دخول بنغازي يعني دخول مدينة واقعة تحت الحصار: مُعتَدون غير مرئيين يمطرون نقاط التفتيش برصاص الأسلحة الآلية؛ رجال أمن وعسكريون تُزهَق أرواحهم في تفجيرات سياراتٍ مفخّخة. لقد أصبحت الطلقات النارية المتقطّعة والانفجارات ماقبل بزوغ الفجر طابعاً مألوفاً. أما الفاعلون فلا تُعرَف هوياتهم ويفلتون من العقاب. يتوسّل السكان الحكومة الليبية أن تفكّك الميليشيات الطليقة في المنطقة وتستبدلها بقوات الجيش والشرطة الرسمية، في حين يتمسّك كثرٌ بالمطالبة بقائد قوي قادر على إنقاذ المدينة الشرقية المضطربة من نفسها. في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الفائت التقيت بالرجل الذي يبدو أنه يضطّلع بهذا الدور.

سيسي بنغازي

استقبلني العقيد ونيس بوخمادة، قائد وحدة قوات خاصة مقرّها بنغازي، في مكتبه الكامن في ثكنة واسعة ومحصّنة. الرجل داكن البشرة وفي منتصف الخمسينيات من عمره، يوحي جبينه المجعّد بأنه شديد التركيز ويرتاب بالغرباء عن البلاد، وهي سمةٌ يُعرَف بها الضباط الذين أمضوا حياتهم في خدمة جيش القذافي. خارج باب مكتبه تسكّع حشدٌ من طالبي الخدمات: رجال ملتحون، ومجموعة أشخاص ببزّات فضفاضة غير متناسقة اللون، وسحاباتٌ من دخان السجائر.

فريدريك ويري
تركّز أبحاث ويري على الإصلاح السياسي والقضايا الأمنية في دول الخليج وليبيا، والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط عموماً.
More >

كانت وحدة القوات الخاصة التي يقودها بوخمادة، والمعروفة محلياً بكتيبة الصاعقة، من بين أولى الوحدات العسكرية التي انشقّت عن جيش القذافي في الأيام الأولى للانتفاضة ضدّ الزعيم الليبي في بنغازي. آنذاك، كانت الكتيبة بقيادة اللواء عبد الفتاح يونس، وهو شخصية جذابة أسفر اغتيالها في ظروف غامضة في تموز/يوليو 2011 عن يروز حالة استقطاب في المدينة وكشف مكامن الانشقاق الحادّ بين القبائل والإسلاميين. 
بوخمادة هو وريث طبيعي لإرث يونس في القيادة والطباع، وهو أيضاً حظي بالثناء لمقاتلته مناصري القذافي في المعركة الأخيرة من أجل السيطرة على سرت. في أعقاب الثورة، استخدم بوخمادة مزيجاً من الإقناع والقوة لإخماد الصراع القبَلي الذي اندلع في مدينة سبها الجنوبية.  

في بنغازي نفسها، كان بوخمادة متردّداً بدايةً في المشاركة في حفظ الأمن، فترك المهمة عوضاً عن ذلك لائتلافٍ من ميليشيات إسلامية شبه رسمية وأكثر نفوذاً. ففي نهاية المطاف، وكما أخبرني في مكتبه، لم تكن قواته الخاصة مصمَّمةً أو مجهّزةً للاضطلاع بحفظ الأمن في المدن، إذ افتقرت إلى جهاز استقصائي وجنائي، وهذا يعني أن معظم الجرائم تبقى من دون حلّ.   
لكن في الصيف الماضي، عندما تصاعدت حدّة العنف في المدينة وأثبتت الشرطة النظامية أنها عاجزة عن معالجته، أعلن بوخمادة أن الكيل طفح وجنّد قوات الاحتياط في كتيبة الصاعقة. وفي تشرين الأول/أكتوبر، أصبح الحاكم العسكري الفعلي لبنغازي، متولّياً مهمة تنسيق جهود الميليشيات المتنوّعة والهيئات الحكومية. طوّق رجالُه بنغازي بنقاط تفتيشٍ محصّنة بأكياس الرمل، وسيّروا دوريات مسلّحة في شوارعها الرئيسة، ودهموا سوق السلاح المقام علناً. كما اشتبكوا مع أنصار الشريعة، أشهر المجموعات الإسلامية في المدينة.

