بات بحكم المؤكّد أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سيفوز بولاية رئاسية رابعة، بمباركة من الجيش. لكن التكهّنات تستمر لدى الرأي العام الجزائري حول طبيعة علاقة الرئيس بالجيش، لاسيما الجهاز الاستخباراي العسكري المعروف بدائرة الاستعلام والأمن (DRS). وترتدي العلاقة بين الرئيس والدائرة أهمّية خاصة على ضوء تردّي الوضع الصحي لبوتفليقة، والالتباس حول من سيدير البلاد في غيابه، وكيف سيتم اختيار خليفته. ولعلّ الانتقاد العلني غير المعهود الذي وجّهه حزب بوتفليقة مؤخراً إلى المسؤولين في دائرة الاستعلام والأمن يقدّم مثالاً عن الأسباب التي تجعل البعض يعتقدون أن بوتفليقة عمل خلال عهده على إبقاء الجيش ودائرة الاستعلام والأمن تحت السيطرة. لكن على الرغم من المظاهر الخارجية، لم يشكّل بوتفليقة قط تهديداً حقيقياً لقبضة الجيش القوية على السياسة الجزائرية، ولاتزال دائرة الاستعلام والأمن تتمتّع بقوّتها كاملةً كما في السابق. ففي ولاياته الرئاسية الثلاث، لم يُجرِ بوتفليقة الكثير من الإصلاحات الهيكلية الجدّية التي من شأنها أن تهدّد سلطة الجيش وأجهزته الأمنية. حتى إعادة الهيكلة المحدودة التي أجراها في الجهاز الأمني الأساسي في البلاد كانت شكليّة إلى حد كبير، ولايمكن إدراجها في خانة التغييرات المهمة.

تحوّلت دائرة الاستعلام والأمن التي أنشئت في أيلول/سبتمبر 1958 تحت اسم وزارة الذخائر والاتصالات العامة، إلى القوّة الضاربة الأساسية في البلاد في عهد بومدين. ومنذ ذلك الوقت، لم يقتصر دورها على الحفاظ على الاستقرار وحسب، بل تتدخّل أيضاً بقوّة في السياسة. وبعد عقود، باشر الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد تحديث الجيش في العام 1984، وكانت مهمة الجيش الأساسية آنذاك حماية الدولة. في عهد بن جديد، وفي أقل من ثلاث سنوات، تحوّل نحو 150 ألف رجل ذوي مهارات قتالية "غير موثوقة" إلى جيش منظّم يضم فروعاً عدّة خاضعة لسلطة رئيس الجمهورية ووزير الدفاع. على مر السنين، تسلّلت دائرة الاستعلام والأمن، عبر شبكاتها، إلى المؤتمرات والنقاشات العامة والإدارة والشرطة، وحتى إلى جبهة التحرير الوطني الحاكمة. وقد أدّت دوراً أساسياً في استيعاب النخب التي كان يمكن أن تشكّل تهديداً للسلطة الحاكمة، وفي قمع المعارضين. في مطلع التسعينيات، مع إنشاء المجموعات الإسلامية المسلّحة وانتشارها، أدّت دائرة الاستعلام والأمن دوراً أساسياً في ماسمّتها "الحرب الشاملة على الإرهاب"، فذاع صيتها وتحوّلت على مر السنين إلى قوّة حامية للدولة الجزائرية تتمتّع بصلاحيات مطلقة وتزرع الخوف في النفوس. وقد كانت في ذلك الوقت ولاتزال حتى الآن تحت سيطرة الفريق محمد مدين الملقّب بـ"توفيق"، الذي يقود الدائرة منذ نحو 24 عاماً.

