هذا المقال واحد من مقالات ثلاثة متّصلة. المقالان الآخران هما المرحلة الانتقالية الغامضة في مصر والأجندة التشريعية المحتملة لمصر.

يتوقف أفضل أمل لمصر بحدوث انتقال ديمقراطي إلى حدّ كبير على عملية إعادة البناء السياسي التي تنطوي عليها عملية كتابة الدستور. في الواقع، وكما هو حال النظام السياسي ككل، من الصعب النظر إلى صياغة الدستور بوصفها جزءاً من أي "عملية" قابلة للتحديد؛ فهي تتعرض بشكلٍ دائم إلى تحدّيات سياسية وقانونية. وقد تم اختيار مَن يضطلعون بهذه المهمة في الوقت الحاضر من جانب برلمان تم الإعلان عن عدم دستوريته في وقت لاحق بطريقة يمكن وصفها بسهولة وفي أي وقت، بأنها غير قانونية.

 
ناثان براون
ناثان ج. براون أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، وباحث مرموق، ومؤلّف ستة كتب عن السياسة العربية نالت استحساناً.
More >
نتيجةً لذلك، عملية كتابة الدستور تسير بوتيرة متعجّلة لأن الهيئة المسؤولة عن ذلك مهدَّدة بالحل. فقد حلت المحاكم الإدارية الجمعية التأسيسية الأولى على أسس قانونية غير مقنعة. وبما أن الجمعية الحالية تشكَّلت بطريقة مماثلة، فقد يتم حلّها بدورها. وأدى تصليت سيف الحل على رقبة الجمعية إلى جعل معظم أعضائها ينكبّون بقوة على إنجاز المهمة الملقاة على عاتقهم.
 
يبدو أن هيئة الصياغة تحرز بعض التقدم، كما يبدو أنها تعمل بشكل شبه توافقي، وذلك على الرغم من بعض التعليقات المتطرفة والاقتراحات المثيرة، التي تكفي لإضفاء نكهة مميزة على المداولات وتصدُّر العناوين في وسائل الإعلام، لكنها لاتكفي لإفشال الجهود المبذولة. بعبارة أخرى، يبدو أن الجمعية التأسيسية تقف الآن على أرضية سياسية ثابتة إلى حد ما، مع أن الأساس القانوني الذي تستند إليه لايزال هشاً. لقد تباطأت الإجراءات القانونية ضد الجمعية، ربما لأنها تسير بطريقة غير مثيرة للجدل، أما الحكم الإجرائي التالي من المحاكم الإدارية فسيبقى معلّقاً حتى 24 أيلول/سبتمبر.

المفاوضات الأولية

في بداية الأمر، جعلت المناورات القانونية والضغوط الإسلاميين على الأرجح أكثر مرونة إلى حدٍّ ما، وذلك لأنه وفقاً للإعلان الدستوري التكميلي الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في حزيران/يونيو فإن حلّ الجمعية التأسيسية كان سيؤدي إلى استبدالها بجمعية أخرى معيّنة بالكامل من قبل المجلس العسكري. (قال لي أحد الأشخاص غير الإسلاميين، والذي له نشاط بارز في الجمعية، إنه لايحبّذ حلّ الجمعية لكنه مع ذلك سيقبل بجمعية بديلة معيّنة من قبل المجلس العسكري في حال حكمت المحكمة ضدها). لكن الرئيس مرسي ألغى سلطة المجلس العسكري وفوَّض نفسه سلطة تعيين جمعية جديدة إذا دعت الحاجة إلى ذلك. ولذلك، من المرجح الآن أن يصبح غير الإسلاميين، والذين قاطع بعضهم العملية أو هدّد بمقاطعتها، أكثر مرونة إلى حدٍّ ما.

 
ماذا عن مضمون الوثيقة؟ دفعت الجهود الحثيثة لكتابة ميثاق توافقي الجمعية التأسيسية إلى العودة إلى دستور العام 1971 كنقطة انطلاق، حيث قامت بتعديله لإدخال تحسينات عليه وجعله يعكس الواقع السياسي المتغيّر. وفي حين أن التغييرات النصية قد تكون محدودة، قد تعمل الوثيقة الجديدة بوسائل أشكالاً مختلفة إلى حد كبير يستحيل التنبؤ ببعضها.
 
هذا الغموض ليس ناجماً عن نقص في التفكير الجاد. ثمّة الكثير من الجدل الصاخب حول قضايا رمزية، ولكن هناك أيضاً تركيز مفيد على التحسينات العملية. ومن المرجح أن تتضمّن هذه التغييرات شروطاً أكثر قوة على صعيد حقوق الإنسان. وكان دستور العام 1971 قد حدَّد مجموعة بالغة الأهمية من الحقوق، إلا أنه ترك مسألة تعريفها إلى تنفيذ القانون الذي غالباً ماكان يعمل على تقويضها. وقد تحوي الوثيقة الجديدة صياغة أقوى لمنع مثل هذه الممارسة.
 