انتهت المواجهة مع أنصار الشريعة في نهاية المطاف بالمفاوضات، مسلّطةً الضوء على عنصر رئيس في طريقة بوخمادة في الحفاظ على الأمن في بنغازي، وهي أنه يعتمد بشكل أقلّ على السلطات الرسمية، وبشكل أكثر على الدهاء والسحر والتفاوض، والأهم على النسَب القبَلي. وقد وافق على ذلك ضابط زميل في القوات الخاصة، في العاصمة طرابلس، قائلاً إن بوخمادة "هو أقرب إلى شيخ قبَلي منه إلى قائد عسكري". ومع أن بوخمادة، الذي يتحدّر من قبيلة المغاربة الشهيرة، ترعرع في الجنوب في مرزق، إلا أن قبائل بنغازي البارزة رحّبت به في صفوفها كما لو كان ينتمي إليها. إنه مثال الرجل الغريب الذي يقاتل في سبيل وطنه الثاني. في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، تعهّدت مجموعة من شيوخ القبائل بمساعدة بوخمادة في حفظ أمن المدينة، قاطعين وعداً بألا يطبّقوا العرف القبَلي الخاص بالحماية والعقاب على أيٍّ من أفراد القبائل الذين اعتقلوا أو قتلوا على أيدي قوات الصاعقة التي يقودها.

جاءت ردود فعل الناس على خطوات بوخمادة حارةً ومُهنِّئةً، على الأقل في بعض الأنحاء. فصفحات الفايسبوك تعلن "كلنا ونيس بوخمادة"، في حين تكثر الروايات عن احترافه وإيثاره وتفانيه من أجل رجاله. حذّرني أحد الأصدقاء في بنغازي قائلاً: "لن تتمكّن من لقائه. فهو يخرج دائماً مع رجاله في الليل، ويتنقّل بين نقاط التفيش". عندما أطلعني صديق ليبي آخر على صورة لقالب حلوى بالشوكولا مزيّن بتمثال صغير مُموَّه يشبه بوخمادة، تذكّرت الشعبية التي يتحلّى بها قائد الجيش المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أطاح الرئيس محمد مرسي في تموز/يوليو وقد يسعى الآن إلى الرئاسة. طبعاً، يبقى التشابه ناقصاً في كثير من النواحي. فالعقيد الليبي يبدو أنه لايمتلك أياً من الطموحات السياسية التي يندفع وراءها نظيره المصري. والجيش الليبي هو ظلٌّ شاحبٌ للجيش المصري العملاق اقتصادياً وسياسياً. لكنّ وجه الشبه اللافت هو الثناء المدوّي الذي يحظى به الجيش في بنغازي والمدن الأخرى. قال لي عدد من قادة القبائل من شرق ليبيا في تشرين الثاني/نوفمبر: "نريد السيسي هنا. إذا نجح الأمر في مصر فهذا يعني أنه سينجح هنا". وسمعت الهمسات نفسها في طرابلس.

بيد أن للقصة وجهاً آخر. فليس الجميع معجباً بالقائد الجذّاب وبنشره جنوداً في أرجاء المدينة. كل يوم تتواجه قوات بوخمادة الخاصة مع مجموعة من الميليشيات الإسلامية ذات الجذور الراسخة في المدينة من أجل بسط النفوذ والسلطة. وقد كان جنود الصاعقة هدفاً لحملة اغتيالات، في حين تعرّض نجل بوخمادة نفسه إلى الاختطاف في أواخر كانون الثاني/يناير. سيكون لمحصّلة هذا النزاع تأثير لا على المدينة وحسب، بل أيضاً على مستقبل الجيش الليبي، وعلى عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد. 

"أصحاب قيم"

نشأت الميليشيات الإسلامية الأكثر نفوذاً في الأيام الأولى للانتفاضة ضد القذافي، التي اندلعت منذ ثلاث سنوات بالضبط. كان بعض قادة هذه الميليشات وأفرادها قد أمضوا وقتاً في سجن أبو سليم التابع للقذافي، وهو مركز معروف لاعتقال السجناء السياسيين. وكان لبعض هؤلاء خبرة ميدانية في ساحات القتال في أفغانستان والعراق.

تقاطر الشبان المتململون من شرق ليبيا إلى هذه الميليشيات وهم موعودون بزمالةٍ وهدفٍ ومدوّنة أخلاق، وبدخلٍ لاحقاً. والواقع أنه كان لقلّة منهم خيارات أخرى. عندما تفحّصتُ قائمة المجنّدين لوحدةٍ من هذه الوحدات، وهي كتيبة شهداء الزاوية، ظهر عدد من فئات موظفي ماقبل الثورة بتواترٍ مُحزِنٍ: عامل مياوِم، عاطل عن العمل، ميكانيكي، طالب. هؤلاء الشبان اكتسبوا حسّاً بتأدية رسالة بفضل محاربتهم القوات الموالية في بنغازي وأجدبيا والبريقة وسرت. كما أنهم عقدوا روابط جديدة. وعندما سقط الطاغية، وجدوا من الصعب عليهم العودة إلى ماكانوا عليه سابقاً. 