لكن خلال العام المنصرم، تعرّضت الدائرة، لاسيما جنرالاتها المتقدّمين في السن، للانتقاد بعد فشلها في الرد على الهجوم على مجمع الغاز في تقنتورين قرب عين أمناس في 16 كانون الثاني/يناير 2013. وكذلك طرحت حوادث سابقة علامات استفهام حول طريقة إدارة الجيش ودائرة الاستعلام والأمن، أبرزها خطف ثلاثة أعضاء ينتمون إلى منظمات أوروبية غير حكومية في مخيم اللاجئين في تندوف في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2011، والهجمات الإرهابية التي شنّتها حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا على مقر الدرك الوطني الجزائري في تمنراست في 3 آذار/مارس 2012، وخطف سبعة دبلوماسيين جزائريين في غاو في 5 نيسان/أبريل 2012. ولاحقاً سلّطت الهجمات على مركز الشرطة في ورقلة في 24 حزيران/يونيو 2012 الضوء على إخفاقات قادة دائرة الاستعلام والأمن، ولذلك وجد الجيش أنه من المهم أن يبادر إلى اتّخاذ بعض الخطوات بنفسه، فصدرت قرارات الإقالة في أيلول/سبتمبر الماضي.

كان لابد من معالجة هذه الانتقادات، وفي محاولة لإظهار حد أدنى من المساءلة وتهدئة الرأي العام، نُقِل عدد قليل من أعضاء دائرة الاستعلام والأمن إلى وظائف أخرى أو أقيلوا من مناصبهم أو تقاعدوا. إلا أنه من المهم الإشارة إلى أن المجلس الأعلى للوظيفة العسكرية - الذي تأسّس في العام 2006 بموجب مرسوم رئاسي - هو الذي وضع اللمسات الأخيرة على قرار إقالة هؤلاء المسؤولين أو نقلهم إلى وظائف جديدة خلال انعقاده في جلسة خاصة في 14 كانون الثاني/يناير الماضي. وكان بينهم اللواء مهنى جبار، رئيس المديرية المركزية لأمن القوات المسلحة، الذي يُعتبَر اليد اليمنى لتوفيق. فقد أقيل جبار من منصبه في أيلول/سبتمبر الماضي، وحلّ مكانه اللواء لخضر تيرش. إلا أن الإقالة كانت لمجرّد التضليل، فقد عُيِّن جبار رئيس مكتب التنظيم في دائرة الاستعلام والأمن. يُتيح هذا الإجراء المدبّر لجبار قيادة الهيكليات العملانية المهمة في دائرة الاستعلام والأمن، كما يسمح له بأن يبقى تحت القيادة المباشرة لتوفيق، بحسب ماذكرت وسائل إعلام محلية. إلا أن الآخرين لم يحالفهم الحظ بقدره؛ فقد أقيل العقيد عبد القادر "فوزي" لوناس الذي شغل طيلة عقد منصب مدير مركز الاتصال والنشر في دائرة الاستعلام والأمن، وكذلك اللواء حسان (المسؤول عن مكافحة الإرهاب والتجسّس)، الذي مثُل أمام المحكمة العسكرية في البليدة في 5 شباط/فبراير الماضي بتهمة "عصيان الأوامر". لكن التقدّم في السن كان أيضاً عاملاً أساسياً في هذه الإقالات. ففي حالة كل من جبار وفوزي وحسان، طبّق المجلس الأعلى للوظيفة العسكرية المادة 20 من النظام رقم 06-02 الصادر بتاريخ 18 شباط/فبراير 2006 والذي يتضمّن القانون العام لموظفي الخدمة العسكرية الذي يحدّد السن القانونية للخدمة العسكرية بحسب الرتب.

