في 15 شباط/فبراير، نظّمت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ورشة عمل مغلقة حول إصلاح القطاع الأمني في ليبيا، شارك فيها عشرة ليبيين من غرب ليبيا وجنوبها وشرقها. وكان بينهم ضباط كبار في الجيش والشرطة، وقادة في المجتمع المدني، وأكاديميون. وحضر أيضاً العديد من المشاركين الدوليين من منظمات متعددة الأطراف وسفارات غربية ومؤسسات بحثية.

غياب العدالة الاجتماعية وسيادة القانون بلاءٌ ينتشر على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم العربي، ويسلّط الضوء على الحاجة إلى إصلاح القطاع الأمني. كان الهدف من ورشة العمل أن تشكّل محفلاً لاستخلاص العِبَر من المحاولات الليبية السابقة لإصلاح القطاع الأمني، ووضع مبادئ لإعادة بناء المؤسسات في المرحلة المقبلة. تحدّث المشارِكون الليبيون انطلاقاً من تجربتهم المباشرة في التعاطي مع الجذور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمشكلات الأمنية في ليبيا. وقد اعتبر جميع الحاضرين تقريباً أن مصدر المشكلات الأمنية التي تعاني منها ليبيا راهناً يعود إلى تاريخها مع المؤسسات الأمنية العقيمة في ظل النظام السابق.

لفت ضابط عسكري ليبي في رصيده 28 عاماً من الخبرة إلى أن الإهمال والخلل الوظيفي في القطاع الأمني في عهد الدكتاتور الليبي معمر القذافي تمدّدا إلى مختلف المجالات، من التدريب مروراً بحفظ السجلات ووصولاً إلى سيادة القانون. وبعد اندلاع الانتفاضة في العام 2011، لم تكن ليبيا تملك أي أسس لتعزيز الأجهزة الأمنية وتوحيدها، ما أفضى إلى انتشار المجموعات المسلّحة المفكّكة، والتي غالباً ما تتقاتل في ما بينها، ويتبع عدد كبير منها هيئات حكومية مختلفة تخضع هي نفسها إلى سيطرة فصائل سياسية متناحرة.

نتيجةً لذلك، لفت مشاركٌ دولي ذو خبرة طويلة في الملف الليبي، إلى أن آلية إصلاح القطاع الأمني أصبحت الآن معقّدة إلى حد كبير. فهي تتطلب "دورة متواصلة من المفاوضات"، لأن المؤسسات الأمنية غير النظامية باتت متجذّرة بعمق على المستويات الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية. مع ذلك، أجمع المشاركون الليبيون جميعاً على الحاجة إلى المؤسسات. وقال مشاركٌ من شرق البلاد: "يجب أن تقوم ليبيا على المؤسسات لا الفصائل".

وإذ لفت المشاركون من جنوب ليبيا إلى تفشّي انقطاع التيار الكهربائي ونقص الوقود، أضافوا أن التحدّيات المؤسسية ترتدي طابعاً حادّاً جدّاً في الجنوب بسبب التهميش الاقتصادي والسياسي. وتتسبّب الانقسامات الاجتماعية والتزاحم على الموارد الشحيحة، بتعقيد عملية بناء المؤسسات. قال أحد المشاركين: "التحدّيات القبلية التي تعترض بناء الجيش كبيرة جدّاً".

وقد توقّف عدد كبير من المشاركين عند الدور الذي تؤدّيه دول في المنطقة والعالم في استفحال الأزمة الأمنية في ليبيا، بسبب الهفوات أو الإهمال أو التدخّل المتعمّد ودعم الفصائل المتناحرة. في حين أن الشرطة الليبية كانت بحاجة ماسّة إلى التدريب في مجالات التحاليل الجنائية، ومكافحة المخدرات، والتحقيقات، أشار مسؤول في الشرطة إلى بذل دول خارجية محاولات فاشلة أو فاترة لتدريب الشرطة، سواء في ليبيا أو في الخارج. وقد انتقد مشاركٌ من الجنوب تحديداً المساعدة التي قدّمتها أوروبا والأمم المتحدة لضبط الحدود بعد الانتفاضة. وانتقد مشارِكون آخرون من شرق ليبيا وغربها غياب المتابعة الدولية في شكل عام، وعلّق أحدهم: "يجمع المجتمع الدولي معلومات لكنه لا يبادر أبداً إلى التصرّف".

