القرار الذي اتخذته إدارة ترامب، في 18 تشرين الأول/أكتوبر، بإغلاق القنصلية العامة الأميركية في القدس، والتي كانت تعمل إلى حد كبير مع الفلسطينيين، سدّدَ ضربةً قوية إضافية إلى آمال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

كانت القنصلية، وهي عبارة عن بعثة دبلوماسية مستقلة قائمة منذ القرن التاسع عشر، تتمتّع بوضع فريد من نوعه، عبر أدائها دوراً حيوياً في جهود السلام الأميركية على مرّ العقود، وسيُلحق إغلاقها أذى حقيقياً بمصالح الولايات المتحدة. وفي سلوكٍ ينمّ عن مكر، وصفت الإدارة الأميركية الخطوة بأنها "دمجٌ" مع السفارة في القدس من أجل تعزيز "فاعلية" العمليات، لكن واقع الحال هو أن هذه الخطوة أكّدت أن الإدارة الأميركية لاتُقيم وزناً لبناء علاقة مع الفلسطينيين، وتُفضِّل أن تنظر إليهم وكأنهم مجرد تفرّع لعلاقاتها مع إسرائيل. بالنسبة إلى مَن عملوا بيننا في القنصلية على مر السنين، (وأنا منهم، فقد كنت قنصلاً عاماً من 2005 إلى 2009 ونائب مسؤول رئيسي من 1996 إلى 1998)، إنها نهايةٌ حزينة لمؤسسة مرموقة.

أنشئت القنصلية في العام 1844، عندما كانت القدس جزءاً من الأمبراطورية العثمانية، واستمرت في العمل في ظل الانتداب البريطاني لفلسطين. عندما تأسّست إسرائيل في العام 1948، قُسِمت القدس إلى شطر غربي تسيطر عليه إسرائيل وشطر شرقي خاضع إلى السيطرة الأردنية. استمرت القنصلية في العمل بعد العام 1948 كبعثة واحدة انطلاقاً من مبنيَين اثنَين، يقع كل منهما في شطرٍ من المدينة، وكان المسؤولون الأميركيون يتنقّلون عبر نقطة التفتيش عند بوابة ماندلباوم عند الاقتضاء. كانت القنصلية تعمل بطريقة مستقلة عن السفارة الأميركية لدى إسرائيل في تل أبيب، وعن السفارة الأميركية لدى الأردن ومقرها عمّان.

بعد حرب حزيران/يونيو 1967، عندما فرضت إسرائيل سيطرتها على القدس بكاملها، واصلت القنصلية العمل كما في السابق، من المبنيَين الواقعَين في الشطرَين الشرقي والغربي للمدينة. وبعدما بات المسؤولون الأميركيون قادرين على التنقّل بحرية أكبر، عمدت القنصلية تدريجاً إلى توسيع دورها إلى نطاق أوسع من الوظائف القنصلية التقليدية، ليشمل وضع تقارير عن التطورات السياسية والاقتصادية في القدس والضفة الغربية.

مع تقدُّم الجهود الآيلة إلى إرساء السلام في الثمانينيات والتسعينيات، طوّر القنصل العام وفريقه علاقات مُثمرة مع المبعوثين الفلسطينيين الذين شاركوا في مؤتمر السلام في مدريد في العام 1991، ثم في المفاوضات المباشرة مع إسرائيل. عندما أفضت اتفاقات أوسلو إلى إنشاء السلطة الفلسطينية، كلّفت وزارة الخارجية الأميركية القنصل العام الحفاظ على حوار متواصل حول السياسات مع القيادة الفلسطينية. وبعد العام 2002، عندما تبنّى الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش موقفاً مؤيِّداً لحل الدولتَين، أُسنِدت إلى القنصلية مسؤوليات إضافية تمثّلت في تعزيز بناء المؤسسات الفلسطينية، والإشراف على برنامج للمساعدات الأمنية، ووضع تقارير عن التطورات في غزة والضفة الغربية.

