مهنّد الحاج علي مدير الاتصالات والإعلام في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. هو صحافيٌّ سابق عمِل في صحيفة الحياة في مكتبَي بيروت ولندن، فضلاً عن وسائل إعلامية أخرى. يساهم بصورة منتظمة في جريدة المدن الإلكترونية اللبنانية، كما يُدرّس العلوم السياسية والصحافة في الجامعة اللبنانية الأميركية. صدر له مؤخراً عن دار "بالغريف ماكميلان" (Palgrave Macmillan) كتاب بعنوان Nationalism, Transnationalism, and Political Islam: Hizbullah’s Institutional Identity . أجرت "ديوان" مقابلة مع الحاج علي مطلع أيلول/سبتمبر الجاري للحديث عن كتابه الجديد.

مايكل يونغ: أصدرتم للتو كتاباً جديداً عن حزب الله، ما الحجج الأساسية المضمّنة فيه؟

مهنّد الحاج علي: ينظر الكتاب في كيفية تكوّن هوية حزب الله ونشرها في أوساط الطائفة الشيعية في لبنان. يقتضي ذلك التمعّن في ثلاثة أسئلة تصبّ في هذا السياق: مامدى حداثة حزب الله؟ مَن أو ماالذي يُنتج هويته الشيعية بشكلها القائم؟ وماهي ركائزه الأساسية؟ أنا أعتبر أن دراسة القومية ترتدي أهمية خاصة في فهم كيفية تكوُّن الهوية، سواء في حالة حزب الله على وجه التحديد أو في حالة الإسلام السياسي عموماً.

في صلب النقاشات والدراسات حول القومية تقع مسألة الحداثة. الحجّة الطاغية هي أن الهوية الوطنية والحركات القومية هي من نِتاج الحداثة، وعليه، ينسجون مزاعمهم عن الاستمرارية التاريخية مع الماضي. هذا الحَبْك للسرديات التاريخية – عبر استخدام الرموز والأساطير والروايات – هو ممارسة أساسية. إنه سرابٌ محبوك بإتقان، وخالٍ من عوامل التمايز الدقيقة. يقدّم أنطوني سميث، وهو باحث مرموق في القومية، الوصف الأفضل عن هذه العملية، مصوِّراً دور المؤرّخين القوميين بأنهم "علماء آثار سياسيون هدفهم ليس العودة إلى الماضي إنما استعادة روحه الأصلية وإعادة بناء أمّة حديثة على صورة الإثنية السابقة".

من المنطلق عينه، يدّعي حزب الله، عن طريق تاريخه المُعاد حبْكه، الصفة التمثيلية والاستمرارية مع الماضي المقدّس. لقد انطلق الحزب، بصورة مباشرة وغير مباشرة على السواء، في عملية إعادة حبْك التاريخ، مستخدِماً مجموعة كبيرة من الرموز والروايات والأساطير، وبعضها ابتكارات حديثة. بحسب هذه السردية، ليست ولاية الفقيه، حيث الزعيم الديني هو أيضاً الزعيم السياسي الأول، كما في إيران، سوى استمرارية لزعامة الأنبياء، والأئمة المعصومين عن الخطأ. بناءً عليه، يواجه أي فرد في المجموعة أو المجتمع، الاختبارات نفسها التي يخضع إليها المؤمن في القرآن والحديث. وحدها السياقات والنزاعات تبدّلت. هذه الشرعية المقدّسة أساسية من أجل التعبئة.

يونغ: إلى أين قادكم هذا التقصّي؟

الحاج علي: يسلّط التدقيق في مشروع الهوية الذي وضعه حزب الله للشيعة في لبنان، الضوء على الجانب الذي يحظى بالتغطية الإعلامية الأقل لدى الحزب. يُعرَف الحزب على نطاق واسع بأنه تنظيم سياسي وعسكري، والآن لاعبٌ إقليمي، سواءً في سورية أو في اليمن. لكنه أيضاً الناشر الأكبر في لبنان، حيث يمتلك عشرات دور النشر الناشطة، والمدعومة مادّياً في معظم الأحيان، مايجعله يستحوذ على نحو نصف السوق الوطنية للكتاب. التنظيم ناشط بالدرجة نفسها في إصدار الدوريات. كل مؤسسة في هيكلية حزب الله تُصدر مجلة واحدة على الأقل. فعلى سبيل المثال، تنشر الحركة الكشفية التابعة للحزب مجلات للبنين والبنات، فضلاً عن كتيبات وقصص قصيرة. كما توزّع مجلة الحزب الداخلية، "بقية الله"، عشرين ألف نسخة، متخطّيةً بذلك كل المطبوعات الأخرى في البلاد.