في أيام العنف التي طبعت مرحلة مابعد القذافي، ملأت هذه الكتائب الإسلامية الفراغ الأمني في بنغازي، دافعةً الحكومة الانتقالية الضعيفة، أي المجلس الوطني الانتقالي، إلى دفع الأجور لهذه الميليشيات. لكن المفارقة أن هذه الإعانات ملأت صفوف الميليشيات بمتطوّعين جدد، وولّدت مجموعات مسلحة لم يسبق أن شاركت في الانتفاضة. في هذا السياق، قال أحد المسؤولين الليبيين في طرابلس ساخراً: "إذا قالت الحكومة الليبية غداً إنها ستدفع أجراً لصيادي الأسماك، فالجميع سيصبح صياداً حينها. هذه هي حال الميليشيات". يشير إحصاء أجرته الحكومة مؤخراً إلى وجود مايناهز الـ165 ألف "ثوري" مسجَّل، إلا أن قسماً منهم فقط قاتل فعلياً في الحرب. (لايشير هؤلاء المقاتلون أبداً إلى منظماتهم على أنها "ميليشيات"، فالتسمية تنطوي على إيحاءٍ بسوء الانضباط واللاشرعية، بل يسمّونها "كتائب" أو "سرايا").

مع مرور الوقت، أخضعت معظم الميليشيات نفسها إلى وزارة الدفاع. فانضمّ العديد منها إلى قوات درع ليبيا، التي اضطلعت بدور الجيش غير الموجود، أو جهاز الأمن الوقائي، وهو جهاز استقصائي ومكافِح للتجسّس نشأ في الأيام الأولى للثورة بهدف القضاء على الموالين للقذافي. وانضمّ عدد أصغر في الشرق إلى اللجنة الأمنية العليا تحت لواء وزارة الداخلية، مع أن هذه الهيئة هي أقوى في طرابلس.

لم يثبت أيٌّ من هذه الائتلافات أنه مثير للجدل أكثر من درع ليبيا. فقد أطلق قادة الميليشيات النافذون قوات هذا الدرع للحؤول دون دمج وحداتهم في الجيش الليبي النظامي الذي كانوا يكرهونه بسبب ارتباطه بالنظام القديم. في المقابل، نشرت الحكومة الليبية قوات الدرع لوضع حدّ للقتال الإثني والقبَلي في أرجاء البلاد. وجاءت النتائج متباينة إن لم تكن سلبية. فلم تساهم إحدى قوات الدرع الشرقية التي أُرسِلَت إلى مدينة الواحات الجنوبية (الكفرة) للجم العنف بين القبائل العربية وبين التبو السود، إلا في تأجيج التوترات الإثنية.   

يشير العديد من الليبيين اليوم إلى مشروع الدرع على أنه الخطيئة الأصلية للمجلس الانتقالي الوطني – وصفقة خاسرة وضعت البلاد في مسار انحدراي. في غضون سنتين، أصبحت قوات الدرع بسرعة جيشاً ظلاً يتمتّع بنفوذ أكبر من النفوذ التي تتمتّع به قوات البلاد النظامية. وتخطّى الأجر الحكومي الشهري للفرد من أفراد قوات الدروع أجر الشرطي النظامي والمجنّد في الجيش، الأمر الذي أعطى أفراد الميليشيات والمجندين المحتملين حافزاً ضئيلاً للانضمام إلى قوات الأمن الحكومية (رفع رئيس الوزراء الليبي مؤخراً أجور الجيش لمعالجة هذه المسألة). فضلاً عن ذلك، كان أن حصل البعض على أجرَين أو ثلاثة من الحكومة: كان يمكن لشاب ما أن يكون عضواً في الوقت نفسه في قوة الدرع، وفي الميليشيا المحلية، وفي الشرطة. لكن الخلل الأخطر كان أن قوات الدرع احتفظت ببنية الميليشيات وتماسكها. وكان لأرباب الميليشيات الحرية ليطبقوا أجنداتهم مستخدمين المراسيم الرسمية للحكومة بمثابة غطاء.

لا أحد يشكّل خير مثال على هذه المفارقة أكثر من وسام بن حميد، قائد درع ليبيا الأول في بنغازي. بن حميد هو في الخامسة والثلاثين من عمره، نحيل وملتح ومتحفّظ، نال مديحاً لقتاله أثناء الثورة بصفته قائد كتيبة أحرار ليبيا. عندما تكلّمت معه في الصيف الماضي، أصرّ على أنه خادم وفيّ لرئيس أركان الجيش، وأن قوات الدرع هي امتداد رسمي لسلطة طرابلس.    

