لاتزال طرابلس تنعم بهدوء مخيف نوعاً ما فيما تشتعل الحرب الأهلية في جزء كبير من البلاد. لكن عبارات لاذعة مقتضبة - تشوبها أخطاء إملائية أحياناً، بما يدلّ على الاستعجال في كتابتها - تغطّي الجدران حول العاصمة وتنبض بالتعليقات السياسية. يمتد الغرافيتي على الجدران، ويتسرّب من حين لآخر إلى الجداريات التي ظهرت بعد ثورة 2011، بما في ذلك الرسوم المصنوعة بتأنٍّ شديد للبطل القومي عمر المختار والرسوم الكاريكاتورية للديكتاتور السابق معمر القذافي. تروي هذه الكلمات حكاية الميول السياسية والمعتقدات الأيديولوجية في بلدٍ حيث أصبح البعض من جديد يتوخّون الحذر قبل التعبير عن آرائهم. كما أنها تُظهر التحوّل الذي شهدته السياسة في البلاد، وترسم مسار الحرب الأهلية التي ألّبت الأصدقاء بعضهم ضد بعض، وأعادت إحياء الولاءات القبلية القديمة، وأدّت إلى ظهور شراكات جديدة فيما تصدّعت الولاءات القديمة.

يظهر هذا الغرافيتي على جدار مبنى مهجور صغير في وسط مدينة طرابلس. تعبّر الكلمات التي رُشَّت باللونَين الأسود والأحمر عن الولاء للحكومتين المتنافستين. وفي وسطها ملصق كبير رُفِع على الجدار وعليه صور سبعة شبان لقوا مصرعهم خلال ثورة 2011. يُظهر الملصق بلداً توحَّد في روحٍ ثورية قبل نحو أربعة أعوام بهدف إطاحة القذافي. لكن تلمح الكلمات أن ليبيا ترزح الآن تحت وطأة الانقسامات.

تعكس طبقات الغرافيتي في طرابلس - مع الأسماء التي تُشطَب والولاءات الجديدة التي تُرَشّ فوق الكلمات الأصلية أو تحتها - الانقسامات السياسية. لليبيا حكومتان، وبرلمانان، وحتى جيشان. يخوض الجيشان النزاعات - الأيديولوجية في بعض المناطق والسياسية أو القبلية في مناطق أخرى - التي تدور في إطار الحرب الأهلية الليبية. يركّز الغرافيتي في العاصمة في شكل أساسي على أسماء الأفرقاء المتناحرين. سيطرت عمليتا قسورة وفجر ليبيا على مطار طرابلس الدولي وعلى العاصمة نفسها. وقد أصبحتا مرادفتَين لحكومة طرابلس التي شكّلها البرلمان الليبي السابق، المؤتمر الوطني العام، في آب/أغسطس الماضي. في المقابل، أطلق اللواء خليفة حفتر حملة عسكرية تحت اسم "الكرامة" لانتزاع السيطرة على مدينة بنغازي الشرقية من أيدي الميليشيات المسلحة المتطرفة. وباتت هذه التسمية تُطلَق أيضاً على الحكومة المعترف بها دولياً في مدينة البيضاء وعلى البرلمان - مجلس النواب - في طبرق. على الرغم من أن المؤسسات الرسمية الليبية أدانت في البداية عملية الكرامة، إلا أن مجلس النواب صادق عليها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي ووُضِعت تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي.