تنسج هذه المطبوعات هوية الحزب بحسب الجمهور الذي تتوجّه إليه، بدءاً من الصغار والطلاب وصولاً إلى جرحى الحزب. المؤسسات عينها التي تؤمّن الخدمات الأساسية والمساعدات المالية تعمل أيضاً في النشر وتلقين العقيدة، وتنظّم جلسات تعليمية للمستفيدين منها. ويشتمل ذلك على شبكة الحزب من المدارس، والحركات الكشفية، والجمعيات، والمؤسسات المالية والصحية، فضلاً عن الشهداء والجرحى وذراع الإنشاءات (جهاد البناء).

تُنتِج جميع المطبوعات التابعة لحزب الله مضمونها في إطارٍ جامع وموحَّد، تحت إرشاد وإشراف مركزيَّين. الهيئة المسؤولة عن الإشراف على هذا الإنتاج هي الوحدة الثقافية المركزية التي تخضع إلى سيطرة رجال الدين وتشغل مبنى بكامله في ضاحية بيروت الجنوبية. إنه مشروع هوية على نطاق صناعي.

يونغ: كيف تمكّن حزب الله من التوفيق بين هويته الوطنية وهويته العابرة للأوطان، أو هل تمكّن فعلاً من تحقيق ذلك؟

الحاج علي: على الرغم من أن للحزب قيادة وروابط عابرة للأوطان، إلا أنه نسج هوية شيعية لبنانية، تُمجِّد تاريخ جبل عامل، الاسم التاريخي لجنوب لبنان، كمنارة للمقاومة وقيادة العلماء. لذا، فإن لشيعة جبل عامل، مكانة خاصة، شأنها في ذلك شأن المكانة التي حُدِّدت للفرس في الحديث النبوي عن سلمان الفارسي، أحد صحابة النبي. قال النبي: "لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من قوم هذا"، في إشارة إلى سلمان. يُستخدَم المثال الأخير بكثرة في البروباغندا الإيرانية للتوفيق بين عناصر الهوية الفارسية والاعتزاز بالخمينية التي يزعمون أنها عابرة للأوطان. في حالة حزب الله، يُقيم ذلك رابطاً بين الأمتَين الشيعيتين المتفوقتين، في لبنان وإيران. بعبارة أخرى، إذا كانت إيران "باتمان" الشيعة أو "الرجل الوطواط"، فحزب الله هو روبن.

هذا على مستوى الهوية. غير أن حزب الله ينشط أيضاً كفريق سياسي يسعى إلى الحفاظ على أهميته بالنسبة إلى المصالح الإيرانية، وإلى الإبقاء على تدفق الدعم المالي والسياسي له. يعمل الحزب كلوبي مصالح في طهران عن طريق مكتبه هناك وكوادره الناطقية بالفارسية ، بمن فيهم الأمين العام حسن نصرالله الذي يتحدث اللغة الفارسية بطلاقة. غالباً مايصطحب الحزب المسؤولين الإيرانيين المنتخَبين أو المعيَّنين حديثاً في جولات على جنوب لبنان. يكشف هذا التضافر في الجهود زيف الصورة التي يروّج لها الإعلام الغربي والعربي عن حزب الله عبر تصويره بأنه مجرد أداة في يد إيران تحرّكه كما تشاء.

يونغ: تتحدثون في كتابكم عن استخدام حزب الله للمعجزات والأساطير. هل يمكنكم التوسّع أكثر حول هذه النقطة. كيف فعل الحزب ذلك؟

الحاج علي: جزء من مزاعم الحزب عن استمراريته التاريخية مع الماضي الإلهي يقوم على قدرته على تجسيد هذه الحالة في الواقع. لهذا السبب، نشرت دور النشر والمكتبات التابعة له مجموعة واسعة من الأعمال الأدبية حول المعجزات المعاصرة والحوادث الخارقة المتعلقة بآية الله روح الله الخميني وخلفه علي خامنئي، المرشد الأعلى، وربَطَتْها بقادة حزب الله ومقاتليه. في كتابي، أنظر في سلسلة من الكتب المترجَمة من الفارسية إلى العربية حول الحوادث الخارقة خلال الحرب الإيرانية-العراقية. نُشِرت هذه الكتب على نطاق واسع بين الجماهير. على سبيل المثال، صدر كتاب عن معجزات حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل في طبعته الثانية عشرة بسبب الإقبال الكثيف على شرائه.