لكن مع مرور فصلَي الربيع والصيف أصبح بن حميد سياسياً. فأنشأ وترأّس المجلس الأعلى للثوار، وهو ائتلاف ميليشيات وإسلاميين وسياسيين ساخطين من مدينة مصراتة المستقلة القوية. في نيسان/أبريل، أجبر المجلس السلطة التشريعية المعطّلة في البلاد، أي المؤتمر الوطني العام، على تمرير قانون يمنع المسؤولين من حقبة القذافي من العمل في الخدمة العامة، ولاحقاً حاصر الوزارات الحكومية مطالباً باستقالة رئيس الوزراء علي زيدان.
يرى العديد من الليبيين أن استخدام القوة هذا يشكّل سابقةً خطيرةً في الحياة السياسية في البلاد، إذ كان الإجراء السياسي الجليّ الأول التي تقوم به الميليشيات. ويصفه البعض بأنه "انقلاب صامت". في 8 حزيران/يونيو 2013، سار محتجّون إلى مقرّ قوات الدرع بقيادة حميد، مطالبين الحكومة المركزية بإلغاء الميليشيات والدرع واستبدالهما بالجيش والشرطة النظاميّين. وقد لقي اثنان وثلاثون شخصاً مصرعهم بعد أن فتحت قوات الدرع عليهم النار، وفرّ حميد إلى طرابلس أولاً ثم إلى مدينة مصراتة الساحلية الوسطى.

ردّت الحكومة الليبية على الغضب الشعبي المتصاعد من خلال التعهّد بدمج كل الميليشيات المستقلة في الجيش النظامي بحلول العام 2013، وهو هدف فَشِل بوضوح. في بنغازي، أخلت الميليشيات مقرّاتها والشوارع فيما تدهورت الأوضاع الأمنية أكثر. وتحبّ الميليشيات أن تعزي سبب هذه الخطوة إلى أنها لم تَعُد مسؤولة عن الأمن. بيد أن منتقديها يردّون على هذه الحجة قائلين إن الإسلاميين هم أنفسهم مسؤولون عن العنف ويؤدّون دورَي مُشعِل النار ومُطفِئها. ويُقال إن الإسلاميين، ومنذ أن أُخرِجوا من مقرّاتهم، شنّوا حملة ضارية ضدّ مسؤولين سابقين وقوات أمن سابقة من عهد القذافي.

في غضون ذلك، برز مشهد أمني جديد في بنغازي، اتّسم بتوزيع ضعيف للمهام بين القوات الرسمية بقيادة كتيبة الصاعقة التي يترأّسها بوخمادة، وبين القوات غير الرسمية المؤلفة من الميليشيات الإسلامية. وأنشأت الحكومة الليبية "غرفة أمنية مشتركة" مهمّتها تنسيق وتقوية جهود المؤسسات الأمنية الرسمية في بنغازي في صيف العام 2013. إلا أن الغرفة تترك قسماً كبيراً من مهمة ضبط الأمن الفعلية في المدينة إلى الميليشيات المؤلّفة من فرع بنغازي التابع لغرفة العمليات الخاصة بثوار ليبيا، بما في ذلك أنصار الشريعة. 

تنظر الميليشيات الإسلامية وقوات الدرع إلى كتيبة الصاعقة بقيادة بوخمادة على أنها شريك غير سهل وخصم عنيد في الوقت نفسه، وتأتي هذه النظرة جزئياً نتيجة الذاكرة التاريخية. ففي ظلّ القذافي، قادت القوات الخاصة عملية قمع ضارية ضدّ انتفاضة إسلامية في بنغازي والجبل الأخضر في أواخر تسعينيات القرن الماضي. ومع أن العديد من قادة تلك الانتفاضة حاربوا جنباً إلى جنب مع قوات الصاعقة في ثورة العام 2011، إلا أن مشاعر الضغينة شديدة بين الطرفين.

