يُعطي النظام السوري الأولوية منذ العام 2011 لتنفيذ عمليات عسكرية ضد مجموعات المعارضة، إلا أنه لم يُشح بنظره قط عن منظومة ما بعد الحرب. فبعد سلسلة من الانتصارات العسكرية إبان التدخل الروسي المباشر في أواخر العام 2015، باتت لدى نظام الرئيس بشار الأسد ثقة أكبر بأنه سيبقى في السلطة، ما أتاح له التركيز على التنمية والمساعدات وإعادة الإعمار – وهي مسائل ذات أهمية محورية بالنسبة إلى الترتيبات السياسية والاقتصادية التي ستبصر النور مستقبلاً في سورية. بيد أن مقاربة النظام لم تتغيّر، محافِظاً على الأسلوب الذي لطالما اعتمده في الحكم. وهكذا يتبيّن من ممارسات النظام أنه يسعى في شكل أساسي إلى السيطرة وليس إلى الحكم.

كل السبل تقود إلى النظام

منذ تسلُّم آل الأسد السلطة في العام 1970، ولاسيما خلال العقود الثلاثة التي أمضاها حافظ الأسد في سدّة الحكم، عوّل النظام السوري على القوى الأمنية للإبقاء على سيطرته على البلاد. في عهد بشار، نجل حافظ الأسد، جرى إقرار إجراءات للتحرير الاقتصادي، ما ساهم في تمكين مجموعة جديدة من الكيانات الخاصة وأدّى إلى صعود شبكات من رجال الأعمال وموظفي الخدمة المدنية الذين جرى تكييف أدوارهم بعد اندلاع الحرب في سورية لتتناسب مع ظروف النزاع المتغيِّرة. أصبح عمّال الإغاثة ورجال الأعمال والبيروقراطيون وضباط الأمن متداخلين جميعاً في شبكة واسعة من المصالح تتمحور حول النظام.

عند اندلاع الانتفاضة السورية، أفضت طبيعتها ذات الطابع المحلي الشديد إلى صعود منظمات غير حكومية جديدة ظهرت داخل الأراضي الخاضعة إلى سيطرة النظام وخارجها من أجل معالجة الأوضاع الإنسانية التي تزداد سوءاً. في العام 2013، بدأت الحكومة منح تراخيص لبعض هذه المجموعات، وفي العام التالي، وضعت وزارة الخارجية قائمة بالمنظمات السورية المخوَّلة العمل مع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية. عملياً، كان الشرط الأساسي لإدراج المنظمات على القائمة أن يكون رؤساؤها جزءاً من شبكات الأفراد الموثوقين من النظام.

في ما يأتي مثالٌ عن الطريقة التي تسير بها الأمور في معظم الأحيان. في بلدة المخرم في محافظة حمص، أطلقت سيدة ذات خلفية علوية ولديها روابط عائلية في صفوف القوات المسلحة، مبادرة محلية في العام 2014 لتقديم المساعدات إلى عائلات عناصر الجيش وقوات الدفاع الوطني الموالية للنظام الذين لقوا مصرعهم أثناء القتال. وقد تواصلت مع إحدى وكالات الأمم المتحدة في حمص للحصول على الدعم، لكن طلبها جوبِه بالرفض لأن مبادرتها لم تكن مدرَجة على قائمة وزارة الخارجية للمنظمات الحائزة على تراخيص للعمل في البلاد. في ذلك الوقت، كانت القائمة تضم 79 مجموعة.

استخدمت السيدة علاقاتها داخل مختلف الشبكات الأمنية التابعة للنظام، فتمكّنت من إدراج مبادرتها في إطار جمعية البستان، وهي منظمة غير حكومية يرأسها رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، ومدرَجة على قائمة وزارة الخارجية، ما يعني أنها مؤهّلة للحصول على الدعم الخارجي. بهذه الطريقة، استطاع النظام ضبط الموارد التي تدخل سورية من الخارج عبر تنظيمها ضمن إطار قانوني. وهكذا حافظ على السيطرة المركزية عبر السماح للمنظمات غير الحكومية بالعمل انطلاقاً من دمشق، حتى حين يعهد إليها مهمة تأمين الخدمات.

فيما تقترب سورية على الأرجح بصورة مطردة من الدخول في مرحلة إعادة الإعمار، يدرك النظام أن ضعف الدولة والطبيعة المتغيّرة للاحتياجات الإنسانية على الأرض ربما يُحتِّمان اضطلاع المنظمات غير الحكومية بدور أكبر. لقد أبصرت مبادرات محلية النور في مختلف أنحاء سورية. غير أن النظام لم يسعَ إلى احتواء هذه المنظمات والسيطرة عليها في شكل مباشر – وهو أمر مستحيل في الأغلب – بل عمد إلى اتباع سياسة تقوم على محاولة دمجها ضمن شبكاته الخاصة. تتسبب هذه السياسة بتوسيع سلطة الدولة المركزية إلى المستوى المحلي، فيما تتيح لها الحفاظ على درجة معينة من السيطرة على تدفق المساعدات من الوكالات الدولية في الخارج إلى المنظمات غير الحكومية في سورية.

تمكين التكنوقراط المحليين

كما أن الطبيعة المحلية جداً للنزاع السوري دفعت بالنظام إلى تمكين الوحدات الإدارية المحلية في الأعوام الأخيرة. فعلى سبيل المثال، من أجل الاحتفاظ بالسيطرة على عملية إعادة الإعمار، شكّل النظام لجنة لإعادة الإعمار في كانون الأول/ديسمبر 2014. اللافت أن اللجنة هي برئاسة وزير الإدارة المحلية، وفي ذلك إقرار ضمني بأنه يجب إدارة عملية إعادة الإعمار من خلال الهيئات المحلية.