يرتدي النقد الذي يوجّهه علي شريعتي لمحمد باقر مجلسي، وهو إمام من القرن السابع عشر، أهمية محورية في فهم هذه السياسة القائمة على إحياء السرديات والمعتقدات الخارقة. لقد استهجن شريعتي، وهو مفكّر إسلامي مناهض للشاه، الجهود التي بذلها مجلسي لتضخيم السرديات الخارقة في الفقه الشيعي، معتبراً أنها تنعكس في النزعات الحديثة الهادفة إلى تحقيق أغراض سياسية، ولاسيما عبر منح الحاكم شرعية إلهية. وفقاً لهذا المنطق، خوارق حزب الله في الزمن الحديث هي مجرد استمرار للماضي الإلهي.

يونغ: ماهي المكانة التي يحتلها حزب الله برأيكم في التاريخ الحديث لشيعة لبنان، بالمقارنة مع حركات سابقة مثل حركة الإمام موسى الصدر؟

الحاج علي: يتخطّى حجم التغيير الخطاب السياسي. لقد سعى الصدر إلى "لبننة" الشيعة عن طريق التعبئة المذهبية، على قدم من المساواة مع مجموعات طائفية أخرى، وبعيداً من تأثير المجموعات الشيوعية واليسارية التي كانت مسيطرة في ذلك الوقت. أراد أن يكون الشيعة شركاء متساوين في المنظومة التوافقية اللبنانية.

في المقابل، لم يُحدث حزب الله تحوّلاً لدى الشيعة اللبنانيين على مستوى الهوية وحسب، بل جعلهم أيضاً شركاء متفوّقين في السلطة. هم إسبرطيون في دولة من الأثينيين. ترسانة الأسلحة المملوكة من الحزب هي بمثابة الفيل في غرفة الجلوس اللبنانية، وهي موجودة لاستخدامها عند الاقتضاء.

يونغ: هل يسعى حزب الله لتغيير التوازن في المنظومة المذهبية الراهنة في لبنان لمصلحة الشيعة؟

الحاج علي: لقد غيّر حزب الله فعلاً التوازن في المنظومة المذهبية الراهنة من خلال نجاحه في إحداث تحوّل في وضعيته كلاعب غير دولتي، ليصبح سلاحه جزءاً أساسياً في التوافق الطائفي الذي يتطلّبه الحكم في لبنان. يؤثّر النفوذ العسكري الذي يتمتع به حزب الله في عمليات صنع القرارات كافة بما يصبّ في مصلحته.

يونغ: كيف يمكن أن يسعى حزب الله إلى الإفادة من رهانه الناجح، على مايبدو، على إبقاء نظام الأسد في السلطة في سورية؟

الحاج علي: يحاول الحزب الآن، كما فعل في موضوع السلاح، أن يجعل النظام السوري يستعيد بعضاً من نفوذه في الدولة اللبنانية، محاولاً إغراء أعداء سورية بواسطة إعادة الإعمار. من شأن عودة النظام السوري كلاعب في السياسة اللبنانية أن تزيد من أوراق الضغط في أيدي الحزب نظراً لنفوذه في دمشق. سيصبح حزب الله المقاومة المسلّحة، وممثّل النظام السوري، وممثل الطائفة الشيعية في آنٍ واحد.

يونغ: يُفترَض أن منطق الدولة لايمكن أن يتعايش مع منطق وجود تيار مسلّح خارج إطار الدولة، مثل حزب الله. هل توافقون على هذه المقولة، وفي هذه الحالة، ماذا يحمل المستقبل بالنسبة إلى العلاقة بين الحزب والدولة اللبنانية؟

الحاج علي: أنتجت المنظومة التوافقية عموماً دولاً ضعيفة وتسبّبت بتقويض سيادة القانون. بما أن حزب الله تنظيم مسلّح ويحصل على تمويل خارجي، يتعذّر تحقيق التطلّع إلى دولة قوية تحترم سيادة القانون. فلن تَظهر الدولة في موقع قوة إلا عندما تتصرف بما يتماشى مع إرادة الحزب.