أما اليوم، فالعديد من الإسلاميين يتجاهلون قدرات الصاعقة ويعربون عن ريبتهم إزاء دوافعها. في هذا السياق، أكّد إسماعيل الصلابي، وهو القائد السابق لسرايا راف الله السحاتي في بنغازي، في مقابلة أجريتها معه الربيع الفائت، أن لاشيء يجري إنجازه في المدينة من دون الإسلاميين والثوار. ويُذكَر أن صفوف الصاعقة امتلأت بـ"متعاطي المخدرات وزِيَر النساء"، وغالباً ماكانت مساهمات هذه القوة في فرض الأمن خرقاء وغير متقنة. وأضاف متّهماً: "لايزالون يعتقدون أنهم يقاتلون في سرت. وقد يستخدمون صواريخ غراد لملاحقة مهرّبي المخدرات". وسخر من بوخمادة لقيامه بـ"عسكرة" الحياة في المدينة. وقال لي: "لانريد رجلاً شبيهاً بالسيسي في بنغازي". ويعكس هذا الاستهزاء جزئيّاً تمسّك الإسلاميين بالأخلاق والتقوى كوسيلة لتمييز أنفسهم عن الزعماء في عهد القذافي. قال الصلّبي: "نحن أصحاب قيم. أما عناصر الصاعقة فيسعون وراء مصالحهم الخاصة".

لكنّ العداء يتعلّق بالتاريخ والنسب بقدر مايتعلّق بالأخلاق. ينجم جزء من العنف في بنغازي عن صراع بين القبائل الشرقية مثل البراعصة والعواقير وبين قبائل ذات أصول تاريخية في مصراتة، يحارب بعضها في صفوف الميليشيات الإسلامية. يدور الصراع حول النفوذ السياسي والامتياز الاقتصادي، والأهم من ذلك كله، على الأصالة والانتماء. كشفت شخصية إسلامية أصلها من مصراتة، في معرض وصفها العواقير والبراعصة، مدى تأجج المشاعر لدى الفريقين، قائلاً إنّهما "عنصريّين ويعتبران نفسيهما "أبناء الأرض الأصليين"، على الرغم من أنّ قبائل مصراتة قدموا إلى بنغازي منذ 350 إلى 500 سنة".

على ضوء هذه التوترات، يُعدّ وضع المشاكل التي تعانيها بنغازي في إطار "المدنيين ضد الميليشيات" أو "الإسلاميين ضد الدولة" سطحيّاً وناقصاً في نهاية المطاف، إذ يفشل في شرح الصراعات القبلية والخصومات الشخصية التي تحرّك السياسات في المدينة. فعلى سبيل المثال، كان معظم المحتجين خارج مقرّ درع ليبيا بقيادة وسام بن حميد في 8 حزيران/يونيو الفائت من البراعصة. ويقع المقرّ في الكويفية، وهي ضاحية في بنغازي ومعقل البراعصة. يرى السكان المحليون أنّ درع ليبيا تتخذ موقفاً إقطاعيّاً وتسلّطيّاً تجاههم. وكان هدف الاحتجاج الانتقام وإعادة تحقيق التوازن الاجتماعي. وفي تشرين الأول/أكتوبر، شنّ البراعصة هجوماً على المنزل الذي يقيم فيه والدا بن حميد، اعتقاداً منهم أنّه المسؤول عن اغتيال أحد أقربائهم، قائد الشرطة في بنغازي. حين حدّثتُ بوخمادة في هذا الموضوع، بقي محايداً. إلّا أنّ خصومه الإسلاميين يتهمونه مع كتيبته المعروفة بالصاعقة بالانحياز الفاقع إلى البراعصة والعواقير.

في طريق العودة من بنغازي إلى طرابلس، اتضح أمرٌ واحد: في ليبيا الجديدة، ترتكز الدولة الضعيفة والإسلاميون والميليشيات على مستوى أعمق من الانقسامات القبلية والإقليمية. يكثر المتمسّكون بالشرعية وتكثر الحقائق. دخلت واشنطن وحلفاؤها هذه الدوامة من الولاءات المتنافسة لإعداد قوات أمن جديدة للبلاد.

قوة الأغراض العامة

منذ أوائل العام 2013، تعمل القيادة الأفريقية الأميركية (أفريكوم) وقيادة العمليات الخاصة الأميركية (سوكوم) على بناء الجيش الليبي الجديد وقوة مكافحة الإرهاب. بدأ المشروع حين طلب رئيس الوزراء على زيدان، في أثناء انعقاد قمة مجموعة الثماني العام الماضي، المساعدة الخارجية في إنشاء ما أصبح يُعرف لاحقاً باسم قوة الأغراض العامة التي يبلغ عديدها 20 ألف جندي. حين أصبح جليّاً الصيف الماضي عجز الحكومة المنتخبة في ليبيا عن العمل بمعزل عن النفوذ العسكري، حظيت الخطة بقبول أكبر في واشنطن. لدى الولايات المتحدة وتركيا وبريطانيا والمغرب وإيطاليا خطط لتدريب الجيش الليبي وتجهيزه  في قواعد خارج ليبيا. أمّا القيادة الأفريقية الأميركية (أفريكوم)، من جهتها، فستتولّى تدريب بين 5000 و8000 جندي في قاعدة في بلغاريا. وبحسب الإخطار الذي وُجّه إلى الكونغرس مؤخّراً، تدفع الحكومة الليبية مبلغ 600 مليون دولار لقاء التدريب والدعم اللوجستي.

