قَتلُ السفير الأميركي لدى ليبيا، كريس ستيفنز، وثلاثة من طاقم السفارة، سيؤدي إلى إطلاق موجة صدمات في العلاقات الأميركية- العربية، ويُحتمل أن تكون له تأثيرات تتجاوز السياق الليبي. كما أنه سيفرض ضغوطاً على إدارة أوباما وهي في خضم حملتها الانتخابية.

بالطبع، ليس سراً أن ليبيا تمر في مرحلة من اللااستقرار العميق منذ سقوط نظام معمر القذافي العام الماضي. ولايزال يتعيَّن على الحكومة الجديدة والقوات المسلحة أن تنجح فيتجريد المتشددين من السلاح، وإعادة تأسيس سلطة الدولة في كل أنحاء البلاد.

بول سالم
بول سالم هو مدير "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" السابق. تتناول أبحاثه ومنشوراته العلاقات الإقليمية والدولية للشرق الأوسط، إضافةً إلى قضايا التطور السياسي والدمقرطة في العالم العربي.
More >

لكن، في الماضي القريب، لم يسفر انعدام الأمن هذا عن انهيار تام للنظام، إذ تمكّنت ليبيا من إجراء انتخابات وهي تمضي قدماً الآن في مرحلتها الانتقالية نحو الديمقراطية.
بيد أن ليبيا، ومثلها مثل بلدان عربية أخرى تعاني من اللااستقرار، شهدت ظهور عناصر جهادية وسلفية متطرفة. وهؤلاء أبلوا بلاء حسناً في الانتخابات الأخيرة، كما تمكّن بعضهم من تشكيل ميليشيات قادرة على تهديد خصومها المحليين أو، في الحالة الراهنة، سفارة أجنبية.

والحال أن التهديد الأمني الذي تفرضه الميليشيات المتطرفة لم يأتِ كصاعقة في سماء صافية، وثمة الآن عملية تجري على قدم وساق لإعادة بناء الجيش الوطني وتجريد المتشددين غير النظاميين، الذين قد يبلغ عددهم عشرات الآلاف، من أسلحتهم. لكن من الواضح أن مثل هذا الإجراء يحتاج إلى سنوات ليؤتِ أكله.

من الهام الملاحظة أن السلفيين الإسلاميين يُمثِّلون أقلية في العالم العربي، والعديد منهم انضموا إلى العملية الانتقالية، سواء كمتمردين أو مشاركين في السياسات الانتخابية (وفي خاتمة المطاف الديمقراطية). وأحداث، مثل ردة الفعل على فيلم قد تكون نوازعه المعادية للإسلام هي التي أشعلت فتيل الهجوم على القنصيلة الأميركية في بنغازي (الأمر الذي يذكِّر بمشكلة الرسوم الكاريكاتورية الدنمركية في العام 2005)،  ربما  هي ما مكَّن العناصر المتطرفة في المجتمع العربي من عرض عضلاتها واستعراض قوتها بما يفوق بكثير أعدادها الحقيقية.

في ليبياـ كان يُنظر إلى الولايات المتحدة بإيجابية عموما، بفضل دورها في فرض منطقة الحظر الجوي وإطاحة نظام القذافي الممقوت. وقد أقامت الحكومة الليبية الجديدة علاقات ممتازة مع الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، كما مع دول الجوار. ولاشك أن هذه الحكومة تشعر بأسى عميق لهذا الخرق الأمني التي نجم عنه الحدث المأساوي يوم الثلاثاء الماضي، وهي ستبذل قصارى جهدها لتشديد إجراءات الأمن ومنع تكرار مثل هذه الأحداث مستقبلا.

أما في الولايات المتحدة فسيتردّد صدى قتل موظّفي السفارة عالياً في الحملة الرئاسية الأميركية، ناهيك عن أن وقوع الحادثة في ذكرى اعتداءات 11 أيلول/سبتمر إنما سيزيد الأمور سوءاً.

لاشكّ في أن الأزمة وطريقة تعاطي إدارة أوباما معها سيكونان من العوامل المؤثّرة في الانتخابات الرئاسية. لقد عكس إلى الآن ردّا فعل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والرئيس باراك أوباما المقاربةَ المعتدلة إجمالاً التي تتّبعها الإدارة الأميركية، إذ حَرِصا على تجنّب أي تصريح أو خطاب تحريضيَّين قد يؤدّيان إلى خروج الوضع عن السيطرة.
لكن جناح اليمين المتطرف الذي يسيطر حالياً على الحزب الجمهوري، والذي يضمّ العديد من المحافظين الجدد من إدارة جورج بوش السابقة، سيصف أي مقاربة ينتهجها أوباما بأنها ضعيفة واسترضائية. كما أنه سيستخدم على الأرجح هذا الاعتداء ليصف الأحزاب الإسلامية الصاعدة في العالم العربي، سواء تلك التابعة للإخوان المسلمين أو تلك المشتقة من المجموعات السلفية، بأنها عدو خطير محتمل للولايات المتحدة.

بالطبع، إذا مافاز المرشّح الجمهوري ميت رومني بالرئاسة، يمكن أن تكون هذه الحادثة هي منطلق تشكيل المقاربة التي سينتهجها إزاء المجموعات الإسلامية التي لاتزال تفوز بالانتخابات وتنضمّ إلى التحالفات البرلمانية والحكومية في العالم العربي.

لذلك، لابدّ للولايات المتحدة من أن تعمد إلى مواصلة الانخراط مع هذه الحكومات، وتشجيعها على الاعتدال، وحثّها على احترام معايير الممارسة الديمقراطية والتعدّدية وحقوق الإنسان. لكن عليها أن تحرص في الوقت نفسه على منع التيارات الثقافية أو الإيديولوجية في الداخل الأميركي من توليد أنماط من العدائية والحقد المطلقَين تجاه سياسة الولايات المتحدة وانخراطها في المنطقة.

ليس من اليسير إقامة مثل هذا التوازن، ومع ذلك لاغنى عنه إذا ماكان للنجاح أن يُكتَبَ للدبلوماسية الأميركية في العالم العربي "الجديد".

يجب أن تنكبّ الحكومات في العالم العربي والحكومة الأميركية على العمل بسرعة للحؤول دون تصعيد هذه الأزمة. منذ أحد عشر عاماً نجح أسامة بن لادن في تحديد المسار التي اتّخذته العلاقات الغربية-الإسلامية إلى هذا اليوم. فلنأمل أن الثوار في بنغازي، الذين لايمثّلون إلا أقلية من الشعب الليبي، لن يحدّدوا هم أيضاً المسار الذي ستّتخذه العلاقات الغربية-الإسلامية في السنوات المقبلة.

نشر هذا المقال بالإنكليزية في صحيفة "ذا ناشونال".