تُحدث الحرب الأهلية السورية تدريجيّاً تحوّلاً في العلاقة الديناميكية بين حزب الله وإسرائيل. ففي العقود الماضية، تحوّلت هذه العلاقة من مواجهة غير متكافئة بين جيش نظامي وميليشيا مذهبية إلى نزاع متواصل بين دولة وشبه جيش، ينظّمه ردع متبادل مفروض بحكم الأمر الواقع. والآن مع تورّط حزب الله الشديد في دعم نظام بشار الأسد في حربه الداخلية الدموية، يركّز التنظيم الشيعي اللبناني طاقاته على الجبهة السورية. أما إسرائيل من جهتها، فقد اعتمدت سياسة الحد الأدنى التي تهدف إلى الحفاظ على الهدوء مع جيرانها في الشمال، مع تفادي التدخّل المباشر في سورية. وتضمّنت هذه السياسة مكوّناً فعّالاً أيضاً - وهو ما أكّدته الهجمات الجوية على أهداف تابعة لحزب الله في سورية، والتي لم يتبنَّ أحد مسؤوليتها - من خلال قيام إسرائيل بتحديد خط أحمر واضح لحزب الله ونظام الأسد عبر تأكيد استعدادها للتدخّل من أجل وضع حد لنقل الأسلحة المتطوّرة إلى حزب الله.

يتمثّل هدف حزب الله الأساسي، منذ إنشائه، في مواجهة إسرائيل عبر طرد جيشها من لبنان. أما التطلّع الإيديولوجي الأوسع، فهو القتال من أجل تحرير فلسطين. بعدما وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها، تحوّلت طبيعة الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله من الحرب المفتوحة إلى المواجهة الأكثر انضباطاً التي تتركّز في شكل أساسي في "المنطقة الأمنية" المحتلّة من إسرائيل. وبعد موجتَي تصعيد في التسعينيات، أصبحت قواعد الاشتباك أكثر مأسسة من خلال تدبير تم التوصل إليه عن طريق الاتفاق بين الطرفَين، لكن من دون توقيعه، وذلك بالاستناد إلى ضبط النفس لدى الجانبَين والتبادلية. إلا أن ذلك التدبير سقط بصورة مفاجئة إلى حد مافي صيف 2006، في "حرب الـ34 يوماً". على الرغم من أن الحرب اندلعت في البداية ربما كنتيجة سوء تقدير داخلي، إلا أنها شكّلت خرقاً لقواعد الاشتباك، مع اتّخاذ إسرائيل قراراً بمعالجة ما اعتبرته تآكلاً في قوتها الرادعة عبر تصعيد ردّها وشن عملية عسكرية واسعة النطاق. منذ انتهاء حرب 2006، تخضع العلاقات بين حزب الله وإسرائيل إلى الردع المتبادل.

وقد أظهر الجانبان، إدراكاً منهما أن الجولة المقبلة من المواجهات ستكون على الأرجح أكثر حدّة ودماراً ، مصلحة متبادلة في منع التصعيد ونزع فتيل التشنّجات، فيما يُعدّان بهدوء للجولة المقبلة من المواجهات على المستوى العسكري. وحتى مع اندلاع الحرب الأهلية السورية، لم تشهد معايير الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل تغييراً كبيراً لناحية الإحجام عن أي اشتباك مباشر عبر الحدود أو عن شنّ هجمات داخل لبنان. فقد اقتصر نطاق العمليات العسكرية الإسرائيلية وحجمها على منع نقل الأسلحة المتطورة من سورية إلى حزب الله، مايؤشّر إلى أن من مصلحة إسرائيل الإبقاء على قواعد اللعبة كما هي على طول "الخط الأزرق". كما أن عدم إقرار إسرائيل، وكذلك حزب الله، بحدوث هذه الهجمات شكّل تأكيداً إضافياً بأن من مصلحة الطرفَين التقيّد بالإطار القائم حالياً.

بيد أن الغارة الإسرائيلية على أهداف تابعة لحزب الله في لبنان في 24 شباط/فبراير الماضي شكّلت أول قطيعة واضحة مع القواعد القائمة، هذا مع العلم بأن العملية في ذاتها ليست بالضرورة مؤشراً على رغبة في تصعيد النزاع. بل انطلقت على الأرجح من الاعتقاد بأنّ تورّط حزب الله العسكري الشديد في سورية وانشغاله المتزايد بالجهاديين السلفيين الذين يتحدّونه في لبنان، سيحولان دون أن يردّ بقوة على هجوم عسكري محدود. لكنها كانت خطوة محفوفة بالمخاطر من جانب إسرائيل. فعلى الرغم من أن حزب الله أنكر الهجوم في البداية ، إلا أنه غيّر نبرته لاحقاً ووعد بالثأر. وفي الشهرَين الماضيَين، تعرّضت إسرائيل إلى عدد من الهجمات التي يُرجَّح أن تكون من تدبير حزب الله، ولاسيما هجوم صاروخي، ومحاولة لزرع عبوة ناسفة عند الحدود الإسرائيلية، وتفجير عبوة في 18 آذار/مارس الماضي ما أسفر عن مقتل أربعة جنود إسرائيليين.

انطلقت كل هذه الهجمات من منطقة الجولان السورية، وعلى الرغم من أن حزب الله لم يتبنَّ المسؤولية رسمياً في أي من هذه العمليات، إلا أن الجيش الإسرائيلي وجّه أصابع الاتهام إليه - وذلك في انحراف إضافي عن المعادلة السابقة التي كانت تقوم على الإنكار المتبادل. عبر استهداف إسرائيل عن طريق الجولان، ربما يحذّرها حزب الله من زيادة تورّطها في سورية. وردّاً على هجوم 18 آذار/مارس، استهدفت إسرائيل الجيش السوري في الجولان، في تحذير موجَّه إلى دمشق من مغبّة السماح بشنّ هجمات مسلّحة انطلاقاً من الأراضي السورية. بيد أن الطبيعة المحدودة للهجوم والردّ الإسرائيلي على السواء يشيران إلى أن كلا الجانبَين لايتعمّدان تصعيد المواجهة.

فضلاً عن هذه الهجمات، انفجرت عبوة أخرى موضوعة على قارعة الطريق في 14 آذار/مارس الماضي في مزارع شبعا. إذا كان حزب الله وراء الانفجار، بحسب شكوك الجيش الإسرائيلي، فسوف يكون ذلك مؤشراً إضافياً على استعداد الحزب للردّ على الهجوم الذي شنّته إسرائيل في 24 شباط/فبراير الماضي، مايؤدّي إلى مزيد من الانهيار لقواعد الاشتباك التي وُضِعت بعد العام 2006. يشار في هذا الإطار إلى أنه لم يحصل أي هجوم على مزاع شبعا منذ حرب تموز/يوليو 2006.

الوضع شديد الهشاشة في الوقت الحالي، فعلى الرغم من أن لدى إسرائيل وحزب الله مصلحة مشتركة في منع وقوع حرب شاملة أخرى، إلا أن المناوشات بينهما - التي تهدف على الأرجح، وللمفارقة، إلى فرض الردع المتبادل من جديد - تؤدّي إلى دفع الطرفَين نحو تصعيد جديد غير مرغوب فيه.

بينيديتا برتي باحثة زميلة في معهد دراسات الأمن القومي، ومحاضِرة في جامعة تل أبيب، ومؤلّفة "المنظمات السياسية المسلّحة".

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.