أتى منتدى تونس للاستثمار في 20 و21 حزيران/يونيو، وهو حدث دولي تنظّمه منظمة تونسية غير حكومية تُدعى وكالة تشجيع الاستثمار الأجنبي، ليذكّرنا كيف أصبح الاستثمار الأجنبي نقطة ضعف الاقتصاد التونسي.

عكس هذا المنتدى الجهود الحثيثة التي بذلتها تونس لقلب توجّهٍ تفاقم عَقِب ثورة 2010-2011، يتمثّل في تراجع الاستثمارات الأجنبية، التي فشلت في العودة إلى مستويات ما قبل الثورة. واقع الحال أن القيمة السنوية الإجمالية للاستثمار الأجنبي المباشر بلغت 1.35 مليار دولار في كلٍّ من الأعوام الخمسة التي سبقت سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، مقابل مليار دولار في كلٍّ من الأعوام الخمس التي تلت ذلك. يُشار أيضاً إلى أن الهبوط كان حادّاً أكثر حتى في العامَين 2016 و2017، إذ تراجعت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 885 مليون دولار و880 مليوناً تباعاً، قبل أن ترتفع مجدّداً في العام 2018 إلى 945 مليون دولار.

عبثاً حاولت الحكومات التونسية منذ العام 2014 إعادة تونس إلى دورها كوجهة أساسية للاستثمار الدولي. فهي تدرك أن تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر يفاقم اختلال توازن الاقتصاد الكلّي ويؤدّي إلى تباطؤ عملية التعافي الاقتصادي التي تشتدّ الحاجة إليها في تونس لخلق فرص العمل وتخفيف وطأة التشنّجات الاجتماعية. أسهم تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في زيادة عجز الموازنة العامة من 2.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2010 إلى 4.8 في المئة في العام 2018، فيما زادت نسبة الدين العام من 44.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2013 إلى 70 في المئة في العام 2018. وبقي معدّل البطالة مرتفعاً منذ العام 2015 إذ بلغ 15.5 في المئة. كذلك، تدهورت حالة ميزان المدفوعات في تونس، فيما تراجعت بخطى متسارعة قدرة البلاد على توليد إيرادات بالعملات الأجنبية في أعقاب الثورة. يُشار أيضاً إلى أن انهيار القطاع السياحي بسبب الهجمات الإرهابية، فضلاً عن زيادة هجرة رؤوس الأموال أدّيا إلى انخفاض حادّ في احتياطيات العملات الأجنبية، إذ شهدت هبوطاً من 9.8 مليارات دولار في العام 2010 إلى 4.8 مليارات دولار في العام 2018، ما مارس ضغوطاً على الدينار التونسي فانخفضت قيمته، ما أدّى إلى ارتفاع معدّل التضخّم.

على الرغم من الجهود الترويجية، لم تنجح حكومات ما بعد العام 2014 في تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر. فمنذ فترة 2010-2011، أثّرت الاضطرابات السياسية والاقتصادية بشكلٍ سلبي على ثقة المستثمرين. وقد شملت الجهود التي بذلتها البلاد إصدار قانون الاستثمار الجديد في العام 2017 في إطار حزمة من الإصلاحات الاقتصادية التي تم التفاوض بشأنها مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، مقابل قروض خارجية ومساعدات مالية لتغطية العجوزات في الحساب الجاري والموازنة. هذا القانون الذي يرمي إلى تحفيز الاستثمار الأجنبي، يبسّط الإجراءات القانونية اللازمة لإطلاق المشاريع، ويقلّل من عدد الأنشطة التي تتطلّب تصريحاً حكومياً، ويسهّل على الشركات الأجنبية توظيف أجانب يتمتعون بالكفاءة، وتحويل أموالهم إلى خارج تونس.

إضافةً إلى هذا القانون، أسّست الحكومة في العام نفسه الهيئة التونسية للاستثمار، وهي كيان إداري جديد مسؤول عن تسريع وتيرة تنفيذ الاستثمارات. مع ذلك، لم تكن هذه التدابير كافية لعكس التراجع في الاستثمار الأجنبي المباشر، ما كشف النقاب عن حقيقة أن المشكلة أعمق مما تبدو عليه ولا يمكن حلّها بمجرد صياغة قوانين استثمار جديدة.

