذي فوّض القوات المسلحة "حماية الدستور والديمقراطية" و"الحفاظ على ركائز الدولة المدنية" صيغة تسمح لها بانتشال نفسها من المعمعة السياسية المعقّدة ومن حلبة المعارك الجانبية المؤسسية المتعلِّقة بحكم مصر، فيما هي تواصل ادعاء امتلاك الحق في التدخّل كلما اعتبرت ذلك ضروريًّا.4

لا تقل الأسباب التي تدفع إلى تعميق وتوسيع الاقتصاد العسكري حدّة. أحد هذه الأسباب هو الجمود والهمود الناجمين أولاً عن الرغبة بالإحتفاظ باالأصول الحالية، التي تمثّلها أفضل تمثيل شركات ومصانع وزارة الإنتاج الحربي، وثانياً عن النزوع المحافظ لدى المؤسسة العسكرية نحو إعادة إنتاج وتعزيز الأنماط الموروثة. والأكثر أهمية هنا هو أن ضعف أو غياب الأطراف المؤسسية أو الاجتماعية الأخرى التي كان يمكن أن تركّز الأصول والأموال العامة بين أيديها، يُفسح المجال واسعاً أمام المؤسسة العسكرية لتكون اللاعب الرئيس في الحقل الاقتصادي الناشئ، وهذا بالمقارنة مع حقبة الخصخصة التي حَبَتْ إلى حد كبير الشركات الكبرى وأزلام مبارك وهمّشت العسكر بوضوح.

ستكون العملية في كلا هذين التوجهين تدرّجية، وتتضمّن كرًّا وفرًّا، بيد أن حدود الجيب الاقتصادي العسكري السابق قد تبقى ضبابية، أو تتحلّل كليًّا. فالمنحى التوسعي قد يشهد بروز المؤسسة العسكرية كلاعب اقتصادي كبير مُنغرس رسميًّا وعلى نطاق واسع في هيكلية الإدارة الاقتصادية الوطنية وفي عملية صنع القرار. فتدخلاته في تحديد العرض والأسعار في قطاعات الإسمنت والصلب وفي استيراد سلع تراوح بين اللحوم والدواجن إلى حليب (لبن) الأطفال لمواجهة القصور في السوق، قد تشي بدور أكثر روتينية في مجال وضع السياسة العامة. وتوفّر توأمة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة مع هيئة الرقابة الإدارية في إدارة مشاريع البنى التحتية العامة نموذجاً بارزاً لنوعية الشراكة العسكرية-المدنية التي يمكن أن تسحب نفسها أيضًا في مجالات أخرى.

نظرياً، مجددًا، يمكن لمسار النمو الاقتصادي الإيجابي أن يولّد ظروفاً يتراجع في سياقها الدور العسكري في الاقتصاد عن حجمه ومداه الراهنين. بيد أن مصر تفتقد كلًّا من الإرث السياسي والمتطلبات والمستلزمات الاجتماعية-الاقتصادية لاستنساخ تجربة تشيلي أو تركيا حيث خَلَقَ النمو الاقتصادي المستدام تحوّلًا اجتماعيًّا، ومكّن قطاعي رجال الأعمال والعمال من الضغط لاستعادة الحكم المدني والعودة الكاملة للعسكر إلى ثكناتهم. ما يحدث في مصر هو العكس، حيث في الغالب لا يؤدي النمو الذي تقوده الدولة على نطاق واسع والذي يأتي استجابة لمبادرات فوقية من أعلى إلى أسفل، سوى إلى توكيد دور المؤسسة العسكرية كلاعب اقتصادي أو حتى كلاعب أكبر، ومد نفوذه أبعد من البرنامج الطارئ للإنشاءات العامة وتوليد الدخل الذي أطلق بعد عام 2013 وتوسيع هذا الدور على المدى الطويل.

لكن في المقابل، لن يؤدي تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، أو تفاقم الدين، إلى إثباط أو إعاقة تحرُّك الشبكات العسكرية المُتجذّرة لشفط موارد التمويل التي يحتاجها النمو المستدام والإدخار المحلي. والواقع أن الأنظمة السلطوية تحتاج إلى ترقية الكفاءة الاقتصادية حالما تستنفد مراحل النمو الأوّلية، خاصة إذا ما تعيّن عليها استرضاء القواعد الأساسية التي تستند إليها سلطتها. بيد أن مصر، كما هو واضح، ليست مهيّأة لتحقيق ذلك. بل العكس هو الصحيح، حيث قد تحفّز وتسرِّع المصاعب الاقتصادية الحادة المزيد من عسكرة الاقتصاد عبر الوسائل التي أشرنا إليها أعلاه، وجزئياً بحجة أن الظروف الطارئة تتطلّب الإجراءات الطارئة وحتى زيادة الاستثمارات في المشاريع المموّلة من القطاع العام وليس العكس.5

لكن في المقابل، لن يؤدي تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، أو تفاقم الدين، إلى إثباط أو إعاقة تحرُّك الشبكات العسكرية المُتجذّرة لشفط موارد التمويل التي يحتاجها النمو المستدام والإدخار المحلي.