شرح مصباح، وهو سائق تاكسي: "الآن يمكن تحديد المناطق الداعمة لحكومة الكرامة انطلاقاً من الغرافيتي. لكن الأمر معقّد، لأن بعض من هم ضد عملية فجر ليبيا لايدعمون بالضرورة حفتر". أضاف أن البعض الآخر ضاق ذرعاً من عدم الاستقرار والاقتتال السياسي في ليبيا بعد الثورة ولايدعم أياً من الفريقَين. نقرأ في أحد كتابات الغرافيتي: "طز فيكم كلكم"، في ترداد للكلمات التي قالها القذافي للمجتمع الدولي في أحد خطبه المتلفزة خلال الثورة. ويحذّر غرافيتي آخر، "الطرابلسي الحق"، من مغبّة الانحياز لهذا الفريق أو ذاك: "جاك للموت"، في إشارة إلى المعركة التي دارت الصيف الماضي بين مجموعات مسلّحة من مدينة مصراتة وبلدة الزنتان الجبلية للسيطرة على مطار طرابلس الدولي. (تسبّبت الاشتباكات بتدمير المطار ومهّدت الطريق أمام دخول قوات فجر ليبيا إلى العاصمة).

على الرغم من أن قوات فجر ليبيا تتمركز في طرابلس وتسيطر على المؤسسات الليبية الرئيسة هناك، إلا أنها تواجه صعوبة في الحصول على الاعتراف الدولي، مع أن حكماً صدر مؤخراً عن المحكمة العليا قوّض شرعية مجلس النواب التابع لعملية الكرامة المناوئة. وعلى الرغم من المحاولات لدفع السفارات والشركات إلى العودة إلى العاصمة عبر منحها تطمينات بأن الوضع آمن فيها، إيطاليا والمجر هما الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان اللتان تحتفظان بوجود دبلوماسي في طرابلس. وقد انتقلت السفارة الأميركية إلى مالطة في حين انتقلت السفارة البريطانية إلى تونس المجاورة. وليست هناك أية مؤشرات بأنهما تنويان العودة قريباً إلى العاصمة الليبية. يقول السفير البريطاني في ليبيا، مايكل آرون: "على غرار السفارات الأخرى التي غادرت طرابلس الصيف الماضي، مازلنا قلقين جداً من الوضع الأمني غير المستقر حالياً. ويضاف إلى ذلك أننا لانعترف بـ’الحكومة‘ في طرابلس أو بالمؤتمر الوطني العام"1.

في حين أن الهدوء يسود في العاصمة، عملياً من دون أي وجود مسلح واضح للعيان في الشوارع، يلفت بعض السكّان إلى أن الهدوء لا يعني بالضرورة استتباب الأمن. يقول محمد، وهو صحافي سابق توقّف عن العمل مراسلاً بسبب المخاطر الشديدة المصاحِبة لهذه المهنة: "طرابلس آمنة، شرط ألا تقول شيئاً ضد الحكومة هنا". ويضيف أن عدداً كبير من زملائه غادر البلاد بعدما تعرّض للتهديد أو الترهيب في الأشهر الأولى من وجود قوات فجر ليبيا في طرابلس. وقد وثّقت منظمة "مراسلون بلا حدود" التي تدافع عن حرية الصحافة، مقتل سبعة أشخاص، وخطف 37 شخصاً، و127 حالة مضايقة أو عنف جسدي ضد الصحافيين منذ ثورة 2011. وقد أوردت المنظمة في تدوينة لها في تشرين الأول/أكتوبر الماضي: "مجرد تغطية الأحداث التي تشهدها الساحة الليبية في الوقت الحالي والإبلاغ عن الانتهاكات التي ترتكبها مختلف الجماعات المسلحة، أو حتى وصف مدى التقدم العسكري أو شرح الموقف السياسي الذي يتخذه طرف تجاه آخر، أصبح سبباً كافياً لتعريض سلامة الصحفيين للخطر، علماً أن حمل كاميرا أو بطاقة صحفية بات عملاً شجاعاً في ليبيا اليوم." لكن قوات فجر ليبيا تصر على أن الوضع تغيّر. قال جمال زوبية، المتحدث باسم قوات فجر ليبيا: "لقد سُجِن بعض الصحافيين وهرب آخرون لأنهم كانوا جزءاً من ميليشيات إعلامية دمّرت نسيج مجتمعنا، ودعت إلى تنظيم تظاهرات مسلّحة ونشر الفوضى"، مضيفاً: "لايهمنا إذا لم يدعمنا البعض. نعرف أن بعض الأشخاص لايزالون يدعمون القذافي، وهذا من حقهم، لكن لايجدر بهم أن يحاولوا تقويض الحكومة والتسبّب بالاضطرابات".

