لم تشأ الحكومات العربية أن تبقي على الهامش المحدود لجدل الإصلاح الذي عرفته المنطقة منذ قبل عامين، فقد تصاعدت حالات سجناء الرأي في الدول العربية بشكل ملحوظ، وتوالت الضربات الأمنية على نشطاء المجتمع المدني والإصلاحيين، وقد حفز الأنظمة على ذلك عودة قضايا الأمن بقوة إلى الصدارة في سياسات الشرق الأوسط على حساب قضايا الحرية، وتخفيف المجتمع الدولي من خطابه حول الإصلاح في العالم العربي.
تستخدم الأنظمة العربية استراتجيات متشابهة لقمع حرية الرأي والتعبير، من بينها اللجوء المنهجي إلى مواد قانونية شديدة الغموض والعمومية، تخضع في تأويلها وتطبيقها لأمزجة السلطات الأمنية. هذه الحزمة من النصوص القانونية تعد سمة مشتركة بنيت عليها الكثير من قضايا الرأي في الدول العربية، حيث تعمد معظم قوانين العقوبات على تجريم التعبير السلمي عن الرأي باستخدام عبارات مثل تهديد النظام العام، العمل على تقويض الدستور، إهانة رئيس الجمهورية أو العائلة المالكة، إهانة المقدسات الدينية، نشر معلومات كاذبة من شأنها المس بسمعة البلاد، وغيرها من نصوص مشابهة. ويساعد الحكومات على إنفاذ مثل هذه النصوص غياب استقلال السلطة القضائية، وتبعية النيابة العامة للسلطات التنفيذية، والتوسع في استخدام القضاء الاستثنائي المهيمن عليه من السلطة التنفيذية، مثل محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية. و تصنف عادة هذه القضايا باعتبارها جرائم تمس أمن الدولة من الداخل أو الخارج.
وقد ساعدت الظروف الأمنية الغير مستقرة في المنطقة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، على سن تشريعات جديدة لمكافحة الإرهاب، اعتمدت تعريفات فضفاضة للإرهاب، يمكن بمقتضاها تجريم أي نشاط سياسي أو حقوقي سلمي مثلما يحدث في تونس والمغرب والبحرين وقطر. بينما تستخدم دول أخرى مثل سوريا ومصر القوانين الاستثنائية منذ عقود طويلة والتي تمنح صلاحيات شبه مطلقة للسلطات الأمنية في الاعتقال الإداري، وانتهاك الحقوق الدستورية بذريعة حماية الأمن العام. فالحكومة المصرية مثلا، لم تكتف بقانون الطوارئ، بل حتى أقدمت في إطار التعديلات الدستورية الأخيرة، على إدخال بنود لمكافحة الإرهاب في مواد الدستور، في سابقة فريدة في التقاليد الدستورية العالمية، وهذه المواد تشبه إلى حد كبير قانون الطوارئ بل تفوقه في فرضها قيود على الحقوق والحريات العامة بحماية الدستور.
و تعتبر سوريا النموذج الأخطر في اعتقالات الرأي، حيث صدرت في الشهور الأخيرة سلسلة من الأحكام بالسجن في حق عدد من الناشطين السياسيين والحقوقيين ومن أبرزهم كمال اللبواني والذي عوقب بالسجن لمدة 12 عاما بعد إدانته بتهمة "دس الدسائس لدى دولة أجنبية لدفعها للعدوان على سوريا"، وهى التهمة التي وجهت إليه بعد لقاءه بعدد من منظمات حقوق الإنسان، ووسائل الإعلام، ومسئولين حكوميين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. كما اتخذت السلطات السورية إجراءات تأديبية ضد الذين وقعوا على إعلان دمشق-بيروت، الذي دعى إلى وقف التدخل السوري في شؤون لبنان، ومن أبرز هذه الحالات الحكم بالسجن لمدة خمس سنوات على المحامي أنور البني، وثلاث سنوات للناشطين ميشيل كيلو ومحمود عيسى، وذلك بعد اتهامهم بالعمل على "إضعاف الشعور القومي وإيقاظ النعرات الطائفية والمذهبية". وفي تونس حكم على الصحفي محمد عبو بالسجن ثلاثة سنوات ونصف في عدة تهم من بينها " نشر كتابات من شأنها الإخلال بالنظام العام" و "التشهير بالسلطات القضائية " وذلك على خلفية نشر مقالات ضد ممارسات التعذيب في السجون التونسية. ولعل القضيتين الأبرز في مصر الآن قضية الصحفية هويدا طه والتي اتهمت بنشر أخبار كاذبة من شأنها المساس بسمعة البلاد وذلك جراء قيامها بإعداد فيلم وثائقي لقناة الجزيرة عن التعذيب في أقسام الشرطة، والقضية الأخرى للمدون كريم عامر والذي حكم عليه بالسجن خمسة سنوات بعد اتهامه بازدراء الأديان وذم رئيس الجمهورية، كما صدر في حق رئيس تحرير جريدة الدستور حكماً بالحبس لمدة عام بتهمة إهانة رئيس الجمهورية. كما يواجه الشيعة والبهائيون من حين إلى أخر اضطهاد أمني باستخدام مواد ازدراء الأديان. و في الجزائر يعاني الصحفي محمد بن شيكو من سلسة من الدعاوي القضائية ضده على خلفية انتقاداته للحكومة، وفي البحرين يتم التحرش الأمني والقضائي بعدد من نشطاء حقوق الإنسان بتهم ذم الذات الملكية. وفي السودان برزت قضية الصحفي عثمان ميرغني، والذي تم اعتقاله بسبب انتقاده وزير العدل وذلك باستخدام إحدى مواد قانون العقوبات تتيح للنيابة العامة اتخاذ ما تشاء من إجراءات وتدابير لحماية النظام العام، وقد أتاحت هذه المادة أيضا تعليق صدور صحيفة السواداني المستقلة، والتي صدرت مرة أخرى لاحقا. وفي السعودية كانت الحالة الأشهر في السنوات الأخيرة محاكمة ثلاثة من الإصلاحيين عام 2004 على خلفية مبادرتهم بإصدار عريضة تدعوا إلى إدخال إصلاحات سياسية ودستورية في المملكة، وقد اتهموا بالتحريض على الفتنة وعصيان ولي الأمر. وعلى الرغم من أن المغرب شهد نقلة هامة في مجال الإصلاحات الديمقراطية، إلا أنه في العامين الأخيرين لجأت السلطات المغربية إلى استخدام ذات القوانين في محاكمة وحبس عدد من الصحفيين والناشطين.
سجناء الرأي في العالم العربي في أمس الحاجة إلى تضامن ودعم المجتمع المدني العالمي، كما أنه من الضروري أن تضع الحكومات التي تربطها اتفاقات تعاون دولي مع حكومات المنطقة العربية، وخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، موضوع سجناء الرأي على قائمة أولوياتها. إن المناخ الذي يعمل فيه المدافعون عن الديمقراطية في العالم العربي يزداد صعوبة، وستظل هذه الانتهاكات في التزايد طالما غابت الإرادة السياسية لدى حكومات المنطقة في توسيع فضاء حرية الرأي والتعيير، والذي بدونه لن يكون هناك فرص لتطور ديمقراطي حقيقي.

معتز الفجيري مدير البرامج بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وعضو اللجنة التنفيذية للشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان.