تدلل الوضعية الراهنة لجماعة «الإخوان المسلمين» المصرية على العديد من التداعيات السلبية للاندماج في العمل السياسي كفصيل معارض في ظل غياب قراءة استراتيجية واضحة وفي سياق بيئة مقيدة. فالجماعة، وهي انتخبت منذ أسابيع مرشدها العام الثامن وأجرت كذلك انتخابات لمكتب إرشادها أثارت جدلاً صاخباً داخلها وخارجها، وتتعرض اليوم لحملة أمنية جديدة تطال قيادات تنظيمية مؤثرة وتهدف على الأرجح الى إضعاف فرصها في المنافسة في انتخابات مجلسي الشورى والشعب المقرر عقدها العام الحالي، تبدو منذ أعوام وهي تراوح بين نجاح جزئي في تثبيت وتوسيع نطاق مشاركتها السياسية وبين تراجع وانكماش تدريجي يتبع النجاح هذا لاغياً نتائجه ومفرغاً إياه من المضمون.
 
ففي النصف الأول من العقد الحالي، تمكن «الإخوان» من تجاوز قمع وتهميش التسعينات والعودة من بوابة النقاش العام حول فرص الإصلاح والتحول الديموقراطي إلى قلب الحياة السياسية. نجحت الجماعة في صياغة خطاب حول أولوية الإصلاح السياسي وانفتحت من خلاله على بعض قوى المعارضة غير الدينية وجذبت إليها مجموعات جديدة من المهتمين في الشأن العام، خاصة بين الشباب. ثم توجت كل ذلك بفوزها بنسبة 20 في المئة من مقاعد مجلس الشعب في انتخابات 2005 لتؤكد على أنها فصيل المعارضة الأكثر شعبية وحيوية تنظيمية في مصر. بيد أن الفترة الممتدة بين 2005 و2010 شهدت إخفاق «الإخوان» في تطوير مواقفهم من قضايا مركزية كالقبول غير المشروط بالمواطنة المتساوية في الحقوق بين مسلمي وأقباط مصر، والابتعاد عن توظيف الدين في الحياة السياسية والعامة بجوهر يناقض حرية الرأي واحترام التعددية، وهو ما ساهم في تجدد شكوك قوى المعارضة غير الدينية في الالتزام الديموقراطي للجماعة وأعاد إنتاج صور سلبية عن «الإخوان» في الساحة العامة.
 
اتسم النصف الثاني من العقد الحالي أيضاً بتصاعد منتظم لممارسات الأجهزة الأمنية القمعية بحق قيادات وأعضاء الجماعة وبإجراءات حكومية بهدف تعديل البيئة القانونية والسياسية لتضييق مساحات مشاركة «الإخوان» والحيلولة مستقبلاً دون استمرار المستوى الراهن لتمثيلهم بمجلس الشعب، على رغم حصاده التشريعي والرقابي المحدود في ظل هيمنة الحزب الوطني الحاكم على البرلمان بمجلسيه (الشعب والشورى).
 
والثابت، من جهة أولى، أن العوامل المتمثلة في الطبيعة المقيدة للبيئة السياسية وتأزم علاقة جماعة «الإخوان» مع نخبة الحكم والشك العام في حدود التزامها الديموقراطي وغياب الفاعلية عن فريقها البرلماني بين 2005 و2010 رتبت مجتمعة تراجع دور الجماعة العام وانكماش فعلها السياسي إلى حدود دنيا جوهرها الحفاظ على التماسك التنظيمي وشيء من الجماهيرية وضمان مشاركة ما في الانتخابات البرلمانية القادمة من دون توقعات كبرى، بل إن الأكثر تفاؤلاً بين «الإخوان» لا يتوقع في معرض استشراف نتائج انتخابات مجلس الشعب عام 2010 سوى فوز الجماعة بالقليل من المقاعد البرلمانية الذي قد لا يتجاوز في مجمله عدد أصابع اليدين.
 
من جهة ثانية، يبدو أن العوامل ذاتها أحدثت تغييراً نوعياً في السيكولوجيا الجمعية لقيادات «الإخوان» (المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد)، وهو ما دفع بهم بعيداً من الأجواء الإيجابية والانفتاحية للنصف الأول من العقد الحالي وما ميزه من توجه واضح للجماعة نحو مزيد من الانخراط في الحياة السياسية، ما شكل قناعة لدى القيادات الإخوانية بوجود فرص سانحة للإصلاح. وأعاد هذا التغيير لدى «الاخوان» إحياء عقلية الجماعة «المحاصرة» والفصيل «المضطهد» سياسياً بما تستدعيه من طغيان للشأن الداخلي ولمقتضيات وهواجس الحفاظ على الوجود الذاتي على حساب أولوية العمل العام ومتطلباته، أو من تقديم النشاط الدعوي والاجتماعي على السياسي الذي يستحيل مجدداً إلى مسبب لقمع الجماعة وتعقب قياداتها ومعاناة أعضائها. في مثل هذا السياق، لم يكن مفاجئاً إذاً، أن يرتبط الشق الأكبر من نقاشات «الإخوان» الاستراتيجية خلال الأعوام الأخيرة بمسعى الجماعة إلى إعادة النظر في مركزية المشاركة السياسية ووزنها النسبي بالمقارنة بالنشاط الدعوي والاجتماعي، وأن تأتي حصيلة النقاشات هذه لتحد كثيراً من أهمية السياسي ولتضعف من النفوذ والتأثير الداخلي للقيادات الإخوانية التي تبنته في مقابل المهمومين بتماسك التنظيم والمؤمنين بأولوية الدعوي والاجتماعي وكونهما يشكلان الضمانتين الأساسيتين للمحافظة على وجود «الإخوان» في المجتمع وجماهيريتهم ومن ثم قدرتهم منذ تأسيس الجماعة على احتواء قمع نخبة الحكم.
 
وجاءت نتائج انتخابات مكتب الإرشاد والمرشد العام لتدلل بوضوح على عمق الاختلاف داخل الجماعة حول مسألة المشاركة في السياسة ولتظهر بما لا يدع مجالاً للشك تنامي نفوذ القيادات المشككة بها أو العازفة عنها في ظل غياب الفرص وتنامي المخاطر الأمنية والقيود القانونية والسياسية المترتبة عليها. فعبدالمنعم أبو الفتوح، أحد أكثر الأصوات الإخوانية اعتدالاً لجهة الدفاع العلني عن الحقوق المتساوية للمسلمين والأقباط والإقرار بمدنية الدولة والمدافع الأبرز ربما عن أولوية المشاركة السياسية وحتمية الانفتاح على قوى المعارضة غير الدينية والتنسيق معها بغية الدفع نحو إصلاح حقيقي في مصر، خسر موقعه في مكتب الإرشاد ولم يحصل سوى على عدد محدود من أصوات الهيئة الناخبة للمكتب (شورى جماعة «الإخوان المسلمين»). كذلك أسفرت الانتخابات عن خروج النائب السابق للمرشد العام محمد حبيب، الذي عرف عنه بحثه المستمر عن توافقات بين أنصار المشاركة السياسية والمشككين بها داخل الجماعة، وكان مسؤولاً خلال الأعوام الأخيرة عن تطوير التنسيق بين «الإخوان» والمعارضة وموضعة الجماعة قريباً من قلب النقاش العام حول الإصلاح والتحول الديموقراطي. وعلى رغم أن الانتخابات مكنت عصام العريان، المسؤول عن الملف السياسي، أخيراً من الولوج إلى مكتب الإرشاد وحافظت لمحمد سعد الكتاتني، رئيس الفريق البرلماني، على موقعه في المكتب، وكلاهما من المدافعين عن المشاركة السياسية، إلا أن التشكيل الكلي للمكتب أعطى غالبية واضحة للمشككين والعازفين عن المشاركة على نحو يطلق يدهم في ترجمة قراءتهم المغايرة لأولويات الجماعة الى فعل يأخذها بعيداً من السياسة ويعمق تراجع دورها العام.
 
وفي الاتجاه ذاته ذهب أيضاً بعض مضامين الخطاب الأول للمرشد العام الجديد، محمد بديع، بعد إعلان انتخابه. وضع بديع تأكيده على التزام «الإخوان» بالمشاركة السياسية السلمية ورغبة الجماعة في استمرار تمثيلها البرلماني كأداة رئيسة للدفع نحو إصلاح تدريجي لشؤون مصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في سياق رمزي ومجتمعي أشمل جوهره القناعة بأن الإصلاح يبدأ من الفرد المسلم وينتقل منه إلى دوائر مجتمعية أوسع ليؤثر في نهاية المطاف في شؤون السياسة والدولة والحكم. لا يخرج مثل هذا الفهم لقضايا الإصلاح عن حدود القراءة التقليدية لأنصار تقديم النشاط الدعوي والاجتماعي لـ «الإخوان» على العمل السياسي والتي ترى السياسة كساحة تابعة تبعية كاملة وآلية لعموم الظروف المجتمعية وصيرورتها ومن ثم لا قيمة ذاتية لها، ولا تستأهل بذلك في التحليل الأخير أن تستحوذ على فعل وطاقة الجماعة سوى بقدر ومن دون انفصال عن أو تناقض مع النشاط الدعوي والاجتماعي، وهو الجوهر والأساس.