هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تتناول الديناميكيات العالمية للصراع السوري، ويحلّل من خلالها خبراء كارنيغي من أنحاء العالم كافة المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية التي تدخل ضمن الحرب الأهلية المتواصلة في سورية. يمكنكم الاطلاع على السلسلة كاملةً هنا.

قبل بداية الربيع العربي، كانت سورية الطفل المدلّل لسياسة "صفر مشاكل مع الجيران" التركية. فبعد سنوات من التوتّر، بدأت أنقرة ودمشق عملية تقارب أدّت إلى عقد اجتماعات مشتركة لحكومتي البلدين وخطط طموحة لإقامة سوق شرق أوسطية مشتركة يكون البلدان رأس حربتها. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها إليها حلفاؤها الغربيون، دافعت تركيا عن هذه السياسة بالقول إن مشاركتها مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد كانت تهدف إلى الحدّ من اعتماد دمشق على طهران.

وبهدف تعزيز دعواها، توسطت أنقرة في عقد جولات عدة من المحادثات بين سورية وإسرائيل قرّبت الطرفين على مايبدو من التوصل إلى اتفاق دائم. وبالتالي فقد كان صناع السياسة التركية يعتقدون أنهم قد حققوا قدراً من التأثير على الأسد ونظامه.

عندما وصلت الانتفاضات العربية إلى سورية في ربيع العام 2011، شعر صانعو السياسة التركية في البداية بالثقة بأنهم قادرون على إقناع القيادة السورية بالإصلاح. فقد وجّه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الأسد نداءات مباشرة، وقام وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو برحلات عديدة إلى دمشق، لابل إن رئيس منظمة تخطيط الدولة التركية ساعد في وضع برنامج إصلاح اقتصادي للحكومة السورية.

عندما فشل نظام الأسد في الاستجابة إلى نصيحة تركيا، وردّ بدلاً من ذلك على الاحتجاجات المحلية بقوة ساحقة، كان ردّ فعل أنقرة عنيفاً جداً. فبحلول آب/أغسطس 2011 – بعد مرور خمسة أشهر على بدء الانتفاضة – غيرت الحكومة التركية مواقفها وبدأت في نهاية المطاف بالدعوة إلى تغيير النظام في سورية والعمل على ذلك.

عكس هذا التراجع المفاجئ تحوّلاً جوهرياً في السياسة الخارجية التركية. فعلى مدى سنوات كانت تركيا تمثّل قوة الأمر الواقع في المنطقة، وتحترم سيادة الدول المجاورة وتحجم عن الانحياز إلى المواقف ذات الطبيعة التدخّلية لشركائها الغربيين (صوّت البرلمان التركي ضد السماح للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية في الحرب ضد العراق التي بدأت في العام 2003). وقد أدى هذا التوجّه أيضاً إلى معارضة أنقرة في البداية تدخّل حلف شمال الأطلسي (ناتو) في ليبيا في العام 2011.

ومع ذلك، بعد وقت قصير مما حدث في ليبيا، غيّرت الحكومة التركية موقفها الثابت، واعتمدت من دون إجراء الكثير من النقاش الداخلي موقفاً أكثر هجومية وتدخّلاً. وقد تمثّل الأساس الفكري لهذا التحوّل الاستراتيجي بهدف تركيا المكتشف حديثاً بطرح نفسها باعتبارها الدولة الإقليمية المسلمة المدافعة عن التحوّل الديمقراطي في العالم العربي.

تغيير السياسة التركية في سورية كان مدفوعاً أيضاً بالاعتقاد الخاطئ بأن انهيار نظام الأسد كان حتمياً بعد سقوط الحكومات الاستبدادية في مصر وتونس وليبيا. فقد كانت أنقرة تعتقد أنه في ظل نظام جديد وديمقراطي، سيحكم حزب الإخوان المسلمين سورية، وهو ما من شأنه أن يتيح لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا توسيع نفوذه السياسي في سورية. علاوة على ذلك، أساءت الحكومة التركية تقدير رغبة المجتمع الدولي، وخاصة واشنطن، في القيام بتدخل دولي في سورية.

