مع الفوز الصادم لدونالد ترامب في الانتخابات وتبوئه منصب الرئيس الـ45 للولايات المتحدة، سَرَتْ قشعريرة خوف في أوصال مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية حيال مستقبل العديد من مناطق العالم العربي. وهذا كان أمراً متوقعا. ففي خضم الحملة الانتخابية الطويلة التي بدا وكأنها لاتنتهي، أدلى ترامب بتصريحات مرعبة حول الشرق الأوسط، تماماً كما فعل في مروحة كبيرة من القضايا الأخرى.

قال في مجال منازلة الإرهابيين: "الأمر الآخر بالنسبة إلى الإرهابيين، هو أن عليك أن تُردي عائلاتهم؟ حين تقبض على هؤلاء الأرهابيين عليك أن تُردي عائلاتهم". (3 كانون الأول/ديسمبر 2015).

حول دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة: "دونالد ج. ترامب يدعو إلى حظر تام وشامل على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، إلى أن يتمكّن ممثلو بلادنا من معرفة ماذا يجري بحق السماء". (7 كانون الأول/ديسمبر 2015).

حول العراق: "لقد قلت، بالمناسبة، قبل أربع سنوات، قبل ثلاث سنوات، هاجموا النفط. خذوا الثروة؟ هاجموا النفط واحتفظوا بالنفط". (14 شباط/فبراير 2016).

لاتزعجوا أنفسكم بالبحث عن أي مضمون في هذه البيانات المؤسفة، فهي لاتُشبه سوى حلقة من الحلقات لمشعوذ في تلفزيون الواقع، ولاتتضمن ملمحاً يُعتد به في قرارات ترامب المقبلة في السياسة الخارجية. والواقع أن الحملة الانتخابية لهذا الأخير تمحورت في معظمها حول لعب دور الذكر المُهيمن، وإبداء الإزدراء والاحتقار للخبرة والمعرفة، والفهم العجيب والغريب لروح الثقافة الأميركية العصرية. لم يظهر في هذه التصريحات أي أثر لمستشارين في السياسة الخارجية، أو على الأقل لا أحد ممن قد تحظى نصائحهم ببعض الاعتبار. كما لم يظهر للعيان أي برنامج محدد، عدا التركيز على الحاجة إلى إعادة التفاوض حول الاتفاقات التجارية، وتعزيز وتوسيع القوات المسلحة الاميركية، وإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية.

ماذا إذا؟ ماذا يمكن أن نعرف عن الشكل الذي سترتديه سياسة ترامب إزاء الشرق الأوسط؟

الجواب قد يكون مرعباً قليلا، وهو يوضح إلى حد ما أسباب الذعر العميق الذي ينتاب معظم خبراء السياسة الخارجية. هاكم محاولة مؤقتة تتخيّل كيف يمكن أن تتعاطى إدارة ترامب مع الشرق الأوسط خلال الأشهر الأولى من ولايتها:

سورية وروسيا: كان الرئيس المنتخب ترامب قد أشاد بتدخل روسيا في سورية، زاعماً عن خطأ بأن روسيا تركّز هجماتها على الدولة الاسلامية في حلب. وهو أوضح أنه سيبعد إدارته عن النزاع السوري، ويُحتمل أن يقفل ملف الدعم العسكري للمتمردين السوريين. كما أنه لم يُبد ولو نفحة تعاطف واحدة مع الوضع الإنساني للشعب السوري. وهكذا، سيتباطأ على الأرجح تدفق اللاجئين على الولايات المتحدة، الذي كان أصلاً راكداً وخاضعاً لتدقيق كثيف، ليصبح هزيلاً للغاية. وهذا ستكون له مضاعفات عالمية محتملة، لأن بلداناً أخرى ستحذو حذو الولايات المتحدة.

باختصار، انتصار ترامب سينزل برداً وسلاماً على قلب بشار الأسد، الذي تقع على كاهله مسؤولية قتل مئات الآلاف من السوريين وتشريد الملايين. على الرغم من أنه ليس وارداً عودة الأوضاع في سورية إلى ما كانت عليه قبل الثورة، يمكن تخيُّل حدوث نصر عسكري لنظام الأسد، مع أنه سيكون باهظ الثمن.

ثم أن نصر ترامب يوفّر فرصاً طيبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكن مهلاً: صحيح أن منطقة نفوذ روسيا في سورية بدأت تصبح فجأة قابلة للبقاء والاستمرار، إلا أن الصحيح أيضاً أن قدرة موسكو على ترجمة ذلك إلى نفوذ إقليمي أوسع (عدا مبيعات الأسلحة والحيوية الدبلوماسية) تبدو مبالغاً فيها في الغالب. 

الدولة الإسلامية ومكافة الإرهاب: على الرغم من الحملات المتّصلة التي شنهّا ترامب ضد جهود إدارة اوباما لإلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية، إلا أن هذه الجهود آثمرت أُكلاً دسماً خلال الأشهر القليلة الماضية، خاصة في العراق حيث بات ممكناً استعادة مدينة الموصل عشية تنصيب ترامب في موقع الرئاسة. بالطبع، تهديد ترامب بسرقة نفط العراق أو قتل أعضاء عائلات الإرهابيين لن يحدث حمداً لله. كما أن نجاح التحالف الدولي في العراق سيوفِّر لترامب الفرصة لإعادة النظر في مقاربته لمشكلة الدولة الإسلامية في سورية الأكثر صعوبة. لكن، ومع أن ترقية التعاون المناهض للإرهاب مع روسيا بات الآن أمراً أكثر احتمالاً، إلا أن الرئيس المنتخب سيكتشف قريباً أن الكلام عن مسح الدولة الأسلامية عن وجه الأرض عسكرياً أمر، والفعل أمر آخر مختلف تماما. فالشيطان نفسه قد يمتنع عن الانغماس في مِرْجَل التوترات الطائفية والتنافسات الإقليمية في الشرق الأوسط.  