ولفت مشاركون دوليون إلى أن الانقسامات السياسية وغياب المؤسسات يعطّلان قدرة ليبيا على امتصاص المساعدات الدولية حتى لو كانت مدفوعة بنوايا حسنة. فقد قال أحدهم: "لا يتكلّم الليبيون بصوت واحد"، فيما اعتبر آخر أنه حتى لو كان بإمكان الدول الخارجية المساعدة في تدريب وحدات صغيرة وأفراد، فإنّ إعادة بناء القدرات المؤسسية الوطنية مسعى أشد صعوبة إلى حد كبير ويستغرق وقتاً أطول بكثير. في ظل غياب الوحدة السياسية، كان ثمة خطرٌ بأن يؤدّي الانخراط الدولي في نهاية المطاف إلى دعم فصيل ضد آخر، أو توليد ذلك الانطباع. وقد بدا أن أحد المشاركين من شرق ليبيا يؤكّد ذلك عندما انتقد الجهود التي تبذلها بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة على إدارة الحدود، مشيراً إلى أنها تركّز حصراً على المسائل الأمنية وتتصدّى للهجرة تحديداً.

أشار جميع المشاركين إلى أن حلّ النزاع السياسي الليبي شرطٌ مسبق وأساسي من أجل إصلاح القطاع الأمني بشكلٍ مستدام. ولفت أحد المشاركين الدوليين إلى أن المصالحة قد تتوقّف على توصّل 14 أو 15 قيادياً كبيراً إلى اتفاق، في حين تطرّق ناشط ليبي من الشرق إلى أهمية إقرار دستور يُرسي الأسس اللازمة لإبرام عقدٍ اجتماعي. وحذّر أيضاً من مغبّة تصوير الانقسامات الليبية على أنها تضع "الليبراليين في مواجهة الإسلاميين"، نظراً إلى "أننا جميعاً مسلمون معتدلون". ولفت مشاركٌ من خارج ليبيا إلى أن النزاع السياسي كان "قد ابتلع العملية الأمنية" بحلول العام 2014، فغياب الاتفاق يعيق إدارة الأمن إلى حدٍّ بعيد. على ضوء المأزق الذي تعيشه البلاد على المستوى الوطني، سأل العديد من المشاركين الدوليين عن الفرص المتاحة محلياً من أجل الانخراط. فقد تساءل مسؤول في الاتحاد الأوروبي: "هل يجب أن نحوّل أنظارنا إلى المستوى الإقليمي أو المحلي بدلاً مما نفعله حالياً؟" وقال مشارك دولي آخر: "لابدّ من أن نحاول فصل الأمن عن السياسة" متسائلاً: "أين يمكننا الانخراط على المستوى التقني؟" وناشد أحد الليبيين المشاركين الدوليين ممارسة ضغوط على القادة السياسيين في ليبيا من أجل التوصل إلى اتفاق.

مع تقدّم ورشة العمل، انقسم المشاركون الليبيون حول ما إذا كان يجب اعتماد مقاربة من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى لإصلاح القطاع الأمني، وحول تحديد إلى أي درجة يمكن إصلاح المؤسسات الأمنية ودعمها، أو إذا كان يمكن إنشاء مؤسسات جديدة. علّق مشاركٌ من شرق البلاد: "لا يمكننا أن نبدأ من الصفر، فنحن لدينا جيش وشرطة، ولايحتاجان سوى إلى إعادة تأهيل، وهذا ما يتطلّع إليه الشعب". بيد أن مشاركاً دولياً لفت إلى أنه بعد الانتفاضة، "رفض الجيش والشرطة الإصلاح، إذ تمسّكا بأساليب النظام القديمة، ولم يكونا مستعدّين للتغيير، ما جعل من الصعب أحياناً العمل مع القوى القائمة".