وكانت التعيينات الأخرى شكلية أيضاً، مع استبدال مسؤول خاضع في دائرة الاستعلام والأمن بمسؤول آخر خاضع مثله. فقد استُبدِل اللواء عثمان "بشير" طرطاق الذي كان يرأس مديرية الأمن الداخلي باللواء عبد الحميد بن داود، واللواء رشيد "عطافي" العلالي، رئيس مديرية التوثيق والأمن الخارجي، باللواء محمد بوزيت. أما اللواء عبد المالك قنايزية الذي كان يشغل منصب وزير منتدب لدى وزارة الدفاع الوطني، فقد وُضِع تحت إشراف الرئيس وجرى تغيير التسمية التي يُعرَف بها المنصب لتصبح نائب وزير الدفاع؛ وقد استُبدِل قنايزية نفسه بالفريق أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش، والذي يتولّى الآن أيضاً الإشراف على المديرية المركزية لأمن القوات المسلحة بقيادة تيرش. أخيراً، حُلَّت الشرطة القضائية في دائرة الاستعلام والأمن التي كانت قد أنشئت بموجب مرسوم رئاسي في العام 2008 بهدف النظر في الفضائح المالية. بيد أن هذه الإقالات والتعيينات والتبديلات في المناصب ليست مؤشراً عن إضعاف دائرة الاستعلام والأمن. كما أن وضع المديرية المركزية لأمن القوات المسلحة ومديرية الاتصال تحت سلطة رئيس أركان الجيش ليس دليلاً على إعادة هيكلة واسعة النطاق. فدائرة الاستعلام والأمن هي في شكل أساسي وحدة تابعة لرئيس أركان الجيش؛ وبالتالي فإن ماحصل يقتصر على نقل السلطة من يد إلى أخرى في مديرياتها، ولايحمل أي تغيير هيكلي مهم. حتى حلّ الشرطة القضائية لايُعتبَر تغييراً أساسياً: فقد كانت دائرة الاستعلام والأمن تحقّق بطريقة غير رسمية في الفضائح المالية قبل سنوات من إنشاء الشرطة القضائية، ولاشيء يمنعها اليوم من مواصلة هذه التحقيقات على الرغم من حل الشرطة القضائية. ليس لكل هذه الإجراءات أثرٌ يُذكَر على نفوذ الجيش ودائرة الاستعلام والأمن وقوّتهما. لايزال توفيق يرأس الدائرة، ولن يكون للكلام عن "إعادة الهيكلة العميقة" أي جدوى إلا بعد تنحيته مع زملائه الستينيين والسبعينيين من مناصبهم.

غالباً ماينتقد الجزائريون والصحافة الجزائرية السلطة الحاكمة ورجالها، فيعتبرون أنهم مهووسون بالسلطة ومتمسّكون بالوضع القائم. ولذلك حتى التغيير السطحي يشكّل مفاجأة للجميع. وليست هذه التغييرات سوى مؤشّر عن القبضة المحكمة التي يمارسها الجيش ودائرة الاستعلام والأمن على منصب الرئاسة المدني. كما أن الرئيس بوتفليقة نفسه هو رجل عسكري في الصميم، ولذلك لطالما كانت قدرته على كبح دور الجيش ودائرة الاستعلام والأمن في السلطة محدودة. قد تعمل دائرة الاستعلام والأمن على تغذية التكهّنات، فتدّعي أن ترشّح بوتفليقة و"عمليات إعادة الهيكلة" هي بمثابة فوز لالرئيس وأنها تعارض هذه الخطوات، لكن الواقع هو أن بوتفليقة يحظى بدعمها الكامل.

سيظل الجيش الجزائري لاعباً أساسياً في السياسة الجزائرية؛ فهذا الجيش الذي كان أداة مجيدة من أدوات الثورة لايزال اليوم حارساً متفانياً للسلطة في البلاد. ومن شأن إبقاء الرئيس بوتفليقة في الرئاسة أن يمنح المؤسسة العسكرية الوقت الكافي لإيجاد البديل "المناسب" - لأن هذين الفريقَين (جبهة التحرير الوطني والجيش الوطني الشعبي، والبيروقراطية التي أنشآها معاً) هما اللذان يحكمان البلاد فعلياً.

داليا غانم-يزبك محلّلة بحثية في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، تركّز في كتاباتها على النزعات الإسلامية والجهادية في الجزائر، والعنف المتطرّف والنزاعات والإرهاب في الشرق الأوسط.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.