تشير العديد من الدراسات الحديثة إلى أن هناك علاقة مباشرة بين الفساد والتطرف؛ لأن الأول يقود إلى الشعور بالإحباط والظلم لدى العديد من فئات المجتمع، ما يدفع البعض، خاصة من فئة الشباب، إلى التطرف. وهو ما دعا إحدى المنظمات العالمية للقول إن محاربة الفساد ليست فقط جزءا من الحوكمة الرشيدة، ولكنها أضحت أيضا دفاعا عن النفس!

مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تقيس به منظمة الشفافية العالمية انطباع الناس عن الفساد في دولهم البالغة حوالي 180 دولة، يظهر تراجعا واضحا لمرتبة الأردن. ففي حين كان ترتيب الأردن 37 في العام 2003، تراجع ليصل في ذروته إلى 66 في العام 2013، ثم تحسن إلى 55 العام 2014.

 

مروان المعشّر
مروان المعشّر نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الدبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والاتصالات.
More >
من القوانين المهمة في العالم التي تساهم مؤسسيا في مكافحة الفساد، وخاصة في تجنبه، قانونا "إشهار الذمة" و"الكسب غير المشروع". وبرغم إقرار الأردن لقانون إشهار الذمة العام 2006، ثم استبداله بقانون الكسب غير المشروع العام 2014، إلا أن القانونين لم ينجحا خلال تسعة أعوام في اكتشاف حالة فساد واحدة!

لماذا؟ يُلزم القانون موظفي الدولة الكبار تقديم إقرارات عن ذممهم المالية، كما ذمم أزواجهم أو زوجاتهم وأولادهم القصر، وتسليم هذه الإقرارات بظرف مغلق ومكتوم إلى دائرة إشهار الذمة المالية في وزارة العدل. ويحظر على أي من موظفي الدائرة فتحه أو الاطلاع على ما يحتويه من بيانات. ويفصح عن الإقرار المقدم عند تقديم أي شكوى أو إخبار يحال إلى الدائرة من الجهة المختصة، تتعلق بشبهة كسب غير مشروع تحقق لمسؤول.

تصوروا أن تسعة أعوام مرت من دون أن تُقدم شكوى واحدة، أو يُفتح ظرف واحد، ما قد يوحي بأنه لا وجود للفاسدين في الأردن، ويستدعي الإشفاق على موظفي الدائرة الذين لا بد أنهم يشكون من قلة العمل.

تنص كل القوانين المماثلة في الدولة المتقدمة على علنية هذه الإقرارات. ويتم نشرها على الإنترنت لتكون في متناول العامة. بغير ذلك، تنتفي الجدية المطلوبة لردع كل من يمكن أن تسول له نفسه وضع يده على المال العام. علنية البيانات تردع المسؤول عن الكسب غير المشروع، كما تساهم في كشف الفساد حين يقع، خاصة إن أعلنت هذه البيانات بشكل سنوي.

الذريعة المستخدمة في الأردن ضد هذه العلنية، هي أننا بلد صغير يعرف فيه الكل بعضهم بعضا، وأن الكشف عن الثروة قد يحرج البعض، كما لا يتفق مع عاداتنا وتقاليدنا. وهي حجة واهية لا أراها إلا محاولة للتستر على البعض. من يرغب في العمل العام عليه قبول أن تكون ذمته المالية معروفة للجميع، لا بل أن تتسم قراراته بالحد الأقصى من الشفافية، لأنه بذلك يساهم في إرساء جو من الثقة يعرف القاصي والداني أنها شبه معدومة بين الناس ومسؤولينا. ولن نعيد هذه الثقة إلا إذا كسبناها عن طريق المثل الصالح، وليس بالأقوال. الثروة ليست عيباً طالما مصادرها معروفة. أما الإحراج، فلا مكان له في الدولة المدنية الحداثية. وبالنسبة لمن لا يرغب في الكشف عن مصادر ثروته، فإنه ليس هناك ما يجبره على العمل في القطاع العام.

إن تم تطبيق مبدأ العلنية، لن يبقى المجال مفتوحا للاشاعات والأقاويل حول مصدر ثروات البعض؛ فمن ليس لديه شيء يخفيه، يعلنه، ومن لديه ما يخجل منه فلتطله يد القانون.

ليس المطلوب معالجات تجميلية، ظاهرها تحقيق العدالة بينما واقعها لا يقدم شيئا لمكافحة الفساد. أخشى أننا كما نحاول ترسيخ مبدأ إمكانية الإصلاح من دون إصلاحيين، نريد أيضا ترسيخ فكرة إمكانية وجود فساد من دون فاسدين.

تم نشر هذا المقال في جريدة الغد.