الآن، إذا ما أقدمت إدارة السيسي والمؤسسة العسكرية على ذلك، فإنهما سيمهدان الطريق أمام تربّح مجاني واقتناص فرص واسعين من قبل جماعات مصالح عسكرية (غير عسكرية حليفة). اذ أن السيسي، الذي يبدو متفوّقًا بالمطلق، يتكل بالواقع وبشدة على شركائه داخل الائتلاف الحاكم لمؤسسات الدولة، وحتى على شلل متباينة في صفوف كبار ضباط القوات المسلحة. وكل هؤلاء يتوقعون الحصول على مقابل لقاء دعمهم. وبالتالي، فإنَّ هذه الاعتبارات السياسية تقارع في أهميتها في بعض المجالات أهداف سياسات السيسي الخاصة بحفز النمو وتدبّر أمر أكلاف معيشة المواطنين، وتعزيز مصداقية وشرعية نظامه على الصعيدين المحلي والدولي. لا شك أن الشبكات العسكرية وجماعات المصالح مُتجذّرة ومُستحكمة بما فيه الكفاية لمقاومة أي منهج عمل مغاير. بل وقد يكون هؤلاء في الواقع في وضع يتيح لهم توسيع الاقتصاد العسكري غير الرسمي وتعميق الممارسات الافتراسية الضارية، بغض النظر عما يمليه السيسي أو قادة الاقتصاد العسكري الرسمي. وهنا، قد يكون ابتزاز الشركات الناشئة لتقدم حصصًا في رأس مالها، آخر مثال على السلوك الذي لا يعتبر ضارياً وحسب، بل حاذقًا أيضًا، وهذا أمر لا يمكن أن يحدث من دون مساعدة وتواطؤ من جانب السلطات العسكرية الرسمية.

مع ذلك، يبدو السيسي (مثله مثل أسلافه) والمؤسسة العسكرية مشدوديْن بالكامل إلى العمل الفوقي من أعلى إلى أسفل والمتميّز بالاستخدام الكثيف لرأس مال (كما هو الأمر أيضاً عند كبار موظفي الخدمة المدنية والتكنوقراط في كل الوزارات الحكومية)، ما يجعل من المستبعد تماماً على نحو متزايد أن يعمد هذان الطرفان إلى تغيير المسار. لكن، من الإنصاف القول إنه لا يمكن إنحاء اللائمة على المؤسسة العسكرية لكونها لا تفقه بالاقتصاد، بيد أنها مخطئة لوقوفها حجر عثرة في طريق المقاربات التي يحتمل أكثر أن ترفع إجمالي عوامل الإنتاجية، ولأنها أيضًا في تلك الأثناء احتلبت خزينة الدولة. وبالمثل، تكشف الغزوات العسكرية الاقتصادية بشكل مطّرد عدم اكتراث بالمضاعفات السياسية. وليس أقلها الضرر الذي أُنُزل بعلاقة الرئاسة بالقطاع الخاص الذي تعيّن عليه دفع معدلات فائدة شاهقة على القروض بسبب المزاحمة من قبل الدولة التي هي أكبر مُقتَرِضٍ من المصارف. هذا ناهيك عن أن القطاع الخاص يعاني من التنافس غير العادل من جانب الشركات العسكرية التي تدخل مضمار قطاعات إقتصادية جديدة أو توسّع حصتها الخاصة من السوق.6 والحال أن تحويل مزيد من المال العام إلى المشاريع التي تديرها الهيئات العسكرية، لن يفعل شيئًا سوى تشجيع محاباة الأزلام وتهميش بقية القطاع الخاص.

تُواجه إدارة السيسي مهمة توفير سلع اقتصادية كافية لمواصلة مواجهة التحديات السياسية على المدى المتوسّط. وهذا يقتضي، من جهة، الحفاظ على عضوية كل الهيئات القسرية (القوات المسلحة، وزارة الداخلية الواسعة والمديدة- بما فيها الشرطة والأمن الداخلي، ومديرية المخابرات العامة) في داخل الائتلاف الحاكم، لا بل العمل أيضًا على توسيع هذه العضوية. لكن، من جهة أخرى، مثل هذا الحفاظ والتوسّع لا يجب أن يتحققا إلى درجة تُثقل بإفراط الاقتصاد.7 وهذه مهمة شاقة بالنسبة إلى إدارة تفرض قبضة شديدة على الاقتصاد وديناميات السوق، وتضيّق قاعدتها السياسية إلى حد كبير بالمقارنة مع حقبة مبارك، من خلال إقصاء كل أطياف الإسلاميين، والليبراليين، والنخب الاقتصادية القديمة. ثم إن محاولاتها استلحاق الطبقة الوسطى عبر تحبيذ الشركات الصغيرة والمتوسطة في عقود الأشغال العامة أو وضع برامج تمويلية لتشجيع الشركات الجديدة، تتعرّض إلى الإعاقة بفعل الاستثمار غير المناسب والمخاطر السياسية الكبيرة، بما في ذلك الانكشاف أمام السلوك الافتراسي الضاري للشبكات الموالية للنظام نفسه. ولذا، بقي الاستثمار الخاص في الاقتصاد ضئيلاً للغاية.