أكد لي مسؤولون في البنتاغون وفي القيادة الأفريقية الأميركية (أفريكوم) أنهم طرحوا أسئلة صعبة حول الخطة، بعد الدروس القاسية التي تعلّموها في السنوات الأخيرة عن بناء الجيوش في دول ممزقة يسودها مزيج من الولاءات القبلية والإقليمية. وقال لي مسؤول في أفريكوم: "نريد تدريب الوحدات الجديدة باعتبارها كلّاً متكاملاً لضمان أن المجنّدين المدرّبين بشكل فردي لن يعودوا إلى ليبيا للانضمام مجدّداً إلى الميليشيات". وأعرب بعض المسؤولين في البنتاغون عن مخاوفهم من إنشاء ميليشيا طائفية أو حتى الحرس البريتوري (قوات موالية فقط للرئيس)، الأمر الذي قد يقوّض عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد. ليس هذا السيناريو مستبعداً بالكامل، نظراً إلى أن بريطانيا درّبت النقيب آنذاك معمّر القذافي في أوائل ستينيات القرن المنصرم.

لكن، تبقى المسألة الأشد إلحاحاً شمولية هذه القوة العسكرية. بما أن المقصود منها في نهاية المطاف أن تحلّ محل درع ليبيا في تهدئة العنف الإثني والقبلي، ينبغي أن يكون حيادها واحترافها من المسلّمات. وهكذا، من الأولويات القصوى إذاً التحرّي عن المجنّدين لضمان أنّهم يمثّلون شريحة واسعة من القبائل والأديان، وتجنيدهم بشكلٍ فرديّ، لاجماعي كما هي حال عناصر الميليشيات، للتأكّد من أنّ المتدرّبين يبنون هوية مختلفة عن هوية الميليشيات.
يكمن التحدّي الأبرز الذي تواجهه عملية الشمولية الواسعة في الحرس القديم، أي في الضباط الليبيين المسنّين الذين ينظرون بازدراء إلى الثوار الشباب، ولاسيما الإسلاميين منهم. أخبرني ضابط برتبة عقيد الخريف الماضي في طرابلس: "أفضّل الاستقالة على مشاركة الجيش مع هؤلاء الأغبياء".

يعاني زعماء الميليشيا الإسلامية ازدواجية مماثلة، ويطالبون بتطهير الرتب الرفيعة المتضخمة في الجيش من الضباط في عهد القذافي قبل الانضمام إليه. لكنّهم يحتفظون بانتقاداتهم الأشرس لما يعتبرونه مكر زيدان وعدم شفافيته في التماس المساعدة الأجنبية لبناء الجيش. قال لي عبد الرؤوف كارة، وهو قائد إسلامي بارز في اللجنة الأمنية العليا في طرابلس: "لايحقّ"  لزيدان أن يسافر إلى عواصم أجنبية طلباً للمساعدة في بناء الجيش. ويشعر إسلاميون آخرون من شرق البلاد ومن مدينة مصراتة بالقلق من أن يمسي الجيش الجديد أداة سياسية لتحالف القوى الوطنية بقيادة رئيس وزراء مابعد الثورة، محمود جبريل، أو أسوأ من ذلك: أداة للولايات المتحدة. من بين اللازمات الشائعة التي تتردّد أنّ رئيس الوزراء المكروه يفتح البلاد أمام احتلال عسكري شبيه بالعراق. حين قامت الولايات المتحدة، بمساعدة ليبية مزعومة، بإلقاء القبض على القيادي في القاعدة المطلوب للعدالة، نزيه الرقيعي (المعروف باسم أبو أنس الليبي)، في تشرين الأول/أكتوبر، أصدر مفتي ليبيا بياناً افترض فيه أنّ الليبيين الذين يحصلون على تدريب في الخارج هم في الواقع يتعلّمون فنّ الاختطاف. قال لي القائد الإسلامي، اسماعيل الصلّابي: "على الجيش أن يقدّم ولاءه في المقام الأول إلى الشريعة الإسلامية"، مضيفاً: "إذا قامت الدولة بأمر يخالف الشريعة الإسلامية، على الحيش أن يحمي الشريعة الإسلامية. لانريد جيشاً يساعد القوى الأجنبية".