على الرغم من هذه التطمينات ومن الهدوء في العاصمة، لم ينسَ سكان طرابلس المعارك العنيفة التي دارت في الصيف. كما أنهم يعون تماماً مجريات القتال الذي تسبّب بتدمير البلدات والمدن في مختلف أنحاء ليبيا. يخشى كثرٌ أن تكون مسألة وقت فقط قبل تجدُّد الاضطرابات. وقد أدّى هذا الالتباس إلى ممارسة رقابة ذاتية، مايفسّر لماذا تحوّل بعض سكان طرابلس نحو الغرافيتي من أجل التعبير عن آرائهم الرفضية. فهذه الوسيلة تتيح لهم أن يعربوا، تحت جنح الظلام ومن دون الكشف عن هويتهم، عن ولائهم للسلطات في الشرق من خلال عبارات مثل: "نعم للكرامة". حتى لو شُطِبت هذه الشعارات واستُبدِلت بالتعبير عن الدعم لحكومة طرابلس، تبقى الكلمات الأصلية مقروءة على الدوام تقريباً، فتتكوّن شبكة من الكلمات والجمل التي تذكّر المارة بالانقسام السياسي في العاصمة.

تعكس الغرافيتي في طرابلس أيضاً بعض الأيديولوجيات الدينية التي ازدهرت في ليبيا منذ إطاحة القذافي الذي أحكم الخناق سابقاً على الآراء المتطرفة. تساوي بعض كتابات الغرافيتي بين قوات فجر ليبيا وتنظيم داعش - الدولة الإسلامية في العراق والشام - الذي أعلن له الولاء بعض عناصر الميليشيات الإسلامية في بلدة درنة الشرقية. لكن يقول فجر ليبيا إنه حركة سياسية متعهدة بدولة مستقرّة وأمنية، وترفض الحركة عبارات، مثل "إسلامية"، التي تصفوها أحيانا. على الرغم من أن المجتمع الليبي هو مجتمع إسلامي شديد المحافظية، إلا أن الأيديولوجيات المتطرفة ليست موضع ثقة في معظم الأحوال - لاسيما من جانب الأشخاص الذين تجمعهم روابط ببنغازي التي اختبرت العيش في ظل الميليشيات التابعة للإسلامية المفروضة محلياً. 

يقول صلاح الذي يعمل في طرابلس فيما تقيم عائلته في بنغازي: "مازلت أدعم عملية الكرامة، على الرغم من أن المعارك ألحقت أضراراً بالمدينة. أنا مستعد لأن أعيش محروماً من كل شيء - لاكهرباء، لاغاز، لانفط - شرط ألا أرى أولئك الأشخاص والرهيبين في شوارع مدينتي". تتردّد هذه الآراء في غرافيتي آخر جاء فيه: "لا لا لأنصار الشريعة، نعم للجيش والشرطة". تعبّر هذه الجملة عن الواقع الذي يعيشه عدد كبير من الليبيين. فقد سُحِقت تطلعاتهم وطموحاتهم بعدما كانوا مفعمين بالحماسة بعد الثورة ويعقدون آمالاً عالية على مستقبل بلادهم. لقد أنهكتهم حالة الفوضى والقتال وعدم الاستقرار المستمرة منذ أربع سنوات تقريباً، وبات معظمهم يتمنّون الآن عودة الأمان والاستقرار.

طوم ويستكوت صحافية وكاتبة بريكانية، مقيمة في ليبيا.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.


1. مقابلة مع الكاتبة