وفيما تمضي عملية الصياغة قدماً، من المحتمل أن يستمر هذا التركيز العملي وأن تكون هناك صراعات مقبولة على التفاصيل الدقيقة، وخاصة في مايتعلق بآلية عمل مختلف مؤسسات الدولة المصرية مع بعضها بعضاً. وهنا من الصعب معرفة مايجب توقّعه، وذلك لأن الخيارات السياسية لأعضاء الجمعية بشأن العديد من المسائل المؤسسية ليست واضحة تماماً. فأعضاء جماعة الإخوان، على سبيل المثال، لديهم نظرة تشاؤمية تجاه المحكمة الدستورية الحالية في مصر، لكن ليس واضحاً مدى انتشار هذا الشعور لدى أعضاء الجماعة كافة أو أي نوع من العناصر النصية التي يرغبون بإضافتها إلى الأحكام الهيكلية لدستور العام 1971.
 
إن شروط النقاش في الواقع أضيق مما ينبغي أن تكون وفقاً لما تشير إليه الثغرات الإيديولوجية الواسعة بين الأعضاء. هناك بعض المسائل العاطفية والخلافية التي تُعتبر رمزية أكثر منها عملية (كتلك المتعلقة بما إذا كان ينبغي أن يُذكَر البند الدستوري المتعلق بالمحاكم العسكرية في القسم الخاص بالقوات المسلحة أو بالسلطة القضائية). لكن في أغلب الأحوال، يبدو أن المشاركين في صياغة الدستور لديهم إحساس جيد جداً بما هو مهم.
 
بات الجدل حول الشريعة الإسلامية يقتصر، على سبيل المثال، على بضع كلمات وعبارات. أما المشاركون فأظهروا فهماً جيداً لمسألة أن القضايا العملية لاترتبط بالصياغة العامة بقدر ماترتبط بالجهة المسؤولة عن تفسير وتطبيق هذه المواد القانونية. في نهاية المطاف، ستكون أحكام الدستور، الذي سيُقدَّم للناخبين المصريين كي يصادقوا عليه، قريبة جداً على الأرجح من أحكام دستور العام 1971. (وكانت المادة الثانية من تلك الوثيقة، وكما تطوَّر تطبيقها عبر الزمن، قد سمحت للمحكمة الدستورية العليا بضبط القوانين قياساً على مجموعة صغيرة من أحكام الشريعة التي لاتقبل الجدل إلى جانب الأهداف العامة للشريعة الإسلامية).
 
الدين والحرية الدينية
يبدو أن المواد المتعلقة بالحرية الدينية تتسم بقدر أكبر من الصعوبة، في ظل النقاش الكبير الذي يدور حول درجة الحماية ومدى اختيار الفرد. ومع تقدم صياغة الدستور، من المحتمل أن تحظى هذه المسألة بقدر هائل من الاهتمام المحلي والدولي، لكن جزءاً كبيراً من هذا النقاش قد يخفق في معالجة تعقيد هذه المسألة.
 
وعموماً، تُعتبر الدساتير العربية أكثر ميلاً إلى حماية الطقوس الدينية الجماعية والمذاهب المعترف بها منها إلى حماية حرية الضمير الفردية. وتنبئ المؤشرات الأولية بأن مشروع الدستور الذي تعكف الجمعية الحالية على إعداده سوف يحتفظ على الأرجح بهذه الخاصية.
 
ثمة أسباب ثلاثة غالباً مايتم التغاضي عنها في مايتعلّق بمسألة أن الحقوق الخاصة بالحرية الدينية مكفولة بصفة عامة ومفهومة من حيث الطائفية بدل أن تكون مرتبطة بحرية الضمير الفردية.
 
أولاً، الطائفة الدينية للمرء هي التي تحدّد القانون الذي يعمل به في مسائل الأحوال الشخصية. هذا يحتّم على الدولة الاعتراف بمجموعات مختلفة من القوانين في مسائل الزواج والطلاق والميراث والعمل على تطبيقها. قد يكون الأفراد أحراراً في الاختيار، إنما فقط من قائمة معتمدة من المبادئ المعترف بها. والسماح بممارسة حق من الحقوق الفردية بشكل كامل في هذا السياق غالباً مايُعتبر في نظر المصريين بمثابة فتح الباب أمام الفوضى القانونية. (في ظل غياب الحق القائم على أساس فردي ثابت، قد يكون بإمكان الأفراد تبني المعتقدات التي تعجبهم، لكن العواقب المترتبة على اعتناق دين غير معترف به لايمكن التنبّؤ بها: ففي الحالات التي يكون فيها المواطن لاينتمي إلى طائفة معترف بها، يكون القانون الافتراضي هو القانون المصري العام للأحوال الشخصية – وهو مستقى من الشريعة الإسلامية).
ثانياً، يتبنّى العديد من زعماء الطوائف الدينية الحق الخاص بالطائفة وليس الفرد، لأنه يوفّر لهم شيئاً من الهوية المؤسّسية والحماية القانونية.
 
