بعد سنة من رضوخ الجيش المصري لمطالب جماهير ميدان التحرير وإجباره الرئيس حسني مبارك على التنحّي، لاتزال مصر تناضل لإتمام المرحلة الأولى من عملية الانتقال. فالبلاد لاتزال عالقة في دائرة مفرغة تهدد بحرف مسارها نحو الديمقراطية وتقود إلى المزيد من العنف واللايقين. والحال أن الافتقاد الحاد إلى اتفاق على الخطوات المناسبة الخاصة بعملية الانتقال، والتغيرات المتواصلة التي أدخلها الجيش أو التي طالب بها المحتجون والأحزاب السياسية، تبرز الآن بكونها عقبات كأداء أمام تشكيل حكومة جديدة ومؤسسات شرعية.

وفيما يهدد الكونغرس الأميركي بحجب المساعدات عن الجيش المصري بسبب الطريقة التي يعامل بها المنظمات غير الحكومية الأميركية والعاملين فيها، من الهام التذكُّر أن التقدم الذي ترغب به الولايات المتحدة في مصر لايعتمد على المساعدات الخارجية، بل على الاتفاق بين المصريين حول الخطوات التالية.

إن المصريين متفقون على الحاجة إلى تحقيق ثلاث مهام في المدى القصير: إتمام الانتخابات البرلمانية؛ انتخاب رئيس؛ ونقل السلطة التنفيذية من العسكر إلى حكم مدني مجددا؛ على افتراض أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيعاود دوره الأصلي كهيئة تناقش القضايا العسكرية تحت قيادة الرئيس، وأنه سيتم وضع دستور جديد. لكن مايختلفون بشدة حوله هو التسلسل الزمني لهذه المهام الثلاث.

أما بالنسبة إلى الانتخابات البرلمانية فهي نصف منجزة: فالغرفة الدنيا للبرلمان، وهي مجلس الشعب، تم انتخابها، وهي انتخبت بدورها المسؤولين البرلمانيين ورؤساء اللجان. ويستعد المجلس الآن لمناقشة القوانين الجديدة وهو يعارض بشدة ميول المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمواصلة إصدار المراسيم. بالطبع، ليس الكل سعيداً حيال اختيار المسؤولين ورؤساء اللجان، حيث قاطعت الأحزاب العلمانية الصغيرة جلسة نيابية بعد أن خرجت خالية الوفاض من أي منصب. كما أن الجيش ليس سعيداً لأن البرلمان بدأ يحاول بالفعل عرض عضلاته، من خلال تحدي شرعية قانون الانتخابات الرئاسية الذي أصدره المجلس الأعلى بمرسوم في أواسط كانون الثاني/يناير، كما بدأ يناقش توقيت الانتخابات الرئاسية.

الغريب هنا أنه فيما مجلس الشعب مستعد للعمل وهو يعطي كل المؤشرات على أنه يريد أن يكون مؤسسة قوية ومناضلة لا مجرد هيئة تبصم بدون نقاش كما كانت البرلمانات المصرية السابقة، إلا أن عملية الانتقال تبدو منحبسة إلى حد كبير، فيما تجري انتخابات الغرفة العليا (مجلس الشورى). لقد كان مجلس الشورى دوماً مؤسسة لاحول لها ولاقوة- شرعياً كما كأمر واقع- وتبعاً لذلك قلة من  المصريين تجمشت عناء التصويت. وبغض النظر عن الانتخابات، ستكون الغرفة العليا منظمة مبتورة طيلة المستقبل القريب: إذ أن ثلثي أعضائها فقط يتم انتخابهم فيما الآخرون يعيّنهم الرئيس. لكن المحاكم قررت أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لايستطيع القيام بهذه التعيينات. وفي هذه الأثناء، كان يتم تأجيل وضع الدستور إلى مابعد إجراء الانتخابات.

إن عَبَثْ انتخابات مجلس الشورى- وهو مؤسسة يعتقد الكثيرون أنها يجب أن تُلغى، وهي على أي حال لن تكون قادرة على العمل قبل أن يعيِّن الرئيس أعضاءها الباقين- تُلقي الأضواء على صعوبات الوضع الراهن. فالخطوات الانتقالية ليست مُصممة بشكل جيد، وتسلسلها الزمني مشوب بالعيوب. ثم أن البرلمان الجديد سينتخب لمدة خمس سنوات، لكن سيعاد النظر بالدستور قريبا، وربما في غضون أسابيع وفقاً إلى بعض الاقتراحات.

وهكذا، وبدلاً من مواجهة مشكلة من له الأسبقية البيضة أم الدجاجة التي عاينتها كل مراحل الانتقال (أي أنه ليس في الوسع انتخاب مؤسسات جديدة إلى أن يكون هناك دستور، ولكن ليس في الإمكان وضع دستور من دون انتخاب هيئة لمناقشة هذا الدستور والمصادقة عليه- بدلاً من ذلك قررت مصر تجاهل هذا التحدي، فانتخبت مؤسسات ذات مدى طويل  فيما يحتمل أن تتغير الصلاحيات في المدى القصير. وبالمقارنة، واجهت تونس المشكلة نفسها بالطريقة التي أثبتت نجاعتها وهي انتخاب جمعية تأسيسية لها صلاحيات لمدة عام واحد، على أن يحل مكانها في نهاية هذه الفترة برلمان منتخب في ظل دستور جديد.

إن مشكلة انتخاب مسؤولين لفترة طويلة حين تكون القواعد على وشك التغيُّر، حادة على وجه الخصوص في مايتعلق بالرئاسة. فالدستور الجديد قد يجري بعض التغييرات في صلاحيات البرلمان، لكن سيكون هناك دوماً برلمان يسن القوانين. وسيكون هناك دوماً رئيس، لكن صلاحياته قد تتغيَّر بشكل دراماتيكي.

لقد تمّ اقتراح احتمالات ثلاثة بالنسبة إلى الرئاسة: أولاً، المحافظة على نظام حيث الرئيس يتمتّع بصلاحيات تنفيذية قوية؛ ثانياً، الانتقال إلى نظام برلماني، حيث يكون الرئيس صورياً ورئيس الوزراء قوياً يختاره البرلمان ويكون مسؤولاً أمامه؛ ثالثاً، اعتماد نظام مختلط شبيه بالنظام الفرنسي، حيث يتشاطر السلطة التنفيذية رئيسٌ ينتخبه الشعب ورئيسُ وزراء يختاره البرلمان. وكان حزب الحرية والعدالة، الذي يسيطر على 43 بالمئة من المقاعد في مجلس الشعب الجديد، قد دعا إلى اعتماد هذا النوع من الأنظمة المختلطة على المدى القصير، على أن يتمّ الانتقال إلى نظام برلماني على المدى البعيد. وانطلاقاً من ذلك، من غير المستبعد أن يتغيّر دور الرئيس بشكل جذري في ظلّ دستور جديد، وأن يشهد الرئيس المُنتَخَب حديثاً تقييداً لسلطاته بعد أشهر قليلة فقط.

أما الحلّ الذي اقترحه البعض، بأن يُسمَح للرئيس المُنتَخَب الآن بتولّي ما تبقّى من فترة ولايته في ظلّ الدستور القديم، فمن شأنه أن يسفر عن وضع مزعزع أكثر، خصوصاً أن دستور العام 1971 أُبطِل. ومصر تُحكَم حالياً بموجب "إعلان دستوري" صاغه المجلس الأعلى للقوات المسلحة من مقاطع من الدستور القديم، وهو عبارة عن تعديلات تمّت الموافقة عليها في استفتاء أُجري في آذار/مارس 2011، وعن تغييرات إضافية أدخلها المجلس في بلاغات لاحقة. 

إلا أن مصر لايمكن أن تنتظر طويلاً قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، نظراً إلى الاضطرابات التي تشهدها البلاد في ظلّ الحكم العسكري. في تشرين الثاني/نوفمبر، استجاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة للضغط الشعبي فأعلن أن الانتخابات الرئاسية ستُجرى في حزيران/يونيو، معيداً بذلك النظر في جدوله الزمني المتمهّل الذي كان أعلنه سابقاً، والذي نصّ على سنّ دستور جديد أولاً ثم إجراء انتخابات رئاسية في بداية العام 2013. لكن المحتجّين وعدداً من الطامحين إلى الرئاسية دعوا إلى عقد الانتخابات في موعد أبكر. ووفقاً لمشروع قرار تمّت مناقشته في مجلس الشعب، حُدِّد موعد الانتخابات الرئاسية في 15 نيسان/أبريل، على أن يبدأ تسجيل المرشّحين في الأول من آذار/مارس. 

ثمة ما يبرّر رغبة الكثير من المصريين في أن يسلِّم المجلس الأعلى السلطة بأسرع وقت ممكن. فالجيش لم يُنجِز إلا القليل، بعد مرور عام على تولّيه السلطة، وقد عجز عن إدارة عملية انتقال سريعة وقابل للاستمرار أو عن معالجة قضايا السياسة الأبرز. بيد أن السبيل الحالي نحو انتخابات رئاسية سريعة يبدو كارثياً، ولايتيح الوقت اللازم لاعتماد دستور جديد، فكيف بالأحرى دستور تمّت مناقشته كما يجب وحظي بإجماع واسع. هذا ولن تُعقَد الجلسة الأولى لمجلسَي الشعب والشورى قبل منتصف آذار/مارس. وحتى لو افترضنا أن البرلمان سيوافق سريعاً على تشكيلة اللجنة الدستورية التي يجب أن ينشئها والمؤلّفة من 100 عضو، وهو افتراض بعيد كل البعد عن الواقع، فلن يبقى من الوقت إلا فترةً قصيرةً جداً لصياغة دستور وعرضه على الاستفتاء العام قبل إجراء الانتخابات الرئاسية.

يزعم بعض المصريين أن البلاد تملك دساتير جيدة يمكن نفض الغبار عنها بسرعة، إلا أن أياً من هذه الوثائق السابقة لايدعو إلى اعتماد النظامين البرلماني والمختلط اللذين يفضّلهما حزب الحرية والعدالة. وحتى المصريين الذين ينادون بالعودة إلى الدساتير السابقة يقرّون بأن أفضل دساتير مصر ظلّت حبراً على ورق، وفي ذلك تذكير بأن صياغة دستور ناجح ليست مجرّد عملية تقنية بل هي عملية تقوم على حصد الإجماع. 

تلك هي الحلقة المفرغة التي لابد أن يخرج منها المصريون بسرعة إذا ما كانوا يريدون إنقاذ العملية الانتقالية التي تشوبها عيوب كبيرة. الحلّ على الورق سهل جداً: على مصر أن تستكمل العملية الانتخابية البرلمانية لأن القطار سبق وانطلق. فمن المستحيل الآن تقصير ولاية البرلمان المُنتَخَب أو إبطالها، ولا بد من انتخاب رئيس في أسرع وقت ممكن لولاية مدّتها عام واحد، والانكباب فوراً على صياغة دستور جديد. وما إن يُقَرّ الدستور حتى تُجرى انتخابات رئاسية جديدة. طبعاً، مايسهل على الورق لايسهل على أرض الواقع في الحياة السياسية، غير أنه لا خيار أمام مصر إلا القبول بضرورة انتخاب رئيس مؤقّت.

وإذا كان ثمة ما تستطيع الولايات المتحدة فعله بغية مساعدة مصر في هذه المرحلة الصعبة، فهو عدم المساواة بين التقدّم نحو الديمقراطية وبين القبول بوجود منظمات أميركية غير حكومية. على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، عوضاً عن ذلك، أن يحثّا الأطراف السياسية كافة على حلّ المعضلة التي أغرق كلٌّ من المجلس الأعلى والأحزاب الساعية وراء مصالحها البلادَ فيها. صحيح أن تدابير مصر تجاه المنظمات الأميركية غير الحكومية مثيرة للجدل، إلا أن التهديدات التي تترصّد العملية الانتقالية المصرية أخطر بكثير، وهذه هي المشكلة التي يجب معالجتها.