تقدّم تونس العديد من المزايا لتشجيع المستثمرين الأجانب. فهي تتمتّع بموقع جغرافي استراتيجي على البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي يمكن أن تشكّل بوابةً لدخول الأسواق الأفريقية، كما تمتلك قوة عاملة ذات مستوى تعليمي جيد وتحظى برواتب تنافسية. لكن على الرغم من كل ذلك، لم تواكب تونس بعد جاراتها في شمال أفريقيا في هذا الشأن، ويُعزى ذلك إلى الوضع السيئ للبنى التحتية والمرافق الخاصة بالنقل.

علاوةً على ذلك، تحتاج تونس، على الرغم من الإنجازات التي حققتها في بناء ديمقراطيتها، إلى تعزيز دولة القانون وتوفير مناخ استثماري جذّاب يسهم في تعزيز ثقة المستثمرين. لكن، على الرغم من تقدّمها ثماني مراتب على مؤشر البنك الدولي لسهولة ممارسة أنشطة الأعمال للعام 2019، وحلولها في المرتبة 80، لاتزال تونس متلكّئة كثيراً خلف المغرب، منافستها الإقليمية الرئيسة.

الأهم من ذلك، يتعيّن على تونس إعادة تقييم موقعها في السوق العالمي للاستثمار الأجنبي المباشر الذي يتسّم بطابع تنافسي على نحو متزايد. كما لابدّ من أن يشجّع اعتماد البلاد المفرط على دول جنوب أوروبا صنّاع القرار على إعادة النظر في النهج الدولي الذي تعتمده تونس لجذب استثمارات أجنبية مباشرة من دول أخرى. في الواقع، أقدمت العديد من الشركات الأوروبية، منذ التسعينيات، على الاستعانة بمصادر خارجية أو نقل أنشطتها إلى أوروبا الشرقية، وعلى نحو متزايد إلى الاقتصاديات الآسيوية الناشئة، لكن ليس إلى تونس أو أي دولة أخرى من دول جنوب البحر المتوسط..

أبرز الدول الأوروبية المستثمرة في تونس هي فرنسا وإيطاليا وبدرجة أقل ألمانيا. بيد أن التباطؤ الاقتصادي الذي أصاب اقتصاديات جنوب أوروبا، منذ اندلاع أزمة اليورو في العام 2008، أثّر بشكل سلبي على البلاد، لذا ستجد تونس نفسها مضطرة إلى خفض اعتمادها على الاقتصاديات المتباطئة وتنويع علاقاتها الاقتصادية. وفي العام 2018، تحوّلت حوالى نصف الاستثمارات نحو قطاع النفط والغاز، تليه قطاعات الكهرباء، وقطع السيارات، والتصنيع. تحتاج تونس كذلك إلى جذب استثمارات ذات قيمة تكنولوجية عالية لصالح خدمات الأعمال والبرمجيات وتكنولوجيا المعلومات وقطاع السيارات، ما من شأنه أن يعزّز نقل التكنولوجيات المتقدمة، ويدعم تنويع الاقتصاد الذي سيؤدي بدوره إلى نمو اقتصادي متوازن مدفوع بمجموعة متنوعة من القطاعات الاقتصادية. الجدير ذكره هنا أنه لابدّ من أن تهدف أي استراتيجية لتأمين الاستثمار الأجنبي إلى إحداث تأثير إيجابي يلبي توقعات السكان، ولاسيما في المناطق الداخلية المهمّشة في تونس. في الواقع، ثبُت أن التركّز الكبير للاستثمار الأجنبي المباشر في العاصمة تونس والمناطق الساحلية غير مستدام على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.

في هذا الإطار، يتعيّن على صنّاع القرار في تونس صياغة استراتيجية استثمار شاملة تستهدف قطاعات الصناعة والتجارة والتنمية البشرية. ومن المرجّح أن يحتلّ ذلك الأولوية على جدول أعمال الحكومة الجديدة التي يُتوقع تشكيلها عقب الانتخابات المُرتقبة قبيل نهاية هذا العام، والتي ستكون مسؤولةً عن ضمان إرساء درجة أكبر من الاستقرار الاجتماعي والسياسي. باختصار، سيكون اعتماد نهج مماثل حاسماً لإعادة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستويات ما قبل الثورة.