في الأسبوع الأخير من شهر آب/أغسطس الماضي، عصفت الاضطرابات بهيئة الحقيقة والكرامة - المنوطة بتفويض واسع لتطبيق العدالة الانتقالية على انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة بين تموز/يوليو 1955 وكانون الأول/ديسمبر 2013 - عندما قام أعضاء الهيئة بإعفاء زميلهم زهير مخلوف من مهامه على خلفية اتهامه بارتكاب تجاوزات قانونية بعدما وجّه رسالةً إلى مجلس النواب يتّهم فيها أعضاء آخرين في الهيئة بالفساد. وليس هذا التوتّر الداخلي سوى الحلقة الأحدث في سلسلة التحدّيات التي تواجهها عملية العدالة الانتقالية في تونس. على الرغم من إقرار قانون العدالة الانتقالية الذي لقي استحساناً لدى النشطاء المحليين والخبراء الدوليين1، وجدت هيئة الحقيقة والكرامة صعوبة في تخطّي المناخ السياسي المأزوم الذي يُهدّد الجهود الهادفة إلى محاسبة منتهكي حقوق الإنسان وإصلاح مؤسسات الدولة العصيّة على التغيير.

الهيئة بالذات هي السبب وراء بعض الأضرار التي لحقت بها: ليست المشكلات الأخيرة داخل الهيئة بالأمر الجديد، وهذا مايثير غضب نشطاء العدالة الانتقالية في تونس، فقد استقال ثلاثة من أعضاء الهيئة الخمسة عشر خلال عامها الأول، وواحد منهم فقط عُيِّن بديلٌ عنه. وقد تحدّثت التقارير عن أن أعضاء الهيئة القادمين من خلفيات مختلفة، واجهوا صعوبة في تخطّي الخلافات السياسية والشخصية بينهم من أجل تشكيل فريق فعّال2، وتحوّلت رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، إلى شخصية استقطابية داخل الهيئة وخارجها على خلفية مايُزعَم عن اعتمادها أسلوباً عدوانياً ومهيمناً في القيادة. حتى حلفاء الهيئة أبدوا استياءهم من عجزها عن تطوير استراتيجية متماسكة للتواصل من أجل شرح طبيعة عملها للرأي العام3. تعكس هذه التحدّيات الداخلية، في جزء منها، السياق السياسي الإشكالي الأوسع نطاقاً الذي يحيط بالعدالة الانتقالية - فقد خاض معارضوها معركة قوية من أجل منع قيام آلية راسخة لممارسة العدالة الانتقالية، في حين أن مؤيّديها بذلوا جهوداً حثيثة لتجاوز الانقسامات السياسية والالتباسات.

رزحت الهيئة، منذ البداية، تحت وطأة الاستقطاب الشديد بين حكومة الترويكا بقيادة النهضة وخصومها. على الرغم من وجود قاعدة تدعم بقوّة العدالة الانتقالية، عمدت النهضة إلى المماطلة في إقرار قانون العدالة الانتقالية خشية إثارة الاستياء لدى المؤسسات الحكومية الأساسية وتأجيج مزيد من المعارضة في مناخ سياسي شديد الاستقطاب. نتيجةً لذلك، لم يتم إقرار القانون قبل كانون الأول/ديسمبر 2013، بعد اضمحلال الجزء الأكبر من الزخم الثوري في البلاد. ثم اختار المجلس الوطني التأسيسي بقيادة النهضة أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة، ماجعلها عرضةً للمزاعم بأن أعضاءها مقرّبون جداً من الإسلاميين. وقد حرم هذا الانقسام الحزبي الهيئة من الحلفاء المحتملين في صفوف من نادوا بالعدالة الانتقالية لكنهم عارضوا مااعتبروه تأثير النهضة على الآلية. وقد حاولت منظمات أهلية عدّة الطعن بعملية اختيار الأعضاء أمام المحكمة، ودفعت باتّجاه تشكيل هيئة جديدة بدلاً من دعم جهود الهيئة خلال عامها الأول الحاسم4، وأدّت الخلافات الحزبية، بحسب التقارير، دوراً في استقالة عضوَين على الأقل في مستهل ولاية الهيئة. 

كما أن المؤسسات الحكومية والقوى السياسية المتعاطفة مع نظام بن علي عارضت بشدّة جهود العدالة الانتقالية. فبعضهم يخشى ثبوت ضلوعه في جرائم سابقة، في حين يعتقد آخرون أنه ثمة مبالغة في تصوير الانتهاكات السابقة بما يؤدّي إلى الإلهاء عن المسائل الأكثر أهمية. عقب انتخاب الرئيس باجي قائد السبسي في كانون الأول/ديسمبر 2014 وتشكيل حكومة ائتلافية بين حزب نداء تونس وحركة النهضة، يبرز أكثر فأكثر حضور هؤلاء المعارضين، وتزداد العزلة السياسية لهيئة الحقيقة والكرامة. يُبدي حزب نداء تونس الذي يضم في صفوفه عدداً كبيراً من المسؤولين من النظام السابق، ومنهم السبسي نفسه، شكوكاً بشأن العدالة الانتقالية. نتيجةً لذلك، واجهت الهيئة خلال الأشهر الماضية صعوبة في إدارة علاقاتها مع مجلس النواب، والرئاسة، والقوى الأمنية التي تعزّزت مكانتها، ماتسبّب بمشكلات مثل التأخير في إقرار موازنة الهيئة، والصعوبات في الوصول إلى الأرشيف، والضعوط السياسية على أعضاء الهيئة.