ثالثاً تعمل الممارسة الاجتماعية السائدة عموماً على تعزيز الهويات الطائفية بشكل صارخ. فتغيير الدين، على سبيل المثال، غالباً ماينطوي ليس على مجرد المجاهرة أو الالتزام بدين جديد فقط، بل أيضاً على قطع الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية القوية من أجل إقامة علاقات أخرى جديدة.
 
في الواقع، يُعتبر العديد من المرجعيات الدينية الإسلامية في مصر أكثر ميلاً نحو التساهل في هذا الصدد مقارنةً بالعلمانيين. بعض التفسيرات الناشئة (علماً أنها ليست مهيمِنة) للشريعة الإسلامية تنمّ عن استعداد متزايد نحو ترك أي عقوبة على الردة إلى الآخرة. أما الموقف الذي سيُقابل به المرتدّ عن دينه من جانب الأصدقاء السابقين والأهل فإنه سيتّسم، على الأرجح، بدرجة أقل من التسامح.
 
ولذلك، من المرجّح أن يركّز صائغو الدستور التوّاقون إلى إثبات أن الحرية الدينية لاتزال حية في مصر على الحقوق الممنوحة للطوائف الدينية أكثر من تركيزهم على أيٍّ حريات فردية. وقد يحدّدون بالفعل أسماء الأديان التي ستتمتع بالحماية. إحدى النتائج الغريبة التي يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا الأمر قد تتمثّل في منح الدين اليهودي وضعاً دستورياً في مصر للمرة الأولى، وذلك بعد أكثر من نصف قرن من التوقف شبه الكامل عن ممارسة طقوس هذا الدين، حيث شكَّل ذلك نهايةً حزينة للطائفة اليهودية التي كانت في السابق من الطوائف الكبيرة في مصر.
 
كيف ستكون آلية عمل الوثيقة الجديدة؟
على الرغم من الخبرات الكبيرة التي يتم توظيفها لصياغة الدستور المصري، إن آلية عمل أي وثيقة يقوم أعضاء المجلس بكتابتها ستأخذ على الأرجح اتجاهات غير متوقّعة بالنسبة إلى أي منهم، وذلك في حال اعتُمِدَت فعلاً. العودة إلى دستور العام 1971 في معظم الجوانب ستكون أقل حسماً مما يبدو، وذلك لأن البيئة السياسية الجديدة في البلاد سوف تغير أثر أحكام دستور العام 1971. وحتى لو تم اعتماد بنوده المتعلقة بالبرلمان حرفياً، على سبيل المثال، فإنها ستتمخّض على الأرجح عن آثار مختلفة جداً لأن أي برلمان يُنتَخَب في نهاية المطاف سيكون أكثر تنوّعاً وحيوية من تلك البرلمانات التي شهدها عهدا أنور السادات وحسني مبارك. الأمر نفسه يمكن أن يُقال عن جميع المؤسسات الأخرى وأجهزة الدولة واللجان المنتشرة في ثنايا دستور العام 1971. فضلاً عن ذلك، خلال الفترة التمهيدية على الأقل، سوف يتعيّن على الدستور العمل من خلال القوانين والإجراءات التي لم تُصمَّم من أجل نظام ديمقراطي. أي تغيير سيكون على الأرجح بطيئاً وسينطوي على صدامات كبيرة بين القاعدة الدستورية والبنية التشريعية العليا.
 