كانت المكانة المستقلة للقنصلية ذات أهمية لسببَين اثنين. أولاً، كان وجود بعثة أميركية مستقلة في القدس يرمز إلى الموقف الذي كانت واشنطن تتبنّاه منذ العام 1948، وتعتبر بموجبه أنه يتعيّن تسوية الوضع النهائي للمدينة في مفاوضات بين الطرفَين. ثانياً، فيما كانت جهود السلام تتقدّم باتجاه هدف الدولتَين، كان وجود قنصلية مستقلة أمراً ضرورياً لإقامة علاقات ثنائية مع الفلسطينيين بمعزل عن الروابط الأميركية مع إسرائيل. كانت هذه العلاقة المتمايزة مع الفلسطينيين تعكس وجهة نظر واشنطن بأن الحل الدائم الوحيد للنزاع يقتضي القبول بقيام دولتَين قوميتين منفصلتين للإسرائيليين والفلسطينيين.

بيد أن إدارة ترامب اختارت القطيعة مع هذه السياسات. فقد قرّرت، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل وإقامة السفارة الأميركية الجديدة هناك، ساعيةً بذلك إلى تسوية قضية القدس خارج إطار المفاوضات بين الجانبَين. وعندما أبدى الفلسطينيون رد فعل سلبياً على هذه المقاربة، عاقبتهم الإدارة الأميركية بخفض المساعدات وإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. وفي هذا السياق، تراجعت مكانة القنصلية، وباتت أيامها كبعثة مستقلة معدودة.

غير أن القنصلية أدّت دوراً عملياً حيوياً في الدفع باتجاه حل الدولتَين. ففي عهدَي بوش وأوباما، بذلت الولايات المتحدة جهوداً دؤوبة من أجل تحضير السلطة الفلسطينية للنهوض بمسؤوليات إدارة شؤون دولةٍ تخدم الشعب الفلسطيني وتعيش بسلام مع إسرائيل. كان الفلسطينيون بحاجة إلى المساعدة لبناء المؤسسات الحكومية وإنشاء قوى أمنية خاضعة إلى المساءلة. لقد أدّت القنصلية دوراً أساسياً في تنظيم هذه الجهود متعددة الأوجه وتنسيقها على أساس يومي، مع الحصول على مساعدة كبيرة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وفريق المنسّق الأمني الأميركي. وكان للقنصلية دورٌ أساسي أيضاً في بناء الدعم السياسي لمثل هذه الخطوات التي أقدمت عليها القيادة الفلسطينية.

لسوء الحظ، لم تُبدِ إدارة ترامب اهتماماً كبيراً بحل الدولتين. وعبر إقدامها على قطع المساعدات المدنية عن السلطة الفلسطينية وإغلاق القنصلية، جعلت الدعم العملي الأميركي لعملية بناء المؤسسات الفلسطينية أمراً مستحيلاً. قد تُواصل واشنطن تطبيق برنامج المساعدات الأمنية للفلسطينيين، الذي يعود أيضاً بالفائدة على إسرائيل، إنما من الصعب أن يستمر ذلك كنشاط منعزل في غياب الهدف الواضح المتمثّل بالعمل على تطبيق حل الدولتَين، أو في غياب الغطاء السياسي الذي تؤمّنه قنصلية مستقلة.

بعد قطيعة إدارة ترامب الحادّة مع المقاربة التي اعتمدها أسلافها لصنع السلام في الشرق الأوسط، كان أفول القنصلية أمراً محتوماً. بيد أن تحويل قنصلية تتمتع بمكانة راسخة إلى "وحدة الشؤون الفلسطينية" داخل السفارة الأميركية في إسرائيل، بحسب القرار الذي اتخذته الإدارة الأميركية، لم يكن مسألة تتعلق بـ"الفاعلية". بل كان قراراً في السياسة العامة من أجل خفض مكانة الفلسطينيين، وهو مسمارٌ إضافي يُدَقّ في نعش عملية السلام المحتضِرة أصلاً.

لايمكن العودة واقعياً عن إغلاق القنصلية، وعن التغييرات في السياسة الأميركية حول وضع القدس وموقع السفارة. ذات يوم، قد ترغب الولايات المتحدة من جديد في أداء دورٍ ناشط في العمل على تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد ترغب الحكومة الإسرائيلية حتى في أن يُقدّم الأميركيون المساعدة في هذا المجال. لكن المؤسف هو أن ممارسات الإدارة الأميركية، ستجعل من المستحيل على واشنطن أداء دور فاعل لصنع السلام في المستقبل المنظور. وهذا لايصب في مصلحة الولايات المتحدة، ولا في مصلحة الفلسطينيين، ولا حتى الإسرائيليين.