ومع ذلك، اتّخذت تركيا موقفاً متشدداً. وبغية تحقيق هدفها المتمثّل في تغيير النظام، اعتمدت أنقرة مقاربة ذات مسار مزدوج تتمثّل في زيادة العزلة الدولية للنظام السوري، في الوقت الذي تقدّم فيه يد العون إلى المعارضة المدنية السورية، ومن ثم العسكرية في نهاية المطاف. في البداية، دعت تركيا مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى دعم قرار يقضي بالتدّخل في سورية لأسباب إنسانية. وناشدت واشنطن في وقت لاحق إقامة منطقة حظر طيران في شمال البلاد من شأنها أن توفّر الحماية لقوات المعارضة. لكن لم تتم الاستجابة لأي من الاقتراحين.

في الوقت نفسه، نشطت تركيا في الجهود الرامية إلى تعزيز فعّالية المعارضة السورية. بدأت باستضافة المجلس الوطني السوري، الدعامة المدنية للمعارضة، بالإضافة إلى الجيش السوري الحر المتمرّد. وسعى الدبلوماسيون الأتراك إلى توحيد المعارضة المنقسمة تحت راية المجلس الوطني السوري، على الرغم من أن جهودهم لم تكلَّل بالنجاح. زادت تركيا تدريجياً دعمها للمعارضة العسكرية. وبالتعاون مع شركائها في الخليج - المملكة العربية السعودية وقطر - قدّمت أنقرة مساعدات عسكرية، وأعلنت سياسة الباب المفتوح تجاه اللاجئين السوريين.

بيد أن الوضع لم ينجح على النحو الذي كانت تأمله تركيا. فقد أثبت نظام الأسد أنه أكثر مرونة وقدرة على الصمود مما توقعت أنقرة أو الحكومات الغربية، مما تسبب في انتشار الأزمة الإنسانية في سورية إلى خارج حدودها. إذ تستضيف تركيا حالياً مايقرب من 750 ألف لاجئ سوري، منهم حوالي 200 ألف في مخيمات اللاجئين. وقد ذكر داود أوغلو، الذي كان يتحدث في أوائل أيار/مايو في قمة وزارية للدول المجاورة لسورية عقدت في الأردن، أن النفقات المادية التي قدمتها تركيا وصلت إلى 3 مليارات دولار. غير أن مايفوق العبء المالي أهمية يتمثّل في أن العدد الكبير من السوريين الذين تستضيفهم تركيا، والذين ليست لديهم فرصة حقيقية للعودة إلى بلدهم الأصلي، بدأ يخلق توتّرات اجتماعية بين عدد متزايد من اللاجئين السوريين وبين السكان العلويين في تركيا. وليست لدى الحكومة خطة متوسطة وطويلة الأجل لدمج هؤلاء المشرّدين في المجتمع التركي، لكنها تحتاج إلى مثل هذه الخطة.

يتعيّن على أنقرة أيضاً أن تطالب بترتيبات أكثر إنصافاً لتقاسم الأعباء مع شركائها في الغرب، وخاصة الاتحاد الأوروبي. وينبغي أن تكون دول الاتحاد الأوروبي على استعداد لقبول المزيد من اللاجئين السوريين. إذ لم يوافق الاتحاد الأوروبي سوى على إعادة توطين نحو 60 ألف لاجئ سوري منذ بدء النزاع الحالي.

إضافة إلى ذلك، فاقمت مقاربة الحكومة التركية غير التمييزية تجاه المعارضة العسكرية السورية وعدم رغبتها بفرض ضوابط أكثر صرامة على الحدود التهديدات التي تشكّلها الشبكات المتطرّفة في تركيا. وفي ضوء هذه المخاوف، أصبحت أنقرة الآن أكثر انتقائية في مساعدتها للمتمردين السوريين. لكن هذا التغيير في السياسة في حد ذاته خلق مخاطر أمنية جديدة، حيث باتت الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام تطلق تهديدات مباشرة ضد أنقرة والمصالح التركية.

والواقع أن تركيا تواجه تحدّياً كبيراً يتمثّل في إعادة ضبط توقعاتها وسياستها تجاه سورية، في مواجهة صمود النظام السوري وتعافي الأسد التدريجي من تآكل شرعيته الدولية.