على أي حال، فإن الصعوبات والعوائق أمام الحفاظ على إئتلاف مستقر، والحفاظ في الوقت نفسه على الرساميل الضرورية لتوطيده - في غياب الإصلاحات الإقتصادية والإدارية العميقة، التي ستصطدم بالضرورة بالمصالح العسكرية الرسمية وغير الرسمية - تبدو أضخم مما تعتقده التقديرات الوردية لمؤشرات الاقتصاد الكلي المصري (معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي واحتياطي العملة الصعبة) التي يصدرها المسؤولون المصريون ونظراؤهم في الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية.

لا بل يبدو أن المسؤولين الغربيين، الذين يؤيدون جهارًا هذه التقديرات ويغازلون إدارة السيسي مشيدين بالتزامها المزعوم بالمسار الديمقراطي على الرغم من القمع المنهجي الذي تمارسه هذه الإدارة بحق الحريات السياسية والاجتماعية والخروقات السافرة والمشينة لحقوق الإنسان، يتشبثون في مجالسهم الخاصة بالأمل بأنه (أي السيسي) سيكون قادراً بطريقة ما على بناء دكيتاتورية تنموية ناجحة تنتج نموًّا اقتصاديًّا يكون في آن كافيًا ومستدامًا.8 وثمة إطلالة مماثلة في أوساط الخبراء الاقتصاديين والماليين، ربما ناجمة عن الاعتقاد الجديد الذي يعترف بدور الدولة في حل مشكلة فشل التنسيق في السياسة الصناعية؛ وهي مقاربة تعترف بأن العناصر الداخلية في النظام ستستفيد بداية، لكنها تفترض أن كل الأطراف الاقتصادية ستنتفع في نهاية المطاف من المداخل العامة إلى الفرص والموارد. وفي حالة مصر، يعلّق المسؤولون الغربيون والدوليون، الذين يبحثون عن ملاذ داعم لهكذا استدلال، أمالهم عملياً على المؤسسة العسكرية لدفع هذه المحصلات قدمًا إلى الأمام. بيد أن هذا لا يعكس مجرد تفكير رغائبي وحسب، بل هو أيضًا يُعتبر تعمية متعمّدة على الحقائق الكامنة في الاقتصاد المصري.

"مصر أكبر من أن يُسمَح بإخفاقها": هذا هو الرد المُبتذل للعواصم الغربية حين تُواجِه مقاربتهم المقاومة. واللازمة الخفية لهذا الاعتقاد، رغم النفي المُعلَن، هي أن المؤسسة العسكرية هي بالفعل طرف ومدير اقتصادي كفؤ كما تدّعي هي. وهذا يقفز عن عمد على إرث عمره 66 سنة من الدور الاقتصادي العسكري، ويوضح، من ضمن ما يوضح، أسباب على سكوت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حيال النشاطات الاقتصادية العسكرية، والتي يؤكد عبد أن هذه الأطراف "على بيّنة منها منذ وقت طويل".9 والواقع أن بصمات المؤسسة العسكرية في الاقتصاد تنامت على نحو كبير تحت سمع وبصر برنامج صندوق النقد الدولي الذي قدّم 12 مليار دولار لمصر منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2016.

"مصر أكبر من أن يُسمَح بإخفاقها": هذا هو الرد المُبتذل للعواصم الغربية حين تُواجِه مقاربتهم المقاومة. واللازمة الخفية لهذا الاعتقاد، رغم النفي المُعلَن، هي أن المؤسسة العسكرية هي بالفعل طرف ومدير اقتصادي كفؤ كما تدّعي هي.

إن الإيمان بقدرة المؤسسة العسكرية المصرية على انتزاع النجاح من بين براثن الانهيار الاجتماعي لا يستند إلى معطيات يُعتد بها. فمصر ستبقى بدلاً من ذلك معتمدة على نحو حاسم، وعلى رغم مرور سبعة عقود تقريباً، على صيغة الحقن المتكرر للرساميل الأجنبية لتجنّب أزماتها الأكثر حدة.10 حالياً، وحدها القوات المسلحة قادرة على تجنيب حشر البلاد في الزاوية، مجددًا اقتصادياً ومالياً. لكن هذا يتطلّب منها المبادرة إلى إطلاق حوار سياسي وعملية إصلاح لا يمكنهما إلا أن ينتهيا إلى تفكيك كلً من الاقتصاد العسكري الرسمي والاستحقاق التلقائي للسلطة البيروقراطية والاقتصادية الذي تتشبث به شبكات الضباط المتقاعدين.

هوامش

يُرجى الضغط هنا لقراءة الهوامش على نسخة الـPDF.