في الوقت نفسه، يشكّل إنشاء اللجنة ضمانةً بأن كل جهود إعادة الإعمار ستتم بالتنسيق مع الحكومة المركزية وتحت عينها الساهرة. بعبارة أخرى، فإن عملية نقل إعادة الإعمار إلى المستوى المحلي لا تمثّل، أو ليس القصد منها أن تمثّل بأي شكل من الأشكال خسارة النظام للسلطة.

فُرِضَت تغييرات أخرى بحكم الضرورة. مثلاً، مُنِحت الهيئات الإدارية هامشاً للانخراط في أنشطة لم تكن تجيزها الدولة من قبل. وخير مثال على ذلك المرسوم الرئاسي الذي أصدره الأسد في 19 أيار/مايو 2015. فقد نصّ المرسوم على منح كل وحدة إدارية في الدولة السورية – بما في ذلك المحافظات والبلديات – حق تشكيل شركاتها الاستثمارية الخاصة. وهذا ما فعلته محافظة دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2016 عبر تأسيس شركة دمشق الشام القابضة المساهمة المغفلة مع رأسمال قدره 60 مليار ليرة سورية (نحو 279 مليون دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرسمي). يضم مجلس إدارة الشركة المؤلف من ثمانية أعضاء، أربعة أشخاص لا ينتمون إلى الهيكلية الإدارية لمحافظة دمشق، في حين أن المحافظ نفسه هو رئيس الشركة.

يقوم تفويض الشركة على الاستثمار في العقارات داخل محافظة دمشق. هذا النموذج جديد من نوعه كونه يتيح للمستثمرين من القطاع الخاص كسب أرباح عبر توظيف أموالهم في عقارات مملوكة من الدولة التي تحتفظ بالملكية الرسمية للأرض، ما يضمن بالتالي استمرار سيطرة النظام. في المقابل، تستطيع الدولة الإفادة من الأموال. في حال اعتُبِرت هذه التجربة في دمشق ناجحة، قد يجري استنساخها في أماكن أخرى في سورية.

من شأن ذلك أن يخلّف تداعيات مهمة على عملية إعادة الأعمار. فالنظام يستطيع، عبر منح نفوذ للوحدات الإدارية المحلية والمستثمرين المؤيّدين له، أن يثبّت سيطرته على عملية إعادة الإعمار، فيما يتملّص من الحاجة إلى التصرف بشفافية، أو التشاور مع المجتمعات المحلية، أو القيام بخطوات أخرى تفرضها عادةً ممارسة الحكم بطريقة رشيدة وفعّالة. فالقرارات النهائية حول ما يُعتبَر الأفضل للمجتمعات المحلية المنخرطة في إعادة الإعمار لن تكون بأيدي هذه المجتمعات، بل ستكون الكلمة الفصل فيها للنظام وشبكته من الأتباع والتي تتمثّل بالشركات الجديدة.

فيما كان النظام يتطلع إلى مرحلة يصبح فيها توزيع المساعدات وإنفاق أموال إعادة الأعمار، عاملاً مهماً في إعادة تثبيت سلطته على البلاد، تقدّمت السلطات أيضاً باتجاه تمكين الوحدات الإدارية والهيئات التكنوقراطية المحلية التي ستؤدّي دوراً محورياً في هذه الآليات. وقد تجلّى ذلك في مدينة حمص في العام 2015 ومطلع العام 2016، عندما استهدفت سيارات مفخخة حي الزهراء الذي تقطنه أكثرية علوية. نظّم السكان احتجاجات للمطالبة باستقالة محافظ حمص، طلال البرازي، ورئيس اللجنة الأمنية المحلية، لؤي معلا. وفي كانون الثاني/يناير 2016، رضخ النظام لمطالب المُحتجين عبر إقالة معلا، لكنه أبقى المحافظ المدني في منصبه. قبل الحرب، لم تكن فكرة عزل شخصية أمنية تحت وقع الضغوط الشعبية، واردة على الإطلاق.

لم يكن السبب وراء بقاء البرازي في منصبه نفوذه الشخصي بل رغبة النظام في تعزيز مكانة المحافظ، تمشياً مع  اكتساب بعض المناصب التي يشغلها مدنيون أهمية متنامية في الإشراف على المساعدات وإعادة الإعمار. في حين أدّت المؤسسات الأمنية والعسكرية دوراً حيوياً في صمود النظام طوال فترة الحرب، يُظهر ما حدث مع البرازي أن نظام الأسد يدرك جيداً أن تلك المؤسسات ليست كافية لوحدها لضمان سلطته.

على رغم أن هذه التغييرات أفضت إلى تعزيز نسبي لبعض الكيانات الإدارية المدنية والتكنوقراطية والمحلية، ظلّ نموذج الحكم الذي ينتهجه النظام، وسيبقى، مركزياً إلى حد كبير. ليس الهدف من هذه التغييرات نقل السلطة بل السماح للنظام بالحفاظ على سيطرته على أموال التنمية والمساعدات وإعادة الإعمار، في وقتٍ يبدو فيه أن العمليات العسكرية الكبرى تتّجه نحو الانحسار في سورية.

الأسوأ هو أن ذلك سيؤدي على الأرجح إلى استفحال المشقّات التي يرزح السوريون تحت وطأتها، وإلى وضعهم تحت رحمة شبكات النفوذ التي ظهرت في زمن الحرب. فالأفرقاء أنفسهم الذين شاركوا في دمار سورية يتّجهون الآن، ويا لها من مفارقة، إلى الإشراف على إعادة إعمارها.