مع ذلك، ثمة دلائل على أنّ هذا التدبير يحدث في الوقت الراهن على الأرجح، وذلك من خلال جهود تبذلها قيادة العمليات الخاصة الأميركية (سوكوم) لتدريب وحدة من قوّات النخبة لمكافحة الإرهاب.

كتيبة مكافحة الإرهاب

يقع معسكر 27، المعروف أيضاً باسم معسكر يونس، خارج طرابلس. حتى وقت قريب، كان موقعاً مخصّصاً لمبادرة لم يُعلن عنها، أطلقها مستشارون في قوّات العمليات الأميركية الخاصة لتدريب الكتيبة الأولى في الجيش الليبي لمكافحة الإرهاب. تضمّ الوحدة العسكرية، الكتيبة 22 التابعة لقوّات العمليات الخاصة الليبية، حوالى 700 جندي، بحسب قائد الكتيبة، الذي أخبرني أيضاً أنّه اعتباراً من شهر تشرين الثاني/نوفمبر، حظي 84 جنديّاً ليبيّاً بالتدريب على يد العسكريين الإقليميين على الأرض، وأنّ الولايات المتحدة تعتزم تدريب 250 فوجاً. (لم يصلني ردّ من قيادة العمليات الخاصة على طلب الحصول على تعليق حول وضع التدريب أو عدد الجنود الليبيين المعنيين).

قائد الكتيبة رجل رياضيّ سليم البنية دائم الابتسام، من مدينة الزنتان، معقل تحالف القوى الوطنية برئاسة محمود جبريل، التي تتنافس مع مصراتة على النفوذ السياسي. قال لي إنّ الهدف المعلن للوحدة هو "محاربة الإرهاب". ولكن، أقرّ ضابط أميركي يشارك في تدريب الكتيبة أنّ تعريف الإرهاب مبهم وهو عبارة عن وجهة نظر في السياق الليبي. ويمكن بسهولة أن تنزلق الوحدة من استهداف عناصر تنظيم القاعدة فحسب إلى استهداف الخصوم السياسيين، ولاسيما السياسيون غير الإسلاميين، وبعضهم من تحالف القوى الوطنية، الذين يستخدمون اسم "القاعدة" للإشارة إلى الإسلاميين بمختلف فئاتهم، من مؤيّدي الإخوان المسلمين إلى الأعضاء السابقين في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وهي منظمة جهادية ارتبطت في السابق بتنظيم القاعدة ثمّ انفصلت عنه.

خلال الصيف، ألغت القوات الأميركية التدريب حين تعرّض معسكر 27 إلى هجوم وسُرقت معدّات عسكرية أميركية. ثمة نظريات كثيرة حول هوية مرتكب الهجوم. رسم لي مسؤول كبير في قوة حماية منشآت النفط الليبية، وأصله من غرب ليبيا، خريطة ليظهر لي أنّ موقع المعسكر يشكّل تهديداً لتجارة المخدرات المربحة التي تصب في طرابلس من جبل نفوسة غرب ليبيا. برأيه، قرّر تحالف الميليشيات المجرمة في جبل نفوسة، بقيادة المدعوّ صلاح وادي من بلدة ورشفانة، إغلاق المخيم وكسب بعض المال في العملية عبر وضع فدية مالية على المعدّات.

لكنّ قائد الكتيبة 22 يعتبر أنّ أمراً أكبر من أموال المخدرات على المحك. بالنسبة إليه، إنّ إنشاء وحدة مكافحة الإرهاب جسّد المعضلة الأكبر المتمثلة في إنشاء جيش قادر في خضم الصراع السياسي العميق. وادّعى أنّ ميليشيات مصراتة وإسلامييها كانوا مصمّمين على إلحاق الضرر بالجيش حتى قبل أن يرى النور. وهو قلق تردّد على لسان مسؤولين أميركيين في واشنطن. فعلى حدّ قول القائد، تخطّى معسكر 27 "الخط الأحمر" الذي وضعه السياسيون الإسلاميون والميليشيات المتحالفة معهم الذين يعارضون بناء جيش قوي. وكان التلفزيون الليبي قد بث حفل تخرّج في المخيم في فصل الصيف، ومنذ ذلك الحين، أصبح أمن الوحدة في خطر. وزعم القائد أنّه "تم التخطيط للهجوم من داخل المؤتمر الوطني العام".