وبصورة أعم، سوف يمنح الدستور على الأرجح سلطة كبيرة للمسؤولين المنتخبين، مايعني أن كيفية استخدام تلك السلطة ستُحدَّد ليس من خلال النص الدستوري وحسب، بل أيضاً من خلال نتائج الانتخابات. في الماضي كان من الممكن التنبّؤ بنتائج الانتخابات بشكلٍ يبعث على الاكتئاب. أما الآن فلم يَعُد الأمر كذلك. منذ البداية الأولى لحياته الجديدة، سيتحدد معنى الدستور جزئياً من خلال مايقوله الناخبون. في الواقع، ستتم دعوة المصريين إلى صناديق الاقتراع مرتين (وربما ثلاث مرات) خلال العام المقبل، حيث سيكون هناك استفتاء على الدستور وانتخابات برلمانية جديدة، وربما انتخابات رئاسية جديدة. وقد بدأ المصريون فعلاً بتأمل النتائج المحتملة، حيث غالباً مايطلقون تعميمات تنطوي على التناقض أحياناً، مثل: الجميع يشعر بالاشمئزاز من الإسلاميين؛ الانتخابات الرئاسية أظهرت أن جماعة الإخوان فقدت بريقها كونها حققت انتصاراً باهتاً ضد مرشح ضعيف؛ اليسار في حالة صعود؛ الحزب الوطني الديمقراطي سوف يعاود الظهور؛ سوف تظهر قوة مركزية جديدة؛ النصر سيكون من نصيب الحزب الذي يرفع شعار العدالة الاجتماعية؛ وحدها جماعة الإخوان المسلمين لاتتعاون في اللعبة السياسية. 
لن يمضي وقت طويل حتى يتم إخضاع هذه الادّعاءات العامة إلى الاختبار ومعالجة الأسئلة العصية على الإجابة. حتى ذلك الحين ثمة أمور قليلة تتسم بالوضوح، في حين تتوقف أمور كثيرة على الأشياء التي سيصوِّت عليها المصريون (مرشحو الرئاسة؟ القوائم الحزبية؟ النواب المستقلون؟) وعلى القوانين التي سيعتمدون عليها. بعد إسقاط قانون الانتخابات البرلمانية للعام 2011، لم يَعُد واضحاً على الإطلاق أي قوانين سيتم استخدامها في انتخابات العام 2013 (في حال أُجريَت)، ومن سيقوم بكتابتها وكيف. وعلى الرغم من كل هذا الغموض والتكهّنات، ثمة اتجاهان يُرجَّح ظهورهما، وخاصةً أثناء الانتخابات البرلمانية. أولاً، أنواع الشخصيات المحلية التي كانت تنجذب نحو الحزب الوطني الديمقراطي، قد تطوِّر أداءها بسهولة مقارنةً بما كان عليه الحال في العام 2011. فهؤلاء المرشحون إما أنهم لم يشاركوا في انتخابات 2011 بسبب ماتعرّضوا إليه من ترهيب أو أنهم هُزِموا في تلك الانتخابات، لكنهم قد يتمكّنون الآن من المضي قدماً بوصفهم يمثّلون النظام والحصول على الموارد.
 
ثانياً، سواء تراجع الإسلاميون أم لم يتراجعوا، فمن المحتمل أن يستمروا في كونهم لاعبين كباراً في الانتخابات في المدى المنظور. فالحضور الاجتماعي القوي لتنظيمي الإخوان والسلفيين في شتى أرجاء البلاد، ودهاؤهم في اختيار المرشحين، وانضباطهم وقدرتهم على انتهاج مقاربات تكتيكية مضمونة، وخبرتهم التي أصبحت أعمق الآن بعد الانتخابات التنافسية التي خاضوها، كل هذه الأمور من المرجح أن تجعل منهم لاعبين أقوياء، بغض النظر عن مجموعة القوانين الانتخابية التي يتم تصميمها. ومن غير الواضح ما إذا كان الإخوان والسلفيون سينظرون إلى بعضهم بعضاً كحلفاء أو منافسين على المدى الطويل، لكن في كلتا الحالتين من المحتمل أن تكون الديمقراطية بشرى سارة لكليهما.
 
الأمل بنجاح العملية
على الرغم من هذه الصعوبات والغموض، ثمة سبب للتفاؤل، على المدى الطويل، بما ستؤول إليه المحاولة الحالية. خلال قراءتي لمحاضر لجان صياغة الدستورين الأطول عمراً في تاريخ مصر – دستور العام 1923 ودستور العام 1971- وجدت نقاشات متشعّبة ومتطورة. لكن عيوباً كانت تكتنف كلتا المحاولتين من الناحية السياسية. فقد تمت المحاولة الأولى من دون مشاركة حزب الوفد، أكبر حركة سياسية في البلاد في ذلك الوقت. أما المحاولة الثانية فقد تمت تحت العين الساهرة لنظام موغل في الاستبداد.
 
في مصر 2012، أصبح طيف المشاركة أوسع، وغدا مستوى إشراك الجماهير أكبر بكثير، في حين باتت قدرة أي حزب على فرض نتيجة معينة محدودة إلى حدٍّ بعيد. لايزال ممكناً أن تخرج وثيقة قابلة للتطبيق من هذه العملية التي ماكان لمهندس دستوري أن يصمِّمها أبداً وهو مرتاح الضمير.