إيران: سيكون الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، الذي يُعتبر أحد أبرز إنجازات إدارة أوباما، في دائرة خطر ماحق. وفيما وصف ترامب مراراً وتكراراً هذا الاتفاق بـ"الكارثي"، اعتبره عموماً أشبه بوراثة عقدٍ تجاري سيِّء، يمكن تصحيحه عن طريق إنفاذ بنوده بشكلٍ صارم. لذا، يبدو مستبعداً أن يعمد الرئيس ترامب ببساطة إلى إبطال الاتفاق، لأن ذلك قد يفضي إلى نشوب أزمة نووية يتمرّغ ترامب في وحولها طيلة عهده الرئاسي. واقع الحال أن كلّاً من طهران وواشنطن يحصدان منافع هذا الاتفاق، ويُحتمل أن يتمكنا من بناء علاقة دقيقة ومتوازنة قائمة على سياسة الردع المتبادل، لأن من المُرعِب التفكير في احتمال اندلاع حرب أميركية- إيرانية تدور رحاها في منطقة الشرق الأوسط.

بيد أن الاحتمال الآخر يبدو الأكثر ترجيحاً، وهو تقويض هذا الاتفاق عبر إجراءات مضادة تدريجية تتم خطوة خطوة. وثمة احتمال ثالث بعيد المنال لكن ليس مستبعداً، يتمثّل في أن تغتنم طهران هذه الفرصة لنزع فتيل التوتر مع واشنطن، بسبب ميل ترامب إلى التقارب من روسيا وممارسة الليونة مع سورية وتكثيف الحملة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية.

الحلفاء الإقليميون: يُرجّح أن يشهد عهد ترامب الرئاسي أيضاً إعادة تنشيط علاقات واشنطن المتعثّرة مع حلفائها التقليديين كإسرائيل والسعودية. قد يحرز ترامب هنا بعض النجاحات على المدى القصير، عبر عقد اجتماعات مع كبار المسؤولين السعوديين والإسرائيليين في أوائل العام 2017، خاصة وأن الطرفين سيكونان راغبين في فتح صفحة جديدة مع أميركا في مُستهل هذا العهد الجديد. لكن فيما تواصل أميركا فك ارتباطها في الشرق الأوسط، وبخطى تزداد تسارعاً، ومع تكشُّف مفاجآت ترامب لامحالة، سيشوب التوتر في غالب الظن هذه العلاقات أيضاً، ولاسيما علاقة أميركا مع الرياض، خاصة عندما تتضح معالم المقاربة التي سينتهجها ترامب تجاه سورية.

من جهتها، قد تجد حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل ما يستسيغها أكثر في إدارة ترامب، بما في ذلك اللامبالاة بالصراع العربي-الإسرائيلي. لكن على هذا الصعيد، أيضاً، تبرز مخاطر انحرافات ما، ولاسيما إذا حاول ترامب اعتماد سياسة فكّ الارتباط. علاوةً على ذلك، وعلى ضوء بروز مظاهر معاداة السامية المرتبطة بنزعة "اليمين البديل"، التي تضمّ أبرز قواعد ترامب الشعبية، من المستبعد أن يحظى عهد ترامب الرئاسي بدعم كبير في أوساط المجتمع اليهودي الأميركي، وهذا سيعكس نفسه في العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

السلطوية العربية: انتهى النهج العقلاني الذي كان يعتمده باراك أوباما. فدونالد ترامب يتحدث عن القوة بلغة فجة يجدها بعض القادة السلطويين مفهومة وحتى مريحة. وفي حين ستواصل وزارة الخارجية نشر التقارير السنوية عن حقوق الإنسان وإصدار التوبيخات الدورية ضدّ الانتهاكات السياسية، سيكون مفهوماً أن تصبح حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية، والتركيز على الحوكمة الأفضل، والتي كانت في السابق قضايا مثيرة للقلق في واشنطن، شيئاً من الماضي. قد تكون هذه الأنباء طيبة بالنسبة إلى القادة العرب السلطويين، لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى المنطقة ككل، نظراً إلى الدور الرئيس الذي لعبته حالات الفشل الكارثية في الحوكمة في إشعال إوار التطرّف وإثارة النزاعات.

أولئك الذين كانوا يأملون أن تؤدي الانتخابات إلى استدعاء فريق الإطفاء الأميركي للبدء بإخماد الحرائق المُستعرّة في الشرق الأوسط، هم أنفسهم يشعرون اليوم حتماً باليأس. لكن بالنظر إلى سجل أميركا خلال العقود الأخيرة في المنطقة، لا بدّ من أن خيبة الأمل كانت ستنتابهم كذلك، على أي حال، بعد 20 كانون الثاني/يناير. فقد بعث الشعب الأميركي إلى منطقة الشرق الأوسط برسالة جافة لكنها ربما ليست غير مفيدة كلياً مفادها: إذا ما أُريد بناء منطقة أكثر استقراراً، فالحافز لن ينطلق من واشنطن.