الحلقة الأحدث في سلسلة التحدّيات التي تواجهها الهيئة كانت في تموز/يوليو الماضي عندما أعادت حكومة الرئيس السبسي إحياء النقاش حول العدالة الانتقالية عبر الكشف عن مشروع قانون للمصالحة مع التونسيين المتّهمين بالفساد وجرائم مالية أخرى. ينص مشروع القانون المقترح على إنشاء هيئة رئاسية جديدة لمراجعة هذه القضايا، وحتى التوصّل إلى ترتيبات مع رجال الأعمال لتسديد الأموال المسروقة في مقابل العفو عنهم. يقول مؤيّدو مشروع القانون إن من شأنه استكمال آلية العدالة الانتقالية بدلاً من الحلول مكانها - فهم يعتبرون أن هذا القانون ضروري من أجل المساعدة على إنعاش الاقتصاد التونسي المحتضر عبر تحرير الأموال التي تشكّل حاجة ماسّة، واستقطاب استثمارات جديدة5

أما المعارضون فلديهم رأي مغاير. في نظرهم، يعكس الاقتراح محاولة مباشرة لتقويض العدالة الانتقالية عبر عزل الهيئة أكثر فأكثر. يعتزّ أنصار العدالة الانتقالية في تونس على وجه الخصوص بتركيز العملية على المسائل الاقتصادية باعتبارها جزءاً من الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي مارسها النظام السابق، كما أن تفويض هيئة الحقيقة والكرامة يقوم في جزء كبير منه على النظر في الجرائم الاقتصادية. لكن من شأن الهيئة الرئاسية المقترحة أن تتجاوز عمل هيئة الحقيقة والكرامة، بحيث تحلّ مكانها في النظر في هذه القضايا. وقد أثار الاقتراح رد فعل غاضباً لدى الهيئة التي رأت فيه تعدّياً على تفويضها بطريقة مخالفة للدستور، مشيرةً إلى أنه سيؤدّي إلى القضاء على آلية العدالة الانتقالية بكاملها. بحسب رئيسة الهيئة، سهام بن سدرين، لن يؤثّر القانون فقط في مجموعة ضيّقة من القضايا الاقتصادية، بل في الجزء الأكبر من عمل الهيئة، لأنه كان للفساد دور محوري في نظام بن علي، وغالباً ماكان يُربَط مباشرةً بانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان6.

بيد أن اقتراح الرئيس جعَل أنصار العدالة الانتقالية يصطفّون إلى جانب هيئة الحقيقة والكرامة. حتى المنظمات الأهلية والأحزاب السياسية التي لاتزال تختلف في الرأي مع أعضاء الهيئة، أبدت في العلن معارضتها لمشروع القانون ودافعت عن الهيئة7. لقد رفع المعارضون في مجلس النواب الصوت إلى حد ما تعبيراً عن رفضهم لمشروع القانون، وكذلك أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو اتحاد نافذ، معارضته لمشروع القانون. تحت تأثير الضغوط، أبدى السبسي رغبته في التوصّل إلى إجماع حول المسألة - لكن مع تأييد حزب نداء تونس لمشروع القانون وعدم معارضة النهضة له في العلن، لاتزال المعارضة تواجه تحدّياً جدّياً إذا كانت تأمل في إسقاطه.

على الرغم من المشكلات الداخلية الخطيرة التي تعاني منها هيئة الحقيقة والكرامة، إلا أنها تسلّمت أكثر من 15000 ملف من ضحايا النظام السابق، وتتوقّع تلقّي آلاف الملفات الإضافية. وقد تنجح الهيئة، من خلال وصولها إلى هذا الكمّ الهائل من المعلومات، في إنجاز جزء من تفويضها: كشْف حقيقة النظام الديكتاتوري ووضْع رواية جديدة عن الماضي التونسي. لكنها ستواجه صعوبة أكبر في تحقيق تقدّم في مهامها الأخرى، سواءً على مستوى دفع التعويضات للضحايا، أو الوصول إلى مرحلة الملاحقات القضائية، أو التأثير في الإصلاحات المؤسساتية. بما أن هذه الجهود سوف تتوقّف إلى حد كبير على الحكومة ومؤسسات الدولة التي أظهرت حتى الآن موقفاً عدائياً من العدالة الانتقالية، غالب الظن أن التونسيين سيصابون بخيبة الأمل إذا كانوا لايزالون يأملون بأن تساهم آلية العدالة الانتقالية في تحقيق تغييرات واسعة النطاق في دولتهم.

سكوت ويليامسون طالب دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة ستانفورد.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.


1. مقابلات أجراها الكاتب مع منظمات أهلية دولية وتونسية متخصصة في شؤون العدالة الانتقالية، تموز/يوليو-آب/أغسطس 2015.
2. مقابلة أجراها الكاتب مع ناشط تونسي في مجال حقوق الإنسان، 21 تموز/يوليو 2015.
3. مقابلات أجراها الكاتب مع منظمات أهلية دولية وتونسية متخصصة في شؤون العدالة الانتقالية، تموز/يوليو-آب/أغسطس 2015.
4. مقابلة أجراها الكاتب مع ناشط تونسي في مجال العدالة الانتقالية، 4 آب/أغسطس 2015.
5. مقابلة أجراها الكاتب مع نائب من حزب نداء تونس، 10 آب/أغسطس 2015.
6. مقابلة أجراها الكاتب مع سهام بن سدرين، 1 آب/أغسطس 2015.
7. مقابلة أجراها الكاتب مع حمة الهمامي، 11 آب/أغسطس 2015؛ مقابلة أجراها الكاتب مع ناشط تونسي في مجال العدالة الانتقالية، 4 آب/أغسطس 2015.