بصرف النظر عن الأسئلة المتعلقة بموقع تدريبها، تبدو الوحدة وكأنها تواجه صعوبة في التجنيد واسع النطاق من المحافظات والبلدات والقبائل الليبية البعيدة. منذ الآن، ثمة مؤشرات تظهر نزعة نحو الاستبعاد. فمن بين الجنود السبعمئة في الوحدة، مامن قوات من مصراتة التي تضم الميليشيات الأكثر تنظيماً. يقول قائد الكتيبة 22: "ينضمّ أهالي مصراتة إلى الشرطة العسكرية فقط". وثمة أيضاً ندرة في الأشخاص القادمين من شرق ليبيا في الكتيبة. اعترف القائد مستخدماً التسمية الإنكليزية الشائعة للإشارة إلى سكّان مدينة بنغازي: "ثمة خمسة أو ستة بنغازيين فقط".

هذا مثير للقلق. ففي ظل غياب عناصر من شرق ليبيا أو من بنغازي، قد تكون الوحدة قوّة مفرِّقة عوضاً عن كونها حَكَماً محايداً. قد يرى الإسلاميون، كما كانون يشتبهون، أنّ الكتيبة تسعى إلى ملاحقتهم. معظم جنود الوحدة وضباطها هم من الجنوب، والزنتان، وسائر معاقل جبل نفوسة، ما أدّى إلى الافتراض بأنّ الهجوم على معسكر 27 نُفّذ من الداخل. في خضم الهجوم، أمر قائد الكتيبة رجاله بعدم إطلاق النار، معتقداً أنّه بهذه الطريقة يختبر ولاءهم حتى نقطة الانهيار. كان هذا بما لاشك فيه نذيراً عن المعضلات المقبلة التي سيواجهها الجيش الجديد: كيف سيتمكّن من حماية البلاد بينما يتردّد في التدخّل خشية كشف الانقسامات الإقليمية والقبليّة والعرقيّة ضمن صفوفه؟

هذه المخاوف مثيرة للقلق أكثر بعد نظراً إلى الانشقاقات ودوائر النفوذ غير الواضحة في المؤسسة الدفاعية الليبية. وثمة توتّرات حادّة بين زيدان وبين رئيس الأركان، وبين زيدان ورئيس المؤتمر الوطني العام، الذي يقود غرفة عمليات ثوّار ليبيا ذات الميول الإسلامية باعتبارها جيشاً خاصّاً (قامت غرفة عمليات ثوّار ليبيا باختطاف زيدان لفترة مؤقّتة في شهر تشرين الأول/أكتوبر).

في الأسابيع الأخيرة، تعرّض المؤتمر الوطني العام إلى تهديدين عسكريّين. في 14 شباط/فبراير، هدّد قائد الجيش السابق، خليفة حفتر، بتجميد عمل السلطة التشريعية، بيد أنّه لم ينفّذ تهديده بسبب افتقاره إلى جيش وقاعدة داعمة له. وبعد مرور ثلاثة أيام على ذلك، وجّهت ميليشيَتان مسلّحتان جيّداً إنذاراً أخيراً إلى أعضاء المؤتمر الوطني العام خيّرتاهم فيه إمّا بالاستقالة أو بالاحتجاز. حين التقيت برئيس إحدى هاتين الميليشيتين في العام 2012، أكّد لي على أنّ قوّته خاضعة إلى سلطة وزارة الدفاع. قال: "نحن هنا لإحلال الأمن في العاصمة، ونريد تدريباً أميركيّاً وبريطانيّاً". لم يتمّ تفادي المواجهة إلّا بوساطة الأمم المتحدة في اللحظة الأخيرة.

سواء سترضخ القوى الأمنية الجديدة في البلاد أمام هذا التنافس أم ستعمل على تهدئته بشكل يخدم الديمقراطية، أمرٌ يعتمد على حكمة الزعماء الليبيين وبعد نظر الداعمين في الخارج. لكن الشعب الليبي سيقرّر أيضاً. بسبب توقهم إلى الأمن، يمارس منهم البعض عبادة الجيش، الأمر الذي يدعو إلى القلق، حتى لو كان بعيداً عن المستوى الذي نراه في مصر. فالطريق نحو الدكتاتوريات، في العالم العربي وخارجه، معبّد بهذا النوع من الثناء.

سألت قائد الكتيبة 22 عن العنف المتفاقم في بنغازي وعمّا ينبغي القيام به في هذا الصدد. فهزّ كتفيه. ثمّ شرح قائلاً: "عرضنا على بوخمادة مساعدة الكتيبة 22، لكنه رفض. قال إنّه يسيطر على الأمر". وأضاف: "أعتقد أنّه بطل هناك، ولايحتاج إلى المزيد من الأبطال".

نشرت هذه المقالة أصلاً بالانجليزية في مجلة اتلانتك.