تطرّق المؤتمر إلى أهمية العدالة الانتقالية والمصالحة باعتبارها إحدى مكونات إصلاح القطاع الأمني. وقد أشار ممثل ليبي آخر من الشرق إلى أن "الأشخاص كانوا يُستهدَفون لخلفيات سياسية [في عهد القذافي]، ولاتزال مشاعر الظلم والغبن الناجمة من الماضي متّقدة". فضلاً عن ذلك، شدّد مشارك دولي على أهمية سيادة القانون في تدعيم الجهود التي تبذلها الدولة من أجل بسط سلطتها، مشيراً إلى أنه ليس بإمكان المؤسسات الأمنية أن تدّعي أنها محصّنة من الإصلاح أو المساءلة على أساس أنها تعمل على مكافحة الإرهاب. واقترح أيضاً النظر في إمكانية تطبيق هيكليات لضبط الأمن على مستوى المحلة أو المقاطعة مثل إنشاء حرس وطني يستطيع مواكبة الوقائع على الأرض وتحمّل المسؤولية في هذا المجال. واعتبر مشارك من شرق ليبيا أن تاريخ هذه المساعي في مختلف أنحاء العالم العربي ليس مشجّعاً، مشيراً إلى خطر خلق دويلات متطرّفة ضمن الدولة، مثل حزب الله في لبنان أو حماس في غزة. وأضاف أن الإعلان الذي صدر مؤخراً عن إنشاء حرس وطني في طرابلس كان بمثابة "استنساخ" لتجربة ما بعد 2011 في محاولة دمج الكتائب الثورية. ولفت إلى وجود نوعَين فقط من الميليشيات في الوقت الراهن: أولئك الذين أُفرِج عنهم من السجن، وأولئك الذين يسعون إلى "تطهير النظام القديم".

وقال مشارك مدني من غرب ليبيا في رصيده خبرة طويلة في الشؤون الأمنية إنه بعد الانتفاضة الليبية في العام 2011، اتّبعت تجربة إصلاح القطاع الأمني مقاربة من الأسفل إلى الأعلى، معتبراً أنه يجب أن تتحوّل الآن إلى مقاربة من الأعلى إلى الأسفل. وأقرّ بوجود خطط لإنشاء حرس جمهوري في طرابلس، لكنه أشار إلى أن حكومة الوفاق الوطني لا تستطيع في الوقت الراهن فرض سيطرتها ولا حتى على مبنى واحد. وتابع أن المطلوب هو تعيين قائد للجيش فضلاً عن وضع خريطة طريق لتنظيم المؤسسة العسكرية بالاستناد إلى المناطق العسكرية العشر في ليبيا، على أن يتولّى ضابط كبير إدارة كل واحدة من هذه المناطق، قائلاً: "علينا أن نحمل هؤلاء الضباط على العمل معاً، إذ يمكنهم أن يشكّلوا ركيزة الجيش". ولفت إلى أنه يجب أن تحظى أي خطة تبصر النور بموافقة "الأطراف والمناطق المختلفة"، كما ينبغي "تشجيع الحوار بين العسكريين المتقدّمين في السن وبين العسكريين الشباب". أما في ما يتعلق بوزارة الداخلية، فقد اعتبر أنها لاتحتاج إلى ضباط جدد أو حتى إلى مساعدات دولية كبيرة بل إلى إصلاح تنظيمي ليس إلا.

ختم المشاركون الليبيون المؤتمر بالتركيز على وجوب الاعتماد على الذات. فقد قال أحد المشاركين: "توقّعنا الحصول على الدعم من الغرب، لكن علينا أن ندرك أنه لدى البلدان الأخرى في العالم مشاكلها الخاصة. لذا لا يمكننا أن نتوقّع من الغرب مساعدتنا ما لم نكن نحن مستعدّين". وقال مشارك من شرق ليبيا: "لا يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا، ولابدّ من أن يُعيد الجيش تنظيم صفوفه".